مثلما يتفجر الرذاذ فجأة, من قشور برتقالة ندية, وقد عصرتها أنامل شاردة. تتحرر ذكرياتي الناعسة, لتصحو فراشاتها السجينة . أتلقاها هائما ووحيدا , جالسا فوق الصخور البحرية, أرقب الموج , وقد هلت في رفرفة جماعية, قادمة من غياهب الماضي البعيد, تحملها نسائم من ضياء, وأريج, لذة أرجوانية , لا يذاق ذوب عناقيدها إلا بشاعرية القلب . كنت آمل على الدوام في استرضائها لتؤنس وحدتي . هذا مكان ساحر كي أداورها, وأتحايل عليها....ويحدث أن أهبها الدمع العصي : لتزورني , ولو في الخيال. لكني أحيانا أقسو عليها, محاولا جرجرتها ,من مكامن تخفيها السعيد, في كهوف الظلام, إلى عالمي المتوهج , الغامض, والغريب !!, تحت شمس عواطفي الملتهبة, فلا أفلح في استعادتها, إلا مهشمة ومبعثرة , .وقد توارت غير آبهة بلهفتي وحنيني..., لا نبض فيها , محنطة وباردة , كهذه الصخور.
تنتصر ذكرياتي لغيابها المقدور, أمام إحباطي المتكرر ,أتحسس برودة الصخر بقدمي العاريتين, ومن عمق غفلتي الأبدية : تشرق تلك الإشارات الغيبية النادرة , تلوح كشراع أبيض يتيم, في زرقة الموج المتلاطم, تدنو مثلما تحج إلى كوكبنا الرتيب, حكايات الأطباق الطائرة , وقد ذكرتنا بعوالم مجهولة, وغير واقعية. نبوءة ترسل من الماضي, فأنساق إليها مذعنا على أصوات الموج, تصفق فوق رمال الشاطئ.... أويقات مزدحمة بالروائح والألوان والهمسات: زهوري , و قد رش القدر نداه, فوق خدودها الذابلة . تومض و تنطفي , كنجم مشع , لكن عمرها قصير كعمر الورود ...ثوان من البهجة والوصال , متملصة من كآبة الزمن الرتيب....لا فوضى فيها , ولا ضجيج, رؤى منسابة من الذكريات والصور المشوبة بالحنين, ضفاف أخرى , تتوله بمرآها عين علوية صافية , كحدقة نسر محلق, وقد انساب جناحاه في الهواء, وانسدل ريش عنقه الملكي, يداعب التيار. يرقب كنجم من موقعه السماوي, سحر البرية والكائنات. صور أستردها الآن لثوان , بعيون طفولتي المنطلقة. نزلت للتمتع بالسير, وحيدا , فوق رمال الشاطئ الهشة, مأخوذا بسحر عيون نورس, واجم وحزين, شاكرا الله في سري, على غياب هذه الكائنات, من قرانا البعيدة....فزعقاتها البحرية المفاجئة, تثير في القلب الوله والحنين إلى الأمواج .... , إنها مفاتيح إلهية لأحلام اليقظة....تشفي جراحات الوجدان, وتوحد بين طفولتي البعيدة, وطفولة الأمواج !!! . كان حنيني إلى البحر نائما , لذا فكرت حقا في اصطياد النورس الحزين, لكن فكرة الاحتفاظ بنورس أسير, كأيقونة بحرية, تصرف مضحكة ونزق, طردته من مخيلتي. سوف أكتفي برياح الصدفة, لتقودني إلى سماع نداء الخضم ...عندها فقط ,سوف أنتبه إلى حزن النوارس, أتتبعها , تورق شجرة الوصال بيني وبينها, بعد هجر. شكل أجنحتها الرمادية, يبدو من وسط بياضها, كسمكة بلا حراشف ولا عيون, دلافين صهباء تنبثق من الزبد, تطفو وتختفي, متحدية سرعة السفن الهادرة, وقد ألهمتها كيف تتخذ سبيلها في البحر.!
