رحلة مع القائد نور الدين زنكي ( 1 )
د. علي محمد الصلابي
باحث ليبي في التاريخ والحضارة الإسلامية
1- نشأته:
اسمه ونسبه وأسرته وتوليه الحكم: هو نور الدين محمود زنكي، صاحب الشام، الملك العادل، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبو سعيد – عماد الدين – زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي السلطاني الملكشاهي، مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وهم ينتسبون إلى قبيلة ساب يو التركية، ولا تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن نشأة نور الدين وشبابه، ولكنها جميعاً تؤكد أنه تربى في طفولته تحت رعاية وإشراف والده، وأن والده كان يقدمه على إخوانه، ويرى فيه مخايل النجابة، ولما جاوز الصبا لزم والده حتى مقتله 541ﻫ/1047م وكانت حياة عماد الدين في فترة حكمه الموصل من 521ﻫ -541 ﻫ مدرسة عليا شاملة لجميع أنواع المعارف الإنسانية في مجالات العلوم السياسية والإدارية والعسكرية، بالإضافة إلى العلوم الشرعية الدينية، وقد جمعت مدرسة الحياة الكبرى التي عاش فيها نور الدين بين الأسلوب النظري والتطبيقي وقد تزوج نور الدين عام 541ﻫ الزواج الذي لم تكن من ورائه جارية ولا سُرّية من عصمت الدين خاتون ابنة الأتابك معين الدين حاكم دمشق، بعد أن ترددت المراسلات بين الرجلين، واستقرت الحال بينهما على أجمل صفة، وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما، وكتب كتاب العقد في دمشق، بمحضر من رسل نور الدين في الثالث والعشرين من شوال، وما أن تم إعداد الجهاز حتى قفل الوفد عائداً بصحبة ابنة معين الدين، وخلف نور الدين من زوجته هذه ابنة واحدة، وولدين هما الصالح إسماعيل الذي تولى الحكم من بعده، وتوفي شاباً لم يبلغ العشرين من العمر، من جراء مرض ألمّ به عام 577ﻫ وأحمد الذي ولد بحمص عام 547ﻫ ثم توفي في دمشق طفلاً، وسرعان ما امتدت تقوى الرجل إلى زوجته وابنه الأكبر، فكانت زوجته تكثر القيام في الليل، ونامت ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوّت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب الطبول في القلعة وقت السحر لتوقظ النائمين حينذاك للقيام، ومنح الضاربين أجراً جزيلاً. وصفها المؤرخون بأنها كانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن خدمة متمسكة من الدين بالعروة الوثقى، وكانت لها أوقاف وصدقات كثيرة وبر عظيم، وقد ذكر ابن كثير في أحداث عام 563ﻫ: وفي شوال وصلت امرأة الملك نور الدين محمود زنكي إلى بغداد تريد أن تحجَّ من هناك، وهي السَّتُّ عصمت الدين خاتون بنت معين الدين أنُر، فتلقاها الجيش ومعهم صندل الخادم، وحُملت لها الإقامات وأُكرمت غاية الإكرام، وعرف عن الصالح إسماعيل تقواه العميقة والتزامه الأخلاقي المسؤول حتى رفض الأخذ برأي الأطباء في شرب شيء من الخمر عندما ألحّت عليه علة القولنج التي أودت بحياته. وقال: لا. حتى أسأل الفقهاء، فلما أفتوه بالجواز لم يقبل وسأل كبيرهم: إن الله تعالى قرّب أجلي، أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا فأجابه: فو الله لا لقيت الله وقد فعلت ما حرّم علي.
2- انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي:
عندما قُتل عماد الدين زنكي سنة 541 ﻫ كان ابنه الأكبر سيف الدين غازي مقيماً بشهرزور وهي إقطاعه من قبيل أبيه، بينما كان نور الدين محمود وهو الابن الثاني لعماد الدين مع أبيه عند قلعة جعبر، وبعد أن شهد مصرع أبيه أخذ خاتمه من يده وسار ببعض العساكر إلى حلب، فملكها هي وتوابعها في ربيع الآخر سنة 541ﻫ/1146م، وكان عمره ثلاثين سنة كما كان مع زنكي أيضاً على قلعة جعبر الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود السلجوقي، وكان زنكي يظهر أنه يحكم البلاد باسمه منُذ سنة 521ﻫ/1127م إذ اصطحبه معه إلى الموصل بأمر من السلطان محمود، وقد ذكر المؤرخون أن الملك ألب أرسلان حاول أن يحل محل زنكي في ملك البلاد وأن يبعد أولاده عنها، فجمع العساكر وأعّد العدة للتوجه إلى الموصل بقصد الاستيلاء عليها، ولكن الوزير جمال الدين الأصفهاني، قام بدور كبير في الحفاظ على الدولة الزنكية وإبقائها في أيدي أولاد صاحبه وولي نعمته عماد الدين زنكي، فما أن شعر بقصد الملك ألب أرسلان حتى بادر بالاتصال بالأمير صلاح الدين محمد الياغسياني، حاجب عماد الدين، متناسياً ما كان بينهما من خلاف، فاتفقا على حفظ الدولة لأولاد زنكي وإبعاد الملك ألب أرسلان السلجوقي عنها؛ فقد أرسل الوزير جمال الدين إلى صلاح الدين الياغسياني يقول له: إن المصلحة أن نترك ما كان بيننا وراء ظهورنا، ونسلك طريقاً يبقى فيه الملك في أولاد صاحبنا، ونهر بيته جزاء لإحسانه إلينا، فإن الملك (ألب أرسلان) قد طمع في البلاد واجتمعت عليه العساكر، ولئن لم نتلاف هذا الأمر في أوله، ونتداركه في بدايته ليتّسعنّ الخرْق ولا يمكن رقعه، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وكان أول عمل قام به جمال الدين، وصلاح الدين أن أرسلا رسولاً على وجه السرعة إلى زين الدين علي كُجَك نائب زنكي في الموصل يخبراه بما حصل لزنكي، فسارع سيف الدين غازي للحضور من شهرزور إلى الموصل لتسلم الحكم فيها وتسلمها قبل أن يتمكن ألب أرسلان السلجوقي من الوصول إليها، أما الملك ألب أرسلان السلجوقي فقد تكفل الوزير جمال الدين الأصفهاني بإلهائه ومخادعته ريثما تستتب الأمور لسيف الدين غازي في الموصل، وظلّ يتنقل من مكان إلى آخر بالجزيرة حتى تفرق معظم أصحابه عنه، ثم اتجه إلى الموصل فُقبض عليه وأودع السجن ولم يأت له ذكر بعد هذا التاريخ. وهكذا انقسمت الدولة الزنكية بعد مقتل مؤسسها عماد الدين بين ولديه سيف الدين غازي الذي حكم الموصل والجزيرة ونور الدين محمود الذي حكم مدينة حلب وما جاورها من مدن الشام، أما أخوهما نصرة الدين أمير أميران، فقد حكم حرّان تابعاً لأخيه نور الدين محمود، في حين كان الأخ الرابع قطب الدين مودود لا يزال في رعاية أخيه سيف الدين غازي بالموصل. وكان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين وأدَّى الوضع الجغرافي الشرقي إلى أن: - يرث غازي الأول المشاكل الداخلية، مع كل من الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في العراق. أ- يحمي حدود الإمارة من غارات سلاجقة فارس. ب- يحمي ثغور الإمارة الشمالية من تعديات سلاجقة الروم والداشمنديين والبيزنطيين في آسيا الصغرى. أما في القسم الغربي، فقد ورث نور الدين محمود المشكلتين الكبيرتين المتمثلتين بأتابكية دمشق والإمارات الصليبية المنتشرة في مختلف بلاد الشام.
