مسألة الإثخان في الأرض آخر تحديث:الجمعة ,28/01/2011
أ .د . قصي الحسين نودّ أولاً أن نشرح لفظة “إثخان” لغوياً . وهي كما وردت في معاجم اللغة العربية بمعنى المبالغة . فالإثخان في الأمر هو المبالغة فيه . إذ يقال أثخن في الأمر: بالغ فيه . وأثخن في العدوّ: بالغ في قتاله . وأثخن في الأرض: بالغ في قتل اعدائه . وأثخن الأمر فلاناً: تكاثر عليه وغلبه . ويقال: أثخنه الهم والمرض والجراح . (المعجم الوسيط: ثخن)

أما في محيط المحيط (ثخن) فيقال: ثخن الشيء يثخن ثخونة وثخانة وثخناً: غلظ وصلب . وأثخنته الجراحة: أوهنته وضعفته . ومنه رمى الصيد وأثخنه . وفي سورة الأنفال التي نزلت في وقعة بدر الكبرى “ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى، حتى يثخن في الأرض” أي حتى يبالغ في قتال أعدائه، أو يكثر في قتل أعدائه . وأثخن في العدوّ: بالغ فيهم الجراحة . ومنه أيضاً في سورة محمد “فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق” قيل أي حتى إذا أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، أو حتى إذا غلبتموهم وكثر فيهم الجراح . وأثخنه المرض: أثقله . وأثقل فلاناً جراحاً: بالغ في جرحه .

اجتهاد النبي

ومن المشكلات التي أثيرت في هذا المقام، مسألة الإثخان في الأرض كما وردت في سورة الأنفال في واقعة بدر، بقتل صناديد قريش، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: “ما ترون في هؤلاء الأسارى”؟ عندما وقع صناديد قريش أسرى بيد النبي في وقعة بدر خصوصاً وقد ذكرت بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى رأي أبي بكر وأصحابه، وكانوا هم الكثرة . والسؤال الذي أثار هذه المسألة: كيف يميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي خاطئ، وهو المعصوم المؤيد من الله تعالى؟ ولئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تصرف في ذلك كما يقول العلماء من دون وحي من الله تعالى، فقد كان عليه انتظار الوحي! ولئن كان قد اجتهد بعد المشاورة والتدبر، فاختار جانباً رأى فيه المصلحة الإسلامية، بحسب رأيه، فهو لا يعدو أن يكون مجتهداً أخطأ، وقواعد الإسلام في الأحكام المسلمة عند جميع العلماء تقضي بأن المجتهد المخطئ غير ملوم، فكيف يلوم الله تعالى رسوله والمؤمنين هذا اللوم الشديد حتى يقول لهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى، حتى يثخن في الأرض” أي ما كان ينبغي ذلك وما يليق، وحتى يقول وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم “لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم” وحتى أن يجلس رسول الله وأبا بكر جلسا من أجل ذلك مجلس الباكيين النادمين على النحو الذي ذكره أصحاب السيرة وأهل الأخبار الثقات .

“العذاب العظيم”

وهناك شبه واضح بين قوله تعالى “وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم”، وقوله تعالى “تريدون عرض الدنيا” . كما أن هناك شبهاً واضحاً بين قوله جل شأنه: “ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين” وقوله جل ذكره: “والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم” . ثم قال الله تعالى تنديداً بهؤلاء: “لولا كتاب من الله سبق”، أي: لو لم يمنعكم من أخذ العير، وأسر أصحابها، لأسرتم القوم، ولأخذتم عيرهم يومئذ، ولو أنكم فعلتم ذلك “لمسكم فيما أخذتم” قبل أن تثخنوا في الأرض “عذاب عظيم” .

ويقول العلماء، يصح أن يكون المراد بهذا العذاب العظيم: هو ما يصير إليه حال أصحاب الدعوة الإسلامية، من الضعف والتخاذل والذل والعار، بعد أن يصبحوا في المدينة/ دار الهجرة، ولا هم لهم إلاّ سلب أعدائهم ما يمرون به عليهم من تجارة وأموال . فإن ذلك سيجعلهم يركنون إلى الاستمساك بالأموال والمكاسب عن طريق الأسر والغنيمة من دون حرب وإثخان في الأرض، فيكون لهم وضع أشبه بوضع قطّاع الطرق، مما يجعل منهم أصحاب أغراض وأعراض دنيوية زائلة، لا أصحاب مبادئ ورسالة إسلامية إصلاحية، فتضيع ريحهم وريح الدعوة الطاهرة .

ونحن نرى أن هذا هو معنى قوله تعالى “ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى، حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة” . ولا يصح حمل الكلام على غير ذلك . وقد أخطأ من زعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتخذ الأسرى، وأخذ منهم الفداء، قبل أن يثخن في الأرض .

وإلى ذلك يمكن أن نؤكد أن النبي الكريم، إنما فعل ذلك كما تشير الروايات والأخبار، بعد أن قتل صناديد قريش وطواغيتها، كأبي جهل بن هشام، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، والعاص بن سعيد، والأسود، ونبيه، ومنبه،وأبي البحتري، وحنظلة بن أبي سفيان، وطليحة بن عدي بن نوفل، ونوفل بن خويلد، والحارث بن زمعة، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الشرك كما هو مذكور في السيرة الشريفة . فكيف يمكن بعد هذا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الفداء قبل أن يثخن في الأرض؟

ونحن نميل إلى أن قوله تعالى: “ما كان لنبيّ أن يكون . . . . . .” مرتبط بما كان من المؤمنين قبل الغزوة، من رغبتهم في العير دون النفير، لا بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التشاور في الأسرى بعد انتهاء الغزوة بنصر المؤمنين . وإذا صحت واقعة التشاور في الأسرى، فلا ضير في أن يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم بالصفح والترفق والرحمة . وكذلك لا ضير في أن يتجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى حسم الفساد ودرئه بالقوة احتياطاً من أن يستفحل الخطر على المسلمين فيقعون في الشبهات . وقد كان ذلك في سيرة عمر الفاروق الإسلامية والقرآنية من أعظم الموافقات (أي المواضع التي نزل فيها القرآن مؤيداً لرأيه).