الكذاب الجاهل يوحنا الدمشقى
رائد الكتابات التشنيعية ضد الإسلام:
د. إبراهيم عوض
(هذا المقال مهدى إلى أ. سامى عامرى، الذى حفزنى، دون أن يقصد أو يدرى، بل دون أن يلقانى أو يكلمنى، إلى كتابة هذه الدراسة، إذ أهدانى من خلال صديق مشترك كتابه: "هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى؟" كى أنظر فيه، فإذا بى بمجرد تصفحى إياه يقع نظرى على اسم يوحنا الدمشقى (منصور بن سرجون)، فيصحّ منى العزم على الكتابة عنهعلى ما سوف يطالع القارئ العزيز فى ثنايا هذه الدراسة)
نسمع كثيرا بيوحنا الدمشقي (676- 749م) بوصفه أول من كتب يهاجم الإسلام ويتهم الرسول عليه السلام بأنه نبى مزيف ألَّف القرآن بالاستعانة بكتب اليهود والنصارى ثم ادعى أنه رسول يُوحَى إليه من السماء. وكنت الليلة الماضية أقلب صفحات كتاب يدور حول مؤلفى أهل الكتاب الذين اتهموا النبى عليه السلام بأنه ليس نبيا حقيقيا، وجاءت سيرة هذا اليوحنا، فبزغ فى خاطرى أن أكتب عنه شيئا، فكانت هذه الدراسة.
ويُعَدّ يوحنا الدمشقي واحدا من أكبر آباء الكنيسة الشرقية. وبسبب مكانته الدينية عند قومه نراهم يلقبونه بــ"القديس يوحنا" و"يوحنا ينبوع الذهب". وكان الدمشقى موظفا قبل ذلك فى بلاط بنى أمية بدمشق. وهو رائد الجدل التنصيري ضد الإسلام، وأصبح ما خطته يداه فى هذا الشأن ركيزة من ركائز ذلك النوع من الجدل، إذ أخذ المجادلون من المنصّرين والمستشرقين الذين جاؤوا بعده يستعينون بأكاذيبه وتشنيعاته ويرددون كثيرا منها. ويتلخص ما كتبه ذلك اليوحنا في الزعم بأن الإسلام ليس دينا سماويا، بل هرطقة مسيحية، وأن النبى محمدا صلى الله عليه وسلم كان على معرفة بأسفار العهدين القديم والجديد، وأنه تعلم على يد الراهب بحيرا، وكان يتلقى القرآن وهو نائم. ومما خلفه لنا هذا اليوحنا كتاب مشهور باسم "De Haeresbius: الهرطقة"، يهاجم فيه الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام متهما إياه بأنه نبى زائف
وكان والد يوحنا ذا نفوذ عند بنى أمية، إذ كان يعمل في منصب رفيع في مالية الدولة، وبعد وفاة الأب حل الابن محله. وأثناء تلك الفترة قام أحد البطاركة في كنيسة القسطنطينية بإصدار تعليمات تمنع النصارى من تقديس صور المسيح أو مريم العذراء، فهبَّ يوحنا بكل ما لديه من قوة يدافع عن التمسك بالسجود للأيقونات والصور. فانظر، أيها القارئ الكريم، كيف يدافع هذا الغبى عن السجود للصور والأيقونات، وفى ذات الوقت يهاجم رسول التوحيد النقى، وإن كان هذا الدفاع عن السجود للأيقونات والصور فى الواقع هو الوجه الآخر لاتهاماته الكاذبة لسيد الأنبياء والمرسلين.
ويقول بعض من ترجموا ليوحنا الدمشقى إن الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث قدم شكوى للخليفة الأموي بدعوى أنه يحرض على ثورة ضد الإمبراطورية. وقيل: بل زَيَّفَ عليه رسالة يفهم منها أنه كان يراسل أعداء الدولة ويخطط لتسليمهم دمشق. فقام الخليفة بعزله وقطع يديه. وهنا تسرد لنا سيرته حكاية مضحكة لا يصدقها إلا معتوه خلاصتها أن يوحنا دخل غرفته عقب قطع يديه وطرح جسده قُدّام أيقونة العذراء، ملصقا كفبه المبتورتين إلى ساعديه، متوسلا إليها، وهو يذرف الدموع، أن تعيد إلصاق يديه المقطوعتين إلى موضعهما. وللحين غفت عيناه فرأى العذراء تبشره بأن دعاءه قد استجيب وأنه قد شُفِىَ، فاستيقظ فرحا مسرورا. لكن موسوعة "كولومبيا" لا تشير من قريب أو من بعيد إلى تلك الحكاية البلهاء التى ترددها المراجع الكنسية، بل تقول ببساطة إن يوحنا الدمشقى استقال من وظيفته فى البلاط الأموى والتحق بأحد الأديرة الفلسطينية. وهو ما تقوله موسوعة "لاروس" الفرنسية، وإن لم تنص على الأمويين أو فلسطين نصًّا (انظر مقال "اللادينية العربية بوابة التنصير الخلفية" المنشور فى "موسوعات الساحة الألكترونية- الموسوعة الحرة"، ومقالا آخر بموسوعة "الويكيبيديا" عنوانه: "انتقاد شخصية محمد بن عبد الله"، وكذلك ترجمة يوحنا الدمشقى فى كل من "الموسوعة البريطانية" و"الموسوعة اليونيفرسالية" الفرنسية و"موسوعة الإنكارتا" بطبعتيها الإنجليزية والفرنسية و"الموسوعة الكاثوليكية" الإنجليزية، وموسوعة "كولومبيا" الإنجليزية والنسخة العربية من "الموسوعة الأرثوذكسية"، وموسوعة "لاروس" الفرنسية). والطريف أن كبار رجال الدين النصارى ممن يروجون لهذه الحكاية المسلية وأمثالها لا يعتمدون فى علاج أمراضهم على العذراء، بل على الطب والأطباء فى ذات الوقت الذى يغرسون فى رُوع العوامّ أن العذراء عليها السلام تظهر فوق أبراج الكنائس وتشفى من يتجمع هناك من المرضى لمشاهدة ظهورها.
وكنت قبل الآن لا يتيسر لى أن أقرأ إلا "عما" كتبه يوحنا الدمشقى لا "ما" كتبه هو نفسه، وغالبا ما كان هذا الذى أقرؤه عبارة عن إشارة صغيرة إلى ما كتبه هذا المأفون... إلى أن كنت أنظر الليلة الماضية فى كتاب قوى ممتع ألفه الأستاذ سامى عامرى، وهو شابٌّ مسلمٌ مُجِيدٌ واسع الاطلاع ذو أسلوب قوى منساب، وإن كان بحاجة إلى شىء من التنقيح تتكفل به المراجعة النهائية إن شاء الله قبل الدفع به إلى القراء، عنوانه: "هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى؟"، يعرض فيه لما يزعمه المبشرون والمستشرقون من أن الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام قد وضع يده على كتب اليهود والنصارى وألف منها دينا جديدا، ويسوق فى آخره ثبتا كبيرا بأسماء المراجع الهامة التى تتصل بهذا الموضوع، وجاءت فى أثناء الكلام سيرة يوحنا الدمشقى بوصفه أول من قال بهذا الزعم وأن جميع من أَتَوْا بعده كانوا عِيَالاًً عليه، فقلت فى نفسى: ولم لا أبحث عن كتابه الذى ساق فيه هذا الكلام لأقرأه بنفسى؟ وأخذت أبحث عن الكتاب المذكور حتى عثرت، فى قسم "Orthodoxy & Islam" من موقع "Orthodox Christian Information Center"، على الصفحات التى خصصها فى ذلك الكتاب للإسلام، وهى نحو عشر صفحات، مترجمة إلى الإنجليزية، فلم يكن عندى من رد فعل لما قرأتُ سوى اليقين بأن كاتب هذا الكلام كذاب جاهل لا يستحى رغم أنه كان من آباء الكنيسة الشرقية، بما يدل على أن داء الكذب والتدليس متأصل فى نفوس هؤلاء الناس منذ قديم الزمان. وقد وَصَف كاتب مادة "St. John Damascene" فى "Catholic Encyclopedia: الموسوعة الكاثوليكية" ما سطرته يد يوحنا الدمشقى النجسة على النحو التالى:
"In treating of Islamism he vigorously assails the immoral practices of Mohammed and the corrupt teachings inserted in the Koran to legalize the delinquencies of the prophet".
ونبدأ بعنصر الجهل فى كلام هذا الغبى. وأول ما نتناوله من ذلك قوله إن العرب كانوا طَوَال عمرهم وثنيين يعبدون نجمة الصباح وأفروديت، التى يسمونها فى لغتهم: "كَبَار"، أى الكبيرة. ويتبدى جهله هنا فى قوله إن العرب كانوا دوما وثنيين، إذ الحقيقة أنهم كانوا قبل ذلك موحدين على دين أبيهم إبراهيم، ثم طمس الزمن كثيرا من معالم هذا التوحيد، وإن بقى منهم ناس لم يفارقوا وحدانيتهم الأصلية كانوا ينفرون من الأوثان وعبادتها رغم قلة عددهم، فضلا عمن تحول إلى اليهودية أو النصرانية. ثم أين يا ترى يمكننا أن نجد الإلهة "كَبَار"، تلك التى يزعم ذلك الجاهل أن العرب كانوا يعبدونها؟ الواقع أن العرب لم يكن عندهم إلهة تدعى: "كَبَار"، كما لم يكونوا يعبدون أفروديت على عكس ما يزعم الجاهل، وإن علق محقق الكتاب فى الهامش بما كتبه هيرودوت من أن العرب كانوا يعبدون "أفروديت السماوية" ويسمونها: اللات.
ومن جهله المدقع أيضا تصوره أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكتب ما ينزل عليه من وحى ثم يتلوه على قومه مكتوبا. وهذا أعجب شىء سمعته فى هذا الصدد، بل أول مرة أقرأ فيها هذا الكلام العجيب، إذ من المعروف الذى لا يجهله أحد سوى ذلك الجاهل المطموس البصيرة أن الرسول لم يكن يمسك فى يده بكتاب يتلو منه على قومه ما يريد تبليغه إليهم من وحى السماء، بل كان يفعل ذلك من حفظه مباشرة.
وفى الآية السادسة عشرة وما بعدها من سورة "القيامة" نقرأ قوله تعالى مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"، وهو ما يشرحه ابن كثير فى تفسيره قائلا: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه. ولهذا قال تعالى: "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" أي: بالقرآن. كما قال تعالى: "وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا" (طه/ 114). ثم قال تعالى: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ" أي: في صدرك، "وَقُرْءَانَهُ" أي: أن تقرأه. "فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ" أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى "فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ" أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك. "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك، ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا... وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه، عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه، خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله تعالى: "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ". ومن هذا يتبين أنه لم يكن هناك كتاب ولا كتابة، بل ذاكرة تحفظ ولسان يؤدى ما حفظته الذاكرة، وهو ما تكفل الله به لنبيه على أحسن وجه. وهذا واضح تمام الوضوح، وإلا لرد عليه المشركون فكذبوه بأنه إنما يقرأ عليهم من كتاب فى يده لا من نص محفوظ فى ذهنه.
وغنى عن القول إن ذلك الدمشقى الجاهل لا يقصد أن وحيا قد نزل فعلا على النبى صلى الله عليه وسلم، بل المقصود أنه عليه السلام كان يزعم كذبا أن وحيا ينزل عليه. ويمضى الجاهل فينسب للنبى عليه السلام القول بأن اليهود قد قبضوا على "ظِلّ" المسيح وصلبوه. وهو، بطبيعة الحال، ما لم يقله القرآن ولا النبى عليه الصلاة والسلام كما هو معلوم للجميع. وهذا نص ما جاء فى القرآن المجيد فى هذا الموضوع بسياقه كاملا، والكلام فيه عن بنى إسرائيل: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)". فأين الكلام عن ظل عيسى هنا؟ لقد قال القرآن إنه قد شُبِّه لليهود، وهذا كل ما هنالك، فلا ظلال ولا يحزنون.
ومما قاله أيضا ذلك اليوحنا أن الله سبحانه وتعالى، حين صعد عيسى إلى السماء بعد نجاته من الصلب، سأله: أأنت قلت للناس: أنا الله وابن الله؟ وأن عيسى قد أجاب قائلا: ارحمنى يا إلهى. أنت تعلم أننى لم أقل هذا وأننى لم أستنكف أن أكون عبدا لك. إلا أن الخطاة من الناس قد اقترفوا الخطيئة فكذبوا علىَّ وكتبوا أننى قلت هذا الكلام، فقال له الله: أنا أعلم بأنك لم تنطق بهذا الكلام.
هذا ما كتبه يوحنا الدمشقى، أما ما جاء فى القرآن عن ذلك الأمر فموجود فى سورة "المائدة"، وها هو ذا نصه بالحرف: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)".
ومن هذه الآيات المباركات يتضح أن الحوار المذكور لم يجر بين الله وعبده المسيح عقب صعود هذا إلى السماء، بل سيجرى يوم القيامة بدليل ما جاء فى آخر الآيات من الإشارة ألى أن ذلك اليوم هو اليوم الذى ينفع فيه الصادقين صدقُهم. وهذا هو يوم القيامة. كما أن السؤال الإلهى لم يكن عما إذا كان عيسى قد قال للناس إنه الله وابن الله، بل عما إذا كان قد قال لهم: اتخذونى وأمى إلهين من دون الله. كذلك ليس فى رد المسيح عليه الصلاة والسلام أية إشارة إلى أن الناس قد كتبوا هذا الكفر أو لم يكتبوه، بل ليس فيه أنهم قالوا هذا أو ذاك عن المسيح، إذ كل ما نقرؤه فى الآيات أن الله سبحانه وتعالى أعلم بما وقع فيه النصارى من تثليث بعدما تَوَفَّى المسيحَ ورفعه إليه.
