سقوط ثلاثين دولة


أوراق ذابلة من حضارتنا




كتبها ( دكتور ) عبد الحليم عويس

علق عليها:فيصل الملوحي


الحلقة الأولى

بين يدي هذه الصفحات


المكتبة التاريخية حافلة بالدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من تاريخنا‏.‏ وما أكثرماكتب الكاتبون حول صناع الحضارة العربية، وماأغزر أحاديثهم عن أبطالنا، وعن فضلنا على أوربة. . وغير أوربة ‏.‏


ولقد ظهر تاريخنا من خلال التركيز، وكأنه تاريخ أسطوري، وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة ليسوا بشرا. .‏!‏‏!‏ ( لدى الاطلاع على ماجاء في تاريخي ابن كثير والطبري وغيرهما نجد فيها مثالب كثيرة جمعوها التزاماً بالعلم، لقد كانوا أمناء في نقل ماسمعوه من حق وباطل، رغم أنه بحاجة إلى بحث تحقيق تاريخيين، ولاأدري سبب هذا التقصير، وأتهمههم فيه وأتهم أنفسنا، لكن هل يسمح لنا كل هذا بقبول فكرة مبالغتهم بالإعجاب بتاريخنا، لا أنفي المبالغات، إنها من فطرة البشر، ولكنها لا تبلغ شيئاً إذا قيست بما تفعله الأمم الأخرى بتاريخها، يكفينا أنا أوجدنا أعظم منهج تاريخي للتحقيق، سُمّي مصلح الحديث الشريف، وكان الأولى أن يُسمّى مصطلح التاريخ – هذا تعبير مسبوق لم أخترعه- )

ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرا من عدة وجوه ‏:‏

· أولا:‏لأنه ترك مهمة التحليل العلمي لتاريخنا البشريّ لبشر لهم مزايا وغرائز-لأعداء هذا التاريخ، فراحوا يبرزون الجوانب المظلمة في هذا التاريخ، وصادف هذا هوى بعض العقليات التي كانت تهوى التركيزعلى الماضي تركيزاًغير موضوعي،فانساقت وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون تاريخنا. من نقطة انطلاق محددة، هي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ ‏!‏‏!‏
( تقول: تحليل علمي؟أتعتقد أن أكثر هذا التشويه لتاريخنا هو تحليل علمي؟ نعم! لم نحقّق كل ّهذه الافتراءات على تاريخنا، فهاجم الأعداء تاريخنا زاعمين أنهم ينقلون عن الطبريّ وأضرابه، نعم هذا نقص فينا، في مؤرخينا، ولكنهم كانوا أصحاب منهج علمي: ذكروا كل الأخبار صحيحها وسقيمها، ولم نقم بالخطوة التالية، والأعداء هم الأعداء لايرعَوْن عن التشويه.
أمّا أن تنساق جماعة وراء أولئك المستشرقين فصحيح لأننا أهملنا دراسة تاريخنا حق الدراسة ، وعانينا التخلف منذ زمن غير قصيرّّ ).
· ثانيا ‏:‏ وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية. . ضاعت بحكم ردالفعل حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين‏:‏ قسم يرفضه بالجملة، ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل، وقسم آخر يراه كل شيء، ويراه من جانبه العالمي المشرق هو النموذج الحرفي الذي من واجبنا إعادته وتكرار نمطه‏.‏ ( أيحق لي أن أضيف قسماً ثالثاً من الناس – العلماء - بدؤوا بالتمحيص العلمي وإن كنا بحاجة إلى المتابعة! )

