5
تذكرت السمراء سجن القلعة ومشاهد الرعب والألم والموت، حيث يجذب السياح من كل أنحاء العالم، أغمضت عينيها في محاولة طرد الصورة المرعبة. وبعد أن تركوا قصر الملكة، سألت صابراً:
- أين نحن؟
ـ في ساحة بيكاديللي، هنا مركز لندن. انظري كيف تنتشر محلات بيع الهدايا التذكارية وهنا دور الحفلات الموسيقية والعرض المسرحي والنوادي الليلية.
قالت الشقراء: أنا جائعة يا صابر، ألا نتوقف قليلاً؟.
ـ سنتناول غداءنا في مكــــــــان فخم، اصبري قليلاً. ها قد وصلنا (الطرف الأغر) هنا أيضاً تــوجد المسارح ودور العرض والنوادي الليلية والمطاعم. وأشار إلى مبني المعرض الوطني قائلاً :
سأرافقكما لـرؤية المعرض، إنه ضخم ، ويضم ّأكثر الرســـومات براعة في العالم. كما سنزور المتحف البريطاني، إنه أقدم وأعظــم المتاحف في العالم، يضــمّ تاريخاً عالمياً يمتدّ لأكثر من مليوني سنة، ويحتوي على أكثر من 49 صالة عرض.
تخيلت السمراء صورتها ضمن صور المتحف، ووجهت سؤالها للشقراء؛ هل من الممكن أن نكون ضمن هذا الإبداع ، ويشار لنا بالبنان ؟ .
أجابتها الشقراء: من يدري.
ردت عليها السمراء: مادام وليد يتحلـّى بالشرف والكرامة والكبرياء، إنسي.. إنسي.
- ولمَ لا ( خطرت بباله بعض كلمات وأرد أن يفرد عضلاته أمامها ليتقرب إليها )
- ستكونين أجمل امرأة تزورها الوفود وتهز الرأس إعجابا فأنت يا صغيرتي نبع ، والفنان الذي لا يرسمك أبله .
أطالوا البقاء في المتحف البريطاني، حيث الحضارات الشرقية والغربية.
وقفت السمراء نصف ساعة أمام الآثار السومرية، بوابات وألواح ونسور مجنّحة: إنها آثار وليد، كأني أشمّ رائحتك يا وليد، كأني أقرأ كتابك بين هذه الرموز. كم أنت عظيم يا فنان سومر، أي كلية درّبتك وأي أساتذة علـّموك؟ أنت أستاذ نفسك.
قال صابر مبتسماً:
- هل تكلمين نفسك؟
ـ معك حق، من يرى عظمة تاريخ وحضارة سومر لا بدّ له أن يهذي ويكلـّم نفسه.
أضافت السمراء: الخلق والخلاق يحتاج لما هو أكبر منه، يحتاج إلى المئات بل الألوف ممن يشبهونه ويشبهون أنفسهم ليخوضوا ساعة خلق واحدة.
خرجوا.. قاد صابر السيارة مسرعاً:
- أنا بدأت أشعر بالجوع، ما رأي الحلوتين لو تناولنا الغداء، فأمامنا متسع من الوقت لرؤية معالم لندن؟ سأختار مطعم بغداد، بعدها نأخذ قسطاً من النوم، فنحن مدعوون من قبل شخص مهم الليلة.
***
ذات صدفة وهو يكمل ثوبها الأحمر إلى حدّ الأكمام، سمعته يحاور أحد أصدقائه عبر الهاتف، فنان مهووس بالنساء مثله، استنتجت أن ذلك المحاور يحدثه عن موديلاته العاريات، وكيف أنه استمتع بأنوثة الطبقة البورجوازية، وحسد الانتعاش الاقتصادي، وكان وليد يردّ عليه : ليس الجنس الوحي الوحيد، بل الخصوصية وامتلاء الذات، يا أخي النساء هنّ الحرب والسلام.
لحظتها رأته كقسوة الشمس في ظهيرة قيظ، وكمن يعوم وظله في السراب.
