استمعت إليها بتركيز، وحدَّقت بعينيها وهي تحكي كيف تتمنى أن تعود مرة أخرى للحظات كانت تتذوق فيها حلاوة الدعاء لله عز وجل، لأنها لم تعد تفعل، ولم يعد قلبها يبكي خشوعاً وبراءة، ولم تعد تتألم من وخزات جروحها أيضاً، فقدت شهية التمني، وأصبحت أحلامها كلاسيكية لا تمتطي صهوة جواد، لا لذة فيها، ولا يستسيغها مذاق.
لقد ترك ذلك العيار جرحاً عميقاً في قلبها، لكنه ما يلبث أن يبرأ حتى يصاب مرة أخرى بجرح تعرض للنكسات مرات ومرات..
تابعتُ بمرارة تسلسل محطات بوحها، محطة تلو أخرى، فوجدتها وقد أشرفت على الحشرجة والبكاء، فسمحت لنفسي أن أسمع تذمرها وحرصها على إبلاغي أنها غير سعيدة، وأن حياتها أصبحت كومة من روتين يومي.
كانت بعينيها الجميلتين واللتين أصبحتا شاحبتين تعبِّران عن حزن كبير، وعن فقد بداخلها، إنها ما زالت تحلم بمصافحته رغم أنها الآن في حضن آخر! كما أنها ما زالت تنتظر بلهفة.. رسائله التي كانت تحمل أخباره.
انتابني اعتقاد أنه ما زال حياً بداخلها رغم مرور السنوات، وبدهشة استوقفني هذا الاعتقاد.. هل أسألها؟، لقد قاومت رغبتي لأن السؤال لن يزيدها إلا استحضاراً وعبوراً لذكريات مكلَّله بدماء الكدر، فأسرعت قائلة: أعيدي البرمجة، ربما السعادة كانت تقبع في الرصيف الآخر، فغالباً لا نأبه له.
بعد برهة وجدتها وقد شدَّتني من يدي لنعبر ضفة الرصيف الآخر.. ضحكنا ملأ قلبينا، ونظرنا في عيون بعضنا البعض، وهمسنا معاً: يا ليت نعودُ لأيامٍ شعرنا فيها بطعم السعادة، وبطعم الانتظار والأشواق الدفينة.
صرختُ بوجهها مازحةً: أنتِ الخائنة!، وأنتِ من تركتني وحيدة دونكِ.. أكان عليك أن تتزوجي!، -وقبل أن أترك لها مجالاً كي تعبر لي أنه كان إحساساً لحظياً قد تندم على البوح به فيما بعد فتكرهني ولو للحظة-، أدركتُ مبتسمة: لكن ابنك يستحق أن تبيعي أحلامك وتهجريها من أجله، ألا يستحق بنظرك؟، قالت: أنتِ على صواب، هو حياتي، ويستحق الغالي والنفيس، ويستحق روحي، وكأنها بهذا وجدت في جوابي لها عزاءً وسكينةً وسلاماً مع نفسها.
أجبتها: لا داعي أن تهبيه روحكِ، هو فقط ينتظر منك أن تقبلي بلحظات حياتك كما هي مقاسها الآن، ضمّيه إليكِ واستنشقي معه خالص وجودكِ.
ولرد دين بعضنا البعض.. تبادلنا الأدوار كما تعوَّدنا، فسألتني: وأنت ما أخبارك!، ولماذا أضحيت بعيدة عني؟!، قلت وكأني أهرب من أسئلتها: أنتِ لا تسألين ولا تكترثين لأخباري، فقالت: احكي لي ما خطبكِ، أجبتها ومرارة بداخلي: أنا لست أنثى!.
ابتسمت وهي تحذرني بألا أبدأ معها فلسفتي، وكنت قد تعوَّدت ملاحظتها تلك، فكل ما لا تستسيغه صديقتي أو تجده غير مألوف.. كانت تنعته بفلسفة أو بحب اختلاف، لكنني كنت صادقة معها وصارحتها بما أحسّه، ربما لم يصلها على النحو الذي أريد، وربما استهجنت رأيي في نفسي، فأعدت على مسامعها: نعم أنا لست أنثى، ولو كنت كذلك، لأضحيت سعيدة.
أجابت وهي تحاول رفع معنوياتي: يفوح شذى الياسمين ولو دسناه ألف مرة، وأنتِ ياسمين غير قابل للذبول، عهدتك أقوى.. ألستِ تقولين دوماً: أنه إذا لم يجد الإنسان شيئاً في الحياة يموت من أجله، فإنه أغلب الظن لن يجد شيئاً يعيش من أجله.
قلت لها: رويدك ما عادت الشعارات تستهويني، وكنت أتمنى أن أنهي تلك الصراعات الكلامية التي لا تنفعني، فقط تجبرني على التفكير والتحديق بمرآة داخلي، وما كنت أودُّ ذلك في تلك اللحظات، لكنها وجدت الفرصة كي تشملني بكل ما اختزنته ذاكرتها، فأردفت تقول: ليس العار في أن نسقط، ولكن العار أن لا نستطيع النهوض.
أجبتها وقد ارتفعت درجة بلادتي.. خصوصاً وأنها تقمَّصت شخصيتي منذ قليل، أحسست أنني تعثَّرت بالحجر مرتين، وهذا مخجل.. لست نادمة على ما فعلت بحياتي، لكنني نادمة فقط!، على الذي لم أفعله.. حتماً، سأجرِّب شيئاً جديداً، لأنني أريد تطوير نفسي ومهاراتي، وسأجرِّب أمراً لم أتعوده، لن أقول أنني لست محظوظة، ولن أعلِّق أخطائي على شماعة الحظ.
رجعتُ بعدها إلى البيت، وكنت أعلم بيني وبين نفسي أني أنهيت الحوار بدبلوماسية، لأنني غير قادرة على اعتناق ذاتي بكل صدق، وكنت أمهِّد فقط! لبرنامج أنا فيه البطلة.. بطلة مسلسل التفاؤل والأمل بالغد المشرق الجميل والعودة من جديد، والذي رسمته لصديقتي.
نعم، كنت أمثِّل قناعاً ليس يلبسني، بل أضحيت للحظات مُهرجة تردِّد حِكماً ومواعظَ لا تصلح إلا لتهدئة النفس، هو مسكِّن يُبلْسم الروح الثائرة المتمرِّدة، لكن تمرّداتي كانت أضخم وأعمق، ومسالكها كانت وعرة، ومع ذلك اعتنقت عبارة صديقتي، وقرَّرت أن أظل ياسميناً غير قابل للذبول..
ندى يزوغ
المغرب