الـموجــة
أصيل الشّــابي


قالت الأمّ: احذر الموجة يا طفلي، وذهبت مسرعة لتجمع الأغراض التي كان لابدّ من جمعها فقد حان وقت الرحيل،الظاهر أنّ تفكيرها انصبّ حينذاك على الحافلة التي كانت ستمرّ لتجدها في انتظارها، كانت تزحف وقد رآها تغلق المظلّة الكبيرة المفتوحة بألوانها الحارّة حيث كانا هناك قبل أن يتقدّم هو وقبل أن تفتح له كما قالت لاحقا مظلّته الصّغيرة في مكانه المتقدّم، والغريب أنّها بمجرّد أن أدارت له ظهرها تهيّأ لها فجأة أنّ موجة عاتية ابتلعته.
طبعا تلك التفاصيل لن تكون قريبة المنال إلاّ لمن ظفر بالمساعدة كمساعدة الأخت مثلا،ولكن في وسع المرء على كلّ حال أن يتذكّر ما حدث له في طفولته البعيدة وان بشكل غائم وأن يغوص إلى تحت وينصت إلى أمّه وهي تحذّره من الموجة التّي كانت كامنة في البحر مثل سنبلة صفراء في مرج أخضر،فقد افترضت أنّ موجة مفاجئة وسريعة سرعة لا تصدّق أصابتها على الفور بالهلع، كيف لا وقد شعرت فجأة ودون مقدّمات بخسارة آبنها في خضمّها.
و هاهو يتقدّم الآن في نفس المكان وعلى نفس الشاطئ، هناك التباس يحيّره فقد زحفت إلى نقطة مغامرة الطفل التي هي نفسها نقطة تحذير الأمّ منشأة تابعة للميناء القديم وغطّت الذكرى بظلّها الثقيل، مع ذلك لم يفقد الأمل فمال كما تميل الشمس حينما ترفرف بطريقة جانبيّة وتميل ميلانها المأثور كما لو كانت توازي علامات وهميّة لا ترى بالعين كخطوط أخرى للعرض على صفحة الوجود الكبير.
وهاهي الأمور نتيجة لذلك تتطوّر فيجلس مرّة أخرى على بعد عشرات السنين في نفس المكان،إذا أخذ ذلك الميلان الذي فيه انحراف عن التقديرات الآلية بعين الاعتبار،وهكذا يتمسّك بنفس المكان ويغرس يديه في نفس الرّمل فتنهمر عليه الذكريات ويرى، وهو أمر لا يكاد يصدّق، أمّه تسابق الزمن كي لا تفوّت عليهما الحافلة،إذ من المفترض أن يصلا منهكين إلى البيت في تلك العشيّة وهي عشيّة التداوي الثانية بماء البحر بعد ختانه ،عادة ينصح بذلك ولكنّه كان بالنسبة إليه كما قيل لاحقا ضروريّا لتجنّب أعراض مرضّية،لذلك كانت أمّه خائفة من الأساس من طفح آخر كان مهدّدا به،كان هناك مصطافون تحت الرّمل لاحظوا جزعها،وحينما التقطته الموجة في عينيها أبصرته تلك السرطانات بعيون ساكنة لأنّ الأمر لم يكن يستحقّ كلّ الاهتمام الذي علق به.
جلست أخته التي تكبره بتسعة أعوام أمامه وقد حوّلت يابسة الرمل إلى خريطة أو ربّما حوّلت اليابسة وهذا أقرب إلى ما حصل إلى مسرح صغير وزّعت عليه الأدوار القديمة حتّى تقرّبه من الذي حصل في طفولته، ومن فرط ما بذلته من جهد تهيّأ له أنّها قد اجتهدت مليّا في فتح تلك الفجوة التي تفتح عادة على الماضي حتّى وإن كان ناء .
قالت الأخت: لم تكن الموجة هائلة،لم تكن كذلك لتخيف بشرا، وهذا ما وقع،إذ أنّك لم تبك،كما أنّ السرطانات المنقوعة في الرمل لم تحرّك ساكنا، هذا ما استخلصته يومئذ حينما سألتك عن الحادثة في غرفتنا، وكنت أنت تجيب عن أسئلتي وتضحك، لذا فمن الواضح أنّ أمّنا قد بالغت ممّا جعلها تلجأ إلى التبرير في البيت وذلك بالضبط حينما قالت: شعرت وأنا أدير ظهري لطفلي أنّني أفقده،بينما كنت أجمع الأغراض.
لم يعرف ما الذي أثار الحديث عن تلك الحادثة دون غيرها، وهي حادثة ملفوفة في غمار الزمن لتبرز ثانية وتطلّ برأسها عليه وهو كبير، قد يكون التقاط ما يمكن التقاطه من الماضي، هذا عدا عن أنّ الأمّ التي ارتعد قلبها ارتعادة مخيفة في مكمنه فشعرت بشدّ الأعصاب إلى درجة تسرّب الوهم إلى عينيها بتلك الضخامة لا يمكن أن تنسى يوما.
