كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(1)
الثقافة الإسلامية حملت البذور الطيبة لعصر النهضة الأوروبية
تأليف :مايكل مورغان



يستمد هذا الكتاب أهميته من أهمية الموضوع الذي يتناوله وهو الحضارة الإسلامية ومساهمتها في نشوء الحضارة الغربية وما تلي ذلك من تقدم في شتى ميادين الحياة. ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة في ضوء ما يتعرض له المسلمون من ملاحقة وتضييق في جميع أنحاء العالم وما يتعرض له الإسلام من تشويه وهجوم يصل إلى حد إنكار ونفي أية مساهمة للمسلمين في الحضارة الإنسانية.

يلقي المؤلف في هذه الحلقة الضوء على العصر الذهبي للإسلام مركزاً على منجزات الخلافة الأموية والعباسية ورعايتهما للعلم والعلماء، ويشير إلى الجهل السائد في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، إزاء تاريخ الإسلام ومنجزاته، وما يتركه هذا الجهل من تأثير سلبي على مجمل العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب.«هذا كتاب يضع يده على الحلقة المفقودة في قصة عالم مترابط الوشائج: إنها حلقة المنجزات التي حققتها الحضارة الإسلامية بكل تأثيراتها في الشرق والغرب على السواء». هذه العبارات صدرت عن قارئ جاد للكتاب ومسؤول يزن كلماته جيدا اسمه جيمي كارتر، وهو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأميركية.

أما ناشر الكتاب فيحتفل بالموضوع الذي عالجه المؤلف إلى حد أن يبدأ التصدير بالعبارة الجميلة الجامعة من الحديث الشريف، يقدمها الناشر، بالإنجليزية طبعا إلى قارئ كتابنا، والعبارة هي: اطلبوا العلم ولو في الصين. من ناحية أخرى يؤكد ناشر الكتاب، وهو مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» العالمية أن مثل هذه النوعية من الكتب والدراسات أصبحت من ألزم ما يكون في حقبة نعيشها حاليا وتكتنفها عوامل من سوء الفهم بين الغرب والإسلام الأمر الذي يطرح سؤالا بديهيا يقول: ـ كم من جماهير الغرب يعرف أو يدرك أن المنجزات الثقافية والفكرية للمسلمين كانت مثار الغيرة بل والحسد في نفوس العالم في يوم من الأيام؟

ـ ثم تستطرد المؤسسة العالمية قائلة في هذا السياق: في مراكز العلم الزاهرة من دمشق إلى بغداد ومن القاهرة إلى الأندلس استطاع علماء الرياضيات المسلمون منذ ألف سنة أن يطوروا علوم الجبر واللوغاريتمات وحساب المثلثات التي قامت على أسسها التكنولوجيا الحديثة. وفي تلك الحقبة من الزمان ابتكر المخترعون المسلمون النماذج الرائدة من أدوات وآلات شتى ومنها مثلا قاذفات الطوربيد ومظلات الهبوط الجوي (الباراشوت)، وعمل الأطباء المسلمون على تطوير الأساليب العلمية للعلاج الناجع من الأمراض، بينما توصل الفلكي المسلم إلى حساب وقياس قطر الأرض بدرجة مرموقة من الدقة وفي وقت كان الأوروبيون (في العصر الوسيط) يحسبون فيه أن الأرض كيان مسطح ليس إلا.

العصر الذهبي للإسلام

والحق أن المرء يسعده منذ أولى الصفحات، بل وعلى الغلاف الخارجي الأنيق لهذا الكتاب ـ أن يطالع إشارات واعدة بالبحث والعرض والتفصيل والتحليل ـ إلى ما يصفه المؤلف الأميركي بأنه العصر الذهبي للإسلام: العقيدة والكيان والحضارة، موضحا أن هذا العصر يبدأ من عام 570 للميلاد بمولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

ثم لا تلبث تفاعلات العقيدة مع الشريعة أن تفضي، على مهاد العلم والمعرفة والبحث والاستقصاء، إلى أن تتجلى مع الكتاب أسماء: جابر بن حيان والحسن ابن الهيثم وابن سينا والخوارزمي والطوسي وعمر الخيام، الذين يصفهم المؤلف منذ فواتح الأسطر بأنهم المفكرون والعلماء الامبريقيون (الذين جمعوا بين الفكر النظري والتجربة العملية) ممن مهدوا، كما يضيف لمن جاء بعدهم من رموز وأسماء في سجل العلم الإنساني الحديث من أمثال نيوتن وكوبرنيكوس وآينشتاين.

