من البلاغة إلى النقد إلى البلاغة


محمد كامل الخطيب


1- من البلاغة
قد يكون من الصعب الزعم أن للنقد العربي الحديث أصولاً في «النقد» العربي القديم ، الا اذا طابقنا ما بين مفهومي « البلاغة»و «النقد» وتلك مطابقة تبدو لي متكلفة ومتعسفة، مثل تكلف وتعسف المطابقة بين عصرين وعقليتين ، بل رؤيتين للكون، او العالم ، فما يسمى «نقداً» عربياً قديماً إنما هو، في حقيقة تأسيسه ومساره وقصده وتاريخه ، بلاغة شكلانية محضة اشبه ما تكون بالمنطق الاوسطي، وهي بلاغة تهتم بطرق البيان والبديع و«فن القول» دون الاهتمام بالقول، أو بالمضمون والمحتوى الانساني - الاجتماعي- الفكري ، او حتى بالمرجعيات التي لا يمكن ان يقوم « نقد» من دونها، مثل علم النفس وعلم الاجتماع واللغويات والاساطير والفلسفة الى آخر المرجعيات والتقنيات الحديثة التي تحاول المساعدة في فهم الادب وتفسيره، بل والتأمل فيه .
كانت البلاغة العربية القديمة قد تأسست، مثلها مثل باقي علوم الثقافة واللغة العربية، خدمة للكتاب المقدس، وفي سبيل فهمه الفهم الصحيح، وبيان اعجازه، ومن هنا كان اهتمام البلاغة العربية موجهاً، ومنذ البداية الى «الشكل - الصيغة» اكثر مما كان موجهاً الى « المحتوى» كان الاهتمام موجهاً الى «طرق القول» وفنونها، اكثر من الاهتمام بمحتوى «القول» فمحتوى الكتاب المقدس (القرآن) هو محتوى إلهي مقدس لا تجوز مناقشته، أو الخوض فيه، والاعجاز إنما هو كامن في صياغته اللغوية التي تتحدى الصياغات العربية الأخرى آنذاك ، من شعر وسجع ونثر، ثم تحول هذا الاهتمام بإعجاز القرآن ونظمه الى نظم الشعر الذي درس ليكون، كذلك مساعداً في فهم « لغة القرآن» فكان النظر الى الشعر في البلاغة العربية تبعاً لذلك نظراً شكلانياً محضاً يهتم بالتشابيه والاستعارات والكنايات والمجازات وباقي فنون البيان والبديع، كما فصلها مراراً وتكراراً البلاغيون العرب، وكل ذلك لتبيان مدى «اعجاز القرآن» في نظمه.
قاد التأمل في اعجاز القرآن البياني والبلاغي، ودراسة طرق صياغة اللغة القرآنية البلاغة العربية الى الوصول الى نظرية «النظم» لدى عبد القاهر الجرجاني خصوصاً، مثلما قاد الى التركيز على « الصياغة» عموماً، وخصوصاً في الفن الشعري الذي كان الفن الادبي الأوحد تقريباً الذي تناولته البلاغة بالدرس ، دون الانتباه الى فنون أخرى هامة كفن «المقامة» الذي لم تستطع البلاغة العربية النفاذ الى ما وراء صياغته البلاغية ، او اكتشاف البعد الانساني الاجتماعي في هذا الفن الادبي الذي اكتفى البلاغيون والمعلمون العرب بدراسته على انه مثل للبلاغة وفن القول، في حين كان يحمل في جنباته ثورة ادبية وفكرية وصورة دقيقة للمجتمعات العربية، وبالتالي كانت دراسته عمقاً ومحتوى يمكن ان تحول « البلاغة» إلى «نقد» ان «صوغ» المقامات كان حجاباً شفافاً تحول الى هدف مطلوب بحد ذاته لكن هذه المحاولة الهامة في الادب العربي، قديماً، اختفت في الثنايا الفضفاضة حيناً والضيقة حيناً آخر، للغة متقعرة وبلاغة متكلفة ، مما ادى الى تغييب دلالة ومحتوى هذه الثورة المجهضة، أو، المعاقة.
