4
وقت سفرها بالقطار إلى بغداد قاصدة زيارة (الإمام الكاظم)؛ حين جاء المفتش، انزلق العرق على رقبته، صكت أمه فخذيها وقدميها، وأنزلت عباءتها كي لا يظهر للمفتش رأسه، بعد أن خبّـأته تحت المقعد الخاص بها. ساعتها تصرّف المفتش كما لو كان الخطأ متجاوَزاً من قِبل رجل يدرك العوز، ويدرك أنه بثمن التذكرة اشترت المرأة متاعها ومتاع من اختبأ تحت عباءتها، غضّ طرفه، ومدّ يده للطفل:
ـ قم يا بني، أنت في أمان لا تخف.
خرج وليد كدجاجة مخذولة، وعندما اختلطت رائحة العشب برائحة "الصمّون" والحلوى المصنوعة من الراشي، التهم المقسوم بشراهة وكأن شيئاً لم يحدث*
بعد هطول المطر، انتبه وليد إلى ورقة اليانصيب المبتلـّة، وأكد لنفسه بهزة رأس: ألم أقل يا وليد إن بينك وبين الحظ مسافة.
وهو في الطريق، بين الحلم والرصيف والتذكرة، شاهد امرأة مسنّةً ترتدي عباءة سوداء، وقفت متوثبة للشتيمة بعد أن سمعته يطلب منها أن يمسك يدها ويقبّلها:
ـ أبمقدوري أن أقبّـل يدك سيدتي؟
ألقت عليه نظرة، وقطبت حاجبيها غضباً:
ـ أما تستحي يا مجنون، أنا بعمر أمك؟
أجابها: ولأنك هكذا وددت تقبيل يدك.
تركها تهذي وتسبّ، رغم تدخل شـــاب كان يسير خلفها وقوله لها إنه "لم يقصد شيئاً، وربما رأى فيك شبهاً بأمه.. يا أماه".
لم يمر القطار بمساحات الروح، ولم يكن المفتش حاضراً وقت نهرته العجوز، ولم يكن سؤاله خطأ؛ أدرك لحظتها أنه اشترى تذكرة غربته. تعانق عرق خجله مع قطرات المطر المتزاحمة، التي بللت معطفه، أخذ يضحك على جسد يرافق روحه ويقول له:
ـ امش أيها الصنم، ولا تسأل، ألم تتعلـّم من المسطرة التي كسّرت أصابعك في درس التأريخ؟ قال المدرس:
-لا تسأل عن ما لا يعنيك، أحفظ ما يُطلب منك وامتحن، لتنال درجتك.
كان يعني له السؤال وقتما سأل مدرّسه: هل سنصبح غداً في التأريخ؟
ردّ عليه المدرس باقتضاب :
- نعم.
لكنه كان لحوحاً، واستمرّ يجادل مدرّسه، فهو في بداية الصبا وعمره ثلاثة عشر عاماً، بداية الفوران في كل شيء. وحيّر مدرّسه، ولم يعرف بماذا يجيبه،
فقط قال له :
ـ من الآن وصاعداً اخنق تساؤلاتك ولا داعي أن تطلعني عليها.
رفع إصبعه ثالثة:
- أستاذ، ردّك هذا يعني أن التأريخ الذي نتعلمه كاذب، ويحتاج أن نبكي عليه.
فرح بسؤال المدرّس: ولمَ يا ولدي؟
لقد نعته بولــــــدي؛ هذا يعني أنه هادئ البال، ولن يزعق به ثانية. في وقفته المسرعة تجاه ما يدور في خاطره من أفكار، علق قميصه في طاولة الدرس، وشُقّ الجيب وتهدّلت خيوطه. لم يخَف من توبيخ أمه القادم، بل وقف وقفة المتحدي:
ـ أستاذ، قلت قبل قليل نحن سنصبح تأريخاً، لكن أبي والناس في البيوت والحافلات والشوارع، أسمعهم يقولون متذمرين:
- كل شيء أعوج، كل شيء غلط.. يعني يا أستاذ راح نصير التأريخ الخطأ.. مو؟
أكل عشــر مساطر ضرباً على أصابعه، وقرص قوي في أذنه.