أخيرا تختتم مؤسسة النشر المرموقة التي احتضنت هذا الكتاب تصديرها الجميل بثناء تضفيه على الجهد العلمي الذي بذله المؤلف ـ الكاتب الأميركي مايكل مورغان ـ الذي تابع مسيرة الإسلام منذ بعثة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصر السلطان العثماني سليمان القانوني (1520 ـ 1566)، أو سليمان العظيم كما تعرفه حوليات التاريخ الأوروبي وما بعده.

وهي عصور ـ يؤكد الكتاب ـ أنها قامت على أساس التسامح الديني والبحث العلمي في آن معا ويحمد لمؤلف الكتاب أنه بعث الحياة من جديد في حقائق لم يكد يعرفها أحد (في الغرب بالذات) عن الإسلام وحضارته ومآثره ومنجزاته وأنه تعامل مع مادة البحث ونتائجه من منطلق يجمع بين الاحترام وعرفان الفضل ومن هنا استطاع المؤلف ـ كما يضيف الناشر ـ أن يزودنا ـ كقارئين بقصة من قصص الحضارة (الإنسانية) نابضة بالحيوية مائجة بالحياة وباقية على مر الأزمان.

حتى لا يضيع التاريخ

العنوان الرئيسي لهذا الكتاب تجسّده حرفيا العبارة الموجزة، التالية: التاريخ الضائع

والعنوان الفرعي الذي يشرح للقارئ الموضوع الذي يتناوله المؤلف عبر الصفحات هو: التراث الباقي لعلماء ومفكري ومبدعي المسلمين.

في 300 صفحة يعرض المؤلف الأميركي موضوعه الذي استهدف به إنصاف عقيدة وحضارة وتراث وشعوب استقامت لها دعوة «لا إله إلا الله» ما بين مقدمة وخاتمة تضمان بينهما 8 فصول يتألف منها هذا الكتاب الذي يلفت النظر منذ استهلاله أمر وهو:

جدول منشور بالتسلسل الزمني يبدأ بمولد النبي الكريم في مكة حتى يصل به المؤلف إلى اختتام آخر مراحل هذا الجدول بإلغاء الخلافة أو كما يسميها نهاية، الإمبراطورية العثمانية عام 1922.

بعدها يسجل المؤلف في مقدمته الإضافية أهمية استعادة منجزات الحضارة التي شادها المسلمون عبر التاريخ، من حيث ارتباطها بقدرات الإبداع والابتكار والاختراع، وطرح الأفكار الكبرى، وإشاعة روح التسامح والتعايش بين البشر.

وهو ماض، يؤكد المؤلف، أنه اتسع لكي يعيش ويسهم وينجز فيه أفراد ينتمون إلى أديان وعقائد وحضارات أخرى تحت لواء الإسلام من مسيحيين ويهود وهندوس وبوذيين وغيرهم وهي ثقافة ـ يضيف المؤلف ـ حملت في طياتها البذور الطيبة للنهضة الأوروبية، الأمر الذي ينعى معه المؤلف أن تأتي بداية القرن الحادي والعشرين فإذا بهذه الحضارة المجيدة الباذخة تتعرض لآفة النسيان أو التجاهل أو سوء الفهم أو القمع بل ومحاولات التبديل والتشويه أو التزييف في بعض الأحيان.

السير في حقل الألغام

يبادر المؤلف من سطور المقدمة فيقول بوضوح: هذا الكتاب توفرْتُ على تأليفه موجها إلى القارئ العادي وليس إلى القارئ الأكاديمي (الدارس أو المتخصص).