في أحايين كثيرة يتشبث بقوة كاذبة يتصدى بها لضعفه ، يحاول أن يعيد له اعتباره ويراهن على أسئلة تنقذه من نفسه ،لكنه حين تخور قواه، يعود إلى ألوانه بثلاث زجاجات من البيرة ويحتسيها دفعة واحدة ، يغمض عينيه من دخان سيجارة يزفر فيه سنوات علقت بالذاكرة ويسأل لنفسه :
- كيف كنت شيوعياً،أكنت معارضاً لإرادتك أم لمؤسسات زائفة ؟
ثم يرسم في الهواء ظلا يطارد أصابعه ويرجع يتغزل بساق شقرائه أو زندها أو نهدها، أما ذات الشعر الأسود، فلا يهوي منها إلا مزج الألوان، حين تنتابه نوبة الرسم ، مما جعلها تلعن مدير السجن على عدم بتر يده الأخرى، ثم تعود تستغفر ربها طالبة له دوام الصحة والعافية.
في مساء ممطر، رنّ جرس الباب، كان وليد يتكوّر على نفسه ويهتزّ كطفل مذنب . لكــــــن الجرس رن عشر مرات، مما جعل وليـــــد يضجر صائحا:
- دخيل الله مَن؟
أجابه الطارق بصوت أجشّ :
- قلب بشري خنقه شبح الليل والمطر وقذف به على بابك.
ـ مرحباً، تفضل مراد، ما الذي ذكرّك بنا الليلة؟
ـ قلبي يابس، وجئت أطرّيه عندك.
ـ هل أجلب لك بيرة؟
ـ لا.. أحب أن أسمع شعراً، فأنا اليوم أكثر الشعراء اغتراباً.
ـ هل أصابتك لعنة عشق جديد؟
ـ بل أنا توّاق لحزن أغسل به حزني، ربما أتطبّب بما هو دائي.
نط ّ وليد حافياً وتناول كتاب جبران من مكتبة معـلـّقة على الحائط: اسمع ما يقوله جبران:
(يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، اسمعني أيها القدر الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة. أصغ لي، فإنّي أعيش بين البشرية المشوشة).
مدّد مراد رجليه على الأريكة، ونام مسترخياً:
- الله، الله، يا جبران. أيها الإله الضائع سجّل، سجل وحشتي بسجلك ولا تستغرب إن قلت لك سئمت مسرتي، وسئمت انتظاري لها، لقد بلغ بي الكبر وكبرت عزلتي؛ لمَ لم تقرأني في سطورك وأنت الذي قلت؛ اقرأ؟
- شيطان وكافر؟. ما الذي دهاك؟
- جرعة المرارة كانت أكبر مني، كل العذاب الذي ذقته في حياتي (صمت برهة ثم تابع): نحن الشعراء تعساء الله على الأرض، حتى أحقر نقطة في الحياة تحتقرنا، وفي النهاية نموت.
قدم له وليد زجاجة بيرة :
ـ أعرف أنك ورّطت نفسك كعادتك، ألم أقل لك لا تمشِ على حبل؟
ـ تقصد حبل الصراط المستقيم؟ ما ذنبي إذا فُطرت على الحق وقوله وفعله؟
ـ ها.. انظر أطراف يدي، كم نزفت في السجن وأنت شاهد على ذلك. استمعت الى دبيب الحشرات على جسدي من أجل قيامة أخرى،من أجل أن أقول للضائعين انتبهوا، حان الوقت ، وآخر المطاف أمريكا تتربّع على صدورنا، وتقول لي صراط مستقيم، يا أخي لا صراط ولا مستقيم، آخرها محرقة.
ـ هذا حرام ، على مهلك يا مراد .
ـ أؤكد لك أني أكفّر عن ذنب الشيطان حين أحرَق مراد الذي بداخلي .