كل ذلك حرم البلاغة العربية من أن تتأمل في واقع موادها وموضوعاتها، حرمها من أن تحاول ايجاد صلة ما بين «النظم» والمنظوم» ما بين الشكل - الصيغة، وما بين المضمون المحتوى، حرمها من أن تتأمل في معنى الظاهرة الادبية، شعراً أم مقامة،أم رسائل ، وبكلمة حرمها من أن تتحول من بلاغة الى «نقد» تماماً مثلما حرم فن المقامة من ان يتحول من استعراضات لغوية وبلاغية الى قصة او رواية، ومثلما حرم التراكم المالي في الحضارة العربية من أن يتحول الى تراكم « رأسمالي» ومثلما حرمت الاختراعات والتقنيات الأولى في هذه الحضارة من أن تتحول الى بداية « صناعة» اننا هنا، في المجال الادبي امام ثورة مجهضة أو «تطور معاق» حصل في حقل البلاغة العربية ومنعها من أن تتحول الى نقد تماماً مثلما حدث هذا «التطور المعاق» في باقي مجالات وحقول المجتمع والثقافة العربية الاخرى مما ادى الى مرحلة الركود التي استمرت حتى أواسط القرن التاسع عشر.
إذاً، مثلما لم تستطع الفلسفة اليونانية او «علوم الأوائل» التأثير في عمق الثقافة والمجتمع العربيين وتطوير مجراهما، بل أعيق تطورها في جملة ما أعيق ، فإن البلاغة العربية الشكلانية على الرغم من امكانية تأثر هذه البلاغة العربية الشكلانية، بمنطق ارسطو، فقد بقيت البلاغة العربية تدور في اطار فكرة الاعجاز البياني والشكلاني، منذ أول كتاب كتب في «الاعجاز» الى آخر كتاب كتب في هذا الموضوع في القرن العشرين، لقد ظلت البلاغة العربية تدور في حلقتها الشكلانية المفرغة، وهي حلقة يعيد النقد الحديث اكتشاف بواباتها ، بل والدخول فيها ، إن كان هذه المرة عبر النقد الشكلاني الاوروبي الحديث، دون المرور بالبلاغة العربية التقليدية، التي يمكن عدّها، وكبلاغة شكلانية محضة، نقداً شكلانياً محضاً، يعاد انتاجه- اليوم- على نمط البلاغة القديمة.
ومن هنا يمكن القول ان الناقد الشكلاني العربي الحديث يمكنه الاعتماد على تراث البلاغة العربية اعتماداً كبيراً، اذا ما اراد ان يكون بلاغياً وشكلانياً ، لكن السؤال الحرج يطل برأسه : هل هذا نقد« حديث» أم هو بلاغة« قديمة»؟
لم يكن بالامكان كسر هذه الحلقة البلاغية المفرغة والخروج منها الا بعد كسر الحلقة المفرغة للسلسلة الثقافية العربية القديمة عموماً ، ومع دخول الفكر الاوروبي الحديث بمناهجه الجديدة ورؤاه المختلفة للعالم منذ فجر النهضة العربية الجديدة ، فمع دخول انماط جديدة من الفكر وضعت فكرة «القول المقدس» جانباً مما جعل بالامكان المناقشة في محتوى القول: أو «المضمون» وبالتالي السير الى ما وراء الشكل والصيغة، وفن القول، اواعجازه، أي وضع كل شيء، بدءاً من العالم والنظرة اليه، وصولاً الى القول ، مروراً بالفكر، موضع التساؤل والنقاش، إنها عملية الانتقال من المنطق الشكلي الى المنطق الديالكتيكي، من الشكل الى المحتوى، ومعروف أن هذه المسألة او هذا التجاوز للمقدس، هو ما يمكن ان نطلق عليه اسم: النقد ، فالعقلية الجديدة التي لا تخضع للمقدسات والمسبقات والموروثات هي ما يمكن أن نسميه « العقلية النقدية» كانت قد ظهرت مع بداية النهضة الاوروبية الحديثة، بل كانت من بعض مظاهر هذه النهضة وابعادها، وحققت انتصارها في فلسفة التنوير الفرنسية ، وفي الفلسفة النقدية الألمانية ، وفي الفلسفة التجريبية الانكليزية، وقد بدأت هذه العقلية ، وهذه الروح في التسرب الى الثقافة العربية منذ اواسط القرن التاسع عشر، وبالطبع كانت البلاغة العربية من جملة الفنون الادبية العربية التي وصل اليها هذا التغيير، ووصلت اليها هذه الروح ، وإن تأخر ذلك الى اوائل القرن العشرين، اي الى الوقت الذي تأسس فيه مفهوم النقد بديلاً لمفهوم البلاغة، وإن كنا نشهد اليوم رحلة معاكسة ، رحلة تقوم في الاتجاه او العودة من النقد الى البلاغة في غمرة هذه الرحلة المعاكسة والتي يقوم فيها الفكر العالمي أواخر القرن العشرين، للعودة الى الافكار الغيبية السابقة للتنوير، فهل هذه دورة الافكار والتاريخ ، أم هو مكر التاريخ المعروف؟!.
