"فاطمة النجار".. فدائية برتبة "جدة"

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الاستشهادية الجدة فاطمة النجار


علا عطا الله**




الاستشهادية الجدة فاطمة النجار

ربيعٌ في فلسطين يحترق وشمسٌ تموت... سماءٌ تُلوث وأطفالٌ يرحلون وعلى أصابعهم بقايا حلم.. أسرى أنهكتهم سنوات الانتظار وأدمتهم سنوات الحنين... شجرٌ يبكي وطيورٌ تُغادر وقلوبٌ بلغت الحناجر.. في فلسطين الجراح غائرة والدماء ساخنة!! فكيف لا تذهب للموت فاطمة جمعة النجار 58 عامًا، وكيف في فلسطين لا تقاتل النساء؟؟.

فاطمة المولودة على صوت أنين الوطن والطفلة في أزقته الباكية.. تكبر وتكبر معها أنَّات الوطن، أمام مرآها ذبلت عيون ونزفت ورود... أمام مرآها زرعت آلات الموت الصهيونية الدمار في كل مكان.. حصدت الأحياء والأموات.. أحرقت الأخضر واليابس.. فكيف لا تتفجر فاطمة براكين ثأر تصفع بجسدها الصامتين النائمين والساكتين على جراح فلسطين؟.

ليست الأولى.. ولكن!

هي ليست أول استشهادية في سجل الاستشهاديات الفلسطينيات، ولكنها أكبرهنّ؛ ففاطمة ليست أمًّا وحسب، بل هي جدة تقترب من حافة عقدها السابع.. هالها ما رأت لأبناء شعبها، وهالها الألم النازف دون توقف فقررت العزم وانطلقت بكامل حبّها لله والوطن ففجرت نفسها مساء الخميس 23-11-2006 قرب وحدة إسرائيلية؛ مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى إسرائيليين، بحسب ما أفاد متحدث باسم كتائب عز الدين القسام.

في بيتها بمدينة جباليا كانت جموع الفتيات والنساء والأطفال تتدفق كما الأمواج إلى بيتها لتهنئة ذويها بعملها البطولي.. أمارات الفرحة كانت ممزوجة بعلامات الدهشة، ولكن سرعان ما تنتهي هذه الدهشة إلى فخر واعتزاز.

"كلنا مشاريع شهادة.. ولماذا لا نستشهد وقد نكَّل الاحتلال بنا وبأولادنا.. بأطفالنا.. هدم بيوتنا.. قلع أشجارنا؟". كلماتٌ نطقت بها الحاجة "أم رمزي" جارة الشهيدة "فاطمة" وواصلت: "الكثير منا شعر بالدهشة في بداية سماعه للخبر، ولكن هذه الدهشة تتلاشى أمام ما يفعله الاحتلال بنا.. ليس الغريب ما قامت به أم محمد.. الغريب ألا نذهب نحن النساء إلى المقاومة والاستشهاد، ونفجر أنفسنا كما الرجال".

ما تقوله أم رمزي كان يتكرر على لسان جميع الحاضرات حتى خيل إلينا أننا أمام جيش قادم من الاستشهاديات.

فتحية "أم شعبان" كبرى بنات الاستشهادية رسمت على محياها ابتسامة عريضة ومضت تقول: "صحيح أن أمي أكبر سيدة فلسطينية تنفذ عملية استشهادية ضد قوات الاحتلال، ولكن هذا أمر لا يجب أن يدعو للاستغراب والدهشة؛ فأمام عيون أمي أسر العدو إخواني ونكّلوا بهم، وأمام عيونها استشهد أحفادها.. ورحل أقاربها فكيف لا تذهب للشهادة وكيف لا تقاوم.. كلنا في فلسطين الرجال والنساء حتى الأطفال نريد أن نتفجر في هذا الاحتلال الذي دمر لنا كل شيء".

58 عامًا

وأوضحت الابنة أن والدتها من مواليد 1938، أي أن عمرها 58 عامًا وليس كما تناقلت وسائل الإعلام بأن عمرها في العقد الخامس، وفاطمة أم لبنتين ولسبعة أولاد وجدة لـ"44 حفيدًا"، والطريف أنها قامت بتزويج كل ولد من أولادها مرتين، وكانت تردد: "هذه أمة مباركة يجب أن تزيد وتكبر". أما زوجها فقد تُوفِّي العام الماضي.

وتؤكد الابنة أن والدتها كانت على الدوام تحضّ أبناءها وأحفادها على المقاومة والجهاد: "والدتي فتحت بيتها منذ الثمانينيات لرجال المقاومة، كانت تُشارك في كل مظاهرات وفعاليات الانتفاضة الأولى بكل قوتها رجمت جنود الاحتلال.. تعرضت للضرب على أيديهم.. وسجنت قوات الاحتلال معظم أبنائها..".

وتشير إلى أن أمها كانت تحتضن المطاردين والمقاومين وعلى رأسهم الشهيد عماد عقل، وشددت على أن هدم منزلهم ونسفه بالكامل لم يزد والدتها إلا ثباتًا وصبرًا.

وبالرغم من كبر سنها فإن الاستشهادية "فاطمة" كانت تُشارك في كل الندوات والدروس النسائية والمهرجانات والمسيرات الإسلامية، كما أنها وبحسب تأكيد ابنتها حافظة لكتاب الله عدا أجزاء صغيرة قليلة تبقت عليها: "والدتي تقرأ بالأحكام... وكانت شديدة الذكاء. أذكر أنه في المرحلة الثانوية كانت تساعدنا في حلّ واجباتنا خاصة في اللغة العربية.. وصلت في تعليمها إلى المرحلة الابتدائية، ولكن هذه المرحلة قبل عقود كانت تضاهي المراحل الجامعية الآن".

