عيد، وعيد.. سعيد! /عدنان كنفانيالكاتب عدنان كنفاني الجمعة, 10 سبتمبر 2010 19:16

تتزاحم الأضواء، تعبر غرفته الزاهية فتفرشها بعطرٍ له نكهة مميزّة، يستغرق الفتى السعيد بطيف حلم يتسرّب من حكايات أمّه، فينظر إلى الأريكة القريبة من سريره، يطمئن على القميص الأحمر الجديد، والحذاء، والبنطال، وربطة العنق الصغيرة الزاهية بلون أخضر سابح، وبطاقة أنيقة مكتوب عليها (عيد سعيد).
صباحٌ لا يشبه صباحات التحضير للذهاب إلى المدرسة، بل هو صباح مضيء، ينتشي على أصوات تصدح من بعيد، تحمل إليه صنوف الفرح:

ـ الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.
ـ ـ
هذاالصباح لا يشبه الصباحات التي تطلع كئيبةعلى أحياء غزّة.!
اللهأكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله
شقّكيس الخيش المسدل على فتحة الخيمة، وأطلّبخفر.
سكونيلفّ المكان، الشارع الترابي يقصف خيبةلها طعم مرّ، وبقايا الأنقاض المركونةعلى أساسات بيوت كانت،تمتصّ الصوت الآتي من بعيد.
ضوءالفجر يتسرب من شقوق الخيمة، يبحثالفتى عن حذائه المقطّع، وقميصه الباليالذي ورثه من صدر أخيه، الصمت هنا، في هذاالركن المجهول، يبعث خاصرة ذاكرة ما زالتتحنّ إلى بقيّة حكاية كانت تلقمّهاله أمّه، فتقطر رقيقة من ثنايا ثوبها المزركش..
شطرتهاقذيفة أغلقت بوابات الأماني.
كانتتقول له: سافَر أبوك إلى الجنّة.
وعندماأغلق بيديه النحيلتينسراب عينيها، أدرك أنها مسافرةهي أيضاً إلى الجنّة.
خرجعلى عجل، عجوز يمدّ إليه عصاه كي يرشدهإلى منبت الصوت، ما أن أمسكبها، حتى تسرّبت إليهكلمات تنضح من صوت معجون بحلم من نوع غريب: (عيد سعيد)!
ـ ـ
ارتدى أجمل الثياب، تأبط ذراع والده، وحملتهما الخطوات إلى بيوت الأرحام، صنوف الحلوى مكوّمة على الطاولات، وطيوب الثياب الجميلة تعطّر الأمكنة، والمكرمات طافحة، وصور الشهداء المركونة في إطارات أنيقة منثورة على الجدران، بريق الأقصى.. وفسحات القدس تقطر منها روائح الفرح، تسلل من بين الجميع إلى الشارع، الرفاق ينتظرون، ودوائر العيد تستقبل أمنياتهم ونقودهم وضحكاتهم..
يعانق الرفاق، وصدى الكلمتين تتفلّتان من بين شفتيه (عيد سعيد).!
ـ ـ
الطريقالوعر يشدّ خطواتهم إلى التراب، لم يكنيسمع صدى لنبضات عصا العجوز، بل أنيناًحزيناً وصامداً يلامس وحشة الأكباد.
أطلاعلى فسحة مكتظّة بملاءات بيضاءمطهّرة، وشواهد قبور مزيّنة بسعف النخيل،وزهور الختمية.
وقفعلى مرتفع، يشدّ بنطاله إلى الأعلى كي لايسقط عن خصره النحيل.
هناك.. في مكان ما، في ركن من أركان المقبرة الواسعة،تنام بقيّة الحكاية..
مدّناظريه إلى البعيد، صعدبهما إلى علياء سابحة بين وضاءة النجوم،كان الصوت هادراً ينقضّ على قامات الصامدين،يردد بخيلاء.. (عيد سعيد)..!