وبين النقيضين. . يمكن أن تحيا الحقيقة، ويمكن أيضا أن تسقط ‏‏!‏‏!‏

· ثالثا ‏:‏ لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من تاريخنا، ولعل بعض الناس قد وقر في أذهانهم بفعل هذا التركيز، أن ما نعانيه في هذا القرن من مشكلات حضارية ، ومن تحديات مصيرية، هو نموذج لم يتكررفي تاريخنا.. وهم يشعرون - لذلك - بيأس شديد ، ولعلهم يحسون، وإن كانوا لا يفصحون بأننا لن نعود إلى استئناف مسيرتنا - نحن المسلمين - وبأننا لم يعدلدينا ما يمكن أن نعطيَه للحياة في عصر القوة النووية والمركبات الفضائية، نحن الذين نستورد الساعات والسيارات والآلات البسيطة‏!‏‏!‏ ‏.‏( تقول:منهج التركيز على المديح؟ أيجوز لي أن أذكرمثالاً يردّ هذه التهمة-إذا قبلنا بأن مصطلح الحديث منهج تاريخي-، ألا نقرأ في علوم الحديث ذكرالرجال، ومن نأخذ عنهم الحديث ومن لانأخذ، ألم تُردَّ أحاديث رغم قبولها في المعنى لأن رواتها لم يتصفوا بصفات رواة الحديث المطلوبة؟ )

إن هذا الكتاب..يتناول‏"‏ أوراقا ذابلة من حضارتنا ‏"‏من خلال تركيزه على سقوط دول بعضها كان درسا أبديا حين كانت الأمراض خبيثة فتاكة، وحينما ذهبنا نطلب الدواء من عدونا..فكانت فرصته لإعطائنا السموم القاتلة..ولعل هذا الدرس لم يتضح بجلاء إلا في الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية. ( هذا كلام طيّب وتأكيد لما ذكره بعض المؤرخين من قبل )

ولعل من الملحوظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة آخر مصارعنا في الأندلس ‏١٨۹٢م، كان نفسه الذي شاهد سنة ١٤۵۳م - فتح القسطنطينية الخالد، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية أمتنا فترة تزيد على خمسة قرون. . .

سقطت الأندلس. .العضوالذي اجتمعت فيه عناصر السقوط، وكان لابد من بتره. .فحقت عليه كلمة الله ‏!‏‏!‏

ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسية كي تبني تاريخا جديدا. . ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل ‏.‏

إن درس الأندلس لايجوز أن يغيب عن بالنا، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة ‏:‏

· أولا ‏:‏ الصراع العنصري العرقيّ.
· ثانيا ‏:‏ ارتفاع رايات متعددة منحرفة .‏
· ثالثا ‏:‏ استعانة أهل الأندلس بالأعداء بعضهم ضد بعض. .

وكل العوامل الأخرى. . تدور حول هذه النقاط بطريقة أوبأخرى‏!‏ !‏ ولقد دفع أهل الأندلس جميعا ثمن أخطائهم‏:‏ دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة، حين أذله المرابطون في‏"‏أغمات‏"‏بالمغرب الأقصى؟‏‏؟‏وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم‏"‏ألمرية‏"‏وهو يموت‏:‏‏"‏نغص علينا كل شيء حتى الموت "‏؟‏ وهل ننسى دموع أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة. . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود هذه الأمة في أوربة. . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة..وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه‏:‏ ‏"‏ ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال‏"‏!‏‏!‏

ولقد دفع الشعب الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك.‏ ولم يأخذ على أيديهم، فأحرقت دوره، وسلبت أمواله، وأرغم على تبديل دينه، بل وتغيير اسمه، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان ‏!‏‏!‏

على أن "‏الأوراق الذابلة من حضارتنا‏"‏ كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي، أو انطلاقا من دعوى عنصرية، أودفاعا عن نعرة مذهبية، أوإخفاق دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها..مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر، وللنعرات أن تحكم‏.‏
ونحن لانستطيع القول‏:‏ إن هذه الأوراق كانت كلها خيراأوشرا، ولعل بعضهاكان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في النهج الصحيح..كما أننا كذلك لا نميل إلى القول‏:‏ بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية..فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق.‏

