توطئة : اختصت سورة البقرة , أطول سور القرآن بالحديث عن الصوم على نحو من الرصانة التناغم والروعة بما ينبّه العقل ويوقظ القلب ليطل من نافذة العين على شرف المسؤولية وأمانة التكليف التي أسندها الله إلينا تكريماً لنا وعناية ورعاية وحبًاً .
مع آيات الصوم : امضي بك أخي المؤمن إلى آيات الصوم نطّوّف في رحابها ننظر , نتأمل , نفكّر , لنفقه عن الله مراده من كلامه . تلك غايتنا أولاً وآخراً , ولنبدأ بقوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتقون.) هذا خطاب الله عز وجل لعباده المؤمنين , جاء بأحب الأوصاف إليه سبحانه وتعالى , وصف الإيمان , ومن وصفه الله تعالى بهذا الوصف فهو الرّابح بحق إذا التزم ما يفرض عليه ويؤمر به من أوامر لأنه بذلك يقيم الشواهد على مصداقية الوصف الّذي خوطب به . هذا ولا يخفى على الفطن أن الإيمان معرفة قلبية وارتقاء فكري معرفي , واستقامة سلوك , وخلق حسن يعامل به الناس , وهنا يسأل المخاطب نفسه , ماذا يريد مني ربي ؟ وما أسهل الجواب على هذا السؤال ! حتى من أبسط الناس , مراد ربي من هذا الخطاب أن أصوم كما صام أولئك الذين من قبلي من الأمم , ويدرك هنا أنّ الصيام عبادة قديمة متجذرة في الأمم كافّة , ويدرك أيضاً أن مراد الله المساواة بين العباد في أصل التكليف وعدالته تنتظم خلقه كلهم . ويلبي النص القرآني تطلّعات المؤمن لمعرفة الهدف من مراد الله عزّ وجلّ , وإدراك الغاية من التكليف , إنّها التقوى, ويتساءل ! ما هي التقوى ؟ الذي أراه أن التقوى هي نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن فيغوص هذا النور إلى أعماق المعاصي والمحرّمات ويكشف للمؤمن عن مآلاتها وأضرارها الدينية والدنيوية والجسدية ويتأمل بعد ذلك فيما أعد الله من العقاب للعصاة من عذاب ونكال وهوان في جهنم فينأى بنفسه عنها ويحميها من السقوط في أوديتها , فإن استطاع ذلك منتصراً على رعونات نفسه فقد حصّل الغاية من التكليف وهو هنا الصوم . وقيل في بيان معنى التقوى أقوال أختار منها : 1- أن يراك الله حيث أمرك وأن يفقدك حيث نهاك . 2- الالتزام بتنفيذ أوامر الله وترك ما نهى عنه . 3- ما عرّفها به أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي الله عنه : التقوى : الخوف من الجليل , والعمل بالتنزيل , والرضا بالقليل , والاستعداد ليوم الرحيل , وهذا بيان لمستلزماتها وهي : خوف وعمل ورضا وذكر للموت واستعداد له . 4- سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب أبي بن كعب رضي الله عنهما , ما التقوى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين , أما سرت في طريق فيه شوك ؟ قال : بلى . قال : أما كنت تتقي وخز الشوك ؟ قال :بلى . قال : فتلك التقوى . وبقي أن نعلم أن المؤمن إذا عجز عن بلوغ الغاية من التكليف فقد رجع خالي الوفاض . فاحذر أن تكون واحداً من هؤلاء – هداك الله - ولا تأل جهداً عن طلب الهدف , وستصل إليه بعون الله تعالى . ونثني يقوله تعالى : ( أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوّع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم ‘ن كنتم تعلمون . ) هذا التعبير يضفي على القلب لوناً من الراحة حيث يدرك المتأمل رحمة الله به فلا يكلّفه إلاّ بما يطيق , فعندما يكون التكليف على قدر الطاقة,فذلك يسهّل التزام الأمر وتنفيذه , أياماً معدودات , هذا فيه إشارة واضحة إلى قلتها فهي ليست كثيرة , وهنا يشعر المؤمن بخفّة التكليف ويلتزم به التزاماً مقروناً بحب الله الذي يغمره بعنايته ورعايته . فما هي تلكم الأيام المعدودات ؟ قولاً واحداً هي : أيام شهر رمضان , تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً , ونلمح في النص الكريم سمة راقية من سمات هذا الدّين بل من ميزة عظيمة من ميّزات الشريعة الإسلامية , ألا وهي التيسير ورفع الحرج ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) , ( إنّ مع العسر يسراً ) ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( لن يغلب عسر يسرين ) ونقل عنه صلوات الله عليه وسلامه : ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً , فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه . ومن القواعد الفقهية المبنية على ما سلف : المشقّة تجلب التيسير . وبما أنّ عبادة الصوم لا تخلو من مشقة لا سيّما في أيامنا هذه حيث تطول فترة الصيام فتزيد على خمسة عشر ساعة في اليوم مما يستدعي التيسير , وجاء النص يفتح باب التيسير أمام كل من يحتاج إليه من شرائح الأمة المسلمة عندما تتوفّر أسبابه , والنص هنا يتناول ثلاث فئات من الأمة , فيرخص الله لهم بالإفطار في رمضان , مراعاة لظروفهم , وهم :
1- المريض : قبل الحديث عن حكم المريض فيما يتعلّق بالرخصة التي تفضّل الله بها عليه , ينبغي أن نعرف ما هو المرض ؟ هو خروج البدن عن حدّ الاعتدال بسبب خلل ما طرأ على ناحية ما في الجسم . والمرض المبيح للفطر ينقسم إلى قسمين :
أ – مرض قابل للشفاء بإذن الله : وهذا المرض يرخص فيه للمريض بالإفطار , لكن يجب عليه أن يكون إفطاره سريّاً بعيداً عن الآخرين مراعاة لمشاعرهم واحتراماً للفريضة , وعيه أن يقضي الأيام الّتي أفطرها بعد أن يمنّ الله عليه بالشفاء .
ب- مرض غير قابل للشفاء في حدود علم البشر طبقاً للتطوّر في عالم الطبّ , فهذا المريض يفطر ولا قضاء عليه , بل عليه أن يخرج كفّارة إفطاره إطعام مسكين عن كل يوم , ولاشيء عليه غير ذلك .
2- المسافر : السفر قطعة من العذاب , هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وصف السفر , يرخص للمسافر بالإفطار في كل زمان ومكان شريطة أن يكون السفر طويلاً يبلغ مسافة قصر الصلاة ويزيد عليها , لأن السفر مظنّة المشقة , وهي جالبة للتيسير, ولا عبرة للتطوّر الذي طرأ على وسائل النقل حيث كانت فيما مضى تقتصر على الدّوابّ والعربات , والحضارة اليوم أفرزت وسائل سفر مريحة للغاية , السيارة والقطار والطائرة وكلها ذات أجواء لطيفة من ناحية التكييف صيفاً وشتاء , حرارة وبرودة , وقد أصبح من السهل قطع المسافات الطويلة أمراً سهلاً وفي زمن قصير . أقول : كل هذا لا يجوز أن يتخذ سبيلاً لإلغاء الرخصة وإلزام المسافر بالصوم , لماذا ؟ لأنّ المسافر متنوّع أشدّ التنوّع , فقد يكون شاباً صحيح البدن ذا حيوية ونشاط , أو يكون ذا عاهة أو امرأة حاملاً , أو عجوزاً مسنّاً ..., وقد يكون المناخ حارّاً أو بارداً , والطريق ربما كان وعراً أو في الجبال , لهذا تختلف المشقة التي تستدعي تطبيق الرخصة هنا من شخص لآخر . وعليه فهي قائمة إلى يوم القيامة . ولا يجوز الإفتاء بوجوب صوم المسافر كقاعدة شاملة . وإنما المسافر أمير نفسه أن شاء صام وأن شاء أفطر وعليه القضاء بعد انتهاء سفره , ويجب التذكير أن المسافر يجب أن يشرع بالسفر قبل بزوغ الفجر أي في الليل , وأن يبدأ السفر بالفعل فيركب السيارة وينطلق ويجاوز عمران بلده فإذا طلع الفجر عليه يكون في سفر حقيقي , وهو من أهل الرخصة فيفطر .
