بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ




الناصر خشيني - نابل تونس
تحتفل الامة العربية والاسلامية وسائر البشرية هذه الأيام بذكرى الهجرة النبوية وبهذه المناسبة نقدم التهاني والتبريكات للجميع بالصحة والعافية ونتمنى سنة جديدة لهذه الامة العظيمة تداوي فيها جراحها وتنهض فيها من جديد كما فعل حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أعلن بهذه الهجرة أفضل الثورات حيث كانت من حيث الاعداد المادي لها بشريا وعقلانيا دون انتظار معجزة مادية تلوي الأعناق كما كان يحصل سابقا لدى الرسل السابقين اذ هناك مرحلة جديدة في تاريخ البشرية يفتتحها الرسول صلى الله عليه وسلم بتجاوز مرحلة المعجزات المادية التي كانت للرسل السابقين وتعويضها بالعنصر البشري الذي يستمد قوته المادية والمعنوية من الله فيبدع بامر من الله تعالى فبالرغم من ضعف امكانياته المادية بالقياسات البشرية من حيث المال والسلطة والجاه حيث كانت كل حسابات موازين القوى راجحة لفائدة الصف المعادي وبالرغم من اعتماده على الله سبحانه وتعالى الذي وعده بالحماية والعصمة من الناس ولكنه مع ذلك كان واعيا تمام الوعي بطبيعة المرحلة الجديدة التي يمثلها والتي ينبغي عليه أن يقوم بواجباته ازاءها لا كرسول فقط بل وأيضا كانسان خليفة لله ومسؤول عن دوره المناط بعهدته كبشر في وقت لم يعد ممكنا انتظار معجزات مادية ملموسة كما كان سابقا اذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالرغم من امكانياته البشرية القليلة العدد والمادية المتواضعة فقد عرف كيف يعد العدة للخروج من عنق الزجاجة بعد أن أحكمت قريش محاصرته على جميع الأصعدة ووظفت كل امكانياتها لهذا الحصار ولكن مع ذلك لم يستسلم ولم ينهزم بل قاوم وعرف كيف كيف يخرج من ذلك المأزق وهذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن نطبقه في حياتنا اليومية فرغم تكالب الأمم ضدنا واستعمارها لبلادنا في فلسطين والعراق غيرهما من وطننا وكذلك ما نعانيه من استبداد وقهر في الكثير من بلداننا مع تكالب القوى العالمية عليها عسكريا واعلاميا وسياسيا من خلال القرارات الظالمة للأمم المتحدة والمنظمات الاقليمية والدولية ولكنها كشعوب اسلامية وقد تشبعت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونضاليته في أحلك الظروف وأشدها ماساوية ومع ذلك واصلت نضالها ومقاومتها وانها الآن تسدد ضربات موجعة للأحلام التوسعية للمشروع الصهيو أمريكي في العالم وقد تجهز عليه في أوقات لاحقة باذن الله.
قلت اذن ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعد العدة اللازمة للهجرة الثورية ليس فرارا من المواجهة وانما بحثا عن أفضل الفرص لمواصلة الاشتباك مع العدو وانهاكه والاجهاز عليه في اللحظة المناسبة كما فعلت كل الشعوب المغلوبة على أمرها أثناء المحن والأزمات القاسية التي تمر بها بحيث تقاوم وتناضل حتى تحققارادتها.
واني لست بحاجة الى الحديث عن كل مراحل الهجرة النبوية وما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال بشرية فهي متيسرة للقارىء في كتب السيرة النبوية فيمكن لمن شاء أن يعود اليها في مظانها وانما الذي يهمنا أن العناية الالاهية بالرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هذه الهجرة والاعداد لها لم تكن غائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وانما كانت حاضرة في ذهنه وقلبه وهذا من العوامل النفسية والمعنوية التي ساعدته على انجاز هذا الفعل التاريخي المشهود له بالجرأة والشجاعة والبطولة اضافة الى أنه يستلهم القرآن الكريم ويطبقه بحذافيره اذ كان خلقه القرآن.
