6
أفاقت عيناء باكراً، فتحت ذراعيها على آخرهما، ومسحت عنها غشاوة النعاس. لاحظت أن السيدة بالكاد تجرجر خيط النوم إلى جفنيها، محدقة للاشيء في سقف الغرفة، كأنها منغلقة على ذاتها.
قرأت عيناء في جو الغرفة الهادئ ضفة جديدة، ومساحة للطمأنينة. شعرت أنها بحاجة إلى الكلام، وتشكلت ذكريات وليد كحبات العنب الرطبة. ذكريات وصمت، أصباغ وثرثرة، أزرار على فستان أحمر، طفولة. وحركاته، معرضه وخلاصه، الارتياح والدفء إلى جواره، إطلاقه شرارات الإبداع، إلغاؤه لها، كل خطوة يخطوها، وخفة دمه؛ الحاضر والماضي يأخذان شكل الانتظار، وقد تراكمت الأحداث والعناصر والموضوعات والصور.
أدارت عينيها في أرجاء المكان، صالة مفتوحة على ركن اتخذ شكل غرفة، وفسحة صُفّت فيها أواني المطبخ وغسالة صغيرة وطباخ صغير، فتشكلت الفسحة على هيئة مطبخ. انتبهت لصورة وضعتها راوية قرب السرير، رجل وسيم يقف قربها واضعاً يديه على كتفها بحنان، وراوية جالسة على كرسي خشبي في حضنها طفل صغير، ولها وجه دمّرته الخيبة وأحزان العطش.
نهضت عن الأريكة والشمس تنعكس عن ذكرياتها، تطلعت في الصورة ملياً، أعادتها إلى مكانها واستدارت لتدخل الحمام. وكمن استذكر شيئاً، رجعت إلى الصورة ثانية، حاولت مسحها وتنظيفها، لا بدّ أن السيدة تنظفها في اليوم عشرات المرات. الولد يشبه السيدة، الأنف الصغير نفسه، ونفس الشعر واستدارة الوجه، سبحان الله فالق البذرة. دخلت الحمام وأخذت دشاً دافئاً، مسحت وجهها وشعرها بالفوطة، توقفت قليلاً، ثم واصلت حركاتها تحاول كشف سرّ السيدة.
كانت تتلمس موسيقاها من الداخل، إنسانة مثقفة وقارئة جيدة، هذا واضح من مكتبتها ومنطقها، اللون الفضي على شعرها زادها وقاراً رغم أن وقته لم يحن، سلوكها، تفاصيل وجهها، مشيتها وابتسامتها، تفردها بأنوثة ذات عمق خاص بها وحدها.
أعدت عيناء كوبين من الشاي، وجلست قرب صورة امرأة تحبسها جدران متقاربة، تمّ اعتبارها شقة، لو قارنت بينها وبين ببيوت العراق لما زادت عن اعتبارها ركناً في مطبخ. شدّها عنوان كتاب تناولته من المكتبة وجلست لتقرأ.
أخذت تتصفح الكتاب بهدوء، خوفاً على غفوة خطفتها راوية وتمـدّدت معها هاربة من ثقل شيء سهّرها حتى الصباح. رشفت من الفنجان، سقطت قطرة منه .
على صحائفه
غرق الفجر ومات
في غبار الصلوات
لكن في التخمين
في خطرات البال
يصعد من آبار الطين
وجه الأطفال.
كم تحب السيدة هذا الشاعر، أرجعت الكتاب إلى مكانه، ثم أعادته لتقرأ آخر السطور منه؛ (هل الحب وحده مكان لأنانية الموت؛ وماذا أسمّيك يا موت)؟
راقت لها التساؤلات، أعادت الكتاب إلى مكانه، رأت كتباً كثيرة للشاعر نفسه. المجموعتان الشعريتان وكتابان باللون الأسود والرصاصي (أمس المكان الآن)؛ كتاب الحصار، أول الجسد آخر البحر، تنبأ أيها الأعمى، الثابت والمتحول بأربعة أجزاء، أغاني مهيار الدمشقي. فتحت كتاب (أول الجسد آخر البحر).
لا يتوقف جسدها عن تغيير حدوده وتوسيعها
لا يقين لها إلا في نرد الحبّ.
في هذه اللحظة أفاقت السيدة، أبعدت عنها نوماً لم تقبض عليه جيداً:
- عمت صباحاً يا عيناء.