3- الشيخ الفاني : رجلاً كان أو امرأة ,كأني بهذين قد أحنت ظهريهما السنون , وذهب عهد القوة والنشاط عنهما إلى غير عودة , ضعف السمع والبصر , وبدأ الوهن يتسرّب إلى سائر أجهزة البدن , وارتعشت منهما الأعضاء , مع هذه الحال لا طاقة لهما على الصوم أو ربما كان ممكناً لكن بمشقة لا تحتمل إلاّ نادراً , لذلك رحمة بهما أسقط الله عنهما فريضة الصوم على أن يخرج كل منهما الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم صاعاً من غالب قوت أهل البلد وهو القمح غالباً أي ما يعادل 2,5كيلو غرام تقريباً , أو قيمة ذلك نقداً . ولا قضاء على أهل هذا الصنف , ومن زاد في الفدية فقد فعل خيراً وله الثواب على ذلك . ولا ننس أن الصوم مع انتفاء المشقة ,أفضل لكن ليس واجباً, لقيام الرخصة . ذلك يتبع درجة العلم والمعرفة بعظيم فضل الله على عباده , فذا وذاك من فضله وإنعامه سبحانه وتعالى . وجميل الوقع ذلك الإمهال للقضاء في قوله تعالى : ( فعدّة من أيام أخر) حيث يعطي الفرصة المعقولة زمنياً لكل من في ذمته قضاء صوم لأي من الأسباب السابقة ليختار الزمن المناسب لحالته ويقضي ما عليه من أيام رمضان . ومع قوله تعالى نمضي لنعرف المزيد من فضائل الشهر المبارك , : ( شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون . ) تومئ الآية الكريمة كما يدرك المتأمل فيها إلى المعين الثرّ الّذي يستمد منه شهر رمضان قدسيته , وهو نزول القرآن الكريم فيه من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا حيث تلقاه ملك الوحي جبريل عليه السلام في ليلة القدر المباركة . ليتنزّل بعد ذلك على قلب الهادي البشير سيدنا محمد منجماً خلال سنيّ الدعوة الإسلامية والتي استغرقت ثلاثة وعشرين عاماً . نزل القرآن يحمل الهداية لبني البشر كلهم . هداية إلى الحق في العقيدة والعبادة والتعامل وكل شؤون الحياة الإنسانية , وهذه هداية عامة ينطوي تحت رواقها الجميع طبق ما تقضي به موازين العدل الربّاني , وثمة لون آخر من الهداية يشير إليه بوضوح النص الكريم , في تضاعيف هذه العبارة ( وبيّنات من الهدى والفرقان ) أيّ دلائل وشواهد ينتبه إليها أولوا العقول الراجحة والتفكير السوي تعمق إيمانهم بالله وتزيده رسوخاً وثباتاً ( ويزيد الله الّذين اهتدوا هدى ) كما نلمح إشارة أخرى لطيفة وهي أن الله يقذف في قلوب عباده المؤمنين المهتدين نوراً يميزون به بين المشتبهات من الأمور ويدركون وجه الحق فيها وهو ما يفتقر إلية الكثير من المؤمنين . شهود الشهر مراد به أن يرى المسلم هلال رمضان أو يبلغه من ثقة خبر رؤيته وهو مقيم في بلده , صحيح البدن لا مرض فيه ولا علّة تحول بينه وبين أداء فريضة الصوم . ومرّة أخرى يفتح الحق سبحانه وتعالى باب الرخصة لأصحاب الأعذار من المرضى والمسافرين مؤكداً عليها وقد أعطاهم فسحة من الزمن للقضاء عند وجوبه عليهم , وبيّن سرّ ذلك ألا وهو حبّه تبارك وتعالى لليسر وإرادته له ورفضه العسر وإن رضيه العبد لنفسه في بعض الظروف والأحوال التي تحفّ به . والمطلوب الذي لابد منه هو إكمال عدّة الشهر من قبل أولئك الّذين أفطروا من أصحاب الأعذار , تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً , فإذا انسلخ الشهر وتمت عبادة الصوم , فثمّة واجب آخر هو , تعظيم الله عزّ وجلّ وذلك بانطلاق الحناجر المؤمنة بالتكبير يوم العيد , الله أكبر , الله أكبر ولله الحمد , الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً وتعالى الله جبّاراً قديراً وصلّ اللهم على سيّدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً , ربّ اغفر لي ولوالديّ ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً . هذا الهتاف الخالد الّذي يستفيق الكون عليه فجر العيد يملأ القلوب بمهابة الله وعظمته ويطير صداه في أرجاء الدنيا ليعلم القاصي والدّاني أن هذا الدّين حق لا مرية فيه . وهذا النشيد الربّاني العذب هو ما يعبّر به المؤمنون الّذين لتوّهم خرجوا من عبادة الصوم وأفطروا طاعة لمولاهم , عن شكرهم على نعمة الهداية للدين الحق وذلك تكريم وأي تكريم ؟! ومع قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون . ) نمضي لاغتراف المزيد من العلم والمعرفة التي لا غنى لنا عنها , هذا خطاب جديد موجه على نحو مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم , جاء عقب سؤال تلقّاه من أعرابي , أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه ؟ فتضمن الخطاب الإلهي جواب هذا السؤال . لكل سائل بعده أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها أيّاً كان الموجه إليه مثل هذا السؤال , وكلمة ( عبادي ) لها وقع جدّ عجيب , من بين حروفها تلمح أسمى لمحات التكريم والعناية والرعاية والعطف والحنان , ناهيك عن هذا التطامن الراقي والّذي هو خلق عظيم من أخلاق القرآن قلّما يتنبّه له , أقول : هذا الخلق ينبغي أن يكون له وجود واضح في أسر المسلمين وبيوتهم , فما أجمل أن يتطامن الآباء لأنبائهم وبناتهم والزوج لزوجته والأم لأبنائها وبناتها , ومثل ذلك في المدارس المؤسسات والدوائر والمجالس , وفي ميادين التعاملات في خضم الحياة الاجتماعية . وتلحظ وأنت تتأمل ما توحي به ياء المتكلّم في كلمة ( عني ) من روعة العظمة والجلال الربّاني مما يجعلك تعيش أمتع الأوقات حاضر القلب والفكر في غمرة التقديس والتمجيد لخالقك ومولاك . ( فإني قريب ) ما هذا القرب ؟ ربي قريب مني . كيف أستوعب فكرة القرب هذه ؟ أقول : هذا منزلق خطير, ينبغي أن أكون منه على حذر , الّذي نعتقده وندين القرب المعنوي الّذي تضافرت الأدلة على إثباته , كقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . ) ربك منك قريب برحمته ورعايته ولطفه , بل هو معك , ناظر إليك على أي حال كنت , ( وهو معكم أينما كنتم ) ومن كان معك هو منك قريب . ونلمح مدى هذا القرب في تضاعيف خطابه سبحانه للنبيين الكريمين , موسى وهارون صلى الله على سيدنا محمد وعليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين في قوله تعالى : ( لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) وأضرب مثلين توضيحيين لذلكم القرب أستوحيهما من الوقع المعاش :
المثال الأول : طفلك الصغير يسير إلى جانبك وفجأة سقط أرضاً , أنت منه قريب , مددت يدك إليه وأقمته وأنت تقدر أسوأ النتائج , وما إن وقع نظرك عليه حتى فوجئت أنه سليم لم يناله أي أذى , ترى من دفع عنه الأذى الّذي كنت تتوقع . لاريب أنه الله تعالى بقربه منه .
المثال الثاني : أنت تركب سيارتك وفجأة حصل لك حادث سير واجتمع الناس وأخرجوك من السيارة , وقد أعترتك جروح بسيطة , علماً أن الناس قد ظنوا أنك قد أصبحت في عداد الموتى . هنؤوك بالسلامة وأنت لا تكاد تصدق أنك ما زلت حيّاً . من الذي حفظك ورعاك ؟ الله عزّ وجلّ بقربه منك .