ولا يقف جهل الجاهل عند هذا الحد بل يتعداه إلى الأوليات: فمثلا نراه يكتب أن محمدا (أو "هذا المحمد" بنص عبارته الوقحة) قد ألف كثيرا من الكتب المضحكة معطيا كل كتاب اسما خاصا. وطبعا لم يكتب محمد شيئا على الإطلاق، بل كان يتلقى الوحى فيبلغه للناس شفاها: مسلميهم وكافريهم ويهودهم ونصاراهم على السواء. كما أنه لم يكن هناك كتب كثيرة، بل كتاب واحد هو القرآن الكريم. أما السور فهى أجزاء من القرآن وليست كتبا، وإلا فهل يوجد فى الدنيا كتاب يتكون من سطر واحد كما هو الحال فى سورة "الصمد" و"الكوثر"، أو سطرين كما فى سورتى "العصر" و"قريش"، أو عدة أسطر أو نصف صفحة أو صفحة مثلا ككثير من السور القرآنية؟
ومن جهله أننا نجده يسمى سورة "النساء" باسم "المرأة"، بصيغة المفرد لا الجمع، واصفا إياها كعادته فى الجهل بأنها "كتاب"، ويقول إن كتابا قرآنيا آخر يحمل اسم "ناقة الله"، وهو ما لا وجود له فى القرآن، بل الموجود سورة "الشمس"، وأن الله عز وجل قال لعيسى بعدما استجاب لدعائه بإنزال مائدة من السماء: "لقد آتيتكم مائدة غير قابلة للفساد". وكل هذا لا وجود له فى القرآن ولا حتى فى الحديث. وهذا ما جاء فى سورة "المائدة" فى ذلك الموضوع: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)".
ومن السور التى تناولها الجاهل الدمشقى بالحديث سورة "البقرة"، وقد سماها كالعادة: "كتابا"، فماذا قال بشأنها؟ لقد ذكر أنها تحتوى على كثير جدا من الأشياء المضحكة التى تمنعه كثرتها من تناولها بالكلام. لكنه استمر فأشار إلى أن محمدا (يقصد القرآن) قد شرع للمسلمين الختان: للرجال والنساء على السواء، وأنه نهاهم عن حفظ السبت والعِمَاد. وطبعا لا وجود لشىء من هذا بتاتا فى "البقرة" ولا فى أية سورة أخرى من سور القرآن، أو من الكتب التى ألفها محمد كما يدعى هذا الجهول.
فهذا عن جانب الجهل فيما كتبه الدمشقى عن الرسول عليه السلام وعن القرآن. وفى محاضرة للمطران جاورجيوس (خضر) بدمشق بتاريخ ٣٠ حزيران ٢٠٠٨م (وهى موجودة على الرابط التالى: http://www.ortmtlb.org.lb/sermons/damascene.htm) نسمع ذلك المطران يؤكد أن يوحنا الدمشقى لم يكن مؤهلا بما فيه الكفاية لتناول القرآن. قال: "في هذا المناخ عمل آل منصور، الذين انحدر منهم ذاك الذي نوجز سيرته هنا. هل كانوا عربًا قبل الفتح؟ وكانت قبائل عربية كثيرة قد استوطنت بلاد الشام. لا نستطيع أن نؤكّد ذلك. الثابت انّهم كانوا يتكلّمون اليونانية مثل كل أهل المدن السورية، والسريانية كانت لغة الريف. ولكني أميل الى الاعتقاد أنهم انكبّوا على العربية فور الفتح، إذ كان عليهم أن يخاطبوا الخلفاء. وقناعتي أن يوحنا الدمشقي ألم بالعربية، إذ نعلم انه كان نديمًا للخليفة يزيد. فاللغة المشتركة بينهما كانت بالضرورة عربيةً ما. ولكن ظنّي أنه لم يكن يملك النص إلى درجة فهمه السليم للقرآن، إذ أخطأ في موضع أو في غير موضع في فهمه للمصادر الإسلامية في كتابه الصغير: "جدل بين مسيحي ومسلم". غير أننا لم نعثر على أثر منه بالعربية، إذ كان يكتب باليونانية لأهل دينه مفسّرًا العقيدة. ولم يكن يتوقّع أن يقرأه العرب الفاتحون. يبقى أن الأخطل كان صديقًا للعائلة، ولا بد إذًا من أن الذي نؤرّخ له قرأ الشعر العربي. إلى هذا ينبغي التأكيد أن معرفة يوحنا للعربيّة كانت أضعف من معرفته اليونانية، ولاسيّما أن هذه كانت لغة البيت والكنيسة. وما يثبّت نظريّتنا هذه أن أساس الثقافة عند يوحنا جاء من أن أباه وجد أسيرا مسيحيا عند العرب فطلب تحريره إلى بيته، وكان هذا يعرف كل علوم العصر، وأوكل اليه كل تربية ابنه، فأخذ هذا عنه البلاغة والفيزياء والحساب والهندسة وعلم الفلك واللاهوت وما أهّله أن يقتبس من الفلسفة اليونانيّة الكثير".
والآن جاء دور الكذب. وقبل أن نتعرف إلى الأساليب التدليسية التى انتهجها هذ اليوحنا فى محاربة دين الله ننقل هذه العبارة من مادة "St. John Damascene" فى "The Catholic Encyclopedia: الموسوعة الكاثوليكية" الإنجليزية:
" In treating of Islamism he vigorously assails the immoral practices of Mohammed and the corrupt teachings inserted in the Koran to legalize the delinquencies of the prophet."
فالرسول الكريم، حسبما يدلّس هذا الكذاب بدم بارد وضمير لا يعرف الخجل، قد وقعت يده على العهدين: القديم والجديد، أى على الكتاب المقدس (طبعا باللغة العربية، إذ إن محمدا لم يكن يعرف إلا لغة قومه)، ثم حدث أن قابل راهبا آريوسيا تحدث معه، فقام فى نفسه أن يؤلف دينا جديدا. هكذا خَبْط لَزْق! لقد قرأ الكتاب المقدس، ثم قابل الراهب وتحدث معه، فابتدع ديانة جديدة! وهل هناك شىء آخر يحتاجه إنشاء دين جديد سوى هذا؟ ألا يرى القارئ أن ذلك الدمشقى الكذاب يتحدث عن تأليف الديانات وكأنه يصف الكيفية التى يتم بها صنع الكبيبة الشامى؟ وليعذرنى القارئ إذا ذكرت الكبيبة الشامى فى سياقنا هذا، فيوحنا دمشقى، أى من الشام، إذ دمشق جزء من سورية، وسورية جزء من الشام. بل إن أهل سوريا ليسمون دمشق نفسها: "الشام" كما نطلق نحن هنا على القاهرة اسم "مصر". فكان من اللائق أن نأتى بشىء يناسب الموقف حتى يكون هناك اتساق فى الكلام. أليس كذلك؟
أما بخصوص هذا الراهب الآريوسى فقد علق محقق كتاب يوحنا الدمشقى الذى ورد فيه هذا الكلام عن سيد الأنبياء والمرسلين بأنه قد يكون هو الراهب بحيرا، الذى قابل محمدا فى صباه عند بُصْرَى بالشام وقال إنه يرى فيه علامة النبوة: "This may be the Nestorian monk Bahira (George or Sergius) who met the boy Mohammed at Bostra in Syria and claimed to recognize in him the sign of a prophet.". إذن فمحمد قد قابل الراهب فى صباه. وهل من الممكن أن يفكر صبى فى الثانية عشرة أو نحوها فى اختراع دين جديد؟ أليس هذا من كذابنا الدمشقى سخافة وتنطعا؟ والعجيب أنه يرمى النبى محمدا الصادق الأمين بتأليف الوحى والتدليس على الناس بزعمه أن هذا الوحى إنما ينزل عليه من السماء. بالله من المدلس هنا؟ أليس هو يوحنا الدمشقى ذا الوجه الجامد والجلد الغليظ الكثيف؟ هل رأى منكم أحد أو سمع أو حتى قرأ أن الصبيان يخترعون الأديان أو يفكّرون مجرد تفكير فى اختراعها؟ ولست أنا وحدى الذى يقول هذا، فقد قاله قبلى مثلا توماس كارلايل الكاتب والمفكر الأسكتلندى صاحب كتاب "الأبطال"، إذ سخّف تلك الدعوى المتهافتة، نافيا أن يثمر لقاء بين الصبى محمد وأحد الرهبان الأجانب الذين لا يعرفون اللغة العربية فى الطريق إلى الشام، وبحضرة رجال القافلة القرشية، وطبعا لمدة دقائق معدودة لا أكثر، شيئا ذا بال. َدَعْ عنك تفكير ذلك الصبى فى تأليف ديانة جديدة! بل إن هناك من الأوربيين من يشكون فى وقوع مثل ذلك اللقاء أصلا كإدمون باور (انظر Joseph Huby, Christus: Manuel d'Histoire des Religions, Beauchenese et ses Fils, Paris, 1946, P. 780). وبالله إذا كان هناك مثل ذلك الراهب فلماذا لم يتكلم بما وقع ويعلن الحقيقة موضحا أن ذلك النبى الجديد ليس فى الحقيقة سوى ذلك الصبى الذى التقاه فى بصرى قبل سنين وتعلم منه ما ساعده على تأليف ديانته الجديدة؟ أو لماذا لم ينبر أحد القرشيين الذى كانوا يرافقونه فى تلك الرحلة التجارية ورَأَوْا وسمعوا ما دار بينه وبين الراهب المذكور فيفضح محمدا وينسف دينه بكل سهولة؟
وهذا هو خبر بحيرا حسبما ذكره ابن إسحاق فى السيرة النبوية: "أخبرنا الشيخ أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزاز قراءة عليه وأنا أسمع قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: قرئ على أبي الحسن رضوان بن أحمد وأنا أسمع قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: وكان أبو طالب هو الذي أضاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بعد جده، فكان إليه ومعه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجرا. فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صَبَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم؟ فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا، أو كما قال. فخرج به معه، فلما نزل الركب بُصْرَى من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة قَطُّ راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا، وكانوا يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته، فصنع لهم طعاما كثيرا. وذلك، فيما يزعمون، عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمام حتى أظلت تحتها. فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصُنِع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم: صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم. فقال له رجل منهم: يا بحيرا، إن ذلك اليوم لشأنا. ماكنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت. قد كان ما تقول. ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم: صغيركم وكبيركم. فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش، لا يتخلفْ أحد منكم عن طعامي هذا. قالوا له: يا بحيرا، ما تخلف إلا غلام في رحالهم. قال: فلا تفعلوا. ادعوه، فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل مع القوم من قريش: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا. يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته. حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه. قال: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت. ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رَأَوْه وعرفوا منه ما عرفت ليَبْغُنَّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرعْ به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيرا وتماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رَأَوْا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكَّرهم اللهَ عز وجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا. فقال أبو طالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرادوا منه (أولئك النفر) وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمدا * عندي بمثل منازل الأولادِ
لما تعلق بالزمام رَحِمْتُه * والعِيسُ قد قلّصْنَ بالأزوادِ
فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارفٌ * مثل الجمان مفرّق الأفرادِ
راعيت فيه قرابةً موصولةً * وحفظتُ فيه وصية الأجداد
وأمرتُه بالسير بين عمومةٍ * بيض الوجوه مَصَالِتٍ أنجادِ
ساروا لأبعدِ طِيّةٍ معلومةٍ * فلقد تباعَدَ طِيّةُ المرتادِ
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شَرَكٍ من المرصادِ
حَبْرًا فأخبرهم حديثا صادقا * عنه ورَدَّ معاشر الحسادِ
قوما يهودا قد رَأَوْا ما قد رأى * ظل الغمام وعز ذي الأكيادِ
ساروا لقتل محمد فنهاهمُ * عنه، وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيرا بحيرا فانثنى * في القوم بعد تجادلٍ وبعادِ
ونهى دريسا فانتهى عن قوله * حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبو طالب أيضا:
ألم ترني من بعد هَمٍّ هممتُه * بفرقة حُرّ الوالدين كرامِ
بأحمدَ لما أن شددتُ مطيتي * برحلي، وقد ودعتُه بسلام
بكى حَزَنًا، والعِيسُ قد فَصَلَتْ بنا * وأخذتُ بالكفين فضل زمامِ
ذكرى أباه ثم رقرقتُ عبرة * تجود من العينين ذات سجام
فقلت: تروَّحْ راشدا في عمومة * مواسين في البأساء غير لئامِ
فرُحْنا مع العِير التي راح أهلها * شآمي الهوى، والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا * لنا فوق دور ينظرون جسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشدا * لنا بشراب طيب وطعامِ
فقال: اجمعوا أصحابكم لطعامنا * فقلنا: جمعنا القوم غير غلام
يتيم، فقال: ادعوه، إن طعامنا * كثير، عليه اليوم غير حرامِ
فلما رآه مقبلا نحو داره * يوقِّيه حَرَّ الشمس ظِلُّ غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه * إلى نحره والصدر أي ضمامِ
وأقبل رَكْبٌ يطلبون الذي رأى * بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعُرَامهم * وكانوا ذوي دَهْىٍ معا وعُرَامِ
دريسا وتماما وقد كان فيهمُ * زبير، وكلُّ القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد * فردهمُ عنه بحسن خصامِ
بتأويله التوراة حتى تفرقوا * وقال لهم: ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه * وليس نهار واضح كظلام
وقال أبو طالب أيضا:
بكى طربا لما رآنا محمد * كأن لا يراني راجعا لمعادِ
فبتُّ يجافيني تهلل دمعه * وقرَّبْتُه من مضجعي ووسادي
فقلت له: قَرِّبْ قَعُودك وارتحل * ولا تخش مني جفوة ببلادي
وخَلِّ زمام العيسى وارتحلَنْ بنا * على عزمة من أمرنا ورشاد
ورُحْ رائحا في الراشدين مشيَّعا * لذي رحمٍ في القوم غير مُعَادِ
فرُحْنا مع العير التي راح ركبها * يؤمّون من غوريِّ أرضِ إياد
فما رجعوا حتى رَأَوْا من محمد * أحاديث تجلو غم كل فؤادِ
وحتى رأوا أحبار كل مدينة * سجودا له من عصبة وفراد
زبيرا وتماما، وقد كان شاهدا * دريسا، وهَمُّوا كلهم بفسادِ
فقال لهم قولا بحيرا وأيقنوا * له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا * وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم يملك له النصح: رُدَّه * فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين، وإنه * أخو الكتب مكتوب بكل مداد"
ونحن، على الأقل، لا نسلم بكل ما جاء فى القصة، وبخاصة هذا الشعر المنسوب إلى أبى طالب، فهو منظوم بأسلوب يختلف اختلافا شديدا عن أسلوب الشعر فى تلك الفترة. بل إنه ليشبه النظم المتخشب الذى لم يكن الجاهليون يعرفونه. وحسنا عمل ابن هشام عندما حذفه من سيرة ابن إسحاق، التى أعمل فيها قلم تنقيحه وتهذيبه كما هو معلوم للدارسين. فمثلا كيف يسمى أبو طالب ابن أخيه الصبى الصغير بـ"النبى"؟ وإذا كان أبو طالب قد آمن قبل الأوان بنبوة ابن أخيه، فلم يا ترى لم يؤمن بتلك النبوة بعدما أصبحت حقيقة واقعة؟ وكيف لم يذكّره النبى بذلك الإيمان القديم حين لم يسارع مع المسارعين إلى الدخول فى دينه؟ ومتى وصَّى أجداد أبى طالب بمحمد؟ ولم وَصَّوْا به؟ وماذا قالوا فى وصيتهم تلك يا ترى؟ أكانوا يقصدون أنه سيكون نبيا وأن واجب أقربائه الحفاظ عليه من الأذى؟ ولكن لماذا كانوا يتوقعون الأذى؟ وهل كانوا يعلمون الغيب؟ فمن أنبأهم بذلك الغيب؟ كذلك ففى لغة ذلك الشعر ما يدل على أنه لا يمكن أن يكون شعرا جاهليا، إذ متى كان الجاهليون يعرفون "الجهاد"، بله عبارة "جاهَد فى الله"؟ إنهم لم يكونوا يعرفون إلا الغزوات القبلية التى تقوم على السلب والنهب لا الجهاد الدينى. ثم إن عبارة "وجاهَدهم في الله كل جهاد"، تشبه أن تكون صدى لقوله تعالى فى سورة "الحج" يخاطب المسلمين: "وجاهِدوا فى الله حق جهاده"، الذى لم يكن نزل بعد لأنه لم يكن هناك قرآن أصلا حتى ذلك الحين.
