صور راقصة في الفخ
أصيل الشابي

جلس الزائر على الكرسي بنفس الطريقة التي وجدهم عليها و هم على عتبات البيوت في تلك الظهيرة، تخيّل وهو يضع رجليه أمامه أنّه يغرقهما في الماء، ولمّا أحسّ أنه خطف خيط المتعة قائل:
ـ سيأتي بعد قليل ليدور أمامنا كالدّابة.
أجابه مرافقه وهو من هناك : أعرف القصة من البداية إلى النهاية.
قال الزائر: ولكنّك لم تسأل يوما لما يكنس المكان أمامنا تماما كما لو أنّه ينظّف لك جسدك؟
قال المرافق : ربّما لأنّي ألفت رؤيته
قال الزائر: ... ولكنّني رافقته وتعجّبت كيف يفعل هذا معنا، دعني أقول لك إنّني رأيته في الزيارة السابقة أحسست أنّه غريب، وجه داكن، شعر طويل ومجعّد، لحية متسخة، يمسك بيده عصا كما يمسك أحدهم بسلاح، وفيما غاب عن ناظري سقطت صورته إلى داخلي مثل حجر موجع.
قال المرافق : بذلك الوجه و بذلك الوسخ حقق شهرة واسعة تشبه شهرة المغنّين.
واصل الزائر: غير أنّني لم أعرف إلى الآن إن كانوا قد لاحظوا اهتمامه الزائد بنا، صحيح أنّهم كانوا يتجنّبونه بفعل رائحته الكريهة لكنّ عيونهم، نعم عيونهم كانت تلاحقه، وربّما كانوا يفكّرون به أيضا وهم يضعون أعجازهم على تلك العتبات لساعات طويلة ليخطف أبصارهم بين لحظة وأخرى.
أريد أن أقول شيئا واضحا، إنّه يقترب منّا أكثر فقد ألفت النظر إليه من بعيد فكان جسده يمر كما تمرّ الأجساد المحايدة أو الجانبية، وكان حينما يدخل إلى مغازة صديقنا لشراء السجائر يظلّ معزولا عنّا وراء أشياء كثيرة نظيفة وملوّنة، لمّا خرجنا بفعل الحرارة إلى الشارع ازداد قربا منّا، وكان كلّما ازداد قربا منّي ارتعش جلدي خوفا من عصاه الغليظة، وكانت أرفع لذلك القهوة إلى شفتي بصعوبة وأغرس قدمي في القاع كي أحافظ على اتّزاني بين الآخرين.
والحقيقة أنّي شعرت أخيرا بأنّني أقف في الوسط تماما بين الآخرين وبينه، وكنت قادرا على مشاهدتهم وهم يحدجونه بنظراتهم، وكنت قادرا على مشاهدته زائغ العينين يكلّم نفسه بكلمات غير مفهومة، وكان الآخرون لا يكفّون عن حدجه تاركين صغارهم يتسرّبون من بين أذرعهم وأياديهم الهادئة للعب في الشارع.
لا أنكر أنّه أرهبني مرارا فعقد أصابعه حول العصا منقبضة وجافة، وكان يمكن أن تكون فتّاكة، ولمّا كان يحمل تلك العصا دون موجب حقيقي كأن يكون متقدّما في السنّ أو مقعدا أو فاقدا لنعمة البصر فقد كنت أتصوّر جريمته قريبة الحدوث بين يدي بالذات.
ربّما بسبب ذلك كنت في نهاية الأمر لا أشعر تجاهه بالشفقة، غير أنّني لا أنكر أنّه جذبني نحوه فقد كان يخرج لنا لسانه وعيناه تلمعان، كان يلوي جذعه إلى الخلف وينقلب بخفّة مدهشة لقف على رأسه تاركا يديه ترفرفان كالطيور في الأقفاص الضيّقة، وكان يسجن نفسه في ذلك الوضع للحظات طويلة ورجلاه تخبطان في الهواء والآخرون يضحكون من حوله إلى درجة أنّ بطونهم اهتزّت وكانت المشاهدة قد تحوّلت آنئذ إلى لعبة.
كنّا جالسين نشاهد ذلك بينما خرجت امرأة سمينة إلى إحدى الشرفات ونادت : اذهب ... اذهب بعيدا ونظرت غاضبة إلى الناظرين وكان الزائر منهم، ثمّ بما أنّه كان يواصل رقصته في الأسفل قذفته بسطل كامل من الماء، كان ذلك لا يصدّق، شعر الجميع بالإهانة التي وقعت عليه باستثناء الزائر تقريبا الذي كان يفكّر بهذا وتساءل إن كان شخص مثله يرقص بلا وعي يعرف معنى الإهانة، وكان فكره منساقا بسرعة في تلك اللحظات السريعة وراء ما عساه يرتكب إن كان عارفا بما لحق به، ولكنّ الزائر حينما أجال بصره في عيون الآخرين ابتداء من عيني المرافق طبعا أحسّ أنّهم شعروا بالإهانة المضاعفة تتسرّب إلى عظامهم، فالمشاهدة لم تكن مجرّد لعبة بعد لحظات من فعلتها بالخوف من الناس لا من الراقص، وكانت لذلك قد تراجعت إلى الوراء وأسدلت الستارة على البلوّر.