قالت الأخت: ...إلاّ أنّنا تأثّرنا على طاولة الأكل حينما التفتت الخالة وقالت وهي تتوجّه بالكلام إلى أمّي ربّما استحضرت حادثة ابن الجيران وكان قد قضى غرقا فدمعت عينا أمّنا، كان ذلك أفضل تعبير عمّا يمكن تسميته بهزّة الخوف المرتدّة.
ربّتت أخته على كتفيه فأفاق من غفوته وهي الغفوة التي وجد نفسه يصاب بها بين وقت و آخر فينسى أنّ هناك من يحيط به ينتظر مثلما تنتظر هي الكلمة التي ينطق بها أو حتّى التماعة عينيه على أقلّ تقدير كدليل على التفاعل في مثل تلك الفسحة.غير أنّ الحديث كان متواصلا بينهما رغم التقطّعات التي كادت أحيانا تلغي وتيرته ، فقد كانت هناك أشياء كثيرة بل ولامتناهية تطفو باستمرار على الماضي لتكون كما يقولون في متناول اليد.
قالت الأخت:ما جعل أمّنا تجزع الهواء الذيّ هبّ هبّة قويّة في يوم حار بذلك الـقدر،لابدّ أنّ ذلك كان بالنسبة إليها بمثابة المنبّه الخفيّ،ولكنّ تذكير خالتي بحادثة ابن الجيران زاد من حزن أمّي، فقد جعلت تلك الحادثة تعود في ظرف سيّئ مثل ذلك،فابن الجيران لم يعد موجودا والأكيد أنّ أمّنا قد ركّزت على ذلك الجزء بالتحديد ممّا وقع له،ثمّ إنّ ذلك الجزء كبر وتضخّم إلى أن أصبح الشيء الذي يمكن أن يهدّد طفلا على البحر لا أشعّة الشمس المحرقة المنصبّة على جسد طريّ كما يمكن أن يظنّ المتفرّج العادي على ذلك المسرح.
أخذا يترجّلان على الرمل فابتعدا عن تلك الجغرافيا الصغيرة التي شهدت حادثة غرقه البيضاء أو عشيّة مبالغة أمّه التي توهّمت أنّ الشرّ كان قريبا منه أو كامن وراء ستارة قريبة مموّهة،كان حديث أخته متواصلا يوقّعه الموج الهادر كما يوقّع أفلام المغامرات البحريّة العظمى، في مثل ذلك الوقت كان يقف على الحدّ الفاصل بين الموجات المتتالية على جانبه من جهة وصوت أمّه من جهة ثانية وهو يعلو:احذر الموجة،ثمّ وهي تضمّه إلى صدرها وقد قدّرت أنّ الموجة التي ثارت فجأة يمكن أن تسحب الطفل الوحيد إليها إذا وجدت الفرصة سانحة، نعم إذا وجدت الفرصة سانحة،رغم أنّ ذلك الطفل كان في حقيقة الأمر يريد العبث بالماء لا غير حينما رأى أنّ أمّه كانت تنقعه في ملوحة الماء للتداوي.
أدار ظهره إلى الوراء كاسرا بذلك وجهته، وجهة العودة، فوجد قبالته ذلك المشهد الذي يمكن أن لا يلاحظه شخص يمرّ باستمرار، ولكنّه هو العائد من وراء ستارة الزمن الكثيفة رأى الميناء الصّغير الجديد و بضعة قوارب راسية ومتموّجة بفعل تلك الارتعاشة السحريّة النابعة من قلب الكون حينما يكون نبضه ملهما فلنقل لرسّام جالس في دائرة سكونه منهمك في التقاط تلك النبضات السارية بلا توقّف.
لم ترد أخته تنبيهه من تلك الغفوة الجديدة إذ أنّه تصوّر نفسه يجلس هناك على كرسيّ وتحت مظلّة حاجبة للشمس في الميناء حيث لن يكون هناك قطعا مكان للسرطانات المنقوعة في الرّمل التي تعرض أجسادها للشمس وترفع مستوى تأمّلاتها إلى السقف في مواجهة الأزرق الكبير.
طبعا لن يكون ذلك ممكنا على مقهى مبهج بأرضيّة المواني الترفيهيّة الآسرة التي يمكن لشخص أن يأتيها من بعيد ليقابل صديقا عزيزا في جوّ لطيف،ثمّ تصوّر أنّه يمكن زيادة على ذلك أن يشيّد أحدهم من أصحاب الرؤى الجديدة ناد للغوص، وهو ما سيجعل المرء قادرا على إبصار قوارير الأكسيجين والزعانف المذهلة وجلود الأسماك البشريّة على مقربة منه،نظر بعمق أكبر وقال لها: أحبّ أن أعود إلى هنا وكانت على وجهه ابتسامة خفيفة فأجابته:سنعود باستمرار وأمسكت بيده فشبكت أصابع يدها بأصابعه وجذبته بكلّ لطف ليتجاوز ذلك الحاجز الوهمي الذي جعله، إلى حدود تلك اللّحظات، متردّدا في عودته.