3- ترتيب أوضاع البيت الزنكي:
كان من الطبيعي أن تنشأ بين البيتين الزنكيين في كل من الموصل وحلب علاقات وثيقة، بفعل الروابط الأسرية من جهة، واشتراك آل زنكي بعامة بهدف واحد، وهو الجهاد ضد الصليبيين في بلاد الشام، وكانت حلب تشكل بالنسبة للموصل خط الدفاع الأول وصَّمام الأمان ضد أي خطر تتعرض له، فنشأت نتيجة لذلك علاقات جيدة بين سيف الدين غازي الأول، صاحب الموصل، وأخيه نور الدين محمود، صاحب حلب، ثم بين الأمراء الذين توالوا على حكم الموصل بعد غازي الأول، إلاّ أن هذه العلاقات الودية القائمة على التعاون والدفاع المشترك، شهدت في بعض الأوقات فتوراً عاماً، كان لا يلبث أن يتلاشى لتعود المحبة والألفة، فبعد استقراره في الموصل والجزيرة وبعض مناطق بلاد الشام كحمص والرحبة والرقة، كان على سيف الدين غازي الأول أن ينسّق مع أخيه نور الدين محمود في حلب، ويتعاون معه لاستكمال سياسة والدهما القاضية بالتصدي للصليبيين، مُدركاً في الوقت نفسه أهمية هذا التعاون، خشية أن يستغل أعداء الأسرة فرصة انقسام الإمارة الزنكية لمهاجمتها، بالإضافة إلى الظهور، بمظهر القوة أمامهم، لذلك رأى ضرورة الاجتماع بأخيه بين وقت وآخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية بسبب توزيع الإرث الزنكي، ويبدو أن العلاقات بين الأخوين تعرضت لأزمة عابرة عقب وفاة والدهما، بدليل أن سيف الدين غازي الأول أرسل إلى أخيه، نور الدين محمود يدعوه للحضور إليه، إلاّ أن صاحب حلب تأخر في تلبية الدعوة معلّلاً تصرفه بانهماكه في محاربة الصليبيين، وقد كانت هناك مجموعة من الأسباب ساهمت في الفتور في العلاقة بين الأخوين وهي: أ- رأى سيف الدين غازي الأول أنه كان يجب على أخيه الوقوف إلى جانبه عندما تعرض الحكم الزنكي في الموصل لخضة سياسية أثارها الملك ألب أرسلان السلجوقي بهدف الاستيلاء على السلطة، وذلك حتى تستقر الأوضاع لهما في البلاد، ثم يستأذنه في العودة إلى بلاد الشام. ب- عدّ سيف الدين غازي الأول تصرف أخيه نور الدين محمود بعد مقتل والدهما أمام قلعة جَعْبَر خروجاً على التقاليد الأسرية عند القبائل التركية التي تقضي بأن تكون السيادة للابن الأكبر. ج - رأى سيف الدين غازي الأول في تصرف أخيه انفصالاً واضحاً عن الدولة الزنكية؛ لأن استئثار نور الدين محمود بأملاك الأسرة في حلب يعني تكوين حكم انفصالي عن دولة الأتابكة في الموصل. دفعت هذه العوامل سيف الدين غازي الأول إلى الإلحاح على أخيه نور الدين محمود للاجتماع به وتسوية الأمور بينهما، وقد تصرف صاحب الموصل بحكمة لإزالة أسباب التوتر، كما أنه لم يعارضه عندما استولى على الرها التي كانت تدخل في منطقة نفوذه بعد محاولة جوسلين الثاني استرداها من أيدي المسلمين في أواخر عام 541ﻫ/ ربيع الثاني 1147م والواقع أنه أرسل قوة عسكرية لمساندة أخيه لإنقاذ الرها المهّددة، لكنها وصلت بعد أن نجح نور الدين محمود في استعادتها، وأخيراً حصل اللقاء بين الأخوين في الخابور. وفي هذا الاجتماع، اعتذر نور الدين محمود لأخيه عن تأخره في الحضور، وأظهر له الطاعة والاحترام من جهته، ولشدة حذر نور الدين اشترط أن يكون الاجتماع ومع كل منهما خمسمائة فارس فقبل سيف الدين، وخرج نور الدين ومعه خمسمائة فارس، فرأى أخاه سيف الدين وليس معه إلاّ خمسة فرسان، فتأكد من حسن نيته واقتربا وتعانقا وبكيا وقال له سيف الدين: من لي غيرك يا نور الدين؟ ولمن أدّخر الخير إن أسأت إلى أخي؟
أهم صفات القائد نور الدين زنكي:
