"حروف الجبّ" بين موجة الغضب و التشفير السياسي

محمد الشحات محمد




تكشف الأدبيات السياسية الحديثة أنه لم يعد للأوهام و أحاديث الصمت وجودٌ ، و إنما التركيز و الترميز و اليقظة .. ، و لأن الأدبيات السياسية لم تعد ألسنةً في الجدران ، فإنه أصبح على الأديب المبدع أن يكونَ مُلماًّ بمجريات الأمور ، و خصوصاً ذلك الأديب الذي يستخدم الإعلام البديل (النشر عبر الشبكة العنكبوتية) لما يتميز به هذا الإعلام من سرعة انتشار ، وقوة تأثير ، و مشاركة الجميع في تناول ماينشر عبر الشبكة العنكبوتية .. ، و لا يخفى أنّ المبدع الحقيقي هو مَنْ يستطيع التعبير بحنكة عن أحداث الواقع المجتمعي ، والربط بين هذه الأحداث و بين ما كان في الماضي ، و كيفية تحقيق الأحلام المستقبلية ، و لا يكون ذلك إلاّ بنشر أجهزة الاستشعار حول عرش الإبداع لإنتاج عمل أدبي على صفحاتٍ تتسم برصانة الحرف و طواعية المفردة و عُمْق التصوير و إيجاد الحلول غير المألوفة لأهم القضايا و أكثرها لمْساً للشعور الإنساني و الفكر القومي


و تزداد أهميةُ العمل الأدبي بزيادة قدرة المبدع على غرس العلاقات الدلالية و الإيحائية بما يشبع الخبرات ، و يُفغّل كافة المجالات لإرسال أشعّة الأمل للمجتمعات برسم أهدافها نبضاً من الكلمات ،


و بهذه الكلمات يتسنى للعالم تحويل التصوّرات الذهنية إلى أثرٍ واقعيٍّ يُمكنهُ التغلّب على التحديات و حماية الممتلكات من أي اغتصابٍ أو تطبيقٍ غير صحيح في ضوء الحقوق و المواثيق ، و من خلال كشف الجرائم و مرتكبيها ، و مخاطبة الثقافات المختلفة


و من أهمّ ما يُميز المبدعين الحقيقيين قُدْرتهم على إعادة تشكيل وجه الحياة بلغةٍ رصينةٍ و صورٍ خلاّبة و معانٍ سامية ، و عفويةِ إلهامٍ ، و عقلنةِ المشاعر ، وسُرعةِ قراءةِ المستقبل


و في قراءة لمجموعة "حروف الجُبّ" للشاعر المهندس محمود فرحان حمادي يُطالعنا عنوان هذه المجموعة الشعرية بموجةٍ من الغضب و "التشفير" لعدة سياسات متفرّقة ،


فهو إذ يضغط على المجتمع الدّولي للوقوف على أسرار الجُبّ الذي أعلن عنه العنوان ، يُشير إلى أنّ الحروف لا تنال تعريفها إلاّ بإضافتها لهذا الجبّ ، و كأنّ عنوان هذه المجموعة –من خلال مبدعها- يؤكّد أنَ تقاسم تحرير قصائده و اعتقالها و انطلاقة حروفه لم يأتِ من فراغٍ ، و إنما نتجَ هذا التقاسم عن سياسة العصا و الجزرة التي تنتهج الوعود و العسْكرة ، مماّ يستدعي التعمّق في القراءة و ترقّب اضطراد النفس الشعري حتى الخاتمة/ الرسالة المَرْجوّة من هذا الإصدار "حروف الجب"