علاوة على أنه من المستبعد تماما أن تكون ثم مؤامرة على الصبى الصغير فلا يبالى العم بها، تاركا للراهب الأجنبى الذى قابله مصادفة فى بصرى مسؤولية إحباطها، مع اكتفائه بالفرجة وكأنه يشاهد مسرحية مسلية! ترى ألو كانت هذه القصة صحيحة أكان النبى يُغْفِلها فلا يتخذها شاهدا على صدق دعوته، على أقل تقدير: فى المرحلة المبكرة حين كان المكيون يقفون سدا منيعا دون بلوغها آذان الناس وقلوبهم وعقولهم؟ ثم إذا استحضرنا أن أبا طالب نفسه لم يعتنق الإسلام رغم حبه الشديد لابن أخيه فإنه يغلب على ظننا أن القصة، على الأقل: فى هذا الجانب منها، غير حقيقية. ثم مَنْ زبير وتمام ودريس هؤلاء؟ لا أحد يعرف عنهم شيئا. ترى من أين أَتَوْا؟ وأين اختفَوْا؟ وإلى أية قبيلة يَعْتَزُون؟ وما الذى كان قد أتى بهم إلى بُصْرَى؟ لا جواب. لماذا؟ لأنهم لم يكن لهم فى الحقيقة أى وجود. وهل يعقل أن الله لم يظلل محمدا من حر الشمس ويهصر له أغصان الشجرة إلا هذه المرة فقط، ثم يدع سبحانه وتعالى ذلك فلا يعمله بعدها قط ولا حتى بعد نبوته، التى امتدت ثلاثة وعشرين عاما كان يقاسى طوالئذ حر الشمس مثلما يقاسيه أى إنسان آخر؟ لقد كان أحرى بهذه المعجزة أن تقع فى غزوة تبوك مثلا حين بلغت حرارة الشمس درجة شديدة وبلغ العطش بالمسلمين مبلغا معنتا حسبما تصوره بعض الروايات التى أوردها الطبرى فى تفسير الآية 117من سورة "التوبة"، إذ تقول إن المسلمين "خرجوا في غزوة تبوك: الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها. كان ذلك عُسْرَة من الماء، وعُسْرَة من الظَّهْر، وعُسْرَة من النفقة"، ومن هنا سميت بغزوة "العُسْرَة". ولماذا، بعد فشل اليهود الثلاثة فى تآمرهم هذا، لم يكرروه ويحاولوا قتل النبى مرة أخرى؟ بل لماذا لم يذكره الرسول أو أحد أصحابه فى المدينة حين ظهرت شرور يهود وشرعوا يثيرون له صلى الله عليه وسلم ولدينه فى المدينة المشاكل؟ وقبل ذلك كله كيف عرف بحيرا أن محمدا الصبى لا بد أن يكون يتيما؟ المفترض أنه، إذا كان يعلم صفة النبى، فإنه يعلمها من الكتاب المقدس. لكن الآيات التى تتحدث فى الكتاب المقدس عن النبى ليس فيها أنه سيكون يتيما. كذلك فإن آية سورة "الصف"، التى تتحدث عن تبشير عيسى بنبينا عليهما السلام، لا تقول أكثر من أن المسيح قد ذكر اسمه ليس إلا.
والملاحظ أن كتب الصحاح لم تأت بأى ذكر للراهب بحيرا بتاتا، بل لقد حاولت أن أجده فى موقع "الدرر السنية" الخاص بالأحاديث النبوية بكل أنواعها فلم أعثر عليه (باسم "بحيرى" بالياء اللينة) إلا فى الحديث التالى الذى أورده ابن كثير فى "البداية والنهاية": "خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش. فلما أشرفوا على الراهب، يعني بحيرى، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب. وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم. قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين. وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي. وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه. ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رِعْيَة الإبل فقال: أرسلوا إليه. فأقبل، وغمامة تظله. فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه، عليه غمامة. فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فَيْءِ الشجرة. فلما جلس مال فيء الشجرة عليه. قال: انظروا إلى فَيْءِ الشجرة مالَ عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم وهو يَنْشُدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رَأَوْه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بُعِث إليه ناس. وإنا أُخْبِرْنا خبره إلى طريقك هذه. قال: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا. إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رَدَّه؟ فقالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه عنده. قال: فقال الراهب: أَنْشُدكم اللهَ أيكم وَلِيُّه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت". وقد حكم المحدثون على هذا الحديث بأن "فيه غرابة" طبقا لما جاء فى موقع "الدرر السنية".
أما أنا فلى عليه بعض الملاحظات الهامة، وهى: هل يعقل أن يكون بحيرا دون كل الخلق الذين كانوا فى المكان هو وحده الذى لاحظ الغمامة وسجود الشجر والحجر؟ ثم يكف يسجد الحجر بالله عليك أيها القارئ؟ لو أن للحجر ارتفاعا مثلما للشجر لقلنا إنه قد مال وانحنى. أما، وليس للحجر ارتفاع كالعمود مثلا، فكيف يسجد؟ ثم لماذا لم يحدث هذا للنبى عليه السلام قبل البعثة أو بعدها إلا تلك المرة فحسب؟ كذلك كيف يصح أن يقال إن أبا بكر قد أرسل بلالا مع النبى فى طريق العودة، وبلال لم يكن من رجال أبى بكر فى ذلك الوقت حتى يكلفه بتلك المسؤولية؟ ذلك أن بلالا كان قبل الإسلام عبدا لأمية بن خلف، ولم يعتقه أبو بكر إلا بعد الدعوة، أى بعد هذا بأعوام كثيرة. وفوق هذا فقد كان أبو بكر فى ذلك الوقت غلاما مثل محمد، فكيف تتحدث عنه القصة بوصفه رجلا ناضجا مسؤولا يرسل معه بلالا كى يضمن ألا يتعرض لأذًى فى طريق العودة؟ وهل يصح التصديق بأن الروم الثلاثة يمكن أن يُسَمُّوا الشخص الذى يريدون أن يقتلوه بـ"النبى"؟ إنهم بهذا إنما يدينون أنفسهم ويحكمون عليها بالكذب والكفر والإجرام، إذ الأنبياء عند من يؤمنون بنبوتهم لا ينبغى أن يُقْتَلوا، ولا يفكر فى قتلهم إلا كافر. بل من أخبرهم يا ترى أن ذلك النبى الذى أرادوا التخلص منه قد خرج إلى الشام وأنه يمر بهذه الطريق؟ أكانوا يعلمون الغيب؟ فمن أعلمهم به، والغيب لا يعلمه إلا الله؟ واضح أن فى القصة أشياء غير قليلة لا يهضمها العقل.
وقد أعاد النصارى صياغة القصة، ولكن على أساس أن بحيرا كان أستاذا لمحمد عَلَّمه النصرانية الآريوسية، فأخذها عنه ولفق منها دينه الجديد. وربما كان أول من قال بذلك هو يوحنا الدمشقى نفسه. وقد فعلوا ذلك انتقاما من الإسلام على طريقتهم فى حرب الأفكار إذ يستعينون بالكذب والتضليل والتدليس دون أدنى قدر من الحياء، بعدما خرج الشام من يد النصرانية واكتسح الدينُ الجديدُ المنطقةَ بل العالم اكتساحا.
وقد عاودت البحث فى الأحاديث النبوية عن "بحيرا"، ولكنْ بالألف هذه المرة، فعثرت عليه فى الأحاديث الخمسة التالية التى أُورِدها مشفوعة بأحكامها عند أهل الصنعة، ثم أحللها كما حللت الحديث السابق الذى رواه ابن كثير فى "البداية والنهاية". وهذه هى: 1- (حديث) في سفر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مراهق، مع أبي طالب إلى الشام، وقصة بحيرا (الراوي: أبو موسى الأشعري- المحدث: الذهبي- المصدر: ميزان الاعتدال- الصفحة أو الرقم: 2/581- خلاصة حكم المحدث: منكر). 2- أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى إذا نزل منزلا فيه سدرة قعد في ظلها، ومضى أبو بكر إلى بحيرا يسأله عن شيء، فقال له: من هذا الرجل الذي في ظل السِّدْرة؟ فقال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال: هذا والله نبي. ما استظل تحتها بعد عيسى إلا محمد. ووقع في قلب أبي بكر. فلما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم اتبعه (الراوي: أبو موسى الأشعرى- المحدث: السخاوي- المصدر: الأجوبة المرضية- الصفحة أو الرقم: 2/884-خلاصة حكم المحدث: إسناده ضعيف). 3- أن أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى إذا نزل منزلا فيه سدرة قعد في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له: بحيرا يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. قال: هذا والله نبي، ما استظل تحتها بعد عيسى بن مريم إلا محمد. ووقع في قلب أبي بكر الصديق. فلما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه (الراوي: عبد الله بن عباس- المحدث: السيوطي- المصدر: الخصائص الكبرى- الصفحة أو الرقم: 1/86- خلاصة حكم المحدث: إسناده ضعيف). 4- أن كوكبة من فرسان الروم أقبلت على بحيرا كأنها تبحث عن شيء. فلما سألها: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأن نبيا يخرج هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها الناس للقبض عليه. فجادلهم بحيرا حتى أقنعهم بعبث ما يطلبون (الراوي: أبو موسى الأشعري- المحدث: الألباني- المصدر: فقه السيرة- الصفحة أو الرقم: 66- خلاصة حكم المحدث: صحيح، وإسناده صحيح). 5- التقاؤه بالراهب بحيرا، الذي تفرس فيه ورأى معالم النبوة في وجهه وبين كتفيه. فلما سأل أبا طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا! قال: فإنه ابن أخي، مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت. ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود (الراوي: أبو موسى الأشعري- المحدث: الألباني- المصدر: فقه السيرة- الصفحة أو الرقم: 65- خلاصة حكم المحدث: صحيح).
