بسم الله الرحمان الرحيم

معاناة

ذهبت إلى زيارته في منطقة سكناه الجديدة التي لا يعرفها أحد من معارفه القدامى، تلبية لأواصر الأخوة والصداقة، بعد أن غير منزله بعيدا عن الأول بسبب حكم قضائي لصالح مطلقته وولديه، وسكن في حجرة صغيرة تحت السقف في قرية جبلية شتائها يغلب على بقية الفصول..

عندما وصلت تحت بيته، واتصلت به على رقم هاتفه الخلوي، نزل إلي وقد بانت عليه الهموم، وقلت من محياه الضحكة التي كان يعرف بها.. واعتلاه الشيب.. ست سنوات بعد الطلاق لم أره فيها غيرت فيه الكثير، أخذني من يدي إلى مقهى بكثير من الخجل.. من كونه لا يقدر على أن يضيِفني في بيته، لأنه تزوج بالثانية منذ خمس أشهر وهو بصدد طلاقها كذلك لأنها لم ولن تقبل بزيارة ولديه إليه، بل حجرت عليه الذهاب إليهما.. لم أستطع تقبل الأمر، فلمته بشدة على زواجه بالثانية دون استشارة أصدقائه وإخوانه، والتأكد من طبعها، وإن كنت في أعماقي ألتمس له الأعذار..

لما وصلنا للمقهى وطلب كل واحد منا "كابوتْشينو"، حكى لي وضعه المعيشي مع زوجته الثانية، وعراكهما بسبب ولديه، وانقلابها عليه، وحجم المشاكل العائلية والخصومة، وتعسر حالته المادية.. وكيف أمسى مطاردا تارة من الأولى وتأخره في دفع النفقة، خاصة بعدما علم بحالة الإهمال المتعمدة لولديه من طرف مطلقته، واشتغالها بأشياء أخرى، ووضعهما الذي أصبح لا يعجبه في إيطاليا، وتمردهما على عادات وقيم كان يعدها راسخة فيهما لا تتزعزع.. وتردي مردوهما الدراسي مما سبب في رسوبهما أكثر من مرة، وتارة من الثانية وكيف هي نكدية، وأن بيته أصبح قطعة من الجحيم.. يعود إلى بيته فتداهمه الكآبة، إذ يطالعه وجه زوجته الغاضب، الحاد النافر، المتجاهل الصامت، وصار منزله خال من الضحك والسرور مثلما يغيب عنه التفاؤل.. خاصة بعد تأكدها من إصراره على جلب ولديه للسكن معه محاولة منه لتدارك الأمر، وكيف سيترك هذا المنزل كذلك لأن زوجته هاته لا مأوى لها، لا قريب ولا حبيب لها في الغربة، بل لا تعرف أحدا غيره في إيطاليا.. وهل سيواصل النفقة على الأولى، ويساعد الثانية ماديا، أم سيتنازل عن النفقة للسابقة، وسيترك هاته الأخيرة وشأنها وهي التي لا تعرف لا اللغة ولا البلد..

وعند سؤالي له: هل أعلمتها وأخبرتها قبل الزواج بأن لك ولدين ونيتك تجاههما؟

قال لي: نعم، وكان اتفاقنا على الأولاد أولا.

قلت له: ياأخي تزوجت الأولى وتعرف أنه يصعب التفاهم مع بنات تلك الجنسية العربية.. كثير منهن يتزوجن المقيم في الغرب عادة دون أدنى شرط، بنية استخراج إقامة في بلد المهجر أولا، ثم عمارة الدار تأتي عندهن في المرتبة الثانية.. ومع ذلك أصررت على عقد القران بها.. والآن عاودت الخطأ بزواجك ثانية رغم أنها تختلف، لم تصبر وتضحي من أجل ولديك..

قال: لقد ضغطت على أهم شيء يوجع رجولتي، أي عدم الإعتراف بأولادي وهذا أمر لا يستهان به. لقد أوصلني تصرفها هذا إلى مرحلة الثورة والإنفجار.. وانتهاز فرصة زيارتك لي لأبقى ثلثي الليل خارج المنزل وبعيد عنها دليل أخر على ماأعانيه وأكابده..

بعد وقت غيرت اتجاه دفة الحديث، حتى أخرِجه قليلا من أحزانه. دخلت معه في أحاديث المثقفين والمتثاقفين، وبدأنا بالنظر في حجم المقالات التي انطلقت في الصحف الإيطالية تهاجم النقاب والمنتقبات في الغرب عموما، وعلاقة التيارات الإسلامية بهذا، إلى آخر ما يمضغون. ثم خرجنا من هذا إلى حديث عن قضايا البطالة والعمل، ومشكلة المهاجر الذي هو الحلقة الأضعف في هذا المجتمع..

وكنا طبعا نخفض صوتينا ونحن ندير حديثنا، حتى لا يستغرب من حولنا من تحمسنا، ومن كثرة مكوثنا حول الطاولة، ويشعروا بريبة تجاه وجودنا مثلما يشعر الناس تجاه ما لا يعرفون ومن لا يعرفون.. لم أكن أخفض صوتي من أجل ما تقدم فقط، ولكني أيضا كنت مجهدا وفي حاجة للراحة، بما أنني لم أنم منذ الأمس إلا قليلا، بحكم بعد المسافة التي قطعتها في قيادة السيارة حتى أصله، وتأخر الساعة، لذا بدت لي الأشياء في هذه الأمسية مهتزة وضبابية كأنها بين الحقيقية والخيال..

تركته، وكنت عازما الأمر بيني وبين نفسي على أن لا أعود لزيارته مرة أخرى، لأني أصبت فيه بخيبة أمل.. وقلت في نفسي وأنا أتألم: إنه أمام زوجة لا تعرف ما يضير، ويضايق، ويؤلم زوجها، متمادية في غيها، مما يفقده التفاهم معها، كما لم تعرف الأولى الإحسان له، وهذه ضريبة البعد، واستعجال الزواج، أضف إليهما ضرائب أخرى، يمر بها أهل المحن من المهاجرين والمغتربين في هاته البلاد.