ومع ذلك فأنا على يقين بأنني أخوض في حقل ألغام وهذا الحقل الملغم ازدادت وطأته بفعل الخلط الذي بتنا نشهده بين الإرهاب الراديكالي (المتشدد) وبين صعود النماذج الدينية الأصولية (الحَرْفية ـ النصّية) سواء في تنظيم المجتمع أو في حياة الأفراد ـ هذا فضلا عن استمرار المعارك المحتدمة بين إسرائيل وجيرانها وحملتي غزو الولايات المتحدة لكل من أفغانستان والعراق وحربها التي أعلنتها على الإرهاب ثم الأزمات السياسية والاقتصادية في عدد من المجتمعات الإسلامية.

ثم يعرض المؤلف إلى ما يلمسه ويعايشه من محدودية معلومات مواطنيه الأميركيين بتاريخ الإسلام وحضارته ومنجزاته ومآثره يقول: معظم الأميركيين ـ بمن فيهم المسلمون الأميركان أنفسهم ـ بل وكثير من أبناء العالم الإسلامي في أنحاء شتى من العالم، لا يعرفون سوى النزر اليسير عن تاريخ المسلمين. ولقد يقول قائلهم مثلا: كانوا عظماء في يوم من الأيام ابتكروا الرياضيات ولكنهم ما لبثوا أن تخلفوا عن المسيرة الخ.

والمشكلة أن معظم أهل الغرب تعلموا أن أمجاد الغرب تعود بجذورها الثقافية إلى أيام اليونان والرومان، وأنه بعد سبات وخمول دام خلال القرون المظلمة الوسطى جاءت المعجزة فإذا بأوروبا تصحو إلى وعي جذورها الإغريقية والرومانية مقترنة بالعقائد اليهودية - المسيحية مما أدى إلى حركة النهضة وعصر التنوير .

وفي هذا الإطار نجدهم يتناسون في أصول هذه الصورة تلك المساهمات الفكرية والعلمية التي أنجزها العرب والفرس والهنود والصينيون والأفارقة وغيرهم من أبناء العالم الإسلامي لدرجة أن تصبح تلك المنجزات (المبهرة أصلا وحقا) مجرد حاشية على متن الثورة العالمية والصناعية التي شهدتها أوروبا.

من ناحية أخرى ـ يضيف المؤلف ـ فإن معظمنا (في أقطار الغرب) لا يعرف الكثير عن تفاصيل تاريخ المسلمين: أولا بسبب حاجز اللغة، وثانيا بحكم انقضاء العديد من القرون، وثالثا في غمار تلك السحابة من الغمام الذي ما برح يحيط بما لم نألف سماعه ولا تعودنا على استخدامه من الأسماء والأماكن والأحداث التي تراجعت أو انحسر مدها أمام نزعة التفوق الأوروبي (أو هي «المركزية الأوروبية» كما يعرفها المصطلح العلمي الشائع الاستخدام).

مجموعات الاهتمام

ـ هل معنى هذا أن الغرب نسي كل هذا التاريخ الحافل للإسلام والمسلمين؟

ـ المؤلف يجيب بالنفي من ناحية المبدأ. ويؤكد أن مآثر الحضارة الإسلامية (والإسهام العروبي في قلبها) كانت محل اهتمام من عناصر وشخصيات شتى (يسميها أحيانا مجموعات وأحيانا معسكرات) تنوعت بينها أساليب الاقتراب من الحضارة الإسلامية وتحليل جوانبها وإصدار الأحكام عليها واتخاذ المواقف تجاهها. وفي هذا السياق يعرض الأستاذ مايكل مورغان لخمس مجموعات أو خمسة معسكرات على النحو التالي:

أولا، جماعة المستشرقين: وهم في معظمهم يرون أن العالم الإسلامي دانت له دنيا المجد العلمي والعطاء الفكري على مدار فترة تمتد تقريبا بين عامي 800 إلى 1200 للميلاد وترى مدارس الاستشراق في هذا الصدد أن تلك الفترة هي التي شهدت ترجمة المسلمين لتراث اليونان والرومان مما حفظ للبشرية هذا التراث، إلى أن تلقفته أوروبا لتعبُر على جسوره إلى دنيا الاستنارة والتقدم التي تعرف أنها عصر النهضة.

