(لازم مامي نحلة عشان تجيب العسل ده كلو…..ولازم مامي فرخة عشان تجيب البياض والصفار دة كلو ), جملة كهذه كفيلة بأن تضرب زلزالاً من الأسئلة و إشارات الاستفهام و إشارات التعجب في رأس شخص لا زال يفكر .
و إذا قرر ذلك الشخص أن يتتبع مصدر تلك الجملة, فإنه سيكتشف حقيقة مرة, إن هذه الجملة تتكرر في اليوم عدة مرة في إعلان هو جزء من سلسلة إعلانات ترويجية لمحطة فضائية عربية هي ميلودي, والمر في الحقيقة أن هذه المحطة هي من أكثر المحطات العربية مشاهدة, طالما أن الأغاني والأفلام المصرية صاروا خبز المشاهد العربي.
لازال العاملون في حقل الإعلام والثقافة و إلى يومنا هذا يتعاملون مع التلفزيون على أنه أداة ثقافية من الدرجة الثانية, ويعطون الأولوية للسينما والمسرح على الرغم من كل الأزمات التي تعصف بهذين الفنين, وعلى الرغم من من أن التلفزيون صار مفردة أساسية في حياة المواطن العربي, وصارت المادة التلفزيونية هي الأكثر تأثيراً في الشارع العربي .وتضاعف هذا الدور بعد الثورة الهستيرية للفضائيات العربية التي باتت تتكاثر ( بالانشطار ) دون أي آلية تنظم هذا التضخم . وفي قلب هذه المعمعة نشأت باقة ميلودي التي ضمت عدداً من القنوات المختصة بالأغاني والأفلام .
ليس من الصعب على المشاهد غير المثابر لقناة ميلودي أن يدرك أن هذه القناة ليست قناة بريئة, و أنها تستند على رأسمال ضخم يدعمها ويقدمها بسوية تقنية عالية جداً, .
و أن المادة المقدمة فيها هي مادة مختلفة بامتياز و أن الوجوه التي نراها على ميلودي نادراً ما نراها في قنوات أخرى, و أقول الوجوه لا الأصوات, لأن الأصوات أمر ثانوي في سياق الأغاني التي تقدمها ميلودي, ولا أبالغ إذا قلت أن الأصوات الجميلة مرفوضة, المطلوب عرض أكبر قدر ممكن من اللحم بشتى أشكال الابتذال الممكنة لدرجة أنك تستطيع القول أنه وطالما أن الشارع العربي لم يتهيأ بعد لاستقبال محطة عربية إباحية, فقد التف القائمون على المحطة على الأمر وقدموا المادة الإباحية بشكلها الغنائي المشروع .
تتبع ميلودي أسلوباً دعائياً للترويج لبرامجها, هو السلسة الإعلانية التي تعرض في كل سلسلة مجموعة من الإعلانات تدور حول فكرة معينة, وقد يكون بطلها واحداً وتحت شعار واحد, يدعو المشاهد إلى اعتبار قناة ميلودي ملاذه الأوحد و الأخير فتسمع مثلاً شعاراً لسلسلة إعلانية لقناة ميلودي trix ( لو حياتك فاضية إملاها بفلوس ) لقد وجد هذا الشعار طريقاً أمام المشاهد العربي لملأ الفراغ الذي يعتري حياته, إنها (الفلوس) وكيف سيحصل هذا المشاهد (اللي حياته فاضية) على (الفلوس) بالطبع ليس أمامه سوى متابعة ميلودي trix والمشاركة بمسابقاتها. لكن الشعار الأكبر لباقة ميلودي هو (ميلودي تتحدى الملل). فتحت هذا الشعار روجت ميلودي لبرامجها ضمن سلسلة إعلانية بطلها سوبرمان عربي يحارب الملل وتدور كل حلقة من هذه السلسلة حول تصدي هذا البطل لظواهر يعتبرها القائمون على المحطة ظواهر سلبية يجب محاربتها, و في كل حلقة يتدخل البطل للقضاء على هذه الظاهرة. إذاً فالملل وبحسب هذا الشعار هو المشكلة الكبرى التي تعتري حياتنا, و تطرح ميلودي نفسها حاملاً للواء الحرب على الملل, معلنة تبنيها وظيفة الترفيه . غير عابئة بأي وظيفة أخرى يجب أن ترافق الوظيفة الترفيهية لأي مؤسسة إعلامية . و إذا سلمنا بمشروعية أن تكون الوظيفة الترفيهية هي الوظيفة الوحيدة التي تبنتها ميلودي, فلا بد من الوقوف عند طبيعة المادة الترفيهية المعروضة التي ليس من الصعب على المشاهد المتنور أن يدرك مدى خوائها .