استعمل مصطلح النقد إذاً مع بروز المفاهيم العقلية النقدية الحديثة في الثقافة العالمية، ودخولها السلسلة الثقافية العربية التي تجدد نفسها منذ القرن التاسع عشر ولذلك لم يكن مصادفة ان أول من خصص باباً للنقد في الصحافة الادبية العربية الحديثة كان مجلة «المقتطف 1876» ذات الاتجاه التجديدي والعلمي المعروف ، اذ أنها ومنذ سنواتها الاولى تقريباً خصصت في صفحاتها باباً للنقد بعنوان « باب الانتقاد والتقريظ» ثم تبعتها مجلة « الهلال »1892 في ذلك فخصصت باباً تحت العنوان نفسه تقريباً، وفي هذه الابواب بدأت المجلتان مناقشة ما يرد من كتب ، مناقشة تبتعد شيئاً فشيئاً عن النقد البلاغي العربي التقليدي ، والذي استمر بالتركيز على نقد الشعر تحديداً، قبل ظهور الاجناس الادبية الاخرى ، مثل الرواية والمسرح والقصة والقصيدة الحديثة، وهي اجناس واشكال نعتقد ان النقد البلاغي العربي قاصر عن استيعابها، وإن كان يحاول ذلك اليوم، تحت الاسم الجديد للبلاغة العربية الا وهو «النقد الحديث» أو « البنيوي » أو « الشكلاني » او نقد « ما بعد الحداثة » الى آخر هذه التسميات التي تحجب اكثر مما تعلن .
ما هو النقد الادبي تحديداً؟ وماذا نعني بـ « نظرية النقد » عموماً ؟ بديهي أن لا مجال للحديث عن نقد ادبي بالمعنى الجديد لهذا المصطلح الا على اساس فهم مبدأ ، أو مفهوم « النقد» خصوصاً ومفاهيم «العقل النقدي» عموماً... ومفهوم «العقل النقدي» كما هو معروف هو مفهوم فلسفي حديث يعتمد على الايمان بقدرة العقل واهليته للمحاكمة اولاً، وتقدير قيمة «الموضوعات» ثانياً مثلما يعتمد على مفاهيم النسبية والتغير، ورفض المسبقات والموروثات، ما لم يقرها حكم العقل ، ويدخل في اجراءات العقلية النقدية كذلك، ادراك السياقات الزمانية والمكانية والظروف المحيطة في سبيل فهم الأمر « الواقعة- العمل» المنقود... وهذه اجراءات استخدمها الانسان حديثاً كما هو معروف ، جنباً الى جنب مع حدوث تحولات تاريخية واجتماعية وثقافية جديدة منها ظهور اكتشافات علمية وحقائق جديدة برزت الى الوجود، بالتزامن مع ظهور تشكيلات اجتماعية واجناس ادبية ومفاهيم جديدة باتت كلها تستدعي «عقلية نقدية» جديدة وبطبيعة الحال « نقد ادبي جديد» يتساوق مع هذا الجديد الحاصل ، ويتأمل فيه متوخياً فهم مغزاه واكتشاف دلالته، وتقدير مدى أهميته.