المسيح قال : (أنا هو خبز الحياة ) وصُلب، فكيف نحن أولاد الكلب؟ نحن مصلوبون منذ لحظة المضاجعة، وتصوّر المسكينة أمي وأمك تنتفخ بطنها ولا تدري أنها ستلد مصلوباً، نحن بحاجة إلى شريعة خاصة بالمصلوبين*
وهم في طريق عودتهم إلى الشقة بعد وجبة غداء دسمة ، زحفت يد صابر إلى الشعر الأشقـــــر ، تجاوزت حدودها وامتدت إلى العنق، انزلقت نحو الصدر، ظلّ الشوق مباحاً، خطّ خطاً مستقيماً، استسلمت الشقراء لمداعبته، وراح يخاطب السمراء:
- أعرف أن لك عناد البحر، لكن ارتدي ثوباً شفافاً، ابرزي مفاتنك ودعي شعرك يثور ثورته الغجرية. لقد اشتريت لك أغلى الملابس ، أكنت تحلمين بثوب من (فالنتينو) ، أو ساعة من (فرساتشي)، ألك حقيبة يد(بألفين باوند)؟
- داعب يدها :
- لديّ من يقدر الجمال النافر.
أطلق زفيراً عميقا ً وأشار بأصبعه :
- خُذيها نصيحة منى، اضحكي على الحياة قبل أن تضحك عليك، أنت أيتها النافرة من الضلع الأعوج، يا كل النساء بامرأة.
هزت رأسها استنكارا ً:
ـ أنت قوّاد، وأنا جميلة لنفسي وبنفسي وسأرتدي أقراطي وأساوري لأتحرّر من عقل رجل يشتهي غزو الجسد. أيها الأعور، أنتم أطلقتم على حواء لقب الضلع الأعوج، أتدري لماذا؟ لأنكم تخافونها، تخافون سجودكم تحت قدميها. حمّلتم حواء ذنب الكون، ونسيتم ضعفكم أمام الغواية.
دنا منها لكي يطيّب خاطرها، فنفرت:
- سأرتدي بإرادتي ما يحلو لي وأتجمّل لنفسي.
- طيب، المهمّ أن تكوني جميلة المظهر، وفاتنة.
قبل أن تبرحا صالة الشقة، رجاهما صابر أن تتحليا باللباقة، وأعــاد عليهما مرتين :
- القلوب والآذان صوب جيوبهم، فهمنا؟
ردّت عليه الشقراء بتوتر:
- أتعبتنا يا أخي بوصاياك، هل أنت ابن الشيطان؟
جلستا صامتتين، كمن يضع خطاً فاصلاً للشر. اخترقت الشقراء الصمت :
- إذا كان من تأخذنا إليه شيطانا ًمثلك فأنا أؤكد لك أني سأجعله يتوب. لا يلتقي شيطانان في مكان واحد، سأجعله يغدق علي بعطاياه لأصبح اللبوة المفضلة، وبهذا أكون قد روّضته، فيهزّ جيبه كلما اهتـزّ وسطي وأغمضت عينيّ عن خطيئـة شيطان لـه مسبحة وسجادة.
- كيف عرفتِ أنه شيطان بمسبحة؟.
- سمعت البارحة طقطقة المسابح الثمينة في سهرتك.
في الطابق الخامس، من إحدى العمارات الفخمة في شارع (ريجنت) قبل أن يُطرق باب الشقة رقم (105)، كان الخدم يراقبون وصول الزائرين من العين السحرية.
في المدخل أربع خادمات عربيات بزي موحّد، وقفن ضاحكات مهلـّلات :
- يا هلا.. يا هلا.
وعلى نحورهنّ قلائد ذهبية متشابهة، فالأزياء موحدٌة في كل شيء، الملبس والأحذية والذهب وحتى ترتيب الشعر. قادتهم إحداهن إلى الصالة، هبّت رائحة البخور وروائح المسك الطبيعي التي عجـّت في كل مكان.
تنبّهت السمـــــــــراء إلى السجاد الإيراني الفاخر ، أما الأخرى فأشارت إلى صاحبتها لتنظر الى ثريات صغيرة في جانبي الشقة، وثريا كبيرة مطلية بماء الذهب في السقف، وأغمضت عينيها كطفل يريد التمسّك بلعبة أغوته، كانت غايتها الاحتفاظ بمنظر الثريات المصنوعة من الكريستال الخالص. أما صابر، فقد ذاب كفصّ ملح.