في هذه البلدة قال المرافق لم يسمح أبدا بضربه أو حتّى نهره إلى أن حدث ما حدث، فما من أحد لا يعرفه، وما من أحد لا يشفق عليه، وحتّى كلماته كانت مسموعة فحينما كان مثلا يطلب السجائر كانوا يلبّون طلبه بأريحيّة، بل أنّ كلماته كانت أكثر من ذلك محبوبة، ولكن تلك المرأة فعلت على مرأى من الزائر والمرافق والناظرين ما لم يفعله غيرها، لهذا بمجرّد انسياب الماء على جسده من فوق إلى تحت مكوّنا بعض الوحل على الأرض احمرّت عيون كثيرة واحمرّت عيون الأطفال، وكانوا كلّهم يفكّرون ربّما في قلّة أدب تلك المرأة التي لم تتوجّه بإهانتها له فحسب، وإنّما أهانت بذلك الجميع دون حشمة، ومن ثمّ أرادت أن تقطع متعتهم، وبالتالي إبعادهم وطردهم من الشارع.
في الحقيقة لم يرد هو، وقد تبلّلت الرقصة بتبلّل الراقص، الفعل مباشرة، ولم يرفع رأسه إلى الأعلى، كانت العصا مستقرّة في يده، ولم تنطلق باتجاه البلّور، ولكنّه انسحب إلى منفذ خلفي وذاب، وبقيت آثار أصابعه كخربشات دجاجة ربّما لأنّه كان ينقر بها الأرض.
أسرع الصغار إلى مكانه وحاولوا تقليده وحاولوا الوقوف على رؤوسهم والانقلاب بخفّة كما كان يفعل، وحينما شعروا بأنّ الكبار آخذون في الابتعاد قذفوا تلك الشرفة بالحصى، وكانت عيون الكبار ملآى بالارتياح، ظهرت المرأة السمينة وهي تشتم فأخذ المشاهدون في الضحك، وكانت كلّما دخلت قذفوها ثانية بالحصى، وكانت عيون الكبار قد اختفت وراء الأبواب والحيطان والفترينات، وكانت المرأة واقعة في العيون المحجّبة والمركّزة والشامتة.
بعد ذلك تقدّم صبيّ وعرك الوحل إلى أن أصبح كرة لزجة ثمّ سدّدها نحو الشرفة، خرجت المرأة وهي تشتم كالعادة، واستطاعت في تلك المرّة أن تعرف الصبي من ثيابه.. سرواله الأحمر وقميصه المخطّط وشعره الهائج، فأخذت على الفور بتوجيه الشتائم في تلك المرّة لأمّه، وفي وقت قصير أصبح الشارع بأشجاره العالية مسرحا للشتائم المتبادلة، وكانت الأم قد قالت : هذه المرأة تشتم أطفالنا فزجّت النسوة في العراك وأضحين إلى جانبها، ومن النوافذ المجاورة المشرّعة والملوّنة أطلّت بعض الرؤوس الشامتة.
تأكّد الزائر وهو يرى ذلك أنّه كان يجهل الراقص وأنّ عصاه كان لها أثر سلبي أكثر من اللازم في نفسه، وفكّر بالصور التي صنعها الراقص والتي انقطعت فجأة، وفكّر بأنّ ذلك الشخص ولّد غضب الصّغار لما انقطعت الصور عن الظهور، وولّد الصغار غضب الأمّهات، وولّد ذلك الشتائم المتبادلة، وانسحابه لم يسمح لتلك المرأة بالانتصار، بل إنّها قد وجدت نفسها في مواجهة مع الأخريات والآخرين، ونادت أمّ الصبيّ بأعلى صوتها، وكان الرجال يضحكون وكذلك الصغار، انزلي إلى تحت... انزلي... وسترين.
