لقد بسط الإسلام رداء الحماية على المال والفكر ومنع الاعتداء عليهما بأي لون من ألوانه , وإذا تأملنا ولو يسيراً ندرك أنّ المال والفكر , وهو أهم وظائف العقل بوّأهما الإسلام رتبة الضروريات التي لا يمكن أن تمضي الحياة على نحو طبيعي يضمن للإنسان حياة قائمة على الاعتدال في كل جوانبها الأساسية والكمالية والأخلاقية والفكرية إلا بحمايتهما . وقد أجمع علماء الشريعة الإسلامية على أن الضروريات خمس مرتبة حسب سلم الأولويات تبدأ من الأعلى إلى الأدنى طبق الترتيب التالي : الدّين – النفس – العقل – المال – العرض والنسل . فهذه الخمس أحاطها الإسلام بالرعاية وأحاطها بطوق من الحماية , فليس لأي كان أن يمسها بسوء أو يقرب أسوارها , وبحثنا الّذي نحن بصدد تفصيل القول فيه داخل تحت الثالثة والرابعة من الضروريات الخمس , العقل والمال , وحديثنا ضمن هذا الإطار .
- مفهوم السرقة في الإسلام وانطباقه على سرقة ما أنتجه العقل ثمرة لتفكير طويل كونه مالاً وهو من أهم وظائف العقل : الإنتاج الفكري , بشطريه العلمي والأدبي له أهميته في الإسلام , كونه الطريق المتعين لبناء نهضة الأمة , وتطوّرها ولحاقها بركب الحضارة , ولا يقل ذلك أهمية عن انتاج الأرض والمصنع وسواهما من وسائل الإنتاج الّتي تدر المال العنصر الريئس في حياة الأمة وصولاً بها إلى نهضة اقتصادية ترتقي بها إلى مستوى الكفاية والعيش الكريم . وبناء على ما سبق: يتأكّد لنا أن الفكر والّذي هو وظيفة العقل الأولى والمال صنوان بل أخوان كل منهما مكمّل للآخر , تأمّل وببساطة تدرك , أن المال إذا استقل بإدارته السفهاء وناقصي العقول حرمت الأمة منافعه وتراجعت نهضتها , إذاً لابد أن يقترن المال بالفكر ليؤتي ثمرته في تحقيق الحياة الراقية للأمة . فمال بلا فكر مآله إسراف وتبذير في أبسط التقديرات وربّما يكون طريقاً للجريمة . وفكر بلا مال , يموت في أدراج المكاتب ولا يعرف إلى النور سبيلاً , فالإسلام هذا الدّين الراقي القائم على التوازن والوسطية , لايمكن أن نصدّق بحال من الأحوال أن يحافظ على التوازن والاعتدال في جانب ويهمله في جانب آخر , ففي قضيتنا هنا , أمن المعقول أن يحمي الإسلام الممتلكات المالية من السرقة , ويسحب هذه الحماية عن الممتلكات الفكرية المتمثلة بما أنتجه العلماء والأدباء ليكون طريقاً متعيّناً لنهضة الأمة ؟ هذا ليس هدي الإسلام ولا من منهجه الراقي , فحماية الإنتاج الفكري لعلماء الأمة وأدبائها كحماية المال من السرقة سواء بسواء بلا فارق في ذلك ألبتة .
*هل ينطبق حكم السرقة في الإسلام على الإنتاج الفكري ( الممتلكات الفكرية ) ؟
تلك هي المسألة الجوهرية محل البحث , وعلينا أن نسلك في تحريرها وتفصيل القول فيها مسلك التأنّي بغية الاقتراب من أسوار الحق بشأنها . وبداية أرى أنّه لابدّ من تعريف كلّ من الأساسيات التالية والّتي تعتبر نقاط ارتكاز في موضوعنا : 1- السرقة : أخذ المال من حرز على وجه الخفية والاستسرار . ونلقي الضوء على هذا التعريف بنظرة تحليليّة مركزة .
أ‌- يشير التعريف إلى أن آخذ المال من هذا الطريق ليس أنساناً سويّاً بل هو يعاني من انحراف في سلوكه وأخلاقه . فالإنسان السوي المستقيم على طريق الدّين , يأبى عليه دينه واستقامته أن يسرق مال الغير , ولو كان كافراً , شريطة أن يكون مسالماً , ملتزماً بآداب المجتمع الإسلامي ونظامه العام .