إنني لا أميل إلى ما يعتقده بعضهم من أن التاريخ يسير في طريق عمودي.. سواء إلى أعلى أو إلى أسفل. .إن تجربة تاريخنا تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة العربية-حركة لولبية-إن صح هذا التعبير-فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود. .الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين، والصعود بفعل الإذعان لتحديات خارجية قوية ‏.‏ ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط-في التجربة التاريخية لهذه الأمة-قدارتبطت بأوضاع داخلية،فهذه الأمة لم يضربها خارجها بقدرما ضربها داخلها، بل إن أعداء الخارج لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر داخلها..ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا، وكان لتدخلهم غالبا فضل إيقاظ الضمير، أوإعلان الجهاد العام، أوإظهار"‏ صلاح دين ‏"‏ أو‏"‏ سيف دين ‏"‏ والوحدة تحت راية واحدة ‏.‏

لقد كانت الأمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على مواجهةالتحديات الخارجية، أروع ما تكون المواجهة، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها، ويخنعون أمام أعدائها، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم..لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو، ولو أنها تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها.. لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة.‏ هي لصالحها.. ولحساب رقيها وازدهارها‏.
‏( ولكن لاتنس: كما تكونوا يولّ عليكم!!)

لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف-في تاريخنا -إلى آفاق ثلاثة‏:‏ الأندلس ‏-و‏أوروبة-‏ والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين-العباسيةوالفاطمية ‏-‏ والدول التي تبعتهما، ثم المغرب العربي..وهي الأجنحة الثلاثة الكبرى التي تزعمت هذا الوطن، ومثلث القيادتين الفكرية والسياسية ‏.‏

ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا نماذج من هذه الأجنحة.‏ ولربماكانت هناك دول أخرىكفيلةبمدنا بشارات من طريق السقوط..لكن الاستقصاء، فضلا عن صعوبته، لم يكن من أهداف هذه الصفحات.‏

هذا البحث..أكلةخفيفة من أطعمةتاريخنا.‏ لكنها أكلةمن نوع خاص..لاتزخربأنواع الدسم والمشهيات، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد-لا يستقيم بالدسم الدائم‏!‏‏!‏(لامجال للتشبيه بالجسم، فالدسم الكثيرلايصلح للجسم وفق-الريجيم المودرن-، أماالفكرفكثرةالدسم أصلح له، إلاإذا أردنا أن نتكلم بقدرفهم السامعين!! )

وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد.. وبجرأة، فلأن نشرحه نحن-بإنصاف- أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه- بحقد وعنف وإجحاف..‏!‏‏!‏ ( كلام جيد، ولكن هل تقبل مني أن هذه الفكرة، سبقك إليها مؤرخون، ونحن بحاجة إلى مواصلة الدرب، وإلى عمل جبار، لنفنّد مايقوله المستشرقون من أنهم كلهم مدحوا تاريخنا تعصبا بدون دليل علمي!)

وهو كذلك بحث للذين يقرؤون تاريخنا.. ليتعلموا، أو ليناقشوا، أو ليعرفوا معالم المستقبل ( كل القارئين بلا استثناء؟! ) ‏.‏

وتبقى في الختام كلمة ‏:‏

لسوف تبقى هذه الأمة، ولسوف تؤدي دورها، ولسوف تقوم من عثرتها..هكذا يقول لنا معلمنا العظيم.. ‏"‏ تاريخنا ‏"‏ ذو الأربعمائة وألف سنة - أطال الله عمره‏!‏‏!‏

ولقد كبونا كثيرا. . . ثم قمنا

ولقد حاربنا العالم كله ذات يوم..ونجونا..وانتصرنا..فقط ثمة شرط واحد‏:‏ أن نعرف من أين نبدأ، وإلى أية غاية نريد!‏‏!‏ ودائما يعلمنا تاريخنا أن آخر أمتنا لن يصلح إلا بما صلح به أولها‏.‏
( تفاؤل رائع مشروط بالنهج الصحيح، لكن قد نبدأ نحن الدرب بشرط أن نفهم أنّ هذه البداية مواصلة لدرب رجال عظام رسموا هذا النهج . )