والواقع أن قول الروم الثلاثة إنهم علموا أن نبيا يخرج ذلك الشهر هو قول غير مفهوم، إذ لم يخرج النبى عليه السلام فى ذلك الشهر، بل كان عليه أن ينتظر النبوة عِقْدَيْن آخرين، وهو ما يدل على أن الكلام فى ذلك الموضوع غير منضبط. وفوق هذا كيف كان باستطاعتهم التعرف على النبى صلى الله عليه وسلم بين تلك الأرجاء الشاسعة من الشام وبلاد العرب، وكذلك بين سكان المنطقة كلهم، وهم بالملايين؟ ثم لماذا لم يذكِّر الرسول عليه السلام القرشيين المشركين بتلك الحادثة فى أوائل الدعوة بغية إقناعهم بصحة رسالته حين كانوا يكذّبونه ويعلنون كفرهم به ويصرون عليه ويحيكون له المؤامرات ويؤذونه بالقول والعمل لا يتورعون عن شىء من ذلك؟ هل يُعْقَل أن يكون فى يده عليه الصلاة والسلام وتحت إمرته هذا الدليل الصلب الذى يصعب رده ولا يكلفه فى ذات الوقت شيئا ثم يهمله تماما على هذا النحو الغريب؟ ثم كيف عرف بحيرا أن أحدا غير الأنبياء لم يجلس تحت تلك السدرة؟ أكان يشمّ على ظهر يده؟ أم أوحى الله له بهذا الغيب العجيب؟ أم كان حيا طوال تلك الدهور من لدن آدم حتى محمد، وجالسا فى مكانه يرقب الشجرة ليل نهار لا ينام ولا يلتفت بعيدا عنها ولا يغادر موضعه أبدا ولو لقضاء الحاجة؟ بل قبل ذلك ما الذى أتى بعيسى عليه السلام إلى بُصْرَى أصلا؟ وهل يمكن أن تعيش سدرة طوال تلك الأحقاب حتى ليجلس تحتها كل الأنبياء حسبما جاء فى الخبر؟ الحق أن فى القصة أشياء لا يرتاح إليها المنطق. ولكن فى كل الأحوال لا يمكن المماراة فى أن بحيرا، حتى لو قبلنا كل ما جاء فى تلك القصص، لم يقض مع الصبى الصغير إلا دقائق معدودة، وفى رفقة كبار رجال القافلة على الأقل. فمثل ذلك الوقت لا يتيح لأحد أن يعلِّم أحدا شيئا. ولو افترضنا المستحيل وسلمنا بما افتراه يوحنا الدمشقى وقلنا إن بحيرا قد علم محمدا النصرانية فعلا فى تلك الدقائق (على طريقة "كيف تتعلم الإنجليزية فى ثلاثة أيام بدون معلم؟") لَعَلِمَ بذلك أولئك المكيون ولحاربوا به الرسول حين أتى بالإسلام، فقصموا ظهر دعوته فى الحال. لكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا رغم أنهم لم يتركوا وسيلة من الوسائل القذرة إلا واستغلوها لمحاربته هو ودينه. فما معناه؟ معناه أن شيئا من ذلك لم يحصل بتاتا. أما بحيرا ومن يعلمون من أصحابه الرهبان بما جرى بينه وبين الغلام القرشى فلم يكونوا ليسكتوا عن إعلان ما حدث واتخاذه أداة يفضحون محمدا بها. ولكنهم هم أيضا لم يفتحوا أفواههم بكلمة. فما معنى هذا للمرة الثانية إلا أن كل ما زعمه ذلك اليوحنا هو كذب أبلق وتدليس رخيص مثله بالضبط؟
ويمضى الكذاب القرارىّ فى مزاعمه السخيفة التى لا تنطلى إلا على من كان فى قلبه وعقله مرض فيدعى أن محمدا قد وقع على العهدين القديم والجديد فقرأهما ولفق منهما دينه مدعيا أنه وحى سماوى. وسؤالنا هو: أين يا ترى صادف الرسول عليه السلام الكتاب المقدس؟ هل كانت فى مكة مكتبات يستعار منها مثل تلك الكتب؟ أم هل كان يستعيرها من بعض المستشرقين ممن كانوا يعيشون فى مكة يدرّسون بجامعتها؟ أم ماذا؟ ومن الذى شاهده يا ترى وهو يطالع تلك الكتب ويحفظ ما فيها؟ إنه لم يشاهَد يوما وفى يده كتاب، فكيف ينجّم يوحنا المدلس ويقول هذا الكلام بلا أدنى دليل؟ أهذا هو ما علمهوه دينُه؟ وهل تُنْصَر الأديان بهذا الكذب؟ ثم كيف نفسر تلك الاختلافات بين رواية القرآن ورواية الكتاب المقدس للموضوعات المشتركة بين الكتابين ويتصادف رغم ذلك أن يكون كلام القرآن هو الموافق للمنطق والتاريخ، وكلام الكتاب المقدس مناقضا لهما؟ وكيف تصادف أيضا أن يكون القرآن وحدانىّ الدعوة نقى الوحدانية إلى آخر المدى، والعهد القديم مجسِّدًا للإله فى بعض مواضعه، والأغلبيةالساحقة من أتباع العهد الجديد مثلثين؟
والعجيب الغريب أن دمشقينا الكذاب الذى اتهم النبى الكريم بأنه كان يستعين بكتب اليهود والنصارى وتعلم على يد راهب نصرانى هو هو نفسه الذى زعم أن الرسول كان يأتيه القرآن وهو نائم. فبالله لماذا يأيته القرآن وهو نائم إذا كان هو يؤلفه تأليفا، ويزيفه تزييفا؟ أرأيتم مزيفا يؤلف ما يريد تزييفه وهو نائم؟ إن التزييف والتأليف عملية إرادية واعية، أما ما يقع أثناء النوم فلا وعى ولا إرادة، إذ يكون الإنسان سلبيا تام السلبية. ولكن متى كان الكذابون من أمثال يوحنا الدمشقى يحترمون العقل والمنطق والقراء الذين يطالعون ما يكتبون؟ وعلى كل حال فها هى ذى بعض الروايات التى تتعلق بنبوة سيد البشر بدءا من الإرهاصات الأولى قبل أن تكون نبوة، وصولا إلى الأشكال التى كان ينزل بها الوحى عليه صلى الله عليه وسلم، أسوقها بغض النظر عن مدى صحتها أو ضعفها، فالمهم أن نرى هل فى الروايات الإسلامية ما يمكن أن يكون يوحنا الدمشقى قد استند إليه فى الزعم بأن رسول الله كان يأتيه القرآن فى نومه أَوْ لا.
ففى "صحيح الترمذى" عن عائشة أنها قالت: "أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به أن لا يرى شيئا إلا جاءت كفلق الصبح. فمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث، وحُبِّبَ إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو". فهذا قبل نزول الوحى عليه أيام تحنثه تأهيلا من السماء له كى يكون نبيا، لكنه لم يكن نبيا بعد. وفى "عمدة التفسير" يورد الشيخ أحمد شاكر رواية عن أسماء بنت يزيدهذا نصها: "إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه "المائدة" كلها، وكادت من ثقلها تدقّ عضد الناقة". وفى "صحبح البخارى" عن الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وأرضاها أن آيات براءتها قد نزلت على النبى فى بيت أبويها، "فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان، وهو في يومٍ شاتٍ، من ثقل القول الذي أنزل عليه". وفى "مجمع الزوائد" للهيثمى عن زيد بن ثابت: "كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا نزل عليه أخذته بُرَحَاءُ شديدة، وعَرِقَ عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سُرِّيَ عنه. فكنت أدخل بقطعة العُسُب أو كسره فأكتب وهو يملي عليَّ. فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن حتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدا. فإذا فرغت قال: اقرأه. فأقرؤه. فإن كان فيه سقط أقامه (أى كان الرسول يراجع ما يكتبه زيد حتى يتحقق أنه كتب ما أملاه عليه بنحو صحيح لم يخرم منه حرفا)، ثم أَخْرُج به إلى الناس". ومن حديث الشيخ شاكر فى كتاب "مسند أحمد" من رواية الفاروق رضى الله عنه: "كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسْمَع عند وجهه دَوِيٌّ كدَوِيّ النحل. فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنّا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثِرْنا ولا تُؤْثِر علينا، وارض عنا وأرضنا. ثم قال: لقد نزلتْ عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ علينا "قد أفلح المؤمنون" حتى ختم العَشْر". فأين النوم هنا؟ ألا يدل هذا كله على أن يوحنا الدمشقى كذابٌ أَشِر؟
ومما دلّس فيه الدمشقى الخبيث نسبته زورا وبهتانا إلى الرسول القول بأن مريم أم المسيح هى أخت موسى وهارون. ولا شك فى أن هذه كذبة بلقاء أخرى من أكاذيب هذا الثعلب الخبيث التى لا تنتهى، إذ لم يقل الرسول ولا قال القرآن فى أى وقت إن مريم أم المسيح هى أخت موسى وهارون. بل الذى فيه هو أن اليهود، حين أتتهم عليها السلام بطفلها تحمله، قالوا لها: "يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيًّا". فالقائل بهذا ليس هو القرآن، بل قوم مريم أيا كان مقصدهم من الإشارة لأُخُوّتها إلى هارون. ولو كان القرآن قد افترى على بنى إسرائيل هذا القول لما سكت يهود المدينة ولشنعوا به على الإسلام وكتابه ورسوله وأتباعه. لكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا بالمرة. فما معناه؟
ولقد سبق أن فسر الرسول الآية منذ وقت مبكر حين جاءه الصحابى الجليل المغيرة بن شعبة قافلا من اليمن فأخبره أنهم هناك قد سألوه كيف تكون مريم أخت هارون وموسى، وبين موسى وعيسى الزمن الطويل، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: هلا قلتَ لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء صالحيهم؟ فعن المغيرة رضى الله عنه: "لما قَدِمْتُ نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرأون: "يا أخت هارون"، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا! فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" (الراوي: المغيرة بن شعبة- المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم- خلاصة حكم المحدث: صحيح"، "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: ألستم تقرأون: "يا أخت هارون"، وقد كان بين موسى وعيسى ما كان؟ فلم أدر ما أجيبهم. فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم؟ (الراوي: المغيرة بن شعبة- المحدث: الألباني- المصدر: صحيح الترمذي - خلاصة حكم المحدث: حسن)".
كما شرح المفسرون المسلمون الآية بعد ذلك بما يدل على أنهم يَرَوْنَها تعبيرا مجازيًّا، فقال ابن كثير مثلا فى تفسيرها: "..."يا أخت هارون"، أي شبيهة هارون في العبادة. "ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا"، أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟قال علي بن أبي طلحة والسُّدّيّ: قيل لها: "يا أخت هارون"، أي أخي موسى، وكانت من نسله، كمايقال للتميمي: "يا أخا تميم"، وللمُضَري: "يا أخا مُضَر". وقيل: نُسِبَتْ إلى رجل صالح كان فيهم اسمههارون، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له: هارون. ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأغرب من هذا كلهما رواه ابن أبي حاتم، حدثنا علي بن الحسين الهجستاني، حدثنا ابن أبي مريم، حدثناالمفضل، يعني ابن أبي فضالة، حدثنا أبو صخر عن القُرَظِيّ في قول الله عز وجل: "يا أخت هارون"، قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّتْ أثر موسى، "فبَصُرَتْ به عن جُنُبٍ وهم لا يشعرون". وهذا القول خطأ محض، فإن الله تعالى قد ذكر فيكتابه أنه قَفَّى بعيسى بعد الرسل فدلَّ على أنه آخر الأنبياء بعثا (أى قبل الرسول محمد)، وليس بعده إلا محمدصلوات الله وسلامه عليهما. ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عنرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بينيوبينه نبي". ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القُرَظِيّ لم يكن متأخرا عن الرسل سوىمحمد، ولكان قبل سليمان وداود. فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام. وفيقوله تعالى: "ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: ابعثلنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، وذكر القصة إلى أن قال "وقتل داودُ جالوتَ"... الآية. والذيجَرَّأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه، قال: "وقامت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيَّيْن تَضْرِب بالدُّفّهي والنساء معها يسبِّحْن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل"، فاعتقد القرظيأن هذه هي أم عيسى. وهذه هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه. وقد كانوا يُسَمّون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم كما قال الإمام أحمد، حدثنا عبد الله بن إدريس: سمعت أبي يذكره عنسماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرأون: "يا أخت هارون"، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعتُ فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يُسَمَّوْن بالأنبياء والصالحين قبلهم؟". انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديثعبدالله بن إدريس عن أبيه عن سماك به. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا منحديث ابن إدريس. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عنمحمد بن سيرين قال: أُنْبِئْتُ أن كعبا قال إن قوله: "يا أخت هارون" ليس بهارون أخي موسى.قال: فقالت له عائشة: كذبتَ (أى أخطأت). قال: يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قالهفهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة. قال: فسكتتْ. وفي هذا التاريخنظر. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: "يا أخت هارون"... الآية، قال: كانت من أهل بيت يُعْرَفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد. ومنالناس من يُعْرَفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به. وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارونٌ آخر. قال: وذكر لناأنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى: هارون من بني إسرائيل".
ومن الواضح أن ابن كثير يرفض التفسير القائل بأنها كانت أختا لموسى وهارون عليهما السلام، مبينا الأسباب التى تدفعه إلى هذا الرفض، وأن محمد بن كعب القرظى، وهو من بنى قريظة اليثربيين، هو الذى كان يفسرها بأنها أخت موسى وهارون النبيين فعلا. ولنفترض أن المفسرين المسلمين كلهم على بكرة أبيهم قد فسروها بأن مريم أم عيسى عليها السلام هى أخت موسى وهارون فعلا، فهل هذا يضير القرآن فى شىء؟ الواقع أنه لا يسىء إلى كتاب الله فى قليل أو كثير، بل يظل اجتهادا منهم يتحملون هم تبعته. والحمد لله أن بين أيدينا تفسير رسول الله لهذه الآية، وهو تفسير يتسق مع طريقة الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى فى استعمال كلمة "أخ" و"أخت".
تقول مادة "أخ" فى "دائرة المعارف الكتابية"، وهى كما يعلم الجميع من تأليف لفيف من رجال الدين النصارى: "يُطْلَق لفظ الأخ على:
1- الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقــط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلاً، فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه أنه " أخوه " (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السِّبْط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أُطْلِق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليفٍ أو أحد أفراد شعـــب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر في صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر في المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13) .
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخًا للذئاب" (أيوب 30: 29).
12- على زميل في العمل أو في الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أي إنسان من الجنس البشري للدلالة على الأخوة البشرية (مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8 ). كما استخدم الرسل والتلاميذ لفظ "إخوة" للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله، وأن كلا منهم أخ للآخر في المسيح (أع 9: 17، 15: 1… إلخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رَعِيّةً مع القديسين وأهل بيــــــــت الله" (أف 2: 9). وقد كان الرّبيون اليهود يفرقـــون بين "أخ" و"قريب"، فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجري في عروقهم الدم الإسرائيلي، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء. ولكنهم لم يكونوا يطلقون أي لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هي من منطلق هذا المفهوم المسيحي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)".
وفى مادة "أخت" تقول "دائرة المعارف الكتابية" أيضا: "تُسْتَخْدَم هذه الكلمة كثيرا في العهد القديم، وهي في العبرية "أبوت"، للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12، لا 18: 9).