ب- المال : كل ما يمكن الانتفاع به شرعاً ويدّخر لوقت الحاجة . وعليه نرى أن الإسلام وسع مفهوم المال ولم يحصره في النقد وما يتفرّع عنه من عقار ومنقول ونحو ذلك,حتى عدّ فقهاء المذهب الحنفي المنافع مالاً وقالوا بأنها تورث وتباع .
ج- الحزر : ما يحفظ به المال من اعتداء الغير عليه . ويتنوّع الحرز شكلاً على حسب نوع المال , فالنقود الورقية , وما يلحق بها من المعدن الثمين , كالذهب والفضة والبلاتين , فالحزر هو الصندوق المقفل بإحكام , ووسائل النقل حرزها الكراج المقفل بإحكام , والعقار حرزه تحديده برسم مخططه وتوثيق ملكيته في السجلات العقارية , والممتلكات الفكرية حرزها الكتاب المحمي طبقاً لقوانين حماية الملكية الفكرية السائدة . وهكذا هو الحرز في كل نوع من أنواع المال بحسبه .
د- الخفية : أي بعيداً عن عيون الناس بحيث لا تقع العين على السارق ويقوم بالسرقة وينفّذها دون أن يطلع علية أحد . كأن يكون الوقت ليلاً مثلاً .
ه- والاستسرار : أي السرية وتعني أن لا يعرف أحد شيئاً عن السرقة قبل تنفيذها والانتهاء منها .
هذه نظرة تحليلية لتعريف السرقة , ندرك من خلالها أنها اعتداء على ممتلكات الغير بكل أنواعها .
2- الإنتاج الفكري هل يدخل تحت مسمّى المال ؟ المال هو كل ما ينتفع به شرعاً وقابل للتقويم في المجال التعاملي , فالإنتاج الفكري إنّما وصل إليه الكاتب بعد جهد عقلي مضن استغرق منه وقتاً قد يمتد لأشهر وربما لسنة أو سنوات حتى يودع ثمرة جهده هذا في كتاب تحت عنوان معيّن وينسبه لنفسه , فذلك حقّه شرعاً وقانوناً وعرفاً , ولا يجوز أن ينازعه هذا الحق أحد . وإذا سألنا أي باحث أو مؤلّف ما الغاية مما تكتب ؟ لأجاب بلا تردد تحقيق المنفعة للأمة , بل للناس جميعاً في جانب ما من جوانب الحياة , الفكرية أو الاجتماعية أو النهضوية , فالمنفعة هي الهدف الأخير من الكتاب , وبناء على تعريف المال , أقول جزماً أن الإنتاج الفكري المودع في كتاب هو مال قطعاً نظراً لما يحققه من منافع للناس .
بما أنّه قد ثبت لنا أن النتاج الفكري - الّذي أودع في كتاب يتداوله الناس من العلماء والباحثين وغيرهم من شرائح الأمة , ويباع ويشرى في المكتبات , ويقتنى في البيوت ضمن مكتبات خاصة برجال العلم والبحث - مال , فإنّه عندئذ يمكن أن يقع عليه الاعتداء كما يقع على غيره من أنواع المال الأخرى , لأنه ذو قيمة تجارية في الأسواق والتعاملات المالية . وهذا يفضي بنا إلى لبّ الموضوع ضمن السؤال التالي : سرقة الكتاب عيناً من المكتبة خلسة من قبل هذا أو ذاك أو سرقته من قبل كاتب ما يسلخ عنه اسم مؤلّفه وينسبه إلى نفسه ويخرجه إلى حيز التداول أو يسرق بعض أفكار المؤلّف وابتكاراته ويدعى أنها له وهو مبتكرها , ألا يعتبر هذا اعتداء على مال الغير, وسرقة لملكه ؟ الجواب : ذلك اعتداء وسرقة لا يشك في هذا عاقل . فسارق النتاج الفكري وسارق المال شيء واحد بلا فارق .
وبالتالي ينطبق وصف السرقة على الإنتاج الفكري انطباقه على أنواع المال الأخرى.