إن مفتاح شخصية نور الدين محمود زنكي شعوره بالمسؤولية وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وخوفه من محاسبة الله له، وشدة إيمانه بالله وباليوم الآخر، وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصيته، فقد كان على فهم صحيح لحقيقة الإسلام، وتعبد الله بتعاليمه، وتميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة، والتي ساعدته على تحقيق إنجازاته العظيمة؛ فالشريعة الإسلامية هذبت ونمت وزكت أخلاق وصفات نور الدين والتي من أهمها:
أولاً: الجدية والذكاء المتوقد:
منذ البداية والتكوين الجاد لنور الدين يدفعه إلى الإسراع لسدّ أي فتق أو اعتداء من قِبل الأعداء: فلما قتل زنكي 541ﻫ يقول ابن الأثير – كان جوسلين الفرنجي، في ولايته غربي الفرات: تل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه فأجابوه إلى ذلك فسار في عساكره إليها وملكها، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، وقاتلهم وجّد في قتالهم، فبلغ الخبر إلى نور الدين فساراً مجداً إليها في العسكر الذي عنده، فلما سمع جوسلين بوصوله خرج عن الرها إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها وسبى أهلها فلم يبق منهم إلاّ القليل وأجلى من كان بها من الفرنج. وكان أبوه زنكي قد استرد هذا الموقع الخطير من الصليبيين عام 539ﻫ وأمر جنده يومها بالكف فوراً عن النهب والسلب والتخريب ومنح النصارى المحليين حريات واسعة وحمى كنائسهم وممتلكاتهم، في محاولة منه لفك ارتباطهم بالغزاة الصليبيين الذين مارسوا معهم الكثير من أساليب التمييز والتفرقة الدينية، أما وقد تآمروا – ثانية – في أخريات عهد زنكي، وثالثة بعد مقتله لإعادة الرها إلى السيطرة الصليبية منها يجيء الرد بمستوى الجّد الذي يقتضيه الموقف إذا ما أُريد لهذا الموقع أن يبقى مجرداً، وألاّ يعود ثانية إلى قبضة الغزاة. وفي عام 567ﻫ هاجم صليبيو اللاذقية مركبين للمسلمين كانا مملوءين بالأمتعة مكتظين بالتجار، وغدروا بالمسلمين، وكان نور الدين قد هادنهم فنكثوا، فلما سمع الخبر استعظمه وأرسل إلى الصليبيين يطلب إعادة ما أخذوه، فغالطوه فلم يقبل مغالطتهم، وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن الأثير؛ إذ ما لبث أن جمع عساكره وبث سراياه في بلاد الصليبيين بين أنطاكية وطرابلس، وقام بحصار حصن عرقة وتخريب ربضه، والاستيلاء على حصني صافيتا والعزيمة شمالي، وإجراء أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق؛ الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى مراسلة نور الدين يعرضون عليه استعدادهم لإعادة ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة بين الطرفين، فأجابهم نور الدين إلى ذلك لحاجته الماسّة – كما يبدو – إلى هدنة كهذه. ويوماً بلغه ما فعله جوسلين من إرسال السلاح – الذي كان قد استولى عليه في إحدى معاركه مع نور الدين – إلى حميه السلطان مسعود حاكم سلاجقة الروم: فقام نور الدين وقعد، وهجر الراحة للأخذ بثأره، فأذكى العيون على جوسلين، وأحضر جماعة من التركمان، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلاً أو أسراً؛ لأنه علم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع فأخلد إلى إعمال الحيلة. وكان نور الدين – كما يقول ابن الأثير: إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر يكفيه عشر سنين خوفاً من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين، فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء. وهكذا