3-امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أي 42: 11).
4-امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5-يقال مجازيا عن مملكتي إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
6-تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45 ).
7-تستخدم نفس الكلمة العبرية، لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التي يقال عنها: "بعضها موصــول ببعض" (وفي العبرية "موصول بأخته" - خر 26: 3 و6)، كما تطلق أيضاً على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8-لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل: "قل للحكمة: أنتِ أختي" (أم 7: 4، أي 17: 14).
9-لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفي العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية: "أيلف" (أخت) في المعاني الآتية:
(1) لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
(2) أخت في المسيح: "أختنا فيبي" (رو 16: 1، انظر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تي 5: 1، يع 2: 15).
(3) قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13).
وأصل هاتين المادتين موجود تحت عنوانى "Brother"، و"Sister" فى "The International Standard Bible Encyclopedia: الموسوعة الكتابية النموذجية العالمية"، التى لاحظتُ أن "دائرة المعارف الكتابية" العربية تنقل عنها نقلا واسعا. وهذا نص ما جاء فى المادتين المذكورتين فى أصله الإنجليزى:
"Brother: Used extensively in both Old Testament and New Testament of other relations and relationships, and expanding under Christ's teaching to include the universal brotherhood of man. Chiefly employed in the natural sense, as of Cain and Abel (Genesis 4:8); of Joseph and his brethren (Genesis 42:3); of Peter and Andrew, of James and John (Matthew 10:2). Of other relationships:
(1) Abram's nephew, Lot, is termed "brother" (Genesis 14:14);
(2) Moses' fellow-countrymen are "brethren" (Exodus 2:11; Acts 3:22; compare Hebrews 7:5);
(3) a member of the same tribe (2 Samuel 19:12);
(4) an ally (Amos 1:9), or an allied or cognate people (Numbers 20:14);
(5) used of common discipleship or the kinship of humanity (Matthew 23:8);
(6) of moral likeness or kinship (Proverbs 18:9);
(7) of friends (Job 6:15);
(8) an equal in rank or office (1 Kings 9:13);
(9) one of the same faith (Acts 11:29; 1 Corinthians 5:11);
(10) a favorite oriental metaphor used to express likeness or similarity (Job 30:29, "I am a brother to jackals");
(11) a fellow-priest or office-bearer (Ezra 3:2); Paul called Sosthenes "brother" (1 Corinthians 1:1) and Timothy his spiritual son and associate (2 Corinthians 1:1);
(12) a brother-man, any member of the human family (Matthew 7:3-5; Hebrews 2:17; 8:11; 1 John 2:9; 4:20);
(13) signifies spiritual kinship (Matthew 12:50);
(14) a term adopted by the early disciples and Christians to express their fraternal love for each other in Christ, and universally adopted as the language of love and brotherhood in His kingdom in all subsequent time (2 Peter 3:15; Colossians 4:7,9,15).
The growing conception of mankind as a brotherhood is the outcome of this Christian view of believers as a household, a family (Ephesians 2:19; 3:15; compare Acts 17:26). Jesus has made "neighbor" equivalent to "brother," and the sense of fraternal affection and obligation essential to vital Christianity, and coextensive with the world. The rabbis distinguished between "brother" and "neighbor," applying "brother" to Israelites by blood, "neighbor" to proselytes, but allowing neither title to the Gentiles. Christ and the apostles gave the name "brother" to all Christians, and "neighbor" to all the world (1 Corinthians 5:11; Luke 10:29). The missionary passion and aggressiveness of the Christian church is the natural product of this Christian conception of man's true relation to man".
"Sister: Used repeatedly in the Old Testament of a female
(1) having the same parents as another; or
(2) having one parent in common, with another, half-sister (Genesis 20:12; Leviticus 18:9), and also
(3) of a female belonging to the same family or clan as another, so a kinswoman (Genesis 24:60; Job 42:11);
(4) also of a woman of the same country (Numbers 25:18).
(5) Figuratively, the two kingdoms, Israel and Judah, are sisters (Ezekiel 23:7).
(6) Confederate cities are conceived of as sisters (Ezekiel 16:45).
(7) 'Achoth is used of objects which go in pairs, as curtains, each `coupled to its sister' (Exodus 26:3,6), and of wings in pairs (Ezekiel 1:9; 3:13);
(8) of virtues or conditions, with which one is closely related:
"Say unto wisdom, thou art my sister" (Proverbs 7:4; compare Job 17:14);
(9) of a lover concerning his spouse, as a term of endearment (Song of Solomon 4:9; 5:1; 8:8).
In the New Testament, adelphe, used
(1) in sense of physical or blood kinship (Matthew 12:50; 13:56; 19:29; Luke 10:39; 14:26; John 11:1; 19:25; Acts 23:16);
(2) of fellow-members in Christ:
"Phoebe, our sister" (Romans 16:1; see also 1 Corinthians 7:15; 1 Timothy 5:1; James 2:15);
(3) possibly, of a church, "thy elect sister" (2John 1:13) ".
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فهناك من علماء المسلمين من يفسرون "ابنة عمران" التى توصف بها مريم فى القرآن الكريم تفسيرا مجازيا على هذه الشاكلة جوابا على اعتراض النصارى على هذا الوصف القرآنى لها عليها السلام. وإذا أردنا أن نبحث فى الكتاب المقدس عن مثل هذا الاستعمال فسوف نجد مثلا فى الإنجيل المنسوب إلى متى نقرأ أن عيسى عليه السلام هو "ابن دواد بن إبراهيم". ولا يمكن أن يكونعيسى هو ابن داود ولا أن يكون داود هو ابن إبراهيم إلا على المجاز، إذ بين كل ابنمن الابنين وأبيه أجيال وأجيال. كذلك ففى مادة "أب" من "دائرة المعارف الكتابية" نجد أن هذه الكلمة "ترد بهذا اللفظ والمعنى في العبرية والآرامية وغيرها من اللغات السامية كما هي في العربيـــة. وتستعمل مفردا أو جمعا للدلالة على الوالد أو الجد أو ما قبله من أسلاف (انظر مثلاً إرميا 35: 15 و16). فأبو الشعب أو القبيلة هو مؤسسها ، وليس من المحتم أن يكونوا جميعا من صلبه ، وبهذا المعنى قيل عن إبراهيم إنه أبو الإسرائيليين (تك 17: 11- 14 و57) كما كان إسحق ويعقوب ورؤساء الأسباط آباء بهذا المعنى. كما أن مبدع أو مؤسس حرفة يعتبر أبا لمن يعملون في تلك الحرفة (تك 4: 20- 22). ويستخدم سنحاريب لفظ "آبائي" للدلالة على من سبقوه على عرش أشور مع أنهم لم يكونوا من أجداده (2 مل 19: 12). كما تستخدم الكلمة للدلالة على التوقير والاحترام بصرف النظر عن رابطــــــة الدم (2 مل 13: 14). أما كلمة "أب لفرعون" (تك 45: 8) ، فهي كلمة مصرية معناها "مراقب" أو "وزير" لفرعـــون. وقد نقلها الكاتب إلى العبرية بلفظها، وحسنًا فعل، لكن المترجمين إلى الإنجليزية وكذلك إلى العربية ترجموها كما لو كانت كلمة "أب" العبرية بدلاً من نقلها كما هي أو ترجمتها إلى "وزير"...".
وبالمثل نقرأ فى مادة "ابنة/ بنت" من الموسوعة ذاتها أن تلك الكلمة "تستخدم فى كلمة الله فى أكثر من معنى: 1-بالمعنى الحرفي المعروف (تك 46: 25، خر 1: 16). 2-بمعنى "كنّة" أي زوجة الابن (راعوث 2: 2). 3-بمعنى "حفيدة" مباشرة أو غير مباشرة (لو 1: 5، 13: 16). 4-بمعنى الانتساب إلى بلدة أو مكان معين، مثل: "بنات أورشليم" (لو 23: 28)، أو إلى ديانة معينة مثل "بنت إله غريب" (ملاخى 2: 11)، أو إلى سبط معين مثل: "بنات يهوذا" (مز 48: 11). 5-بمعنى سكان موضع معين كجماعة، وبخاصة فى الأنبياء والأسفار الشعرية كما فى "ابنة صهيون" (مز 9: 14، إش 23: 10، إرميا 46: 24، مت 21: 5). 6-فى مخاطبة أي فتاة أو امرأة، مثلما فى "ثقي يا ابنة" (مت 9: 22، مرقس 5: 34، لو 8: 48)، أو "اسمعي يا بنت" (مز 45: 10). 7-بمعنى جنس النساء عموما، كما فى "بنات كثيرات" (أمثال 31: 29). 8-تستخدم مجازيا فى مخاطبة المدن (إش 47: 1، خر 16: 44و 46). 9-تطلق على القرى والضواحى التابعة لمدينة أكبر (عد 21: 25، قض 1: 27). 10-تستخدم للدلالة على العمر، مثل: "وهى بنت تسعين سنة" (تك 17: 17) أو "بنت ليلة كانت، وبنت ليلة هلكت" (يونان 4: 11)، أو للدلالة على الوظيفة مثل: "بنات الغناء" (جا 12: 4)". ويجد القارئ ذلك فى "The International Standard Bible Encyclopedia: الموسوعة الكتابية النموذجية العالمية" حسبما وضحنا.
فهل نقول إن وصف القرآن لمريم بأنها "ابنة عمران" يجرى هذا المجرى؟ الواقع أن هذا التوجيه كان يمكن أن يكون وجيها لو أن المسألة توفقت عند هذا الحد. أما والقرآن يصف أم مريم بأنها "امرأة عمران" فإن المسألة تتخذ بذلك اتجاها آخر يمنعنا من استعمال الحجة السابقة. صحيح أن الشيخ عبد المتعال الصعيدى (فى مقال له بمجلة "المنار" عنوانه: "مريم أم عيسى عليه السلام- أُخُوّتها لهارون وبُنُوّتها لعمران"/ مجلة "المنار"/ م 33/ ج 10/‌ ص760/ ذو الحجة 1352هـ- أبريل 1934م ) يفسر "امرأة عمران" هى أيضا تفسيرا مجازيا، إلا أن هذا غير مقبول عندى، فمن الصعب جدا أن يؤكد القرآن بنوة مريم لعمران من خلال وصف أمها بأنها "امرأة عمران"، ثم نأتى نحن فنقول إن الاستعمال فى الحالتين استعمال مجازى، وبخاصة أن القرآن فى هاتين العبارتين لم يكن حاكيا كلام اليهود كما هو الحال فى عبارة "يا أخت هارون"، بل كان منشئا لما قال.
من هنا فإنى أرى بكل قوة أن "عمران" هو اسم والد مريم دون جدال. وليس للنصارى حق فى الاعتراض على هذا، إذ لا يوجد فى أناجيلهم الأربعة المعترَف بها لديهم أنها ابنة يواقيم، الذى على أساسه يجأرونبتكذيب القرآن، بل لا يوجد مصدر أكيد يقول إن أبا مريم هو هذا اليواقيم، بل الذىقال ذلك هو أحد الأناجيل التى لا تعترف بها الكنيسة، وهو إنجيل يعقوب. على أن المسرحية لما تتمّ فصولا، إذ يقولون هم أنفسهم إن مريم هى بنت هالى (انظر مادة "Heli" فى "WebBible™ Encyclopedia" حيث نقرأ ما نصه: "Heli: father of Mary and father-in-law of Joseph in the line of Jesus Christ's royal ancestry". وانظر كذلك أواخر مادة "Joseph" والجزء الخاص بمريم أم المسيح من مادة "Marie" فى "Dictionnaire de la Bible: معجم الكتاب المقدس" لجون أوجستين بوست (Jean Augustin Boste, Librairie Protestante, Paris, 1849)، ومقال الشيخ عبد المتعال الصعيدى الآنف الذكر: "مريم أم عيسى عليه السلام- أُخُوّتها لهارون وبُنُوّتها لعمران"/ مجلة "المنار"/ م 33/ ج 10/‌ ص760/ ذو الحجة 1352هـ- أبريل 1934م). والعجيب المريب أن "هالى" فى إنجيل لوقا، الذى أشارت إليه المادة المخصصة له فى "WebBible™ Encyclopedia" بوصفه المرجع الذى ذكر أنه والد مريم، ليس هو والد مريم، بل والد يوسف النجار. إلا أنهم يقولون إن نسبة يوسف هذا إلى يعقوب هى النسبة الصحيحة، أما هالى فرغم أن لوقا ذكر بصريح العبارة أنه أبوه تراهم يقولون إنه أبو زوجته. أى أنه ليس "Helison of "، بل "son-in-law of Heli" (انظر مادة "Mary mother of Jesus" فى نفس الموسوعة).
أتدرى، أيها القارئ العزيز، لماذا يصنعون هذا؟ لكى يكون عيسى عليه السلام منتسبا إلى داود. وبما أنه ليس له أب ينتسب إليه عن طريقه، وبما أن الانتساب إلى داود إنما ينحصر فى يوسف النجار، الذى لم يكن لعيسى بأب، وإلا لقلنا إنه رغم عدم زواجه بمريم آنذاك قد أنجبه منها، بما يترتب على هذا الكلام من كوارث، بما أن الأمر كذلك لم يجدوا مفرا من لىّ كلام لوقا والزعم بأن المقصود هو بنوة مريم لا يوسف للمُسَمَّى: هالى. وبمكنة القارئ الرجوع إلى " Commentary Critical Explanatory on the Whole Bibleand" فى تفسير الفقرة 23 من الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا، ولسوف يجد عرضا للخلاف بين علماء الأناجيل ومفسريه حول هذه النقطة وكيف يلوى فريقٌ منهم النصَّ بغية الوصول إلى ما يريدون من نسبة المسيح إلى داود عن طريق هالى حفيد داود، وذلك من خلال العذراء عليها السلام. كما نراهم يلجأون إلى حيلة أخرى لنسبته إلى داود من خلال القول بأن يوسف النجار هو أبوه الاعتبارى (انظر مادة "Joseph, St." فى الطبعة الثانية من "The New Catholic Encyclopedia")، ومن ثم فله الحق فى الانتساب إلى النبى داود (وانظر كذلك مادة "Joseph" فى "A Dictionary of Christ and the Gospels": تحرير James Hastings، ونشر T. & T. Clarkبإدنبره عام 1906م، حيث تقرأ ما يلى عن يوسف النجار: "He was of Davidic descent; and, though Mt. and Lk. Differ in the genealogical details, they connect Jesus with Joseph and through him with David (Mt l1ff., Lk323ff.) "). وهذا، كما يلاحظ القارئ، من الغرابة بمكان!
