المارّون بين الكلمات العابرة آخر تحديث:السبت ,15/03/2008

صالح الخريبي

أليس غريباً أن يستولي نبوخذ نصر على القدس، ويدمرها، ويحرق مبانيها، ويفتك بسكانها، ويسبي يهودها إلى بابل، ويزيل هيكلهم، ثم يترك جداراً من هذا الهيكل دون إزالة هو “حائط المبكى” الذي يزعم اليهود أنه الجزء المتبقي من الهيكل؟ أليس الأقرب إلى المنطق والعقل، إذا كان هنالك مجال للعقل والمنطق في الحوار مع اليهود أن نتصور أن نبوخذ نصر دمر الهيكل وأزاله من أساسه، لأنه يدرك تماماً أن بقاء ولو جزء صغير منه سيتحول إلى محجة لليهود، وموضعاً لتقديسهم، وبؤرة للتمرد ضده؟

شيء آخر، إذا كان السيد المسيح، عليه السلام، قد خرج على الناموس اليهودي، كما تقول الروايات اليهودية التي تصفه وتصف والدته بأبشع الصفات، وجرى تقديمه للمحاكمة على هذا الأساس، فكيف يجري دفنه في أقدس مكان لدى اليهود، في ساحة هيكلهم، إذ إن المعروف أن كنيسة القيامة التي دفن فيها الذي شبه لهم تبعد مسافة قصيرة عن حائط المبكى؟

ومن المثير للانتباه ألا نجد ذكرا لمدينة القدس (التي يتمسك بها اليهود أكثر من تمسكهم بدينهم نفسه)، في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، والمسماة بالتوراة، وحتى وفاة رسول الله سليمان لم تكن هذه المدينة تتمتع بأية قداسة لدى اليهود، فالتوراة لا تذكر أنها كانت تعني أي شيء لسيدنا إبراهيم عليه السلام، ولم يذكرها ابنه اسحق على الإطلاق، ولا حفيده يعقوب، ولا الأسباط، ولم يذكرها كذلك سيدنا موسى عليه السلام، ولا الذين خرجوا معه من مصر، ولا حتى يشوع الذي بدأ الغزو “الإسرائيلي” لفلسطين، كما لم يرد ذكرها في سفر القضاة وسفري صموئيل، وفي كل هذه الأسفار لا نستطيع أن نعثر ولو على كلمة واحدة توحي بتفضيل هذه المدينة على غيرها، دعك عن تقديسها. بل إن أسفار أنبياء بني إسرائيل الملحقة بالتوراة تحتوي على مقاطع فيها حديث طويل عن انحرافات أورشليم وضلالاتها، بما لا يؤهلها للتقديس، وفجأة، ومن دون سابق إنذار، نأخذ علماً في سفر الملوك إن “الرب اختار أورشليم”، في عبارة تبدو وكأنها حشرت حشرا في النص، ومن دون تبرير لأسباب هذا الاختيار.

وليس العقل والمنطق هما، فقط، اللذان يرفضان مزاعم اليهود حول أهمية القدس بالنسبة لهم، إذ إن الحفريات الأثرية التي أجريت في المدينة، منذ بعثة تشارلز وارن عام 1868 حتى الآن لم تتمكن من ربط تاريخها وآثارها بما جاء في التوراة عنها، ومنذ سقوطها بيد “إسرائيل” عام 1967 والحفريات تجري على قدم وساق في مناطق متعددة للبحث ولو عن دليل واحد يبرر ربطها بما ورد في التوراة من دون جدوى، رغم أن أعمال التنقيب كشفت أن كل الشعوب والأمم التي كانت لها صلة بهذه المدينة تركت آثاراً تشهد على هذه الصلة: من النطوفيين إلى الغسوليين والعموريين واليبوسيين والفراعنة والهكسوس والبابليين والآشوريين إلى الفرس واليونان والرومان، كل هؤلاء تركوا في القدس وما حولها آثاراً تدل عليهم إلا اليهود. مما دفع علماء الآثار في الدول الغربية و”إسرائيل” إلى التوقف عن مساعيهم لربط القدس بالأحداث التوراتية، وظهور اتجاه لدى بعض هم، مثل: لاب، ودوفو، وديجر، وفرانكن، وغيرهم من رجال الدين المهتمين بالآثار، بالمناداة بالفصل الكامل بين الاركيولوجيا والتوراة، بحجة أنهما يختلفان اختلافاً جوهرياً من حيث النوعية.

وربما كان ه. ج. ويلز على حق عندما كتب يقول: “إن حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الأقدام والحافلات والشاحنات باستمرار، ومملكتهم لم تكن سوى حادث طاريء في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم”. أو انهم “مارون بين الكلمات العابرة” كما يقول محمود درويش.