كانت المرأة قد عرفت أنّ الأمور قد تعقّدت، وكان الزائر قد تأكّد أنّ المرأة قد حلّت محلّ الراقص، فقد أطلّت نفس الرؤوس من مخابئها واستعدّت للمشاهدة، وجلس بعضهم على الكراسي مع هبوب الهواء البارد، وقال المرافق : هذه جارة جديدة قدمت منذ أيّام، فهم الزائر أنّها ظلّت منعزلة وأنّها كما قال المرافق كانت تحتقر جاراتها، فلم تقبل بالتعامل معهنّ ولم تجلس مثلهنّ على عتبات البيوت بعد الظهيرة، وإنّما كانت تجلس أحيانا في الشرفة وتستمتع بالقراءة، وكانت أحيانا تتأمّل الحركة في بدئها. أطفال يرتدون سراويل قصيرة وقمصانا على جلودهم السمراء يلعبون في الناحية التي كان فيها الراقص، أحدهم حفر حفرة صغيرة في التراب المبلّل فيما أخرج آخرون كويرات زجاجيّة ملوّنة وأخذوا في اللعب كانوا يرمونها في الحفرة ثمّ ينقرون بعضها ببعض، وكانت اللعبة تقسمهم في كلّ مرّة إلى رابحين وخاسرين، أحدهم يلعب بدرّاجة، كان يشقّ الشارع مخترقا اللاعبين والنسوة الغاضبات والرجال الناظرين.
الصبيّ الذي ضرب شرفة المرأة أخذ يرقص بالقرب من الحفرة ثمّ فوق الحفرة، نزع قميصه بعد ذلك، ووقف على رأسه، ورفرفت يده أيضا عاليا. التفّ حوله الصغار وأخذوا يصفّقون ويغنّون، الضحكات الساخرة كانت تنطلق من حين لآخر من شرفة مقابلة لشرفة المرأة، وقالت الأم : انزلي إلى تحت، وأعادت ذلك إحداهنّ، لا بدّ أنّ تلك المرأة كانت تشعر بنفس الرهبة التي شعر بها الزائر هذا إذا ما أخذنا في اعتبارنا إبدال العصا بالحصى والطين، لا بدّ أنّها تشعر بنفس الرهبة وإذا كان هو قد عامله كدابة يستحسن إبعادها فإنّها كانت قد تجاوزت حدود الحكم، وربّما كان بالنسبة إليها قذارة وكانوا هم والزائر واحد منهم الذباب الذي يحوم حول تلك القذارة، وبالفعل كانت رائحته كريهة، لقد شمّها الزائر واستنشقها، وكان منظره مرعبا ولا يعرف رغم ذلك كيف كان يضحك الآخرين، قالت المرأة من شرفتها الملطّخة بالطين : إنّ ابنك مجنون فالمجانين وحدهم يقذفون جاراتهم بالحصى والطين القذر، كانت الأم تحاول استدراجها إلى تحت، وكانت النسوة ينتظرن وقوعها بينهنّ فالفرصة مواتية لتصفية كلّ الحسابات، كان الموافق يدخّن، وكانوا كلّهم يتقرّبون لحظة صيد المرأة.
أحدهم خرج مسرعا من بيته، جرى قليلا وصفع ابنه الذي كان يرقص تحت الشرفة، صمتت النسوة في الشرفة، وراقبن ما حدث، كان الزائر والمراقب يدخّنان وبجنبهما الرجل وشيشته، وكان ذلك الرجل والد الصبيّ الذي رقص أمام الجميع ملقيا قميصه على التراب، وكان ذلك الصبيّ الذي رقص هو الذي لطّخ الشرفة بالطين وكان هو نفسه الذي اخترق بدرّاجته الرجال والنساء واللاعبين ثمّ تركها على الرصيف، وكان الزائر قد تخيّل أنّ ذلك الشاب هو من اعتقد أنّه الراقص الجديد محلّ الراقص القديم مع فارق في السنّ وطبعا مع فارق الحيويّة والبراعة، وكانت أمّه قد اضطرّت أخيرا للنزول من شرفة صاحبتها ولحقت بهما منزعجة.
خفّ الضغط على المرأة، ولم تعد تشعر بأنّها محاصرة، كان الجالس إلى جانب الزائر ومرافقه يكوّم الجمرات على الشيشة بمقصّ معدنيّ، ثمّ علا بكاء الصبي الذي سحبه أبوه، فالتفتت العيون صوب بيته، وذهب بعضهم، ثمّ دلفوا إلى هناك، واقترب الصغار من الصياح بعد أن أوقفوا لعبهم، الكلّ راقب بيت الطفل الذي علا بكاؤه أكثر، وفي الناحية الأخرى لا وجود للمرأة.
مع حلول الليل هدأت الحركة، تساءل الزائر : إذا كان طرده سهلا هكذا كيف استطاع الصمود إلى ذلك اليوم؟ كان الشارع مرقّطا من أثر الظلمة ونور المصابيح، وكانوا يتفرّجون على ذلك الجسد الهائل المرقّط الذي ينكمش ويتمدّد، وكان يتنفّس بطريقة منتظمة، بينما العيون مازالت ترقبه وإن أصابها الإعياء وأخذت تنغلق مبتعدة عمّا حولها، مبتعدة عن الزائر والمرافق والجمرات الخامدة، وكانت الصور عند ذلك الحدّ بالضبط قد أصبحت خارج فخّ الصور الذي نصبته العيون، وكان فخّ الصور عند ذلك الحدّ بالضبط مظلما ونائما.