نعني بالنظرية النقدية الادبية عموماً الكتابات التي تحاول فهم الظواهر الادبية، مثلما نعني دور النقد في فهم الادب عموماً، دون تخصيص هذا الجنس الادبي او ذلك ، او دون الدخول فيما يسمى بالنقد التطبيقي ، سواء أكان صحفياً أم أكاديمياً مثلما يبتعد بنا عن تاريخ الادب وتاريخ النقد، وعن نقد الاجناس الادبية مفردة كنقد الشعر او نقد الرواية فنظرية النقد مفهوم يقترب اقتراباً شديداً من مفهوم « نظرية الادب» حتى يكاد يتطابق معه وانطلاقاً من هذا المفهوم الذي ما كان يمكن ان يقوم الا في العصر الحديث ، ميزنا النقد الحديث عن « البلاغة» وعددناهما تاريخين مختلفين، إن لم نقل هما مرحلتان او لحظتان تاريخيتان متعاقبتان، على الرغم من الجهود الحديثة الدائبة للعودة بمفهوم النقد واجراءاته واهتماماته وطرقه الى مفهوم البلاغة الشكلانية واجراءاتها وطرائقها، وهي جهود تنتمي الى الفكر الحديث وفكر «ما بعد الحداثة» الذي يحاول - اليوم- جاهداً العودة الى الافكار الغيبية والشكلانية اي الى الافكار التي كانت سائدة قبل عصري النهضة والتنوير في اوروبا والعالم.
ضمن هذه الرؤيا يكون النقد الادبي هو تأمل الظاهرة الادبية في محاولة تفسيرها وفهمها، وكل محاولة للتفسير الادبي تحتوي جانباً من التقويم وتتطلب الاستمتاع مثل اي جهد بشري ، وبديهي ان كل نقد، وربما كل ناقد لايستطيع القيام بأي إجراء نقدي أو قراءة دون الاعتماد على بعض المسلمات والقوانين ، سواء أكانت واعية أو غير واعية، شخصية أم عامة ذوقية او قواعد اتفق عليها لكن « القوانين » النقدية هي قوانين شديدة المرونة تتغير بتغير الأزمنة والامكنة والثقافات، وربما النقاد ، إنها أقل ثباتاً من القوانين العلمية والمنطقية، ومن هنا نستطيع القول ان النقد يقف في المنطقة الفاصلة- الواصلة، ما بين العلم والفن ، ما بين الذوق والقانون ، إنها منطقة ثالثة ، ولهذا السبب بالذات ندعي ان النقد «فن» مستقل قائم بذاته، اي انه ليس علماً، وليس فناً، إنه جنس ثالث مستقل مثله مثل الرواية والمسرحية والقصة والشعر...الخ، فهو نشاط تأملي في الواقع اي في الحاضن الذي انجب «النص» مثلما هو تأمل في «النص الادبي» إنه تأمل في الوجود والموجود ، وفي العلاقة بينهما، في المجتمع وإنتاجه ، في الثقافة واجناسها، وإلا هل يستطيع الناقد الادبي فهم العمل الادبي إن لم يفهم حواضنه، هل يستطيع فهم النتيجة دون فهم السبب؟ هل نستطيع فهم الادب دون فهم الحياة والمجتمع، و هل نستطيع فهم الحياة والمجتمع والانسان خصوصاً، دون فهم نتاجاته ومنها الانتاج الادبي ؟ هل نستطيع فهم « الوقائع» أيا كانت دون فهم ظروفهم وملابساتها؟!
