مولودٌ .. ذكر ..!!
قصة : مهنا أبوسلطان .. !!
بعض الناس يظن أنه الوحيد الذي خُلق من ماءٍ مهين .. وأن الآخرين خلقوا من كوكا كولا .. وعبد الرحيم من هؤلاء الناس ، إن لم يكن أولهم .. فهو أهم رجلٍ في المدينة ( بنظر نفسه طبعاً) .. وأكثر الناس ورعاً وتقوى ، مستشهداً دوماً بتلك البقعة السوداء ( الدمغة التجارية ) فوق جبينه الأشم .. بأنها " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " .. ولا نعلم من أين أتت تلك الدمغة السوداء .. فممارسات الرجل العنجهية .. وغروره الممقوت يبعدان مجرد الظن أن الرجل ورعٌ تقي .. ربما كانت نتيجة ضربةٍ تلقاها من أحد ( أولاد الحلال ) فاستغل أثرها الدائم أحسن استغلال .. وربما كانت ضربة مقلاةٍ أو طنجرةٍ إثر عمليةٍ فدائيةٍ قامت بها زوجته في مرحلة جفافٍ عاطفي ..
عبد الرحيم هذا يمتلك مفاتيح السعادة ويتلذذ بها .. ولذته بها ليس لأنه يمتلكها فحسب ، بل لأن غيره يفتقر إليها .. فأحب شيءٍ إلى قلبه مشاهدة محتاجٍ يستجدي لقمة العيش .. أو جارٍ يغلق بابه على وجعه وجوع أطفاله وعري زوجته .. أو امرأةٍ جميلةٍ لكن الفقر المدقع يدفعها لنسيان كل ما يتعلق بالجمال .. فيتكسر جمالها على أعتاب السادة .. ويتناثر ألقها بين حزنين .. مشاهد كهذه كانت مدعاة فرحه الشديد وانبساط أساريره .. تثير فيه ارتياحاً غير طبيعي .. وسخريةً ينتهجها باستمرار .. يتشفى بكوارث الناس بشكل بحثت له عن مبررٍ بين أكوام النذالة في العالم فلم أجد .. باختصار هو يكره البشرية دون سبب مقنع ..!!
يملك بيتاً أنيقاً في إحدى ضواحي المدينة الهادئة .. يتمنى الفقراء لو باتوا ليلةً واحدةً في أحد حماماته .. وله زوجةٌ ، كلّ من يراها يحاول جاهداً إقامة علاقة صداقةٍ " حقيقية " مع زوجها لتصبح فيما بعد علاقة عائلية .. وله خمس بناتٍ كفراشاتٍ تسطو على نوار نيسان .. لكن رغم كل ذلك ، كان هناك ما يكدر عليه عيشه .. ويعكر صفو أيامه البلورية .. وهو افتقاده للولد الذكر وحاجته الدائمة إليه .. فهو يريد ثمانية أولادٍ ذكورٍ على الأقل كي يحملوا اسمه .. لأن هذا الاسم لا ينبغي أن يدفن في تراب المقابر بعد عمرٍ طويل كما كان يردد دوماً .. بل يجب أن يبقى اسماً لامعاً كالنجم في سماء المدينة .. لأنه يعتبر غياب اسمه من أهم مقدمات الانهيار الحضاري والإنساني للمدينة التي أنعم الله عليها بوجوده بين قاطنيها الرعاع الجهلة كما كان يسميهم .. حتى زوجته الجميلة الصابرة لم تسلم من سخريته اللاذعة .. وشتائمه المقذعة معتبراً أنها السبب في خلو بيته من الأبناء الذكور .. وحين ذكّرته - بأسلوبٍ علمي - أن الرجل هو المسؤول عن جنس المولود .. سب وشتم كافة أفراد عائلتها وكل من له صلة نسبٍ معهم ( باستثنائه طبعاً ) .. أمواتهم قبل الأحياء .. مذكراً إياها أن الجهل والتخلف سمةٌ متأصلةٌ بعائلتها .. وحين اقترحت عليه أن يراجع طبيباً ليتأكد من السبب في عدم إنجاب طفلٍ ذكر .. قذفها بشاشة الحاسوب رغم كونها حامل بالبطن السادس في شهره الرابع فسقطت فاقدةً الوعي واحتاج الأمر إلى كيلو بصل يابس حتى استفاقت .. ولحسن حظها أن شاشة الحاسوب من نوع " إل سي دي " الأخف وزناً من الشاشات القديمة .. ثم وعدها ( وعد شرف ) - ممسكاً بشواربه الكثة - بالطلاق البائن بينونة عظمى .. ، إن جاء البطن السادس أنثى ..