ولكى يقدر القارئ مدى الارتباك بين مفسرى العهد الجديد فيما يخص نسب السيد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام هأنذا أحيله على مادة "سلسلة نسب السيد المسيح" من "دائرة المعارف الكتابية" ليقرأها بنفسه. وها هى ذى كاملة، وكل دورى هو إيرادها كما هى: "يقدم لنا العهد الجديد قائمتين لسلسلة نسب الرب يسوع المسيح حسب الجسد، وكلتاهما تثبتان أن يسوع المسيح جاء حسب الجسد من نسل داود، وهي حقيقة يؤكدها العهد الجديد مرارا (مت 21: 29، مر 10: 17، رو 1: 3). فقد كان يوسف، الأب الشرعى ليســـوع، "من بيت داود وعشيرته" (لو 2: 4). فككل اليهود في عصره، وفي كل تاريخهم كان يوسف يحتفظ بسجلات عائلته، فقد كانت هذه السجلات تُحْفَظ بكل عناية لأهميتها لإثبات انتسابهم لإسرائيل، ولإثبات الحقوق الشرعية في المواريث والزواج والحالة الدينية. فمنذ قرون عديدة، كما في أيام عزرا ونحميا، كانوا يرجعون إلى هذه السجلات للتحقق مما يدعيه الشخص (عز 2: 62، 8: 1، نح 7: 5). وفى حالة "يوسف النجار" كان انتسابه إلى داود أمرا هاما لارتباطــــه بالمســــيا الموعـود (إرميا 23: 5 و6، حز 34: 23).
وتشير كلتا القائمتين إلى أن يوسف كان يعتبر الأب الشرعى، وليس الفعلي، ليسوع. وقد تتبع متى السلسلة من إبراهيم إلى داود إلى يوسف في إحدى وأربعين حلقة. بينما عكس لوقا هذا الترتيب راجعا من يوسف إلى داود ومنه إلى إبراهيم ثم إلى آدم، ذاكرا 77 اسما (مت 1: 1 - 17، لو 3: 23 - 38). وبالمقارنة بين القائمتين نكتشف وجود اختلافات واضحة. وأصعب ما فى الأمر هو أن القائمتين تنتهي إحداهما بيوسف بينما تبدأ الأخرى بيوسف نفسه، ومع ذلك فإن الأسماء من داود إلى يوسف تكاد تختلف كلية فى إحدى القائمتين عنها في الأخرى.
أ- سلسلة النسب فى إنجيل متى: كتب متى إنجيله أساسا لليهود، ولذلك كثر استشهاده بالنبوات. وتبرز في هذه السلسلة بعد الخصائص المميزة، فهى تشتمل على شخصيتين من أهم شخصيات العهد القديم: إبراهيم وداود، ولكليهما صلة وثيقة بعهود الله لشعبه القديم. وقد وضع متى سلسلة نسب يسوع فى مقدمة إنجيله، في مكانة الشرف. وقد قسم القائمة إلى ثلاثة أقسام، كل منها من أربعة عشر جيلا. وفى سبيل ذلك أسقط بعض الأسماء، مثل الكثير من القوائم في العهد القديم (انظر مثلا 1 أخ 6: 1 - 15، عز 7: 1 - 5)، ولعله أراد بذلك أن يجعل من السهل أن تحتفظ الذاكرة بالأسماء دون التضحية بالدقة التاريخية. فقد أسقط أسماء ثلاثة ملوك هم أخزيا ويوآش وأمصيا، بين يورام وعزيا. والأرجح أن ذلك كان لأن أولئك الملوك الثلاثة ارتبطوا بعثليا ابنة أخآب وامرأته الشريرة إيزابل. وكان ذلك عقابا لبيت يورام، تنفيذا لقول الرب: "أفتقد ذنوب الآباء فى الأبناء في الجيل الرابع من مبغضيَّ" (خر 20: 5). كما أسقط اسم يهوياقيم بن يوشيا، لأنه كان ملكا شريرا، كما كان ألعوبة في يد فرعون نخو ملك مصر (2 مل 23: 34 و35 و2 أخ 36: 4).
ولعل متى أراد بذلك التقسيم، إلى ثلاثة أقسام، كل منها من أربعة عشر جيلا، أن يكون من السهل على الذاكرة الاحتفاظ بالأسماء دون التضحية بالدقة التاريخية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ولعله أيضا اختار عدد "أربعة عشر" لأنه يتفق مع القيمة العددية للحروف التى يتكون منها اسم "داود" فى العبرية، كما أن العدد 14 هو مضاعف العدد 7 عدد الكمال. ولكن كل هذه افتراضات ليس من يستطيع الجزم بها.
ومما يستلفت النظر أيضا في هذه القائمة أن متى يذكر أسماء أربع نساء: ثامار، وراحاب، وراعوث، وبثشبع. وكانت ثامار كنعانية، وراحاب أمورية من أريحا، وراعوث موآبية، وبثشبع يهودية. ولعل الروح القدس أراد بذلك أن يعلن أن المسيح جاء من نســل المرأة (تك 3: 15)، وأنه جاء لجميع الناس من كل الجنســـيات، وأن نعمته تتسع لكل الخطاة من أمثال ثامار وراحاب، وهكذا أصبح لهن وضعهن فى سلسلة بيت داود الذي جاء منه المسيا الموعود.
ب- سلسلة النسب في إنجيل لوقا: وهي لا تأتي في مقدمة الإنجيل كما في إنجيل متي، ولكنها تأتي في نهاية الأصحاح الثالث بعد معمودية يسوع. كما أن ترتيب الأسماء يأتى تصاعديا من الابن إلى الأب، فتبدأ بيوسف وتنتهي بآدم. كما أن عدد الأسماء بها يكاد يكون ضعف عدد الأسماء في سلسلة النسب في إنجيل متى. ولكن أكثر ما يستلفت النظر فيها هو اختلاف الأسماء فيها في الفترة من داود إلى يوسف اختلافا يكاد يكون تاما عما في إنجيل متى، فيما عدا اسمي داود ويوسف، واسمي شألتئيل وزربابل. كما أن لوقا يصل بسلسلته إلى ناثان بن داود، ويذكر اسم هالي جدّا للرب يسوع حسب الجسد، بينما يذكر متى أن يوسف كان من نسل سليمان بن داود، وأن يوسف كان ابن يعقوب.
جـ- التوفيق بين القائمتين: منذ عهد مبكر ظهرت محاولات للتوفيق بين القائمتين على أساس اليقين الكامل بأن كلتيهما صحيحتان بلا أدنى ريب. وأهم هذه الحلول هى:
1- اعتبار أن السلسلتين هما ليوسف رجل مريم، فكلا الإنجيلين يؤكدان أن يوسف من "بيت داود" (مت 1: 16، لو 1: 27، 2: 4)، ولكن متى قصد أن يذكر الورثة الشرعيين لعرش داود، بينما يذكر لوقا أسماء أسلاف يوسف الحقيقيين. وهذا الحل جاء فى خطاب أرسله يوليوس أفريكانوس. (J.Afrecanus فى نحــــــــو 220 م). إلى أريستيدس (Aristides) حسبما جاء فى تاريخ يوسابيوس (المؤرخ الكنسى). وكان يوليوس يعتقد أن قانون زواج الأخ بأرملة أخيه، الذي لم يعقب نسلا (تث 25: 5 و6) قد تم تنفيذه فى بعض حلقات هذه السلسلة، وذلك للتغلب على التناقض الظاهري بين القائمتين. ويفترض هذا الحل مثلا أن يوسف كان ابن هالي فعلا، وأن هالي ويعقوب كانا أخوين من أم واحدة، ولكن من أبوين مختلفين. فلو أن أحدهما كان قد تزوج أرملة الآخر الذى لم يكن قد أعقب نسلا، فإن يوسف كان يمكن أن يعتبر ابنا لكليهما. ويرى البعض أن ما يؤيد هذه النظرية هو أن جد يوسف فى إنجيل متى هو "متان" (مت 1: 15)، وجدّه فى إنجيل لوقا هــــو "متثات" (لو 3: 24)، وهما اسمان متقاربان يحتمل جدّا أنهما يدلان على نفس الشخص. فلو أن هالي تزوج بأرملة أخيه يعقوب الذي لم يعقب نسلا، وولد يوسف، فإن يوسف يعتبر أبنا حقيقيا لهالي، وفي نفس الوقت يعتبر الوارث الشرعي ليعقوب. ولكن هذه النظرية تستلزم أن يكون الزواج بهذه الصورة، قد تكرر مرارا في السلسلتين (الرجا الرجوع أيضا إلى "زربابل" و"شألتئيل" فى موضعهما من الجزء الرابع من "دائرة المعارف الكتابية").
2- والحل الأرجح هو اعتبار أن إحداهما هي شجرة عائلة يوسف، والأخرى شجرة عائلة مريم، فقــد افترض "أنيوس فيتربو" فى 1440 أنه بينما يذكر متى السلسلة الشرعية من خلال يوسف، فإن لوقا يذكر السلسلة الطبيعية من خلال العذراء مريم، وهو رأى يعود أصلا إلى القرن الخامس الميلادي. وبكل تأكيد تبدو العذراء مريم الشخصية الرئيسية في قصة ميلاد المسيح في إنجيل لوقا، وبخاصة أن أداة التعريف، التى تبدأ بها عادة كل قائمة، غير موجودة في اسم "يوسف" فى إنجيل لوقا (3: 23)، مما يرجَّح معه أن القائمة الحقيقية تبدأ باسم "هالي" وليس باسم "يوسف"، وأن العبارة يجب أن تُقْرَأ: "ولما ابتدأ يسوع... وهو (على ما كان يظن ابن يوسف) ابن هالي..." (لو 3: 23)، وبذلك تكون القائمة فى إنجيل لوقا هي سلسلة نسب العذراء مريم، وتبدأ بهالي أبيها. وهو افتراض قوي جذَّاب، ولا اعتراض عليه سوى أن اسم مريم لم يذكر قبل اسم هالي، ولكن ذلك لا يمنع من مصداقية هذا الفرض الذي يقدم حلاَّ بسيطا للمشكلة.
أما كون أن "مريم" كانت نسيبة لأليصابات ابنة هارون (لو 1: 36)، فإنه لا ينفي نسبة مريم إلى داود، متى كانت قرابة مريم لأليصابات عن طريق الأم، وليس عن طريق الأب، فقد تزوج هرون نفسه من "أليشابع" بنت عميناداب أخت نحشون" من سبط يهوذا (خر 6: 23، 1 أخ 2: 10). ومما يؤيد هذه النظرية، افتراض أنه لم يكن لمريم إخوة ذكور، وأصبح يوسف هو الابن والوريث الشرعى لهالي، بزواجه من ابنته مريم (انظر مثلا 1 أخ 2: 21 و 34، عن نسب أبناء الابنة لأبيها، وعد 2: 6، نح 7: 63 عن نسب زوج الابنة لأبيها)".
ثم مرة أخرى لا ينزل ستار المسرحية عند هذا الحد، بل تمضى أحداثها فنجدهم يقولون إن "هالى" إنما هو أبو يوسف، أما أبو مريم فهو يعقوب (انظر أواخر مادة "Joseph" فى "Smith's Bible Dictionary". وهذه هى عبارة المعجم نَسْخًا فلَصْقًا: "Joseph: Son of Heli, and reputed father of Jesus Christ… He was a just man, and of the house and lineage of David. He lived at Nazareth in Galilee. He espoused Mary, the daughter and heir of his uncle Jacob"). حيرتمونا، حيركم الله! ارسوا لكم على بر يهديكم الله: ترى أهو يواقيم؟ أم هل هو هالى؟ أم لا هذا ولا ذاك، بل يعقوب؟ ثم رغم هذا يأنسون فى أنفسهم الجراءة لتعييرنا بأن القرآن قد أخطأ فى اسم والد مريم! أليس الأفضل أن تذهبوا فتتفقوا أولا على كلمة واحدة فى موضوع أبيها عندكم، ثم بعد هذا تفكرون فى تخطئة القرآن؟
من الواضح إذن أنهم، بتخطئتهم القرآن، إنما يتهورون فى أمرٍ يتخبطون فيه ولا يدرون رؤوسهم من أرجلهم! كذلك من المعروف أن كثيرا من شخصيات الكتاب المقدس تحمل أكثر من اسم: فمن المعروف مثلا أن ليعقوب حفيد إبراهيم الخليل اسما آخر هو إسرائيل. وينطبق هذا على حَمِى موسى، الذى ذُكِر فى موضع من العهد القديم أنه راعوئيل، وفى موضع ثانٍ أنه يثرون، وفى موضع ثالث، وهى الداهية الثقيلة، أنه حوباب بن راعئيل، أى أنه ابن نفسه. وقد ذكر متى أن يوسف رجل مريم هو ابن يعقوب، على حين ذكر لوقا أن أباه يسمى: هالى، وهو نفسه "هالى" الذى يقول النصارى إنه والد مريم. كما أن للمسيح عندهم عدة أسماء: فهو المسيح، وهو يسوع، وهو عمّانوئيل. وهذا موجود أيضا عندنا، كما هو الحال فى الخليفة الراشد الأول: فاسمه عبد الله (ويُرْوَى أنه كان يسمى فى الجاهلية: "عبد الكعبة")، وأبو بكر، والصديق وعتيق. أى أن له خمسة أسماء مابين اسم وكنية ولقب واسم جاهلى واسم إسلامى. وكثير من المصريين يحملون اسمين: واحد رسمى، والآخر للشهرة كما يقال. ومن هؤلاء أخى الأصغر، فهو يسمى: مختارا، وكان صغيرا يسمى: محمودا على اسم أبينا رحمه الله. ولواحدة من قريباتى اسمان أيضا: عبلة، وهو اسم الشهرة، وفاطمة، وهو الاسم الرسمى الذى لا يستخدم زوجها ولا أولادها إلا إياه، على عكس إخوتها، الذين ينادوناها عادة باسم "عبلة". وكثيرا أيضا ما يقولون لها: "بولا". فهذا اسم ثالث... وهكذا. ومن ثم فمن الممكن جدا، إن كان اسم يواقيم أو هالى اسما صحيحا لوالد مريم، وهو ما لا أعول عليه أبدا، أن يكون له اسم آخر هو عمران، أو أن يكون اسم"عمران" هو الاسم الصحيح أو الاسم الأصلى، وهو ما أرجحه بل ما أوقن به، إذ لا يمكن أبدا أن يكون القرآن مخطئا.