وهذه النزعة الاستشراقية هي التي ترى أن المسلمين تعثرت خطاهم وانكسفت شمس حضارتهم بسبب تغلب عناصر من قبيل التتار فضلا عما أصاب مجتمعاتهم من تناحر وانقسام مما حال دون التطور إلى مجتمعات تسودها حرية الفكر ومدنية الدولة أو الديمقراطية.

ثانياً، جماعة «المحافظين الجدد»: وهم المتحكمون حاليا في إدارة بوش بالولايات المتحدة وهم الذين يرون أن الشرق الأوسط ـ العربي بالذات ـ منطقة قلاقل واضطرابات إذ يطلون عليها من منظور أحداث 11 سبتمبر 2001.

ورغم أن العرب ـ كما يوضح المؤلف ـ يشكلون نسبة 17 في المئة فقط من مسلمي العالم إلا أن «المحافظين الجدد» الأميركيين باتوا يخلطون بين مشكلاتهم إزاء العرب وبين عموم الكيان الإسلامي فإذا بهم يقولون بأن الكيان المسلم معاد للحرية وللديمقراطية وللتقدم العلمي والانفتاح الاجتماعي (!). وهو ما روجته، وما برحت تروجه قطاعات شتى في أوساط وسائل الإعلام والسياسة الخارجية الأميركية.

ثالثا، هناك في رأي المؤلف معسكر «السبق العلمي» كما يسميه: وهم القائلون بسبق المسلمين حتى القرن الخامس عشر في مضمار العلم والتكنولوجيا متفوقين بذلك على أوروبا ولكن ما لبث هذا كله أن توقفت مسيرته وتصلبت شرايينه فكان أن تخلف العالم الإسلامي لا عن أوروبا ذاتها بل عن أقطار أقل شأناً مثل الهند والصين.

رابعا، هناك المعسكر الليبرالي: وفيه عناصر منصفة وموضوعية من حيث (النظرة إلى الإسلام): في عقيدته وشريعته وتجلياته العلمية والحضارية وهذه الجماعة من أهل الغرب المنصفين ترى أن دعوة الإسلام إلى مساواة الناس جميعا أمام الله سبحانه وتعالى، دعوة من الإسلام إلى الاستزادة من العلم وتوقير العلماء إلى حيث منزلة وراثة الأنبياء كل هذه القيم الإيجابية ينبغي أن تظل منابع للإلهام والهداية مع سنوات القرن الحادي والعشرين جنبا إلى جنب مع سائر العقائد الدينية والرسالات السماوية.

أخيرا، يختتم المؤلف تحليله في هذا المضمار بلمحة عمن يصفهم بأنهم «معسكر التحزب»، ويقصد بذلك الفئة القليلة عددا، وإن كانت تشمل بعض الأكاديميين أيضاً ـ ممن يقولون إن المسلمين اخترعوا كل شيء وسبقوا المجتمع والعصر الحديث في أكثر من مجال وميدان، وأن المشكلة هي إنكار فضلهم واستبعاد مآثرهم. وفي كل حال، يحرص المؤلف على القول إنه أفاد من هذه الاتجاهات والطروحات جميعا وإن لم يتعصب لأي منها في سياق رحلته هذه عبر الزمان والمكان.