النقد - اذاً وفيما نرى - نشاط ذهني من حيث كونه جنساً ادبياً وربما كان أميل الى التفكير والتأمل الذهني والفلسفي ، منه الى عفوية الانتاج الادبي ، او الى التفكير العلمي الصارم، فالنقد ليس مجرد تأمل في النشاط الادبي فقط وحصراً او هو « قول على قول » أو « انشاء على إنشاء» كما قد يرى بعضهم وليس مجرد نشاط تابع للنشاط الادبي ، إن هذا الفهم يعود بنا الى البلاغة « القديمة» تحديداً فهذا المفهوم عن النقد هو مفهوم البلاغة والبلاغيين عن الموضوع اما النقد - فيما نرى فهو التأمل ليس فقط في النتاج الادبي ، بل هو التأمل في النشاط الحياتي خصوصاً ونتاجاته وضمنه الادب، وبدهي ان الحاضن الأول للانتاج الادبي هو الحياة- المجتمع- الانسان - وما النتاج الأدبي الا احد انشطة الانسان التي تجد تفسيرها في كلية الانسان - المجتمع - الحياة فالنشاط الادبي هو « واقعة» انسانية ، مثل كل الوقائع الاجتماعية الاخرى ومن هنا يركز النقد الادبي في تأملاته على محاولة فهم هذه الكلية الانسانية ، وكما تتبدى في كل ظواهر النشاط الانساني ، ومن جملتها الانتاج الادبي، أما التأمل في العمل الادبي مجرداً من هذه الكلية الانسانية وعنها ، وعن الحواضن الاجتماعية والفكرية للعمل الادبي او عدّ العمل الادبي «واقعة» او ظاهرة فنية مجردة لا علاقة لها بالوقائع والظواهر الاخرى ، فهو بلاغة شكلانية محضة لا تستطيع النفاذ الى عمق ظاهرتي: الادب -الانسان- وفهم محتواهما ، بل انها لا تستطيع فيما نرى فهم فرادة العمل الادبي نفسه، او فهم فرادة ودلالة ومكونات اية واقعة او ظاهرة انسانية أخرى.
يقف النقد اذاً في المنطقة الفاصلة - الواصلة ما بين الفن والعلم فالقوانين المضمرة موجودة في كل عمل ادبي ، لكنها خاضعة للنقض كل لحظة، خاضعة للنقض لدى كل قراءة للعمل الادبي مثلما هي خاضعة للنقض لدى كل كتابة لعمل ادبي جديد ، ومن هنا فالنقد كالعمل الادبي ، دائم التشكل دائب في سن القوانين ونقضها، ومن عمليتي البناء والهدم هاتين يتشكل موضوع النقد ، من أفكار ونظريات وتأملات ونتاجات مثلما يتشكل النقد نفسه، ومن عملية البناء والنقض هذه تأتي المتعة وتتعدد الرؤى وتتعدد الاعمال الادبية والافكار والنظريات بتعدد قراءاتها او قرائها ذلك ان كل قراءة هي نقد للعمل المقروء، وبالتالي هي ابداع تركيبي جديد يقوم به القارىء الناقد معتمداً في ذلك ليس على العمل المنقود وحده بل على الثقافة العامة، والرؤية الكلية وظروف العصر وثقافة القارىء وكل مصادر ثقافة الناقد - القارىء فكل قارىء يقرأ موضوعه: فكرة- لوحة- قصيدة- رواية- نظرية...الخ ضمن ثقافته واهتماماته وسياقاته الزمنية والمكانية، وربما «عين» مشكلاته الشخصية ومتطلباته ، وربما عبر رؤيته للعالم مثلما يقرأ الموضوع ضمن السياق الفكري والفني والاجتماعي واللغوي والتاريخي والشخصي للموضوع المقروء - المنقود.
2- الى النقد
هذه النقلة من البلاغة الى النقد في السلسلة الثقافية العربية الحديثة حصلت في الفترة الفاصلة- الواصلة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين ، فإذا كانت عناوين وموضوعات ومعالجات كتب مثل :
1- دليل الهائم في صناعة الناثر والناظم 1885 - شاكر البتلوني
2- فلسفة البلاغة 1898- جبر ضومط( 1858- 1930)ما تزال مخلصة لمفهوم البلاغة القديمة واجراءاتها ومعالجتها فإن كتباً جديدة تحمل بدايات الرؤية النقدية الجديدة صدرت في هذه الفترة مثل :
1- تاريخ الادب العربي 1904- حسين توفيق العدل 1862- 1904
2- تاريخ اداب اللغة العربية 1911 ( بدأ كتابه منذ عام 1894 ونشره مقالات في مجلة الهلال ) جرجي زيدان 1861-1914
3- منهل الوراد في علم الانتقاد 1907/ 1-2 الثالث 1935 - قسطاكي الحمصي 1858- 1941
4- تاريخ علوم الادب عند الفرنج والعرب 1904- روحي الخالدي 1864 -1913.