قضت الزوجة ما تبقى من شهور الحمل بالدعاء والتضرع إلى الله أن يرزقهما بذكرٍ نجيبٍ ( كوالده ) .. ليس حفاظاً على امتداد النسل ( الذي لا يتكرر ) .. بل حفاظاً على امتداد حياتها الزوجية .. وكانت أثناء تلك الأيام العصيبة تراجع طبيبتها النسائية لتمنحها ولو قليلاً من الأمل أن الجنين الساكن بطنها ذكر .. لكن الطبيبة لم تكن متأكدة .. كانت ترى على الأغلب أنه ذكر ، إنما ليس بشكلٍ قطعي .. لأن ذاك النتوء البارز بين فخذيه ضامرٌ وصغير الحجم .. لا يدل على ذكوريته .. إلا أن هذا العضو الضامر الصغير بين فخذي الجنين كان سبباً لفرحة الأم ممنيةً نفسها بميلاده ذكراً .. وعبد الرحيم لم يكن أقل منها فرحاً .. فهذا هو الشيء الوحيد الذي ينقصه لتكتمل دائرة تفاخره على الناس .. وبه يضمن استمرارية الاسم ( العريق ) الذي سيورثه (المجد ) من بعده ..
مضت الأيام ثقيلةً على الزوجة كأنها على موعدٍ مع الموت .. وأثقل على الزوج لأن انتظاره للحدث العظيم جعل أيامه تمشي كسلحفاةٍ قررت أن تسير على السيراميك المدهون بالزيت ..
في الشهر السابع أكدت الطبيبة أن الجنين ذكرٌ بنسبة تسعين بالمئة .. لكن أضافت قائلةً أن الله قد يغير الخلق وقت الطلق .. لم يكن عبد الرحيم يحلم بمثل هذا .. ولم يُرد تصديق هذه المقولة من الطبيبة .. ولم تكن زوجته تتخيل نفسها بهذه الفرحة .. احتفلا مع البنات الخمس منغمسين بما لذ وطاب من ألوان الحلويات والمعجنات والمشروبات الفاخرة .. راقصين على أنغام الذكورة القادمة .. ولحن الخلود العبد الرحيمي .. حتى أن عبدالرحيم بدأ يرقص عارياً تماماً لشدة فرحه مغامراً بسمعته المهيبة وجبروته أمام أهل البيت .. وفي اليوم التالي كانت الساحة أمام قصره المنيف تعج بالناس من أهل المدينة .. الذين قدموا عن بكرة أمهم تلبيةً لدعوة الملهَم عبد الرحيم الذي أحب مشاركتهم إياه فرحه ومسراته موزعاً عليهم أنواع المأكولات الفخمة .. والمشروبات الروحية والغازية .. مذكّراً إياهم أن هذا الولد القادم رحمة من الله عليهم .. وبركات منه على المدينة .. لتنتقل المدينة وسكانها بفضله بعد فضل والده من الظلمات إلى النور ..
أمام غرفة الولادة .. كان عبد الرحيم المتباهي بالشبل القادم يفرك يديه كأنه ينظفها تماماً من غبار الانتظار .. الأم يعلو صراخها في لحظات الطلق القاسية .. وهو يستعجل الرب بهذا الذكَر الذي سيخلده بين الناس ليبقى حاضراً بينهم دائماً .. بجبروته وسخرياته منهم .. وتفاخره عليهم ..
وما هي سوى دقائق حتى فُتح باب غرفة الولادة .. ليقذف القابلة وجهاً لوجه أمام الزوج الفريد .. وقفت واجمةً متجمدةً للحظات .. اسودّ وجهه لمرآها بهذا المشهد الحزين .. وتذكر قول الطبيبة أيام مراجعة زوجته عندها : " ولكن قد يغيرالله الخلق عند الطلق " فسأل نفسه بعميق أسىً ( هل غيرالله الخلق وقت الطلق ؟ ) .. ثم التفت من شروده نحو القابلة المتجمدة أمامه كتمثال .. سألها متلهفاً : أرى وجهك مكفهراً .. هل هي أنثى ؟؟ ..
قالت بوجه صارم .. وملامح جامدة :
ـ لا .. بل ذكر ..
كأنها صبت على رأسه الماء البارد .. تهاوى الأسى في جسده واحتلت بسمةٌ حائرة مكانه .. قفزت راقصةً على شفتيه الناشفتين .. فقال باسماً :
ـ وما بك تقولينها بأسف ..؟؟
ـ لأنه يا سيدي .. بعد ولادته بدقيقتين .... مات..!!