و تتسم هذه المجموعة الشعرية بالتزامها باللغة العربية الفصحي والعروض الموسيقي ، والتدفق و البلاغة المُلْفتة ، مِمّا ينم عن شاعرية فذة تُشدُّ إليها رحال الذائقة التي ترنو للإبداع الأصيل ، كما تتسم مجموعة "حروف الجُب" بدقّة الوصف ، ورفض الاحتلال بشتّى صوره ، والدعوة للوفاق القومي مع الإقرار بأنّ القصيد يحْيا في صراعٍ مستمرٍ مع الحكمة التي تُصبح جمالاً مختلفاً عندما يترجمها الشعر جهاداً بالفكر و القلم ، وتستدعي "حروف الجب" أمكنة اللقيا مع المحبوبة و الذكريات التي حاول المُحتلّ الغاشم تدميرها بإنزال ستائر الرماد على المسرح الدموي ، و فسفرة الجثث للأجواء ،


و تُعلن أيضاً هذه المجموعة الخروج على قوانين التشتّت الطائفي ، و تدعو إلى إدماج الجميع تحت لواء قصائد الإخوانيات ، و التي يجد فيها الشاعر محمود فرحان حمّادي ضالته ليبثّ مُحبيه مِن إخوة الإبداع ما يلْقاه ، و يسْرد آلامَ وطنه/ العراق ، و ما أصابه إثْر الاحتلال في عام 2003 وحتى الآن رغم إعلان أمريكا –زيفاً- أن قواتها القتالية انسحبت ، و ما بقي منها إلاّ لمساعدة القوات العراقية لاستعادة الأمن!


و حول العنصرية التي يستخدمها الاحتلال رغم شعارات الحريّة التي يتشدّق بها تدور ساقية حروف هذه المجموعة بنكهةٍ خاصة لتروي أفدنةَ التمرّد على الوضْع الراهن في ظلّ غياب الأمن و الوعْي ، و تكشف ألاعيب بعض الدول المجاورة التي ترفض استقرار العراق ، ودوماً تحاول التدخل في شئونه الداخلية بإشاعة الفوضى و الفرقة بين أبناء البلد الواحد ، كما تُشيد هذه المجموعة الشعرية بقوة المقاومة و حقها حتى ينال العراقُ حرّيته و استقلاله ، و في هذا الصدد يذكر الشاعر عدة أماكن و مدن و قرى عُرفتْ ببسالة أهلها في الدفاع عنها ، كما يذكر أيام "الرشيد" و عصور الازدهار ، و تتداخل الذات الشاعرة مع القصيد ذاته عند محمود فرحان حمادي ...


يقول في "مقتولةً يا عين المَها" :-



وأنا والشعرُ سيّان
فإن مات قصيدي
فأنا مَن تدفنونْ
فبماذا أُطرب الأسماعَ منكم
وأُسلّي عطرَ هذا الجمع
والأفكارُ باتت في غيابات السجونْ



و في هذه القصيدة يتخذ من الشعر القصصي و سيلة اتصال بينه و بين مُحبيه ، ويشرحُ أنه كان قد غاب عن المدينة شهراً في سفر ، و عاد ليجدَ الصور المقلوبة و أدخنة الاحتلال تغطي السحابات!


يقول :-


جئتُه أمسِ وقد فارقته شهرًا
لكي أكتبَ شعرًا في ابتسامات العيون
فإذا عينُ المها مقتولةٌ
وإذا الجسرُ حزين




و على مدار مجموعة "حروف الجب" تتنوّع أغراض القصائد و أشكالها التصويرية ، بينما يربط بينها سهْمٌ إبداعيٌّ و احد ، يغزله الخيط الأسلوبي بشاعريةٍ مُتدفقة ،


و مابين الشكل العمودي للقصيدة و التفعيلي تأتي الومضة كمقذوفٍ يُغير مسارات الأحلام الزائفة ، و يُوجِّهُها نحو العدل بعد ارتدائها ثوب الثورة الهادئة و العزف بحروفٍ شامخةٍ رغم الطلل النازف حنيناً إلى الماضي المجيد ، و يرنو شاعرنا إلى مستقبلٍ يكون لحرفه فيه شأنٌ مُستحقٌّ ، و مكانةٌ تليقُ بأصالته ..