*ما هو حكم الإسلام في سارق النتاج الفكري للآخرين ؟
أقول هو سارق قطعاً لا يرتاب بذلك عاقل ألبتة لانطباق مفهوم المال على الإنتاج الفكري, وقد حمى الله عزّ وجلّ المال من أن تمتد إليه يد اللصوص العابثين وهو هنا النتاج الفكري,حيث شدّد العقوبة على السارق عندما يثبت ارتكابه لجريمة السرقة الفكرية , بوسائل إثبات خاصة هنا هي :
1- ادعاؤه في منتدى فكري , أو مؤتمر علمي , أو محاضرة فكرية في محفل عام يحضره جمهور من الناس من أطياف مختلفة أن هذا الكتاب من تأليفه أو تلك القصيدة من شعره , أو ذلك الابتكار العلمي له . والثابت يقيناً خلاف مدعاه.
2- اقتطاعه فقرة تتضمن حقيقة علمية من كتاب لمؤلف معروف ونشرها في المجلاّت والصحف باسمه ينسبها إليه خلافاً للواقع , ومثله اقتطاع قصيدة من ديوان شاعر وإلقاؤها في الأمسيات الشعرية باسمه خلافاً للواقع . أو تضمينها في ديوان شعري من نظمه .
3- وثائق حماية الملكية الفكرية إلى جانب الكتاب المطبوع باسم مؤلّفه .
بهذه الوسائل فيما اعتقد تثبت السرقات العلمية والأدبية , أو بأحدها وعندئذ لابد أن يلقى السارق جزاءه وهو ما نص عليه بيان الله عزّ وجل , حيث قال : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم . ) المائدة ( الآية 38 ) هذا إلى جانب اللعنة التي تلحقه , والتي جاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم,حيث قال : ( لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده . ) قطع يمينه ولعنه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة رادعة كفيلة ببتر جريمة السرقة من جذورها لمن ينشد الأمن المالي والفكري . ولا يستغربنّ ذلك أحد فالدّين الذي أعلن قطع يد السارق لبيضة أو حبل لا بدّ أن يعلن قطع يده بسرقة النتاج الفكري فذلك من توازن هذا الدين وكماله ومنطقه .
وأخيراً : لابدّ من التأكيد أن ما انتهيت إليه من بيان حكم الإسلام في قضية السرقات العلمية والأدبية , من استحقاق السارق لإنتاج الآخرين الفكري عقوبة السرقة المنصوص عليها , لا يروق لكثير من دعاة التغريب والمفتونين ببريق الحضارة الغربية , وببساطة أقول لهم , ولكل من يرى خلاف ما انتهيت إليه , إذاً ما البديل لديك ؟ هات ما عندك لنرى أيهما أسرع أثراً في تحصين المال وصونه من اعتداءات اللصوص والعابثين سواء أكان نقداً أو متاعاً منقولاً أو غير منقول أو انتاجاً فكريّاً , فإن كان البديل الّذي عندك أجدى نفعاً ويمتلك سرعة بتر الجريمة والقضاء عليها قبلناه , وهذا هدفنا , بل هدف ديننا الحق الّذي ما جاء إلاّ من أجل بناء مجتمع نظيف من الجريمة , ولكن ماذا عساك أن تقول , إذا ثبت أن البديل الّذي جئتنا به وسّع رقعة الجريمة وهي هنا السرقات العلمية والأدبية ولم يفلح في بترها وإراحة الأمة منها ؟ وعندئذ أقول لك: عذراً فقد قامت الحجة عليك .



مصادر استفدنا منها في بحثنا هذا
استفدت من بعض المصادر لدى بحثي في هذا الموضوع أحب أن أشير إليها التزاماً بالأمانة العلمية ورعاية لحقوق العلماء :
1- القرآن الكريم كتاب الله عزّ وجلّ .
2- الفقه الإسلامي وأدلته لأستاذنا الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي .
3- الجامع الصغير للإمام جلال الدّين السيوطي – الجزء الثاني ص 349 الحديث رقم 7260 . حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي , عن أبي هريرة رضي الله عنه .



أسعد الأطرش
باحث في الشريعة الإسلامية
مجاز في الشريعة الإسلامية
جامعة دمشق .
ملاحظة : نشر في جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1231 تاريخ 29 كانون الثاني 2011 ص 6 .