ونعود للحديث عن (الملل) الذي تحاربه ميلودي وما الذي تعتيره مللاً وكيف تحاربه ؟ ففي إحدى الإعلانات يركب السوبرمان العربي سيارة أجرة, و يبدأ سائق السيارة بالحديث بشكل متواصل ساخطاً و معبراً عن ضيقه من الوضع العام , الازدحام , الغلاء ….إلخ .لم يستطع السوبرمان احتمال هذا الكم الهائل من الملل فما كان منه إلا أن طلب من سائق السيارة تغيير وجهته لنكتشف بعدها مصير السائق الذي بلغت به الوقاحة إلى أن شكا لأحد ركابه عما يعتمل داخله من ضيق …!! في منطقة صحراوية, نشاهد السائق معلقاً من قدميه إلى شجرة وتحته تماماً صبارة تنتظر أن ينقطع الحبل الذي يحترق, ويسقط عليها السائق المسكين, هذا هو (الملل) الذي تحاربه ميلودي, وهذه هي الأداة التي تحارب بها . العنف المبالغ به والذي يعمد إليه السوبرمان في كل مرة يواجه فيها خطر الملل.
شخصيات هذه السلسلة مشبوهة بامتياز. انطلاقاً من بطل السلسلة السوبرمان العربي المصري الأصفر اللون . الذي يتدخل دائماً في اللحظة الأخيرة لينقذ الموقف, مروراً بزوجته (ليس هناك ما يدل على أنها زوجته ) المفرطة في إبراز مفاتنها الاصطناعية والتي يبدو واضحاً مدى خضوعها لعدد من عمليات التجميل تلك الشخصية التي ظهرت فجأة في السلسلة لتقول أن للمرأة أيضاً دورها في مكافحة الملل, أو على الأقل في مساندة الرجل الذي يحمل لواء الترفيه. وبين السوبرمان وزجته أو رفيقة دربه من جهة والمهام التي يتصدى لها هذا الثنائي من جهة أخرى تطالعنا صورة مروعة للمواطن العربي ممثلاً بالمواطن المصري الذي يشكل محوراً أساسياً في هذه السلسلة, فما هي صورة هذا المواطن كما يقدمها إعلان ميلودي؟ إنه الثرثار الغبي السطحي الغرائزي الذي لا يحتمل, وحتى على مستوى الشكل فهو دائماً سيء المظهر و غالباً ما يعاني من الدمامة أو من عيب خلقي في حين أن بطلنا السوبرمان وزوجته يتمتعان بأعلى درجات السلامة الخلقية وجمال المظهر.
هذا المواطن الذي هو بمثابة رمز للملل تجري محاولات القضاء عليه بأسلوب أوحد هو العنف ليس المبالغ فيه فحسب, بل والذي يخضع لحالة من التفنن في اختراع أشكال التعذيب فما من حلقة من هذه السلسلة إلا و تجد فيها اقتراحاً جديداً للشكل الذي سيتم فيه تعذيب هذا المواطن الممل و التشنيع به بل وربما قتله, وبطريقة تستعرض فيها القسوة اللا متناهية والتي لا يوجد فيها أي مجال للرحمة في مصير أولئك الذين يقعون بين براثن السوبرمان الأصفر والذين غالباً ما ينتهي الإعلان بصرخاتهم المستنجدة وما من مغيث , و أمام هذه الكم الهائل من العنف والقسوة لا بدلنا من تذكر السادية كشكل من أشكال الشذوذ الجنسي ترتبط كمية المتعة بالنسبة لممارسيه بمدى التفنن في أشكال التعذيب من جهة ومدى قسوة المعذِِب وخضوع المعذَب من جهة أخرى, و كأن ميلودي تروج لبرامجها و للسادية في آن واحد.
لا بد لنا من الاعتراف إلى أن هذه السلسلة قد أعدت ونفذت بسوية تقنية عالية حيث واضحاً مدى الحرفية التي أنتجتها وعلى كافة المستويات انطلاقاً من الفكرة والسيناريو القادر على شد المشاهد مروراً بالتصوير والكادرات و توظيف اللون والإضاءة وحتى على مستوى أداء الممثل والكوميديا الحاضرة بقوة في كل حلقات السلسلة والموظفة بمهارة كعنصر جذب أساسي . إن اعترافنا بهذه السوية التقنية العالية ييحيلنا إلى مدى خطورة هذه المادة التي تمتلك كل أسباب و أدوات الوصول إلى المشاهد. وعندما نقول المشاهد فإننا نقصد المشاهد بكل فئاته العمرية وهذا يعني بالطبع أن الأطفال ليسوا معصومين عن هذا الكم من الابتذال سواء بالنسبة لسلسلة الإعلانات أوحتى لمجموع البرامج التي تبثها ميلودي إن كانت الغنائية منها أو برامج المسابقات أوحتى الأفلام . وفي تفحصك لأي مادة تقدمها المحطة لن تعجز عن إيجاد ما يثبت لك مدى الإسفاف التي تتبناه المحطة دون الوقوف عند خطورة أن تدخل هذه المادة إلى عقول الأطفال (إن لم نقل الكبار)و تلعب دورها في بناء سلوكهم و آلية تفكيرهم و تغذية ذاكرتهم ,
ولا يمكننا هنا أن نأتي على ذكر الأطفال دون التفكير بالغد….بالمستقبل…..بالأمل.
وبالعودة إلى ميلودي و ما تقدمه لهذا الأمل وكيف تتحدى الملل نجد أنفسنا أمام سؤال كبير هل ما تتحداه ميلودي هو الملل حقاً .أم أنه………….!!!شيء آخر؟
منقول للأهمية