في قصيدة "طلل" نقرأُ سهماً له ثلاثة أسنّة مُدببة ، أمّا الأول ، فهو مُوجّهٌ لتعرية جرائم القوات الغازية ، و الثاني لتحريك المياه الراكدة في عروقِ الإخوّةِ العربية و الإسلامية و الإنسانية الدولية ، بينما يكون الثالث إعلاناً لقوة المقاومة و قُدْسيتها


يستهلُّ القصيدةُ بخبرٍ مُقدّمٍ على المبتدأ "واهمٌ" ، و جاء هذا الخبر المُقدم على هيئة اسم فاعل ، أما المبتدأ فهو الجملة التي تبدأ بالاسم الموصول "مَنْ قال ..." ، و ما هذا القول الذي جعل صاحبه في نظر شاعرنا واهماً .. ، إنه النهي عن الكتابة حول الطّلل ..!


و لدى الشاعر براهينه عى وجود هذا الطلل ، و الذي أصرَّ شاعرنا أن يأتي به نكرةً ، و غير مُعرّف رغم أنه عنوان القصيدة/ السهم و جوهر الهدف ، و خاتمته الداعية إلى رسالة التعمير و إعادة البناء



و أول هذه البراهين هو ذبْح الشعر على الطلل الذي خلّفة الاحتلال الغاشم لأرض العراق الحبيب ، و تدميره لكلّ الأبنية عدا روح المقاومة ، و التي لم يستطع زيف الاحتلال النيلَ من حقّها الشرعيّ في التحرير ، و تحقيق الأمن القومي


لقد دمّر عدوان الاحتلال الأبنية ، و حتى الصخور استوتْ قمَمُها بقاعدتها ، و لم يعد هناك مجالٌ لقصيدات الغزل الموصولةِ بالتراث ..!


دمّرتْ أحلامُ الاحتلال في السيطرة - و لو بتصريحاتٍ زائفة أطلق عليها اسم الحداثة - دمّرت كل علاقات التواصل بين الأزمنة (ماضيها وحاضرها ومستقبلها) من ناحية الشكل ، و في ظل هذا الطلل ، و أتلال الرماد و الجثث يأتي التبجّح لِيسمّي هذا الانقطاع/الانفصال جمالاً ..!


أيّ جمالٍ في هذا العرشِ المُدمّرة أركانه ، و تاهتْ حوله عقول السلاطين الدولية؟!


و أي حداثةٍ تلك التي غطتْ بجهلها و حربها الضروس على الحرب التي قامت بين قبيلتي عبسٍ و ذبيانٍ ، واستمرت أربعين سنة بسبب سباق بين فرسين (داحس و الغبراء)؟!


و قدْ استخدم الشاعر هنا لفظة "ألغى" بمعنى غطّـْى غطاءً شديداً للدلالة على أن جهالة هذه الحرب و القائمين عليها أكبر بكثير من حرب الفرسين داحس و الغبراء ..


إن في الحرب على العراق عودةٌ للجهالة ، و تعطيل العقل الإنساني ، و تفريغ لشحنات ازدواجية المعايير ، و قلْب للموازين/ القوانين الموروثة ، و التي كفلتها وثائق حقوق الإنسان الدولية .. يقول شاعرنا :-



وَجَمالٌ لِلْحَداثَهْ
نَوَّرَ الحَرْفَ وَأَلْغى
عَصْرَ ذُبْيانٍ، وَعَبْسٍ
وَقوانيْنَ الورَاثَهْ
وَبَنى عَرْشَ قَصيْدٍ
حَوْلَهُ تاهَتْ سَلاطيْنُ الدّولْ




و يعودُ شاعرنا ليؤكّدَ هذا الخبر المُقدّم في قوله "واهمٌ" لأن هذا الخبر من أهم الأنباء و أجْدرها بالتحليل و إيجاد الحلّ السريع .. ، و إذا كان في أول القصيدة كان المبتدأ المؤخر هو الاسم الموصول "مَنْ" ، فإن شاعرنا عند إعادة نشر الخبر و توكيده يجعل المبتدأ ضميراً مُستتراً تقديره "أنتَ" ، ليفصح عنه بقوله "ياصاحبي" للتقريب و الدعوة للعقلانية في تقييم الأمور ، واتخاذ الحلّ/الموقف المناسب ..