والآن، وبعد هذه الجولة التى فضحت من أمور القوم كثيرا من المستور المتصل بهذه النقطة وحدها، ما رأى القراء فى ذلك الشَّغْب الذى أحدثه يوحنا الدمشقى لعنه الله، وورَّثه لمن أتى بعده، فتراهم يثيرون دائما هذه القضية متهمين القرآن بأنه يخطئ فينسب مريم أم المسيح إلى هارون وموسى بوصفها أختا لهما، مع أن القرآن لم يحدث قط أن فعل شيئا من ذلك، بل اليهود، الذين لم يكن القرآن إلا مجرد ناقل لما قالوه؟ ترى ألم يكن يوحنا الدمشقى اللعين يعرف هذا؟ بكل يقين كان يعرف لأن الآية واضحة الدلالة على أن هذا هو كلام اليهود لا القرآن، ولا يمكن أن يخطئ دلالتها أحد، لكنه إنما أراد إحداث الشغب بالكذب والباطل رغبة فى الانتقام من الإسلام، الذى كسر شوكة البيزنطيين فى منطقتنا ومسحهم من الخريطة الشَّرْقَوْسَطِيّة إلى الأبد ونسخ التثليث بممحاة التوحيد المباركة. ولكن هل تظن، أيها القارئ، أن تلاميذ يوحنا الدمشقى سوف يسكتون بعدما فضحْنا كذبهم وتدليسهم وتنطعهم وقلة أدبهم؟ أما أنا فلا أظن ذلك أبدا، إذ متى كان الكذابون المدلسون الذين مَرَدُوا على النفاق وانعدام الحياء يَرْعَوُون عما يصنعون؟
ومن مشاغبات الدمشقى الشيطانية أيضا دعواه أنه كان كلما سأل المسلمين: هل هناك من الأنبياء من شهد لمحمد بأنه صادق فى دعواه الرسالة، إذ لا بد لكل نبى أن يشهد له بالصدق مَنْ حوله حين يشاهدون نزول الوحى عليه، أو ينبئنا أحد الأنبياء السابقين بأن ثم نبيا قادما فى الطريق؟ وقعوا فى حيص بيص وضربوا أخماسا فى أسداس، ولم يستطيعوا ردا: "But when we ask: ‘And who is there to testify that God gave him the book? And which of the prophets foretold that such a prophet would rise up?’—they are at a loss. And we remark that Moses received the Law on Mount Sinai, with God appearing in the sight of all the people in cloud, and fire, and darkness, and storm. And we say that all the Prophets from Moses on down foretold the coming of Christ and how Christ God (and incarnate Son of God) was to come and to be crucified and die and rise again, and how He was to be the judge of the living and dead. Then, when we say: ‘How is it that this prophet of yours did not come in the same way, with others bearing witness to him? And how is it that God did not in your presence present this man with the book to which you refer, even as He gave the Law to Moses, with the people looking on and the mountain smoking, so that you, too, might have certainty?’—they answer that God does as He pleases. ‘This,’ we say, ‘We know, but we are asking how the book came down to your prophet.’ Then they reply that the book came down to him while he was asleep. Then we jokingly say to them that, as long as he received the book in his sleep and did not actually sense the operation, then the popular adage applies to him (which runs: You’re spinning me dreams)"
فأما مشاهدة الناس نزول الوحى على نبى من الأنبياء فقد مثَّل لها دمشقيُّنا برؤية بنى إسرائيل لله فى صورة سحاب ونار وظلام وعواصف فوق جبل سيناء. لكن بالله عليك أيها القارئ أهذا دليل على أن ما شاهده اليهود وقتذاك هو الله سبحانه؟ وهل الله سحاب وظلام وعواصف ونار؟ الواقع أن من الممكن جدا المجادلة بأن هذا ليس هو الله، بل عناصر من عناصر الطبيعة. ثم هل هناك دليل على أن هذا قد حدث أصلا؟ سيقول: لكن بنى إسرائيل قد شهدوا بهذا. سأقول أنا: ومن أدرانى أن بنى إسرائيل قد حضروا شيئا من هذا أو أنهم قالوا الصدق بشأنه؟ وهكذا يمكن أن تستمر المجادلة من هنا للصبح دون جدوى. وعلى كل حال كان الصحابة يشهدون نزول الوحى على الرسول عليه السلام ويَرَوْن ما يعتريه لَدُنْ هذا النزول بكل وضوح مما فصلته كتب الحديث النبوى الشريف، وسرعان ما يخرج صلى الله عليه وسلم من هذه الحالة بالجواب الذى كانوا ينتظرونه أو التشريع الذى كانوا يتطلعون إليه. وكثيرا ما كانوا يسألونه عن أشياء تتعلق بالغيب الذى لا يعرفه أحد، فيأتيهم الرد فى الحال من خلال الوحى ويكون صادقا. كما أن كل ما قاله الرسول فى القرآن أو السنة يدل على حكمة عميقة هائلة تبيَّن صدقها وعبقريتها مع الأيام، إذ لم يحدث أن أشار عليهم بشىء دون أن يكون النجاح والتوفيق حليفه مهما كانت العقبات والمؤامرات والمآزق. وما من وعد وَعَدَهُمُوه إلا وتحقق كاملا كما قال. وما من شىء شرعه لهم إلا كان مثال الطهارة والاستقامة والذوق واللياقة والرقى العقلى والاجتماعى والسياسى والثقافى والفائدة المحققة. لقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن إدمان الخمر إلى الصحو، ومن الجهل إلى العلم، ومن الرعونة إلى الصبر والحلم، ومن الفوضى إلى النظام، ومن القذارة إلى النظافة والطهارة، ومن التناحر القبلى على أتفه الأمور إلى التآخى والمسالمة، ومن الغطرسة القبلية إلى رحابة الإنسانية والتواضع والتعاون والمرحمة، ومن قسوة الربا ومص دماء المحتاجين إلى العطف عليهم وإكرامهم والتجاوز عما فى ذمتهم ابتغاء مرضاة الله، ومن محدودية الأفق المحلى إلى فضاء العالمية الرحيب، ومن انعدام الدور الحضارى إلى قيادة العالم سياسة وثقافة. فماذا فى أى شىء من ذلك من المعابة؟ ولدينا مقياس آخر يتمثل فى أن بنى إسرائيل ظلوا يشغبون على موسى وأخيه ويرجعون إلى الوثنية والشرك عند كل منعطف حتى ضج منهم موسى عليه السلام، بخلاف أتباع محمد، الذين لم يشغبوا عليه قط، بل ظلوا يحبونه ويحترمونه ويطيعونه لا عن غفلة وسذاجة، بل عن وعى ويقظة عقل وحرارة إيمان وضمير. ولقد كان محمد معروفا عند قومه بالصدق والأمانة، فضلا عن أنه لم يكن له أى مارب فيما دعا إليه من دين. بالعكس لقد طاله بسببه أذى كثير وآلام وأحزان وخسائر لا تنتهى. بل لقد تعرضت حياته مرارا للقتل لولا أن الله عصمه منه. فكيف يتهمه مُتَّهِمٌ بعد هذا كله بأنه كذاب؟ إذن فليس ثم صادق واحد فى الدنيا!
على أننا لا نحاول أن نلغى قيمة بشارة النبى السابق بزميله اللاحق. لكن هل حدث أن حسمت مثل تلك البشارة الخلاف بين النبى اللاحق وقومه حسما نهائيا؟ لنأخذ المسيح عليه السلام مثالا: هل نفعه لدى اليهود انتظارُهم له وتشوُّقهم إلى مجيئه؟ الواقع أنهم، حين أتى إليهم أخيرا وبعد طول تطلع وانتظار، قد كفروا به كفرانا مبينا واتهموا أمه بالعهر وخططوا لقتله. بل إنهم ليعتقدون أنهم قتلوه وصلبوه فعلا. حتى الذين شفاهم من البرص والعمى وأحياهم من الموت كانوا أول المتخلين عنه ساعة الزنقة. حتى حواريوه تركوه يواجه مصيره وحده طبقا لما كتبه مؤلفو الأناجيل. حتى كبيرهم أقسم بالله عند القبض عليه إنه لا يعرف هذا الرجل: يقصد المسيح عليه السلام، رغم أن المسيح كان قد حذره من أنه سوف ينكره وينكر الإيمان به قبل صياح الديك فى تلك الليلة ثلاث مرات، فأكد أنه لن يقع منه هذا بحال، ولكنه وقع. فكيف يتنطع يوحنا الدمشقى ويتصور أنه جاء بالذئب من ذيله بمطالبة الرسول محمد بما طالبه به؟ وهذا لو أن الأنبياء السابقين لم يبشروا به صلى الله عليه وسلم. ذلك أن فى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى بعهديه القديم والجديد بشارات متعددة به صلوات الله وسلامه عليه. وقد آمن كثير جدا من أهل الكتاب: يهودا ونصارى به صلى الله عليه وسلم بناء على تلك البشائر، كما كفر به صلى الله عليه وسلم كثير منهم رغم تلك البشائر وأنكروا أن تكون خاصة به. أى أن وجود البشائر لا يحل المشكلة بالضرورة.
ومع هذا فها نحن أولاء نسوق بعض تلك البشارات، وهى مأخوذة من كتابَىْ "بشارات العهد القديم بمحمد صلى الله عليه وسلم" و"بشارات العهد الجديد بمحمد صلى الله عليه وسلم" للدكتور محمد بن عبد الله السحيم بشىء ضئيل جدا من التصرف: فمنها البشارة الموجودة في سفر "العدد"، إذ ورد في قصة بلعام بن باعوراء قوله حسب الترجمة القديمة: "نظروا كوكبا قد ظهر من آل إسماعيل، وعضده سبط من العرب. ولظهوره تزلزلت الأرض ومن عليها". وقد فسرها المهتدي الإسكندراني (أحد من آمن من أهل الكتاب بمحمد عليه السلام) بقوله: "ولم يظهر من نسل إسماعيل إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وما تزلزلت الأرض إلا لظهوره صلى الله عليه وسلم. حقا أنه كوكب آل إسماعيل، وهو الذي تغير الكون لمبعثه صلى الله عليه وسلم، فقد حُرِسَت السماء من استراق السمع، وانطفأت نيران فارس، وسقطت أصنام بابل، ودُكَّتْ عروش الظلم على أيدي أتباعه". وقد حُرِّف هذا النص في الطبعات المحدثة فأصبح كالآتى: "يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم موآب، ويهلك من الوغى".