ونحرص نحن من جانبنا على القول إن كتابنا هذا من تأليف كاتب من أهل الغرب حاول أن يطل على تراثنا الإسلامي ـ العربي من منظور يجمع بين الموضوعية والفهم أو محاولة الفهم، وذلك اجتهاد محمود من جانب باحث وكاتب أميركي في كل حال. قد نوافقه وأحيانا لا نوافقه على ما يذهب إليه ولكننا نحمد له محاولته التي يبغي منها قدرا من الإنصاف التاريخي من ناحية ويقصد من ورائها كذلك المشاركة ولو بوضع لبنة واحدة في صرح التفاهم والتعاطف والتعايش بين الثقافات والحضارات في عصر ينذر فيه الأفق باحتدام الصراع بين الثقافات والحضارات بما يهدد سلام البشرية ورفاه شعوبها.

رسالة إلى القارئ

وحسبنا أن نبدأ فصول الكتاب من خلال هذه السطور التي يمهد بها مؤلفنا لهذا البحث حيث يقول: عندما نستعيد تاريخنا الضائع المشترك. يحدوني الأمل في أن يتحلى غير المسلمين بالمزيد من الاحترام ومن الفهم العميق لأبناء عمومتهم المسلمين بأكثر مما توحي به العناوين الإعلامية والسياسية التي نطالعها في هذه الأيام كما أرجو أن يدرك مسلمو اليوم كيف أن الإسلام وجد طريقه يوما إلى التطبيق فكان أن أعلى من شأن روح الابتكار وملكة الإبداع والتسامح والتنوع في الأفكار والسلوكيات سواء على صعيد الفرد أو المجتمع بشكل عام.

بعد هذا التمهيد، المسهب كما قد نعترف، يتحول بنا المؤلف إلى أول فصول الكتاب وقد حرص على تصديره بالآية الكريمة التي تقول:

(غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) صدق الله العظيم.

نعتقد أن المؤلف كأنما يريد أن يقول هنا إن الأيام والحضارات دُول ما بين تقدم وانحسار أو بين شروق وغروب، يوم لك ويوم آخر عليك. ها هو يفتتح الفصل الأول من الكتاب بلمحة عن مدينة «تور» جنوب فرنسا، وهي التي شهدت توقف زحف جيوش الأمويين بقيادة عبد الرحمن الغافقي في عام 732 للميلاد.

وبعدها استقرت الأمور لبناء دولة مسلمة وإرساء دعائم نهضة حضارية إسلامية زاهرة في ربوع الأندلس بشبه جزيرة أيبيريا الأوروبية (أسبانيا والبرتغال). صحيح أنها الحدود التي توقفت عندها جيوش الأمويين في جنوب أوروبا، وبعدها انصرف مسلمو الأندلس إلى ترسيخ بناء حضارتهم ونهضتهم في مجالات العلم والفن والاختراع والإبداع إلا أن هناك من الآراء التي يتابعها مؤلف الكتاب في أوساط الغربيين من يتصور أنها كانت حدا تاريخيا فاصلا بين أوروبا وبين أن يسيطر عليها الإسلام والمسلمون، .

وإلا لكانوا قد واصلوا زحفهم وانتشارهم من حدود بولندا في شرقي القارة الأوروبي إلى مرتفعات اسكتلندا في شماليها على نحو ما كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون عام 1776.

وقد حرص يومها على أن ينّبه قومه قائلا: إن عبور نهر الراين (وسط أوروبا) لم يكن صعبا على المسلمين ولا كان أصعب من عبور الفرات أو النيل ولو كان الأمر كذلك لاستطاعت الأساطيل العربية أن تبحر شمالا حتى مصب نهر التيمز في انجلترا ولترددت بذلك آيات القرآن في قاعات وأروقة جامعة أكسفورد.

الكتابات المتحاملة

تلك هي نوعية الكتابات المتحاملة التي لم تر في العرب والمسلمين سوى جيوش الغزو أو جحافل السيطرة وغفلت بذلك عمدا أو جهلا، عن متابعة المدخلات الحضارية التي أنجزوها وأسهموا بها في ترقية الحياة والفكر والإبداع والرفاه الإنساني ـ ما بين الطروحات الفكرية والمثل العليا التي انطوى عليها هذا الفكر المسلم وقد تلقفتها أوروبا ذاتها ـ كما يوضح المؤلف (ص 41) وتأثرت بها ابتداء من أناشيد الحب العفيف الرومانسي في أغاني التروبادور.