عبر صوت العجوز إلى أذنه ثانية، تحسّسها فوجد قرص مدرّسه مازال عالقا عليها. وهو يدخل المفتاح بباب الشقة، شعر بإجابة لحيرته طمأنته أن لا حاجة له بالسؤال، ولا شأن له بموت المؤرخ، والكتب أيضاً ليس لها حاجة أن تعرف عنه شيئاً.
المؤرخ موثـّق للحقائق، ومزوّر غير موثوق به، كما هي تقنية توزيع الجوائز لكـتّاب عظام أرّخوا مرحلة ما، في أعمالهم أو كتبوا التأريخ بعين الواقع، لكنهم نسوا توثيق الأحاسيس وفكرة اللون.. في غير مرسمه لم يجد لون الفكرة، فأوثق يده اليمنى بما تبقى من يسراه، وراح يستكشف حقيقة ألوانه*
حين فتح باب الشقة، صادفه رجل نحيل، يميل إلى الطول، أسمر اللون، كثيف الشارب، أسود العينين، لمعة حادة تتوسط اسودادهما، تنمّ عن ذكاء وقدرة في إدراك الأشياء واستيعــــابها. العزلة هي حدود الكرامة، كرر هاتين الكلمتين بعد أن حاول جاهداً تحرير الأسمر الذي صادفه في المرآة من معطف مبلـّل، مدّ يده على شاربه وخاطب أسمره:
-لم تبق لديك شعرة سوداء.
تذكر أنه لم يتيسر له ما يسدّ الرمق، فقد ألهته بطاقة اليانصيب عن ذلك. فتح الثلاجة فوجد علبة بيرة وكعكة، راح يغمس الكعكة في البيرة بعد أن صبّها في كوب الشاي الكبير. وجلس على الأريكة، قضم قضمة واحدة، وغاب بعيداً.. حين انتبه وجد أنه يضع كوب البيرة بين فخذيه.
ضحك ضحكة عالية، واحتسى البيرة كلها دفعة واحدة، ثم رمى نصف الكعكة في منفضة السجائر. استخرج قداحته من جيبه، ودخّن. سحب بكل قوته نفَساً عميقاً وراح يراقب حلقات الدخان الهاربة منه، تنهّد:
-هه.. إنه مثلك أيها الدخان، بارد مثل البيرة. يدي لم تحرك له ساكناً، لو تدري تلك العجوز أنه مخصي لما شتمتني.
- ثم ضرب على عجزه:
- الحزن كبير، كبير يا.. يا ماذا، أنت مجرد لحم متهرئ يبحث عن جواز سفر، ولست من طوابير الإناث كما لست من طوابير الذكور. (ضربه بقوة)؛ أنتَ بحاجة إلى تعمير. لو حصل لجلال الدين الرومي ما حصل لي، لما قال: كن نفسك.
من خلال تأمله المتواصل بعواطفه وحزنه العميق، فشله وتحويله إلى خنثى عاجزة، يطرح أسئلة تدبر له مخرجاً للوصول إلى لون إيقاع الحياة. اثنتان وخمسون لوحة لم تأت بإيماءة لثوب فاتنة يراها في حلمه، الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق له في ألمانيا، كانت الوسيلة الوحيدة لديه لطرد الوحشة عنه، كما هي الزاوية التي يتذكر فيها علاقته مع شوارع سوريا وطعم الخيار الطازج والطماطم الطازجة والخبز الساخن، ضحكه على قصائد عبد الحق، بعد نثر الخيار والطماطم على طاولة متواضعة وانتقاء أصغرها وتقديمها لعبد الحق.
المحطات البعيدة تقترب، ثم ترجع إلى تجزئة المكان، تثور فيه على نفسها وعلى مَن قاس خطواته بلون الدروب وإغراءات المطارات، إذ تتحول الأقفاص من سجن إلى ثكنة عسكرية ثم إلى ملاجئ لإحالة الجسد إلى التقاعد، والعقل إلى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية ( نخل السماوة يقول طرّتني سمرة ).