ترتبط جدّية نور الدين بذكائه الحذر ودهائه الذي حقق له الكثير من المكاسب والمنجزات، والذي لم يتح لأحد من الأعداء في الداخل والخارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقتل، كان كما يقول ابن الأثير: يكثر أعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم به. ويضرب على ذلك مثلاً سياسته مع مليح بن ليون ملك الأرمن في بلاد الأناضول: فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في خدمته سفراً وحضراً، وكان يقاتل به الفرنج وكان يقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها – إذا أراد – فينال من بلاد الإسلام، فإذا طُلب انحجر فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الإقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج، وحين توفي نور الدين وسلك من بعده غير هذا الطريق ملك زعيم الأرمن بعد مليح كثيراً من بلاد المسلمين وحصونهم، وصار منه ضرر عظيم وخرق واسع لا يمكن رقعه، وفي محاولته فتح دمشق أدرك أن اعتماد العنف سيستفز حكامها ويدفعهم إلى مراسلة الصليبيين والاستعانة بهم، فعمد إلى أعمال الحيلة والسياسة، فأخذ يراسل صاحبها مجير الدين ويستميله، ويبعث إليه بالهدايا الموصولة ويظهر له المودة حتى وثق إليه وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إياه بنوايا عدد من أمرائه، وأنهم بصدد الاتصال به ضد ملكهم، الأمر الذي دفع مجير الدين إلى إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه، فلما خلت دمشق من زهرة أمرائها انتقل نور الدين خطوة أخرى فاتصل بأحداث دمشق (أي حرسها الشعبي) وجماهيرها واستمالهم فأجابوه إلى تسليم البلد، وعند ذاك تقدم لحصار دمشق وتمكن بمعونة أهلها أنفسهم من دخولها بسهولة بالغة ودونما إراقة للدماء، فحقق بذلك الهدف الكبير الذي طالما سعى له أبوه، وقبل ذلك، وحينما بعث إليه الفاطميون – كما سيأتي بيانه بإذن الله – يطلبون منه القيام بهجوم على المواقع الصليبية جنوبي الشام لإشغالهم عن مهاجمة مصر، أجاب نور الدين أسامة بن منقذ سفيرهم في هذه المهمة: إن أهل دمشق، أعداء والإفرنج أعداء ما آمن منهما إذا دخلت بينهما، ويحدثنا أبو شامة عن إحدى خدع نور الدين حيث أغار على طبرية وجمع بعض أعلام الصليبيين وشيئاً من ملابسهم وسلاحهم وسلمها إلى أحد جنده قائلاً: أريد أن تعمل الحيلة في الدخول إلى بلبيس، وتخبر أسد الدين شيركوه المحاصر هناك بما فتح الله على المسلمين في بلاد الشام، وتعطيه هذه الأعلام وتأمره بنشرها في أسواق بلبيس فإن ذلك مما يفت في عضد الكفار، ويدخل الوهن عليهم؛ ففعل أسد الدين ما أمره به، فلما رأى الصليبيون ذلك قلقوا وخافوا على بلادهم وسألوا حليفهم شاور- الوزير المصري – الإذن بالانفصال، كما يحدثنا ابن الأثير عن الأسلوب الذي اعتمده نور الدين في فتح حصني المنبطرة بالشام 561ﻫ، فهو لم يحشد له ولا جمع عساكره، وإنما سار إليه في سريه من الفرسان على حين غرة من الصليبيين؛ إذ أدرك أنه بجمعه العسكر سيعطي الإشارة إلى خصومه لكي يأخذوا أهبتهم، وما لبثت حامية الحصن أن فوجئت بهجوم نور الدين المباغت وبعد قتال عنيف سقط الحصن: ولم يجتمع لدفعه إلاّ وقد ملكه، ولو علموا أنه في قلعة من العساكر لأسرعوا إليه، إنما ظنوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من ردّه، فهذه الأحداث تظهر صفة الجدية والذكاء المتوقد في شخصية نور الدين.