وهم مغنو أوروبا في العصر الوسيط إلى حكايات شهر زاد في ألف ليلة وليلة إلى الأعمال الفلسفية التي شارك فيها مع فلاسفة المسلمين معاصروهم أهل الديانات السماوية الأخرى، إلى فكرة المدرسة ـ الجامعة التي عرفها العالم من أيام الحكم الإسلامي في الأندلس إلى الطب الحديث والمجتمع الحديث الذي يقوم على تعددية الأعراق والعقائد والأديان. كل هذا ـ يقول المؤلف ـ تاريخ منسي أو ضائع، أو فلنقل إن أهل أوروبا أو الغرب تعمدوا أن يتناسوه.

مآثر المأمون

في هذا الخصوص يحرص المؤلف على أن يعرض في لمحات ثاقبة بالغة التكثيف مسيرة وتطور تاريخ الإسلام منذ بدأ دعوة روحية ووحيا من لدن السماء على يد النبي محمد صلوات الله عليه إلى أن نضج وتطور واكتهل إلى حيث شاد المسلمون دولتهم الكبرى وحضارتهم الباذخة التي بلغت ذروتها في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 790 للميلاد في العاصمة بغداد، التي يصفها المؤلف بأنها أصبحت في ذلك العصر مركزا للعلم تمازجت فيه الثقافتان العربية والفارسية، وكانت المحصلة نهضة علمية وفلسفية وأعمالا ما زالت تعد من عيون الأدب وروائع الإبداع.

وفي سنة 823 أصبح عبد الله المأمون خليفة للدولة العباسية يقول مؤلف الكتاب: هنالك توسعت الإمبراطورية الإسلامية فأضيفت إليها ربوع ما نعرفه اليوم بأنه تركمانستان وأفغانستان. لكن ها هي الإمبراطورية تزدان بإنشاء المأمون «بيت الحكمة» .

حيث عكف المترجمون الثقات على أن ينقلوا إلى العربية الذخائر الكلاسيكية عن اليونانية والسريانية والفارسية، ومنهم كان الطبيب السورياني حنين بن اسحق الذي أوقف جهوده على ترجمة أعمال غالينوس وأرسطو وأبوقراط ثم هيأت له إمكانات بيت الحكمة وتشجيع خليفة المسلمين عبد الله المأمون أن يكتب أعماله الكلاسيكية بدورها في تخصص طب العيون تحت عنوان «مقالات العيون العشر» وما زالت تعرف في الغرب باسم «جوهانتيوس».

في هذا الإطار يبدو مؤلفنا معجبا بسيرة المأمون، ففي معرض الحديث عن هذا الخليفة العباسي المحب للعلم والمشجع للعلماء، نلاحظ أن أسلوب السرد والتحليل في الكتاب يكاد يرقى إلى مرتبة الشعر وربما الإيقاع الدرامي إن صح التعبير. يستعيد المؤلف حلما راود المأمون حين زاره في المنام فيلسوف اليونان الأشهر أرسطو وخاطب الحاكم المسلم قائلا:

أوصيك بأهل الفكر والعلم كن رفيقا بهم حادبا عليهم ـ وسّع أمامهم «حرية التفكير» بغير خشية من عاقبة ـ فالمعرفة لا حدود لها، والعقل أغلى هدية وهبتها السماء للبشر فاتخذ من أهل العقل والحكمة من ينقل إلى لغتك العربية ما تناهى إليكم من أعمال السابقين.

بهذا يمهد المؤلف لقرار الخليفة المسلم تأسيس «بيت الحكمة» وبسط رعايته على المفكرين والعلماء وثقات المترجمين فيما يحرص المؤلف أيضاً على أن يستعيد التوصيات الأصيلة من واقع العقيدة الإسلامية بالعلم والعلماء ومن ثم فهو يبدأ الفصل الثاني من الكتاب بالآية الكريمة: (وقل ربي زدني علما).