ونرفض رفضاً قاطعاً فكرة القرب المادي التي انزلق فيها أصحاب الشطحات من الصوفية والمجسمة وهي ليست من ديننا في شيء , فالله عزّ وجلّ يعرّفنا بذاته العلية قائلاً : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . ويعد الحق تبارك وتعالى عباده الّذين يرفعون أكفهم بالدعاء أن دعوتهم مجابة , وهذا لون لطيف من ألوان إحسانه سبحانه وتعالى . لكنّ ذلك مشروط باستجابتك لله بالتزام ما أمر به وترك ما نهى عنه على قاعدة التوحيد الخالص والإيمان الراسخ , فذلك هو الطريق الموصل إلى الرشد وهو كمال العقل وحسن التصرّف . على أن هناك طائفة من الآداب للدعاء ذكرها الفقهاء في كتبهم لدى الحديث عن الدّعاء أختم بها الحديث عن إشراقات هذه الآية الكريمة قبل الانتقال للحديث عن الآية الأخيرة من آيات الصوم . وهذه آداب الدعاء بين يديك :
1- الطهارة الجسدية والقلبية . 2- استقبال القبلة . 3- رفع اليدين . 4- حضور القلب . 5- تحري الحلال في طعامك وشرابك ولباسك ومسكنك . 6- اليقين بالإجابة . 7- الإلحاح بادعاء . 8- الدعاء بالمأثور من دعاء الأنبياء والصحابة والصالحين . 9- تخيّر الأوقات الشريفة للدعاء , عقب الصلوات المكتوبة , والثلث الأخير من الليل , وليلة الجمعة ويوم الجمعة حيث ساعة الإجابة , وأيام شهر رمضان ولياليه , ليلة القدر . التوبة والاستغفار قبله من جميع الذنوب . ومع الآية الأخيرة من آيات الصوم نتوقف للتأمل والتفكّر لنعرف ما لم نعرفه من قبل : ( أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ علم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا الصّيام إلى الليل ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبيّن الله آياته للناس لعلّهم يتقون . ) ليس ثمّة مانع من اللقاء الجنسي بين الزوجين في ليالي الصيام , حيث أحلّ الله سبحانه وتعالى ذلك , ولا يخفى على اللبيب معنى الرّفث وهو الجماع . وترى مدى الدقّة في التعبير ( نسائكم ) مراد به زوجاتكم , ثم يسمو التعبير القرآني ليبلغ القمة في إشاعة الراحة النفسية والجسدية من خلال هذا التشبيه المعبّر عن التكامل بين الزوجين ومدى حاجة كل منهما لصاحبه , الزوج للزوجة كاللباس وكذلك الزوجة للزوج , ستر وعفة , فلا غنى لأحدهما عن الآخر. لقد علم الله عزّ وجلّ ما حصل من وقائع في بيوت بعض الصحابة كسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره فتجاوز عنهم وشملهم بعفوه , علماً أن هذا سرّ مكنون لم يعرفه أحد من الناس وما كان يحصل إنما كان بسائق الضعف لا التحدّي والاجتراء , فخفف الله عن عباده وأباح لهم اللقاء الزوجي في ليالي رمضان بعد أن كان محظوراً في البدايات الأولى لتشريع الأحكام . بمجرًد نزول الآية فتح الباب , من أراد أن يأتي زوجته فله ذلك , افعلوا طلباً لما كتبه الله لكم من الولد , ولا تثريب عليكم . على أن النص الكريم ينقلنا إلى لون آخر من ألوان التيسير والتوسعة على الأمة , وهو امتداد وقت تناول الطعام والشراب إلى بزوغ الفجر الصادق , وقد فرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ما يفرحوا بمثله , حيث نسخ الحكم الأشد بالأخف , فقد كان أحدهم إذا نام ثم استيقظ أمتنع عليه الطعام والشراب إلى اليوم التالي . وحدث أن أحد الصحابة الكرام كنا يعمل في حائط له وجاء بيته فنهضت زوجته تعدّ له الطعام لكن جاءت فوجدته قد نام , وشق عليه ذلك في اليوم التالي , فنزلت الآية الكريمة بالتخفيف . والمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود تميز النهار عن الليل بظهور الفجر الصادق الّذي تبنى عليه الأحكام , حيث يبدأ وقت الصوم الممتد إلى الليل والّذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيته فقال : ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم . ) أي ولو لم يتناول طعاماً أو شراباً لأن الليل ليس محلاً للصوم باتفاق الأمة . وثمة حكم جديد يشرعه الحق تبارك وتعالى , يحرم على كل من اعتكف في المسجد أن يأتي زوجته طيلة أيام اعتكافه , لأن الاعتكاف اعتزال النساء خاصة , حدود الله خطوط حمراء فلا تتجاوزوها لأن تجاوزها ظلم للنفس وأي ظلم يعرضها للعقاب والنكال . والله عزّ وجلّ يوضح أحكام دينه ومعالمه وشواهده لعباده فعليهم ألاّ يقربوها بأي لون من ألوان التجاوز والاجتراء فهذا طريقهم لنيل شرف التقوى .




هذه نظرات هادئة في آيات الصوم آمل أن أكون قد اقتربت فيها من أسوار الحق , وأسأل الله تعالى أن ينفع بها قارئها وناشرها , ومبلغها وكل أبناء أمتي الّذين أحرص على سلامة دينهم كحرصي على سلامة ديني . وما أكتبه إنما هو لله وخدمة لدينه وقياماً بواجب الدعوة والتبليغ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