ثانياً: الشعور بالمسؤولية:
تولد عن ورع نور الدين وتقواه إحساس شديد بالمسؤولية، ظهر في جميع أعماله وحالاته، فالخشية من الله تعالى تجعله دائماً في موقع المحاسب لنفسه المراقب لها، حتى لا تتجاوز إلى ما يغضب الله؛ فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام الله عن كل ما يتعلق برعيته، وكل ما يتعلق ببلاد المسلمين ودمائهم وحقوقهم، حتى لو كانوا من غير رعيته، فإذا كان باستطاعته مساعدتهم فهو مسؤول إذا قصر في تقديم هذه المساعدة، يظهر هذا الفهم الشامل للمسؤولية في رسالة نور الدين محمود إلى إيلدكز أمير أذربيجان وأرمينية وهمذان والري، جواباً على رسالته التي يطلب فيها من نور الدين عدم احتلال الموصل ويتهدده بأن لا سبيل له إليها قال نور الدين للرسول: قلْ لصاحبك: أنا أرحم ببني أخي (يعني سيف الدين غازي) منك، فلم تدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك عند باب همذان فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد بليت أنا وحدي بأشجع الناس: الفرنج، فأخذت بلادهم وأسرت ملوكهم، فلا يجوز لي أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم عن المسلمين. كان نور الدين يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه الوقت أن يضيع هباء والدم المسلم من أن يُهدر، والكرامة الإسلامية من أن تُهان والأرض الإسلامية من أن تُغزى وتُقتطع. فحينما علم في عام 544ﻫ/1149م بتحالف الصليبيين قال: لا أنحرف عن جهادهم، إلاّ أنه مع ذلك كان يكفّ أيدي أصحابه عن العبث والإفساد في الضّياع ويحسن الرأي في الفلاحين ويعمل على التخفيف عنهم، الأمر الذي أكسبه عطف وتأييد جماهير دمشق وسائر البلاد التابعة لها، فراحت تدعو له بالنصر. وكتب إلى زعماء دمشق: إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالباً لمحاربتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين.. بأن الفلاحين أُخذت أموالهم وشُتّت نساؤهم وأطفالهم بيد الفرنج وانعدام الناصر لهم: فلا يسعني مع ما أعطاني الله وله الحمد من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين وكثرة المال والرجال، ولا يحلّ لي القعود عنهم والانتصار لهم؛ مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج على محاربتي وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلماً لهم وتعدياً عليهم، وهذا ما لا يرضي الله تعالى، ولا أحداً من المسلمين، وفي العام التالي خرج إليه أهل دمشق وكثير من أجنادها، بعد أن قرر عدم مهاجمتها عنوة كراهية لسفك دماء المسلمين، والتقى بعدد من الطلاب والفقراء والضعفاء فلم يخيب أحداً من قاصديه. وقد أصر نور الدين طيلة الفترة التالية على عدم القيام بهجوم على البلد تحرّجاً من قتل المسلمين وقال: لا حاجة إلى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضاً، وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين. فهو يعلم جيداً أن الأمة إذا قتلت نفسها سهلت على العدو، وإذا قدرت على حماية دمها بذلته رخيصاً في مجاهدة هذا العدوّ.. معادلة واضحة يمكن أن تفسر لنا الكثير من هزائم الأمم وانتصاراتها على السواء... ومن ثم كانت عادة نور الدين كما يقول أبو شامة: إنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلاّ ضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج، أو للخوف عليها منها كما فعل بدمشق ومصر وغيرها. لقد كان الدم عنده عظيماً، لما كان قد جبل عليه من الرأفة والرحمة والعدل.