جلستا تمسّدان الأرائك والمزهريات والتحف الثمينة، على كرسيين مصنوعين من الخشب المحفور.
إلى الجانب الآخر طاولة مستديرة وضع عليها ملاءة من الدانتيل الأحمر المشغول بخيوط فضية، وفوق الطاولة عُلـّقت مرآة من الفضة الخالصة.
كان يدور في خلد السمراء قلق يثير شكوكها لذا شعرت كأن سيفًاّ مسلطاً على رقبتها ، أحياناً تأتي الأفعال لا إرادية ، إذ لا يملك الإنسان إلا أن يشك في كل شيء.
على حذر من الجميع, اتخذت لها ركنا منعزلا فثمة غموض في هذا المكان . سارت الشقراء في الصالة مدققة في كل ما تقع عيناها عليه، ثم رجعت إلى مكانها مسرعة، حالما دخلت إحدى الخادمات حاملة كأسين من العصير الطازج.
ـ شكراً (قالتا بصوت واحد).
استخرجت عطراً من حقيبتها، أزاحت شعرها الأشقر عن أذنيها وعطـّرت ما تحتهما مروراً برقبتها، ثم قدّمته لصاحبتها. شكرتها السمراء، دون أن تأخذ العطر.
الأفكار والناس والمكان، وصوت يلمع في صدر السمراء، كل هذا جعلها معطـّلة عن التفكير..
ـ لم أرَ في حياتي شقة كهذه.
أجابتها الشقراء وعينها على ضيف وسيم :
ـ عزيزتي ما دخلنا غير ثلاث شقق، شقة وليد وشقة صابر وهذه الشقة، ومن خلالها دخلنا أبواب الشيوعية والرأسمالية والسمسرة.
أحسّت السمراء ببرودة هواء قادم من أحد الشبابيك، نهضت تستنشق بعضاً منه، واستدارت صوب صاحبتها بعد أن لعب الهواء بشعرها ، لحظتها فُتح الباب دون استئذان، فقد تعمّدت الخادمة أن تتركه مفتوحاً .
ـ يا حافظ، ما حد إجا؟ وين الباقين،. عفواً، السلام عليكم.
ـ وعليكِ السلام.( جميعا )
دخل الحلاق خلف المرأة، الحلاق المائع الذي رأتاه البارحة، وعلقت السمراء على مشيته، أما صابر الذي غيّر لهجته حسب هوية المتحدثين وقف مهلـّلا مرحباً بالحاضرين، كأنه صاحب الدار. بعد مضي دقائق أشار للخدم إشارة معينة، فاصطفت على الطاولة أنواع المازات ودارت كؤوس الشراب. ولدى دخول أحد المطربين وفرقته، أسرع الخدم لحمل الآلات الموسيقية عنهم، وانشغلوا بتهيئة (الميكرفونات)، فأصبح كل شيء أليفاً، المعاكسات، الكأس، الوجوه، التبغ، النساء المتبرجات، الياقوت والماس؛ كل ذلك خضع للكأس. تهيأت الفرقة الموسيقية، وأصبحت رهن الإشارة.
حضر الصحفي محمود، نظر إليهما بنظرة خاصة، وابتسم بوجه السمراء. وحين صافحها ترك يدها تنام في يده، وقف مذهولاً بعينيها الواسعتين ورموشهما الكثيفـــــة، فأحسّت برجفة يده ونبضه . وفجأة ساد صمت، ووقف الجميع إجلالاً لصاحب الدار، حالما قال السلام عليكم ردّ الحضور بصوت واحد :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما جلس جلسوا، وحين وقف هبّ أغلبهم للوقوف بجانبه، لكن لما ابتسم منحهم بركة الابتسام، وراحوا يضحكون لمزاحه السخيف.
- همست السمراء لصاحبتها :
- أهذا نوع آخر من الفراغ؟
- هِس، أصمتي.. هنا الحيطان لها آذان. ( ردت عليها صاحبتها بتوتر)
أخافتها شفته المتهدّلة، فواصلت أسئلتها :
- وعندما يخرجون من جلودهم، هل تسمعهم الحيطان أم تتستر عليهم؟