من ذات النافذة يفسر لقاموسه المتضاحك عليه معنى كلمة طرّ؛ طرَّ طراً كان طريراً، ذا رواء وجمال، لا هذه لا تعنيك يا وليد. يتركها ويلجأ الى تفسير آخر، فالطرير تعني ذا المنظر والرواء، وفي العراق منذ صغره كان يسمع في الشارع كلمة أطرّك طر، أي أقسمك نصفين، كما سمعها مراراً في التلفزيون:
(( اللي يخالفنا نطرّو طر، هـ..هـ.. مو هإ إي))
بالتأكيد لم يقصد التلفاز أن يزيننا بغرتنا ويسدل شعرنا على الجبين، فالطـّرة هي زينة المرأة في شعرها المصفـّف على جبهتها، لكن كلمة طرّيته نصفين قديمة، الله كم حاكم يا وليد طرّ أجساد شعبه طراً، وقصّه قصاً؟
لتعبر الذكريات المطرورة بنصفيها المملوئين بالدم، سخرية حمقاء لا معنى لها. الشيء الوحيد الذي يضحكه بعض الطرف والنكات الوسخة في رسائل عبد الحق إليه، إذ كم تمنى أن يسمعها منه صوتاً لا مكتوبة.. الغربة ليست شرطاً من شروط الإبعاد الإجباري أو الاختياري، الغربة هي شعورك بنفَس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك.. هذه الغربة العمياء والأكبر في طرّها.
شدّ على يده بأطراف أصابعه، ضغط بقوة كأنه يرسم شيئاً ذا معنى، ضغط أكثر من ذي قبل، استعطف رائحة المكان، صداقته، والتقاءه بعبد الحق في سوريا. استحضر لحظات توديعه في المطار، جرّها جراً إليه، رفّ قلبه إلى عيني صديقه. اكتشف على شفتيه كلمة غريبة، فحّت رائحة حفرة عمياء على ساعده، مرّر أصابعه المرتعشة. هذه المرة استوضح الشكل الذي بين أصابعه، كان كفاً بخمسة أصابع.
وكأعمى يهتدي إلى شيء رآه لأول مرة، فتح عينيه فوجد أصابعه تتلمس الفراغ.
استخرج رسالة قديمة من عبد الحق، قرأ اسمه مكتوباً بالإنجليزية (From Abdulhak). آه لو نتخلص من إرث عبوديتنا، لأصبح لدينا الحق لطرح الأسئلة.
وبقي يحادث نفسه.. كل ما أردته أن أزخرف الأشياء الجميلة وأطرحها على شكل سؤال، أبعِد عنها ما شككت به ومازال يحاصرني شكّه، سألت ما يمكن أن أسأله، وطرحت ما أشك به مستوضحاً.
نلت بعدها مساطر على كفيّ، وتورّمت أصابعي.
البراهين؟ لا، لسنا في حاجة لبراهين، في طابور المدرسة؛ قفوا، اصطفوا، أحفظوا، امتحنوا، تعالوا غداً نظيفين سيزورنا مفتش وزارة التربية.
كل ما أردته من أبي أن يعطيني دينارين لشراء قميص، فقد تعبت أمي من ترقيع قميصي. لم أبادر بسؤاله؛ لماذا؟ وكل ما سمعته:
-( جيب يا كلب، أنت عارف بالحالة شلون بنت كلب).
خجل أبوه من نفسه، بعد أن تطلعت إليه والدته مؤنّبة، التجأ إلى حضنها، مسحت دموعه .
ـ كل ما قصدته أن.. أن
ـ أسكت يا بني، لا تعذبني أكثر.
فأكرمها بسكوته، وأكل تأنيب مدرّس الصف له، فالمدرس رغب أن يقدمه كأشطر الطلبة ويتفاخر به أمام المفتش، لكنه قدّم عليه ابن تاجر الغنم، الذي ارتدى قميصاً نظيفاً لم تظهر عليه آثار الترقيع*
بعيداً عن نافذة الخيال، بعيداً عن عبد الحق، رمى الرسالة أرضاً، أشعل سيجارة، أعد كوب شاي، وراح يتأمل طفولته وألوانه.