5- تاريخ آداب اللغة العربية 1911 - مصطفى صادق الرافعي 1880-1937
وهذه الكتب كانت هي الممهدة لكتابي « الديوان »لـ العقاد 1889-1965 والمازني 1889-1948 والغربال 1923 لميخائيل نعيمة 1889- 1988 وهذان الكتابان يعتبران من أوائل الكتب التي تحقق فيها، مفهوم النقد الجديد المتجاوز لمفهوم البلاغة.
كتب العدل وزيدان والرافعي ادخلت الى الأدب العربي ونقده مفهوم التاريخ، اي نسبية الادب ، وارتباطه بزمانه مما ينفي عنه الاطلاقية فلم يعد الادب مجرد بلاغة عالية تحلق فوق الواقع اي فوق الموضوع والمضمون بل صار الادب ينظر اليه من وجهة نظر «تاريخية» من وجهة مضمونه المرتبط ضمناً بالزمن والتاريخ وتغيرات الزمن والتاريخ هي تحولات المجتمع وتغيراته اما كتابا قسطاكي الحمصي وروحي الخالدي فقد ادخلا مفهوم المقارنة بآداب الآخرين وتلك - بالطبع - نتيجة تالية لمفهومي التاريخية والنسبية فهذان الكتابان قاربا مفهوم الادب المقارن وضمناً مقايسة الادب العربي بالآداب العالمية الأخرى وتلك خطوة اولى نحو مفهوم « الادب العالمي » الذي سبق لـ «غوته» ان تكلم عنه.
ربما يصح القول - اذن- انه بدءاً من أوائل القرن العشرين ومع تحولات المجتمع العربي الناتجة عن لقائه بالغرب حصل التغير الأهم في تاريخ الادب العربي ونقده سواء بظهور اجناس ادبية جديدة كالرواية والقصة القصيرة والمسرح ام بتغيرات جذرية حاصلة في اجناس ادبية عريقة كالشعر او البلاغة التي بدأت بالتحول الى نقد وإن بقي بعض انصار البلاغة القديمة يدافعون عن البلاغة كما في كتاب احمد حسن الزيات 1885- 1968: دفاع عن البلاغة 1945 وكتاب فن القول 1947 لأمين الخولي ( 1895- 1966) وكتاب شوقي ضيف البلاغة تطور وتاريخ 1958.
3- الى البلاغة
كان هذا التحول يعني الخروج من دائرة البلاغة الشكلية المغلقة الى رحاب النقد المفتوح على كل العلوم الانسانية والفنون الادبية ومع الاسف الشديد وكما سلف القول فإننا نشهد اليوم من جملة ما نشهد من تراجعات اجتماعية وثقافية عودة من مفهوم النقد الى ما قبله، الى مفهوم البلاغة وثقافتها الشكلانية الفارغة، وخاصة فيما يتعلق بالمناهج الشكلانية من بنيوية وتفكيكية حينما تعتمد « البلاغة » والشكل وحدهما دون ربطهما بالدوائر والاطر والسياقات والعلوم المتضافرة الاخرى من علم نفس وفلسفة وتاريخ حضاري واجتماعي وغيرها ،من هنا كثر هذا النوع من البلاغة غير النقدي فيما ارى وظهرت كتب تربط النقد الشكلاني الحديث بالبلاغة العربية القديمة مثل كتابي :
1- البلاغة والاسلوبية - د. محمد عبد المطلب 1984
2- الاسلوبية والبيان العربي : عبد المنعم خفاجي - السعدي فرهود- عبد العزيز شرف 1992، اعتقد ان هذه الكتب التي تربط الاسلوبية الاوروبية الحديثة والشكلانية عموماً بالبلاغة العربية القديمة، تقول الحقيقة فهذه الاسلوبية الحديثة ليست اكثر من بلاغة عربية ، شكلانية قديمة وأضيف رأيي الشخصي : تجاوزها الزمن على الرغم من انها حاضرة.
جريدة البعث