ليس من المبالغة في شيء القول إن الانتفاضات المدنية، الحالية، في المنطقة العربية، غيرّت إلى حد بعيد وجه مواطني الشرق في الغرب .

فحتى قبل شهر واحد من الآن، كان الانطباع السائد والكاسح في واشنطن وبقية العواصم الغربية، سواء بين المسؤولين أو الرأي العام، هو أن المنطقة العربية تجسيد كامل لما كان يسميه كارل ماركس “نمط الإنتاج الآسيوي”، حيث قلّة إقطاعية أوليغارية تسيطر بالقوة على كل وسائل الإنتاج والقرارات السياسية، فتخضع لها الأغلبية الكاسحة بلا سؤال أو نقاش أو تردد .

نظرية سائدة أخرى استندت إلى تلوين عنصري- استشراقي كامل: المواطنون العرب، ولأسباب ثقافية وإيديولوجية وربما جينية، لا علاقة لهم بالديمقراطية . وبالتالي، الأنظمة السلطوية والأوتوقراطية هي القاعدة لا الاستثناء . الدليل؟ كل شعوب الأرض قاطبة، من أوروبا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية، مروراً حتى بالقارة الإفريقية، عاشت الموجات الديمقراطية الثلاث في العالم، ما عدا المنطقة العربية التي ازداد فيها السلطويون سلطة، والمواطنون استسلاماً .

دليل آخر؟ إنه يكمن في التاريخ العربي، الذي هو تاريخ انكشارية ومماليك وإقطاعيين و”فتوات” في الماضي، وأنظمة انكشارية جديدة “بلطجية” في الحاضر، في أحسن الأحوال، أو أنظمة فراعنة عبيد في أسوئها .

بيد أن كل هذه النظريات والانطباعات تتبدد هذه الأيام هباء منثوراً، وتحل مكانها بسرعة أكبر انطباعات أخرى يبرز فيها الإنسان العربي ليس كمستحق أول لنعمة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحسب، بل حتى أيضاً كنموذج لشعوب أخرى في ما تبقى من مناطق سلطوية في العالم .

فالكاتب الأمريكي ديفيد بروكس، على سبيل المثال، يعتبر أن الثورات الحالية في العديد من البلدان العربية هي “ثورات كرامة” ستكون نموذجاً يحتذى، وأن الشبان الذين يقودودن هذه الثورات باتوا يشددون على أن حرمانهم من الحرية والديمقراطية، إهانة لإنسانيتهم ووجودهم البشري .

والكاتب نيقولاس كريستوف، قال إنه شاهد شعاع الأمل، الممتزج بالاستعداد للتضحية من قبل أعضاء الجيل الجديد، يولد بقوة في نفق المنطقة العربية .

هذا في حين أن البريطاني غيديون راتشمان، وهنا الأهم، اعتبر الثورات المدنية في المشرق والمغرب العربيين دفعة للديمقراطية غير متوقعة من منطقة غير متوقعة: المنطقة العربية . هذا في وقت كانت الديمقراطية تتعرض إلى نكسات في العديد من البلدان . وهذا ما جعل الثورات العربية تقرع أجراس إنذار في دول قصية في آسيا وإفريقيا، لأنها ترفع شعارات الحرية، ومكافحة الفساد والبطالة، ورفض تحمّل الفقراء والطبقة الوسطى التكاليف المعيشية القاسية للبرامج الاقتصادية الليبرالية الجديدة .

هذه النقطة الأخيرة جديرة بالاهتمام حقاً . فالحركات الديمقراطية في المنطقة العربية بدت كأنها تسير في عكس التيار الراهن في العالم . وهكذا، وقبل اندلاع هذه الحركات، كتب صاحب “نهاية التاريخ” فوكوياما مؤخراً مقالة “أسف” فيها لعمل الديمقراطية الأمريكية، وأشاد ب”حيوية” النظام السلطوي الصيني . وكذلك فعل زميله دامبيسا مويو في كتابه الجديد: “كيف خسرنا الغرب؟” .

بيد أن كل هؤلاء بدأوا يعيدون النظر الآن في شكوكهم، بعد أن دخلت الثورات المدنية العربية على الخط لتعطي الديمقراطية حقنة في العضل لم يكن يتوقعها أحد .

إنه إنسان “عربي عالمي” جديد يولد الآن، ويتمتع بهوية جديدة كل الجدة .

لكن، أي هوية؟
للكاتب الرائع سعد محيو