نصرٌ أو شهادة

ولم تكتفِ الجدة بأن تحفظ هي القرآن، بل عملت على تعليمه وتحفيظه لأحفادها فكانت تدسّ لهم الحلوى والنقود تشجيعًا لهم، وكانت توقظهم لصلاة الفجر في المسجد، لدرجة أنها كانت تأخذ بيد حفيدها صاحب الأعوام الخمسة وتسير به إلى أن يصل باب المسجد.

ومع أنها تقترب من السبعين من عمرها إلا أنها كانت تردد على الدوام أنها مشروع شهادة، ولم تخفِ ابنتها أن أمها كانت على صلة وثيقة مع المجاهدين، وأنها تتفانى في خدمتهم وكانت تشاركهم أعمالهم الجهادية، وتستدرك مبتسمة: "نعم لدى أمي عضوية في كتائب الشهيد عز الدين القسَّام...".

في مسيرة "فدائيات الحصار" التي انتهت بنجدة المقاومين المحاصرين في مسجد النصر في بيت حانون بمدينة غزة كانت الاستشهادية تتقدم الخطى، وتقول زوجة ابنها "أم أحمد" التي شاركتها المسيرة آنذاك: "مع أذان الفجر خرجت.. كانت تصرخ فينا: هيا تقدمن.. لا تخفن واثبتن... والله إنها لإحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة".

وتؤكد "أم أحمد" أن فاطمة كانت أول من اقتحم مسجد النصر، وأنها هي من هجمت على الجرافة الضخمة التي تقدمت لإعاقة النساء: "فما كان من الجرافة إلا حملتها ورفعتها، ثم قذفت بها إلى الأرض.. ورغم فرحتها بالنصر فإنها كانت حزينة؛ لأنها لم تنل الشهادة".

وأبت أم الفدائيات -وهو اللقب الذي نالته بعد استشهادها- إلا أن تواصل طريقها بخطى ثابتة نحو درب الشهادة، وكان لها ما تمنَّت وأرادت، ووُزِّعت الحلوى -كما أوصت في وصيتها- على روح أكبر استشهادية، ومن يدري بماذا تفاجئنا الأيام القادمة.

لهذا السبب

أمام تذوقها للمعاناة وألم الصعاب ورؤيتها لسيل الدماء ليل نهار فإن وجود المرأة الفلسطينية على خط المواجهة والنار جنبًا إلى جنب مع الرجل ضد قوات الاحتلال لم يَعُد بالأمر الغريب.

ويومًا بعد يوم تثبت المرأة الفلسطينية أنها تشكل حالة نضالية متقدمة في تاريخ القضية الفلسطينية، فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية نحو العمل المقاوم، لم تتوانَ المرأة الفلسطينية عن تقديم نفسها رخيصةً فداءً لوطنها الغالي.

وفي انتفاضة الأقصى وقفت المرأة الفلسطينية إلى جانب الرجل في العمل الجهادي المقاوم، لكن هذه المرة بالأحزمة المفخخة وبالعمليات الاستشهادية منطلقات من عمق إيمانهن بعدالة قضيتهن؛ ليسطرن فصلاً جديدًا من إدارة الصراع.

قافلة ضمت وفاء إدريس وآيات الأخرس وعندليب طقاطقة ودارين أبو عيشة وريم الرياشي وميرفت مسعود.. قافلة مضت وقافلة تنتظر.

وبحسب محللين ومراقبين فإن قضية استشهاد المرأة أو الفتاة باتت مقبولة على مستوى عالٍ، وإلى درجة كبيرة جدًّا في المجتمع الفلسطيني، ويؤكد الخبراء أنه لا خلاف بين استشهاد المرأة واستشهاد الرجل أمام عدو لا يفرق بين توجيه الرصاص وآلة الموت إلى كليهما.

ويأتي استشهاد المُسنَّة فاطمة النجار تأكيدًا لرسالة أرادت أن تسطرها المرأة الفلسطينية بدمها مفادها: أن المرأة كما الرجل تتحول إلى لغم متحرك من أجل الدفاع عن أرضها ووطنها، وأنه لا يمكنها السكوت عما يجري أمام ناظريها.

ولربما كانت تلك الكلمات التي سمعتها من إحدى جارات الاستشهادية أبلغ من أي تحليل وتعبير: "ما الذي يدفع أحلى وأجمل بنات إلى الاستشهاد.. على أعلى درجات من الثقافة والعلم والحياة الهانئة؟!.. ما الذي يدفع أم وجدة يعكف الكل على خدمتها للاستشهاد؟!.. ما الذي يدفعنا جميعًا للموت؟!! إنه الاحتلال الذي شرَّد العائلات وتفنن في قتل الأطفال.. الاحتلال الذي أدمى قلوبنا قبل عيوننا... ألقى بأولادنا فلذات أكبادنا في سجون الموت.. هدم البيوت على رأس ساكنيها.. ألا نفجِّر أنفسنا بعد هذا فيه.. ألا تتمزق أجسادنا ثأرًا منه!!".


--------------------------------------------------------------------------------

** صحفية من مكتب الجيل للصحافة.