يقول محمود فرحان حمّادي :-


"واهِمٌ يا صاحِبي إنَّ بِلادي
أَصْبَحَتْ في جَبَروْتِ المُعْتَدي
مَحْضَ رَمادِ
مابِها غَيْرُ بَقايا لِطَلَلْ"



و في هذا الجزء يحذف علامات الترقيم ، و يدخل مباشرةً "إن بلادي .." حتى لا تكون هذه العلامات حائلاً بين الشاعر و صاحبه/ المتلقى بشتى أنواعه .. ،


و يؤكد الشاعر للمرة الثالثة أن ماتبقى سوى "بقايا أطلال" ، و هذه البقايا إنما هي مانجحت فيه المقاومة لتمنع المحتلّ الغاصب من استكمال مآربه في القضاء نهائياًّ عن البطولات ، و رجال نُصرةِ الحقِّ ،



و كما جاءت حروف القصيدة/ السهم "طلل" ، فقد أكدت قصيدة "حروف الجب" هذه الرسالة ، و تفاصيل/ براهين أُخرى للطلل الذي خلّفه هذا الاحتلال .. يقول في مطلع "حروف الجب" :-



على جدران أحلام الطغات .... دفنت بمعولي وجهَ الحياةِ



و بالتدقيق بين هذا البيت الذي يستهل به قصيدته العمودية "حروف الجب" و استهلال قصيدته التفعيلية الومضة "طلل" يُمكننا ملاحظة التقديم و التأخير في استهلال القصيدتين ، فهو إذْ قدّم في الأولى الخبر ، فقد قدّم في الثانية شبه الجملة من الجار و المجرور "على جدران .." ، و هكذا ، فهو يبدأ بماهية الخبر ، ثمّ يأتي ، بالتفاصيل ، و لعلّ عمل شاعرنا "محمود فرحان حمّادي" بالصحافة أكسبه هذه الحرفية في شدّ القارئ ، و كذلك نجد إصراره على تعرية وشجب الاحتلال الطاغي ، فهو إذ يعتبر مآرب هذا الاحتلال أحلاماً ، فهو يؤكّد أن مَنْ يتستر عليه واهمٌ لأنه هناك المقاومة و الصمود ، و عدم الاستسلام


و الشاعر إذْ يدعو إلى تحريك المياه في العروق ، هو أيضاً يُعلن عن هذه المقاومة "و دفنتُ بمعولي وجْه الحياةِ" .. ، مِمّأ يؤكد اعتزازه بنفسه و هذا المِعول الذي يدفن به وجه الحياة ، و هذه الحياة إن كانتْ للمحتلّ فسيدفنها ، و إن كانتْ له مقابل التستر على العدوّ ، فسيدفنها أيضاً لأجل إتمام مايؤمن به ، و هو تحقيق العدل و الحرية و البناء في أرض العراق المجيد


و بالتدقيق أيضاً بين كل قصائد المجموعة -وكما هو واضح سلفاً- نجد حرص الشاعر على استمالة الشعور الوطني ، و استدعائه للتفكير ، و استخدامه للبراهين عندما يُدخل العام في الخاص سواء كانتْ القصيدة مديحاً أو رثاءً أو حتى تتميز بالشمولية الترميزية غير الهلامية ، و أرى كذلك أن تخصّصه في الهندسة المدنية قد ساعده على البرهان التخيّلي ، و التشييد للمعاني بألفاظ رصينة ، و تصميم حديثٍ ، و تفكيرٍ يُناسب مساحة الموضوع .. ، كما نلاحظ في هذه المجموعة تكرار عدد من الألفاظ بعينها ، مِماَّ تعدّ قاموساً لغوياًّ لهذه المجموعة الشعرية "حروف الجبّ" و لمبدعها الشاعر العراقي العروبي و المهندس الصحفي محمود فرحان حمّادي



أماّ عن أهم الموضوعات/ المضامين التي تناولتها هذه المجموعة ، فهي تتلخص في الآتي:



(يتبع)