ثالثاً: قدرته على مواجهة المشاكل والأحداث:
اعتمد نور الدين محمود الحلول العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب، ففي عام 552ﻫ شهدت الجهات الوسطى والشمالية من بلاد الشام زلازل عنيفة تتابعت ضرباتها القاسية، فخربت الكثير من القرى والمدن، وأهلكت حشداً لا يُحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من نور الدين إلاّ أن شمّر عن ساعد الجدّ وبذل جهوداً عظيمة في إعادة إعمار ما تهدم وتعزيز دفاعاته: فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر وحفظ البلاد، لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار، وفي عام 565ﻫ ضربت بلدان المنطقة بغارة أخرى من الزلازل لم تقل هولاً عن سابقتها، خربت الكثير من المدن وهدّمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحّد والإحصاء، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك لإعادة إعمار ما تهدم من أسوارها وقلعتها، ولم يجأر إلى الله بالشكوى، ويعلن أن الظلم قد فشا، وأن هذا عقاب الله فقط، أو أنه إشارات الساعة قد لاحت في الأفق القريب، وعندما وصل بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد وهلاك كثير من أهليها، فرتب في بعلبك من يحميها ويعمرها وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك ومنها إلى حماه فبعرين وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، لاسيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلزلة بها، وبأهلها أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد وجوامعها، وأخرج من المال ما لا يقدر قدره. إن الكوارث – التي يبتلي الله بها عباده – تجيء بمثابة تحديات دائمة تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والإنجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات، خطوات إلى الأمام، والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها ويصيبها بالعجز والشلل والجمود، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة وواصل الطريق. ثمة واقعة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال: كانت في الموصل خربة واسعة في وسط البلد أُشيع عنها أنه ما شرع في عمارتها إلاّ: من ذهب عمره ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة وشيوخها الورعين بابتياعها وبناء جامع كبير فيها تُقام فيه الصلوات، وتخطب الجمع وتدرس العلوم، ففعل نور الدين وأنفق فيه أموالاً كثيرة. وعلق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب نور الدين محمود الرجل والتجربة على هذه الحادثة فقال: لم يضرب نور الدين الخرافة والشائعة بالكلمة ولكنه ضربها بالفعل، وبالإنجاز وزالت الخرافة. ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظل حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين والدارسين.
رابعاً: نزعته للبناء والأعمار:
إن الحاكم الناجح في نظره هو ذلك الذي يعرف كيف يحقق أكبر قدر من العمران والتحضر بأقل قدر من الزمن، فقد بنى نور الدين المساجد والربط والزوايا للتعبد وتربية الروح، كما أنشأ المدارس ودور الحديث للتعلم وتربية العقل، وشجّع أعمال الفروسية وسائر النشاطات الرياضية لكسب المزيد من المهارات القتالية، وتنمية الجسد، وبنى أيضاً دوراً للأيتام لإيواء أطفال المسلمين، والمارستان لمعالجة المرضى، وأقام الجسور والقناطر والحدائق والقنوات والأسواق والحمامات والمخافر وشقَّ الطرقات العامة، فحفلت دولته بالكثير من المؤسسات الاجتماعية والعمرانية، ولم يغفل نور الدين – وهو