كنت أعابث النوارس, حين شقت رائحة البن البلدي, النسائم البحرية الثقيلة, منبعثة من المقهى القريب , ممزوجة بقشور البرتقال الجافة والمنكهات العبقة...حملتني خارج المكان والزمان....لأرى وجه أمي, رحمها الله, في قريتي دوز, أثناء صباحات العطل الدراسية...إني أراها الآن , أراها , أشد حركية مما أراها في أحلامي المتناثرة. تنهض في الفجر الندي , مبكرة , تحلب الشويهات, التي يرش ثغاؤها الحنين فوق تكاسل الفجر...لهب الموقد يصدر فرقعات حلوة...وبركان الماء والبن , يثور , قاذفا الجمر بزبد أسمر , بخار معطر من الضباب... تتراءى أمامي المشاهد تباعا ,حركات وروائح, عراك بين الظلمة والأنوار....ثم يهل الصبية, يتقاطرون كالندى ,في ساعات الضياء الأولى, متسابقين إلى نخلات الغيطان , التي نعرفها كما نعرف آباءنا, جاثين على الركب, لجمع البلح المتساقط, جراء عصف الرياح. تدفئ ضحكاتهم برودة الطقس والرمال..إني برفقتهم الآن....!!!, متحديا الأمكنة والزمن المستحيل.
تقطع تجوالي صرخة الراعي , من حظائر المواشي المحاذية للشاطئ , بعباراته المحلية العتيقة ’’قري يعطيك نطاط ’’. لسنوات طويلة خلت. لم أسمع هذه الكلمات الآمرة .... , تتداعى الذكريات والصور تباعا: الواحات على تخوم الصحراء, الخرب الطينية المسقوفة بأعمدة النخيل , تعلوها شبكة من خيوط العنكبوت. الغرفة الصغيرة, حيث تتكدس الأحطاب,أين كنت أطارد الأرانب المتخفية,أذكر عيونها الحمراء, خوفها. رائحة الدخان الصمغية ,كرائحة الموت !!, الجدران المحترقة, المطلية بالسواد, وقد تآكل أديمها , فأطلت منها بقع جيرية بيضاء متهرئة, الكثيب الصغير تحت السور, أراه بكل تفاصيله, وقد تناثرت فوقه الملابس, تحت شمس أوسو الحارقة , هنالك كنت أقفز حافيا فوق الرمضاء الملتهبة. رأس الحمار الجوعان, وقد تطاول عنقه فوق الخرب المتداعية,كنت أمتطيه في جولاتي بالواحة, مسابقا أترابي من الصبية , أراهم الأن يعدون خلفي, فلا يدركونني. نخلة ’’الشعابين’’ الفارعة ,كعروس تلوح فوق الرمال, كم غازلتها الرياح الهوجاء, تميل ولا تنحني, كم رشقتها بالحجارة, على أمل التمتع برطبها الذي لا ينال. تطل من ورائها صومعة الجامع الكبير’’الصعدة ’’, أين يردد التاريخ أصوات صياح الصبية, مرتلين آيات من الذكر الحكيم, طاوية تحت جناحها , الدور التي غمرتها الرمال, السمر الصيفي فوق الكثيب, حكايات الأجداد, وحنانهم الذي لا ينضب... وفتيلة الزيت الخافتة, يلعب بذبالتها النسيم . تغفو جفوني متتبعة إيقاع تراقصها الثقيل... أرضية الغرفة الترابية العارية , وقد زينتها آثار الحشرات , ثغاء الجديان الوليدة, والتي يروق لها أن تنط فوق ظهورنا, في ساعات الفجر الضحوك...تتفجر هذه الذكريات بعد ثلاثين عاما من وقوعها...لمجرد تلك الصرخة الآمرة, العنزات لا تكترث لصيحات الشيخ الذي يتولى إطعامها, وصراخه لا يجدي في الحد من اعتداءاتها المتبادلة, لكنه يعتصر قلبي في ضغطة واهنة , فتتراكض خيول الذكريات في رحلتها الحرة, من الضفة الأخرى, منعتقة من أسوار قلعة الماضي الحصينة.