- صباحك بألف خير، عيناك متورّمتان سيدتي؟
- لم أنم البارحة.
- ما الذي أرّقك؟
- وجه امرأة.
- أتراه وجهي؟
- الوجوه كثيرة بكثرة المآسي.
- رفعت عيناء صوتها لتسمعه السيدة من خلال الدش:
- أتحبين أدونيس إلى هذا الحد؟
- جاء الصوت مخفيا هادئا .
- إنه عالمي، أركن إليه في فرحي ووجعي، إنه شاعري المفضل؛ اسمعي يا عيناء:
- نعم.
- هذا الشاعر نبي عصره، افتحي التلفاز من فضلك، نريد أن نعرف أخبار الدنيا.
المذيع في النشرة الإخبارية:
- في الساعة السابعة من صباح اليوم، انفجرت سيارة مفخخة قرب مدرسة للأطفال راح ضحيتها عشرة أطفال وثلاث نساء ورجلان.
- تناثر الماء من شعرها، فقد خرجت مسرعة وأغلقت التلفاز .
- ما أقبح رسالة الصباح. يا إله الأطفال، جاءتك أفضل هدية ترفرف بنقائها.
سرى في عمودها الفقري برد طاعن، وهاجس خضّها ورجّها رجاً. دارت حول نفسها محمومة، تخلق افتراضات لا وجود لها:
- ماذا لو انقلبت الدنيا الآن؟
أجابتها عيناء:
- إنها مقلوبة. وها هو الله يرينا الآخرة بالتقسيط وينذرنا بدنوّ الساعة، لكن مَن يتعظ؟
- لفت شعرها إلى الخلف، وكضفة بلا قرار جاهدت لتجعل عيناء مبتسمة، تصنّعت الابتسام:
- ها، قولي لي أين تحبين الذهاب؟ هل ترغبين بزيارة المواقع التي أخذك إليها صابر مع ذكرى؟ أظنك لم ترغبي في سوهو، أعتقد أنه حدثك عن كولن ولسن ورواية (ضياع في سوهو)؟
- يا سيدتي كلٌ له ضياعه وسوهوه، فأنا ضعت مع وليد.
- أجابتها السيدة :
- وأنا ضعت في الحياة.
- صحيح واعذريني لتطفلي، يبدو أنك تحملين على أكتافك حطام الدنيا، فما سرّ ابتسامتك الحزينة؟ ومن الطفل الذي في حضنك في الصورة؟ إن كان ابنك فأين هو الآن؟
- على هونك، كيف أجيب على أسئلتك دفعة واحدة؟
فرّ قلب السيدة من مكانه، اقتربت منها عيناء محدقة في عينيها:
- تبدوان أحسن الآن.
- من؟
- عيناكِ، ألا تخبرينني عن المرأة التي أرّقتك طوال الليل؟
- الليلة سأقصّ عليك حكايتها، هذا إذا رغبت أن يغادرك النوم.
- وأحبّ أن أسمع عنك أيضاً، اذا سمحت بذلك سيدة راوية .
فتحت الثلاجة، وتناولت منها تفاحة، راحت تقضمها بشهية، والسيدة تخاطبها قائلة:
- البحث عن مصداقية نشرات الأخبار في المحطات العربية خطوة محصورة بين اتجاهين، قنوات تزوّر الحقائق بقدر عدد الدولارات المدفوعة، وقنوات تقودها نعرة طائفية، ونحن عاجزون حيال ما يدور حولنا.
تذكرت ذكرى، وطلبت من عيناء الاتصال بها وإخبارها عن مكانها، وإلا أصابها القلق، فأجابتها :-
- مازال الوقت مبكراً، فبعد سهرتها الماجنة ستصحو الساعة الثانية أو الثالثة ظهراً.
أرادت السيدة أن تمتحن رغبتها:
- هل أنت راغبة في العودة إلى بيت صابر؟
- أعوذ بالله، لن أرجع حتى أكمل عدّتي في بيتك، أبداً.. من بيتك إلى بيت وليد.
- عدّتك، هل أنت مطلّقة؟
- أقصد مدتي خارج الإطار، تريدين التوضيح أكثر؟
- شكراً أنا أعرف التفاصيل.
ارتدي ملابسك لنتجوّل قليلاً، أرغب في شراء جريدة وقراءتها في مقهى قريب.