بصدد البناء والإعمار – عن الجانب الجمالي الذي يرتبط ارتباطاً أساسياً بالإبداع.. ورجل كنور الدين خرّجته مدرسة الإسلام الرحيبة الشاملة لا يمكن إلاّ أن يرى في العمل والتزيين في المضمون والشكل في الوقائع والجماليات وجهين لعملة واحدة، فقد أوقف بستان الميدان والغيضة التي تليه في دمشق لتطييب جوامع دمشق ومدارسها لكي يظل هواؤها معبقاً بالروائح الطيبة والشذى العبق، وكان على اهتمام كبير بهذه المسألة بحيث أنه حدّد مصارف وقفه المذكور: نصفه على تطبيق جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء، جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة في دمشق وأطرافها. وجلب للمدرسة الحلاوية التي بناها في حلب، من مدينة أفاحية، مذبحاً من الرخام الملكي الشفاف الذي إذا وضع تحته ضوء شفّ من وراء الرخام، ولما دخل قلعة دمشق عام 549ﻫ أنشأ بها داراً عامة: في غاية الحسن سماها دار المسرّة، وفي قلعة حلب أنشأ نور الدين أبنية كثيرة وأقام ميداناً 'خضّره بالحشيش ' وسمّى الميدان الميدان الأخضر، ويرتبط بهذه المسألة الجمالية ما كان نور الدين يأمر به في المناسبات عام 552ﻫ إذ أمر نور الدين بزينة قلعته ودار مملكته بحيث حلّى أسوارها بالآلات الحربية من الجواشن والدروع والتراس والسيوف والرماح والطوارق والإفرنجية والأعلام والطبول والبوقات وأنواع الملاهي المختلفات، وهرعت الأجناد والرعايا وغرباء البلاد لمشاهدة الحال فشاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أيام. لقد كان أكسوار الحفل وديكوراته – إذا صح التعبير – مناسبة تماماً لمدينة كدمشق تتزعم حركة الجهاد، وتقف في قلب التحدي. وتبدو نزعة نور الدين للإعمار والتحضر، أكثر ما تبدو، في سياسته الرامية لتوطين العناصر البدوية وجعلها تمارس حياة الاستقرار، فقد أقطع الأمراء العرب في جنوب الشام والحجاز القطائع لئلا يتعرضوا لقوافل الحجاج، ونقل أعراب بني عباد من البلقاء والأردن إلى صرخد الملاصقة لبلاد حوران من أعمال دمشق، و على الرغم من أن هذه الخطوة أنصبت على تجميد نشاط هؤلاء في مساعدة صليبيي المنطقة وإرشادهم على الطرق، وتحويل هؤلاء الأعراب إلى قوة تعمل لصالح المسلمين أنفسهم كما أشارت الرواية المذكورة، إلاّ أنها حققت من ناحية أخرى هدفاً عمرانياً واضحاً، وليس ثمة رواية تحمل دلالتها على نزعة نور الدين للبناء والإعمار تعدل رواية ابن جبير، الرحالة الذي زار دمشق ووصف معالمها بعد سنوات فحسب من وفاة نور الدين، ولا شك أن وصفه هذا ينسحب على العصر الذي نتحدث عنه؛ لأن تغييرات جغرافيا المدن لا تُقاس بالسنين المحدودة بل بعقودها على أقل تقدير. يقول الرجل- مشيراً إلى الاتساع العمودي لدمشق-: وبناء البلد ثلاث طبقات، فيحتوى من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن؛ لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقاً وحسنه كله خارج المدينة لا داخلها، وبدمشق (ما يقرب من) مائة حمام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين داراً للوضوء يجري الماء فيها كلها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة.. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاماً وأبدعها صنعاً، وقد سرت عدوى الرغبة في البناء والإعمار إلى رجال نور الدين وكبار موظفيه – كما سنرى في المقالات القادمة – فراحوا يتسابقون في بناء المدارس والمساجد ومؤسسات الخدمات الاجتماعية، وما أكثر الروايات التي قيلت في هذا الصدد، ويكفي أن نطلع على تراجم رجال نور الدين محمود، بل النساء اللواتي اشتهرن في عصره كذلك.
- يتبع -