وجوب تقديم المبتدأ


الأصل في المبتدأ أن يَتقدَّمَ. والأصل في الخبر أن يتأخّرَ. وقد يتقدَّمُ أحدهما
وجوباً، فيتأخرُ الآخرُ وجوباً.

ويجبُ تقديم المبتدأ في ستة مواضعَ:

الأول: أن يكون من الأسماء التي لها صدرُ الكلامِ، كأسماء الشرطِ، نحو: (من يَتّقِ اللهَ يُفلحْ)، وأسماء الاستفهام، نحو: (من جاءَ؟)، (وما) التعجُّبيّةِ، نحو: (ما أحسنَ الفضيلةَ!) وكم الخبريةِ نحو: (كم كتاب عندي!).

الثاني: أن يكون مُشبّهاً باسم الشرط، نحو: (الذي يجتهد فله جائزةٌ) و (كلُّ تلميذٍ يجتهدُ فهو على هدىً).


(فالمبتدأ هنا أشبه اسم الشرط في عمومه، واستقبال الفعل بعده وكونه سبباً لما بعده، فهو في قوة أن تقول: (من يجتهد فله جائزة) و (أي تلميذ يجتهد فهو على هدى). ولهذا دخلت الفاء في الخبر كما تدخل في جواب الشرط).


الثالثُ: أن يضافَ الى اسمٍ له صدرُ الكلام، نحو: (غلامُ مَن مجتهدٌ؟) و (زمامُ كم أمر في يدك). [كم: هنا خبرية بمعنى كثير. وأمر مضاف إليها. فإن جعلتها استفهامية نصبت ما بعدها تمييزاً].


الرابعُ: أن يكون مقترناً بلام التأكيد (وهي التي يسمونها لامَ الابتداء)، نحو: (لعبدٌ مؤْمنٌ خيرٌ من مشركٍ).


الخامسُ: أن يكون كُل من المبتدأ والخبر معرفةً أو نكرةً، وليس هناك قرينةٌ تعين أحدهما، فيتقدَّم المبتدأ خشيةَ التباس المسنَدِ بالمسنَدِ إليه، نحو: (أخوك علي)، إن أردتَ الإخبارَ عن الأخ، و (عليٌّ أخوكَ)، إن أردتَ الإخبارَ عن علي، ونحو: (أسَنُّ منك أسَنُّ مني) إن قصدتَ الإخبار عمَّن هو أسنُّ من مخاطبك (وأسَنُّ مني أسن منكَ)، إن أردتَ الإخبارَ عمّن هو أسنُّ منكَ نفسِكَ.


(فان كان هناك قرينة تميز المبتدأ والخبر، جاز التقديم والتأخير نحو: (رجل صالح حاضر، وحاضر رجل صالح) ونحو (بنو أبنائنا بنونا)، بتقديم المبتدأ، و (بنونا بنو أبنائنا)، بتقديم الخبر. لأنه سواء أتقدم أحدهما أم تأخر، فالمعنى على كل حال أن بنى أبنائنا هم بنونا).


السادس: أن يكون المبتدأ محصوراً في الخبر، وذلك بأن يقترنَ الخبرُ بإلا لفظاً نحو: {وما محمدٌ إلا رسولٌ} أو معنًى، نحو: {إنما أنت نذيرٌ}.


(إذ المعنى ما أنت إلا نذير. ومعنى الحصر هنا أن المبتدأ (وهو محمد، في المثال الأول) منحصر في صفة الرسالة، فلو قيل: (ما رسول إلا محمد). بتقديم الخبر، فسد المعنى، لأن المعنى يكون حينئذ: أن صفة الرسالة منحصرة في محمد مع أنها ليست منحصرة فيه. بل هي شاملة له ولغيره من الرسل، صلوات الله عليهم. وهكذا الشأن في المثال الثاني).

وجوب تقديم الخبر


يجبُ تقديم الخبرِ على المبتدأ في أربعة مواضعَ:

الأول: إذا كان المبتدأ نكرة غير مفيدةٍ، مخَبراً عنها بظرفٍ أو جار ومجرور، نحو: "في الدارِ رجلٌ" و (عندكَ ضيفٌ) ومنه قوله تعالى: {ولدينا مزيدٌ} و {على أبصارهم غشاوةٌ}.


(وإنما وجب تقديم الخبر هنا لأن تأخيره يوهم أنه صفة وأن الخبر منتظر. فإن كانت النكرة مفيدة لم يجب تقديم خبرها، كقوله تعالى: {وأجل مسمى عنده} لأن النكرة وصفت بمسمى، فكان الظاهر في الظرف أنه خبر لا صفة).


الثاني: إذا كان الخبر اسمَ استفهامٍ، أو مضافاً الى اسم استفهامٍ، فالأول، نحو: (كيف حالُكَ؟)، [ كيف: اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم، وحالك مبتدأ مؤخر]. والثاني نحو: (ابنُ مَن أنت؟)،[ ابن: خبر مقدم، وهو مضاف الى (من) الاستفهامية. وأنت: مبتدأ مؤخر في محل رفع.] و (صبيحة أيْ يوم سفرُكَ؟)، [صبيحة ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر مقدم: وهو مضاف لأي الاستفهامية وسفرك مبتدأ مؤخر].


(وإنما وجب تقديم الخبر هنا لأن لاسم الاستفهام أو ما يضاف اليه صدر الكلام).


الثالثُ: إذا اتصلَ بالمبتدأ ضميرٌ يعود الى شيء من الخبر نحو: (في الدار صاحبها) ومنه قوله تعالى: {أم على قلوبٍ أقفالُها}. وقولُ نُصَيب:


أهابُكِ إِجلالاً، وما بكِ قدرةٌ

عليَّ، ولكن ملءُ عينٍ حبيبُها

(وإنما وجب تقديم الخبر هنا، لأنه لو تأخر لاستلزم عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وذلك ضعيف قبيح منكر (راجع الكلام على عود الضمير) في الجزء الأول من هذا الكتاب).


الرابعُ: أن يكون الخبرُ محصوراً في المبتدأ. وذلك بأن يقترن المبتدأ بإلاّ لفظاً، نحو: (ما خالقٌ إلا اللهُ)، أو معنًى، نحو: (إنما محمودٌ من يجتهدُ).

(إذ المعنى: (ما محمود إلا من يجتهد). ومعنى الحصر هنا أن الخبر (وهو خالق، في المثال) منحصر في الله. فليست صفة الخلق إلا له سبحانه، فلو قيل: (وما الله إلا خالق) بتقديم المبتدأ. فسد المعنى، لأنه يقتضي أن لا صفة لله إلا الخلق، وهو ظاهر الفساد. وهكذا الحال في المثال الثاني).