من المعلوم أن القرآن الكريم ينقسم الى مكي ومدني وكذلك حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت الفترة الأولى ثلاثة عشر سنة وهو يدعو كفار قريش دعوة مسالمة الى الله دون حصوله على نتائج تذكر اذ لم يستعمل معهم سوى الدعوة بالطرق اللينة كما أمره الله بذلك ولكن النتائج كانت هزيلة للغاية اذ لم يؤمن بدعوته سوى عدد قليل من العبيد وضعفاء الحال من الذين لا يملكون مالا أو جاها في قريش وتبعا لذلك تعرضوا لشتى أنواع التعذيب والأذى الذي نعلم عنه الكثير ومع ذلك فان هذه القلة المؤمنة لم ترضخ ولم تستسلم بحجة أن موازين القوى ليست لصالحهم بل صبروا وأظهروا شجاعة نادرة في التصدي لرموز الكفر والطغيان من قريش وكشفوهم على حقيقتهم أمام الناس وقد هاجر العديد منهم الى الحبشة مرتين ثم عندما ياذن الله بالهجرة الى المدينة ويهيىء الرسول نفسه للالتحاق بهم عبر الاتفاق المسبق مع اهل المدينة في بيعة العقبة الأولى والثانية فاننا نكون ازاء دروس مستفادة من هذا التصرف النبوي الحكيم فانه لم يغامر بنفسه وصحابته منذ الاتفاق الأول الذي حصل مع عدد قليل من أهل المدينة بل انتظر سنة اخرى حتى جاءه عدد أكبر لتاكيد وتوثيق الاتفاق الأول بأكبر عدد ممكن من الأنصار له في المدينة ضمانا لدعوته وصحابته كما كان صلى الله عليه وسلم ومعه كل من أبي بكر وعلي بالرغم من صغر سنه يمثلون القيادة العليا للجماعة المؤمنة دينيا وسياسيا فان القيادة النبوية لم تؤمن نفسهابالانسحاب قبل جماعتها بل ان القيادة ظلت في اتون المواجهة حتى آخر لحظة اذ الانسحاب من المواجهة يتطلب التأمين الكامل للقواعد ثم انسحاب القيادة أخيرا وهو نموذج فريد للمواجهة لم تعهده الدعوات الدينية والحركات السياسية من قبل ولا بعد حيث من العادة أن تؤمن القبادة نفسها وتضحي بالأتباع ولكن في الحالة الثورية لرسول الاسلام صلى الله عليه وسلم يحصل العكس تماما، القيادة تؤمن جماهيرها أولا ثم تلتحق بهم بعد ذلك وهكذا يفعل الأبطال دائما وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة انسجاما مع قوله تعالى (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) وقوله تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم وما كنا نعمل من سوء) 28 النحل بحيث يتبين من خلال هذه الآيات الكريمة مسؤولية البشر المظلومين والمسحوقين أمام الله ان لم يغيروا الظلم والباطل والجبروت المسلط عليهم ولو بالهجرة فان أرض الله واسعة وكلها محل لاحداث النغيير الثوري البناء للانسان المؤمن فقد جعلها الله جميعا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا وطهورا ليمارس عليها الانسان دوره في تحقيق الانجازات العملاقة التي تليق به كانسان خليفة لله وفي حال الضعف والاستسلام والخنوع فان أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا وهناك استثناء وحيد للمستضعفين من الرجال والنساء والأطفال الذين لا يجدون حيلة أو قدرة ومع ذلك فان الله قد يغفر لهم وقد لا يغفر لهم فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وهكذا ينفرد الاسلام بقيم جديدة على الساحة العالمية في رفضه للظلم والدعوة لتغيير المنكر مهما كانت الصعوبات فلا استكانة ولا هوان أمام الطغاة والمستبدين اذ الأفراد والجماعات مهما كانت الظروف والتحديات التي يواجهونها مسؤولون أمام الله تعالى عن رفع الظلم عن أنفسهم ولا ينتظروا حتى تأتي معجزة من السماء تغير ما بهم فقد ولى ذلك العهد الى غير رجعة بهذه الرسالة الخاتمة وهذا هو السر الحقيقي وراء انتصارات المسلمين أثناء الفتوحات الكبرى بالرغم من عدم توازن القوى بينهم وبين أعدائهم وذلك أنهم فهموا أن لهم دورا رساليا في هذه الحياة لا بد من أدائه على أكمل الوجوه والا فان العقاب الالاهي ينتظر يوم القيامة اضافة الى بقاء الحال على ماهو عليه في الدنيا دون تغيير.
من معالم العمل الثوري الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة اقامة أول دولة عربية اسلامية على أسس جديدة لم تكن مألوفة في تاريخ البشرية فقد قامت على أساس التعاقد على خلاف الدول التي سبقته ولحقته حيث قامت على أساس القوة المسلحة وما أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بمعية الصحابة يعد انجازا تاريخيا غير مسبوق اذ تم على اساس تعاقدي عبر تلك الوثيقة التاريخية الهامة وهي الصحيفة التي تعتبر أول دستور مدني تعاقدي مكتوب بين مواطني دولة مدنية واحدة بقطع النظر عن الدين والعرق والمكانة الاجتماعية. وبذلك يدشن الاسلام حقيقة واقعة وهي بناؤه للدولة على أساس ديمقراطي تعاقدي لجماهير الآمة أوسع مشاركة فيها.

الاثنين 30 ذو الحجة 1431 / 6 كانون الاول 2010