وهناك بشارة موجودة فى الفصل الحادي عشر من سفر "التثنية"، وذلك أن موسى قال لبني إسرائيل: "إن الرب إلهكم يقيم نبيا مثلي من بينكم ومن إخوتكم، فاسمعوا له". وقد ورد في هذا الإصحاح ما يؤكد هذا القول ويوضحه، وهو ما ورد في التوراة أن الله قال لموسى: "إني مقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم. وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه". وتكاد أن تكون هذه البشارة محل إجماعٍ من كل من كتب في هذا الجانب. وقد بين هؤلاء المهتدون كيف تنطبق هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الوجوه التالية: 1-اليهود مجمعون على أن جميع الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل من بعد موسى لم يكن فيهم مثله. والمراد بالمثلية هنا أن يأتي بشرع خاص تتبعه عليه الأمم من بعده، وهذه صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من إخوتهم العرب، وقد جاء بشريعة ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وتبعته الأمم عليها، فهو كموسى. هذا فضلاً عن أن لفظه "من بينهم" الواردة في البشارة قد أكدت وحددت الشخص المراد. 2-هذا النص يدل على أن النبي الذي يقيمه الله لبني إسرائيل ليس من نسلهم، ولكنه من إخوتهم. وكل نبي بعث من بعد موسى كان من بني إسرائيل، وآخرهم عيسى عليه السلام، فلم يبق رسول من إخوتهم سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 3-أن إسماعيل وذريته كانوا يُسَمَّوْن: إخوة لبني إبراهيم عليه السلام، لأن الله قال في التوراة لهاجر، حسب رواية العهد القديم، عن ابنها إسماعيل: "بأنه قبالة إخوته ينصب المضارب"، كما دعا إسحاقَ وذريتَه: إخوة لإسماعيل وذريته. 4-أن في هذه الآية إشارة خفية غير صريحة فائقة الحكمة لأن موسى لو كان قَصَدَ بالنبي الموعود أنه من بني إسرائيل لكان ينبغي أن يقول بدلا من "من إخوتكم": منكم، أو من نسلكم، أو من أسباطكم، أو من خلفكم. وبما أنه ترك هذا الإيضاح علمنا أنه قصد بهذه الإشارة أنه من بني إسماعيل المباينين لهم. 5-اشتمل هذا النص على مفردة كافية للتدليل على أن هذه النبوة خاصة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: "أنتقم منه". وفي بعض الترجمات "وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تُسْتَأْصَل". فهي تدل على أن من لا يسمع له ويطعه يُنْتَقَمْ منه ويُسْتَأْصَل. وهذا ينطبق تماما مع حال المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تنطبق على عيسى عليه السلام، الذي طارده وحاربه اليهود، ولم يقع عليهم الانتقام من جانبه أو من جانب أتباعه. وهذه المفردة كافية للتدليل على أن المقصود بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء في الفصل العشرين أن "الرب جاء من طور سينين، وطلع لنا من ساعير، وظهر من جبل فاران، ومعه عن يمينه ربوات القديسين فمنحهم العز، وحببهم إلى الشعوب، ودعا بجميع قديسيه بالبركة". وهذه البشارة، كالتي قبلها، كادت أن تكون محل إجماع وقبول ممن كتب في هذا الجانب. وفاران هي مكة وأرض الحجاز، وقد سكنها إسماعيل، ونصت على ذلك التوراة: "وأقام في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر". وإذا كانت التوراة أشارت إلى نبوة تنزل على جبل فاران لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل لأنهم سكان فاران. أما من توهم أن فاران الواردة في هذه البشارة هي التي بقرب جبل سيناء فليس ظنه صحيحا، لأن فاران تلك هي برية فاران كما أفادت عنها التوراة. وهنا ذكر جبلاً. ودعيت تلك: "فاران" بسبب أنها مظللة بالأشجار. ولفظة "فاران" عبرية تحتمل الوجهين: فإذا ذُكِرَت البرية لزم أنها ظليلة، وإن ذُكِر الجبل ينبغي أن يفهم بأنه جبل ذو غار. وفي هذه البشارة ذكر جبل، فعُلِم أنه جبل فاران الذي فيه المغارة. كما أن لفظة "فاران" مشتقه من فاري بالعبرية، وعربيتها: المتجمل، أي المتجمل بوجود بيت الله. وهذه الجبال قد تجملت ببيت الله. ومعنى "جاء الرب": أي ظهر دينه ودُعِيَ إلى توحيده. كما أن لفظة "رب" هنا تقع على موسى وعيسى ومحمد. وهي مستعملة بهذا الإطلاق في اللغة السريانية والعربية، فتقول العرب: "رب البيت" بمعنى صاحب البيت. ويقول السريان لمن أرادوا تفخيمه: "مار"، ومار بالسريانية هو الرب. وقد أورد المهتدي الإسكندراني هذه البشارة باللغة العبرية ثم ترجمها إلى اللغة العربية. ونص ترجمته هكذا: "جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه: عن يمينه نور، وعن شماله نار. إليه تجتمع الأمم، وعليه تجتمع الشعوب". وقال: إن علماء بني إسرائيل الشارحين للتوراة شرحوا ذلك وفسروه بأن النار هي سيف محمد القاهر، والنور هي شريعته الهادية صلى الله عليه وسلم. وقد يقول قائل: إن موسى تكلم بهذه البشارة بصيغة الماضي، فلا تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم. والجواب أن من عادة الكتب الإلهية أن تستعمل الماضي في معنى المستقبل. ألم تر أنه أخبر عن عيسى في هذه البشارة كذلك بصيغة الماضي؟ فإن قُبِلَتْ هذه البشارة في حق عيسى فهي في حق محمد أدعى للقبول. وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء ما يقتضي العقلاءَ أن يبحثوا عن المعنى المراد منه المؤدي بهم إلى اتباع دينه. وقد ربط المهتدي إبراهيم خليل بين هذه البشارة وبين صدر سورة "التين" واستنتج منه تطابقًا كاملاً في الوسيلة والتعبير.
ومن هذه البشارات أيضا قول داود في المزمور الثاني والسبعين: "إنه يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وإنه يخرّ أهل الجزائر بين يديه على رُكَبهم، وتلحس أعداؤه التراب. تأتيه ملوك تاريس والجزائر بالقرابين، وتقرّب إليه ملوك سابا القرابين، وتسجد له الملوك كلهم، وتدين له الأمم كلها بالطاعة والانقياد لأنه يخلِّص المضْطَهَد البائس ممن هو أقوى منه، ويفتقد الضعيفَ الذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وينجي أنفسهم من الضر والضيم، وتعز عليه دماؤهم، وإنه يبقى ويُعْطَى من ذهب سبأ، ويُصَلَّى عليه في كل وقت، ويبارَك عليه كل يوم مثل الزروع الكثيرة على وجه الأرض، ويطلع ثماره على رؤوس الجبال كالتي تطلع من لبنان، وينبت في مدينته مثل عشب الأرض، ويدوم ذكره إلى الأبد، وإن اسمه لموجود قبل الشمس، فالأمم كلهم يتبركون به، وكلهم يحمدونه". وقال المهتدي الطبري: "ولا نعلم أحدا يُصَلَّى عليه في كل وقت غير محمد صلى الله عليه وسلم". وهذا النص غنيٌّ عن زيادة أى تعليق أو شرح، فلم تتحقق هذه الصفات متكاملة لنبي أو ملك قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثلما تحققت له. وبمقارنة سريعة بين الآيات التي سأوردها وهذا النص يتضح التماثل التام بينهما. قال تعالى: "لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم". وقال عز وجل: "محمد رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تراهم رُكَّعًا سُجَّدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا سِيمَاهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مَثَلُهم في التوراة ومَثَلُهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شَطْأَة فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقِه يُعْجِب الزُّرّاعَ ليغيظ بهم الكفار". وقد تضمن المزمور الذي وردت فيه هذه البشارة بعض الألفاظ التي لا تزال مشرقة وشاهدة، وهي قول داود: "ويشرق في أيامه الصِّدّيق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر". وهذا اللفظ يقع مباشرة قبل قوله: "إنه يجوز من البحر إلى البحر". ولنفاسة هذا اللفظ أحببت إيراده. وقد ضُبِطَتْ لفظة "الصِّدّيق" بالشكل الذي نقلتُه، فهل بعد هذا الإيضاح يبقى إشكال لذي عقل؟ وقد ذكر صاحبه الصِّدّيق رضي الله عنه، وذكر سُنَّة من سُنَن دينه، وهي كثرة السلام إلى أن يضمحل القمر. واضمحلال القمر تعبير عن الساعة. يشهد له أول سورة "التكوير" و"الانفطار". وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يكون السلام على الخاصة.
وفى الإصحاح الثالث من إنجيل متى يقول يوحنا المعمدان، وهو النبى يحيى عليه السلام: "أنا أعمِّدكم بالماء، وذلك للتوبة وغفران الخطايا، ولكنْ هناك شخص قادم بعدي، وهو أقوى مني لدرجة أنني لا أستحق حل سيور حذائه، وسيعمّدكم بالروح والنار". هذه البشارة أوردها كل من المهتدي عبد الأحد داود والنجار، وأضاف إليها النجار بعض العبارات التي تذكر صفة هذا القادم المنتظر، وهو قوله: "الذي رفشه بيده، وينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ". وأوضح هذه العبارات فقال: "قوله: "الذي رفشه بيده" (ونسخة الآباء العيسويين: "الذي بيده المِذْرَي") إشارة إلى ما قام من حروب وجهاد مع الكفار لنصرة دين الله وإعلاء كلمته. وقوله: "وينقي بيدره": بمعنى يطهر موطنه من الأصنام ومن عبدتها المشركين. وقوله: "ويجمع قمحه إلى المخزن": أي يجمع صحابته والمؤمنين به عند بيت الله الحرام. "أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ": أي يقضي على عناصر الشر والفساد في العالم، ويناهض أهل الشرك والضلالة وعبادة الأصنام".
أما عبد الأحد داود فقد اكتفى بهذا النص، وأشار إلى هذه الزيادة في ثنايا الشرح والتحليل. كما أنه أطال النَّفَس في استنطاق هذه النبوة من جانبين: ففى الجانب الأول نفى فيه أن يكون النبي الذي تنبأ به يوحنا هو عيسى عليه السلام. وفي الجانب الثاني أثبت أن هذا النبي المبشَّر به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قدَّم في الجانب الأول البراهين التالية: 1-أن نفس كلمة "بعد" تستبعد عيسى بكل وضوح من أن يكون هو النبي المبشر به، لأن عيسى ويوحنا وُلِدا في سنة واحدة وعاصر أحدهما الآخر، وكلمة "بعد" هذه تدل على مستقبل غير معلوم بعده. 2-أن يوحنا قدَّم المسيح عليه السلام إلى قومه وطلب منهم طاعته واتباعه، إلا أنه أخبرهم بوضوح أن ثمة كوكبا آخر عظيما هو الأخير الخاتم الممجَّد عند الله. 3-لم يكن عيسى هو المقصود عند يوحنا لأنه لو كان الأمر كذلك لتبع عيسى وخضع له. ولكنا نجده على العكس من ذلك، إذ نجده يعظ ويعمّد ويستقبل الأتباع في حياة المسيح عليهما السلام. 4-مع اعتقاد الكنائس النصرانية بأن المسيح إله أو ابن إله، إلا أن كونه معمَّدا على يد يوحنا المعمدان يثبت أن الأمر بالعكس تماما. فلو كان عيسى هو الشخص الذي تنبأ به يوحنا على أنه أقوى منه وأنه سيعمِّد بالروح وبالنار لما كان هناك ضرورة أو معنى لتعميده في النهر على يد يوحنا، وهو الشخص الأقل منه. 5-تضاربت الأناجيل في موقف يوحنا من عيسى: فهو في أحدها يرسل التلاميذ يسألونه: هل أنت النبي الذي سيأتي أم ننتظر واحدا آخر؟ أما يوحنا كاتب الإنجيل فقد أثبت أن يوحنا لما رأى عيسى قال: انظروا حَمَل الله. ففي النص الأول يتبين أن يوحنا لم يكن يعرف حقيقة المسيح، وفي النص ذكر وصفا مغايرا للنبي المبشر به. 6-لا يمكن أن يكون يوحنا هو سلف عيسى المبشر به بالمعنى الذي تفسر به الكنائس بعثته، لأن من مهام هذا الرسول المبشر به أنه يمهد الطريق وأنه يأتي فجأة إلى هيكله ويقيم السلام. فإذا اعتبر أن هذه المهام قد أسندت إلى يوحنا فنستطيع أن نؤكد أنه فشل في تحقيقها فشلاً ذريعًا لأن كل الذي قام به يوحنا تجاه عيسى عليهما السلام أنه استقبله على نهر الأردن وعمَّده فيه كما زعموا. أما البراهين التي قدمها هذا المهتدي على أن يوحنا قد بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهي: 1-يتأكد من هذه النبوة شيء واحد، وهو أن النبي الذي تمت البشارة بقدومه معروف لدى كافة الرسل والأنبياء، وإلا لما اعترف شخص معصوم هذا الاعتراف المتواضع. 2-أن إنكار الرسالة المحمدية هو إنكار أساسي لكل الوحي الإلهي وكافة الرسل الذين بشروا به لأن جميع الأنبياء معا لم ينجزوا العمل الهائل الذي أنجزه محمد صلى الله عليه وسلم وحده في فترة قصيرة لم تتجاوز ثلاثة وعشرين عاما. 3-اعتراف يوحنا بأن "محمدًا" صلى الله عليه وسلم أعلى منه وأسمى قدرا. يتضح ذلك من قوله: "هو أقوى مني". وبمقارنة ما كان عليه يوحنا بما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم نجد أن الواقع يشهد أن محمدا (ص) كان هو الأقوى الذي بشر به يوحنا. يتضح ذلك من خلال الصورة المأساوية التي ترسمها الأناجيل لنهاية يوحنا حيث يُسْجَن ثم يُقْطَع رأسه ويقدَّم على طبق، بينما نرى محمدا صلى الله عليه وسلم يدخل مكة دخول الفاتح العظيم ويدمر الأصنام ويطهر الكعبة، والكفار مستسلمون له ينتظرون حكمه فيهم. 4-أخبر يوحنا عن الغضب القادم أو العذاب القادم على اليهود والكفار المعاندين للرسل. وهذا العذاب الذي تنبأ عنه: منه ما تحقق بعد ثلاثين سنة في بني إسرائيل، ومنه ما أعلنه هو وأخوه المسيح عليهما السلام عن قدوم رسول الله الذي سوف ينتزع جميع الامتيازات من اليهود. ولم يتحقق هذا إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دمر حصونهم، وطردهم من ديارهم. ولقد أنذرهم يوحنا من هذا العذاب الآتي إذا لم يؤمنوا برسل الله الصادقين، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله: "من الذي أخبركم أن تهربوا من الغضب الآتي؟". 4-أن هدف محمد صلى الله عليه وسلم هو إقامة دين الإسلام على الأرض. فقد اختفت الأوثان والأصنام من أمامه، وانهارت الإمبراطوريات أمام سيفه، وأصبح المسلمون في ملته متساوين، وتكونت منهم الجماعة المؤمنة، وتحققت بينهم المساواة، إذ لا كهنوت ولا طقوس، وليس هناك مسلم مرتفع ولا مسلم منخفض، ولا توجد طبقية أو تمايز يقوم على العنصر والرتبة. فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يعترف بأي كائن مهما عظم، ومهما كان مقدسا، كوسيط مطلق بين الله والبشر. 5-أن أتباع يوحنا كانوا يعرفون كل المعرفة أن عيسى عليه السلام لم يكن هو الشخص المقصود،. وقد اعتنقوا الإسلام عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الفصل الخامس عشر من إنجيل يوحنا يقول المسيح عليه السلام: "إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء". ويقول أيضا في الفصل السادس عشر: "إن الفارقليط لن يجيئكم مالم أذهب. فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة. ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب". ويقول كذلك: "إني سائل أبي أن يرسل إليكم فارقليطًا آخر يكون معكم إلى الأبد". ويرى المهتدي عبد الأحد داود أن النص الأخير لا يتضح المعنى المراد منه إلا بإعادة الكلمات المسروقة أو المحرفة فتكون الصيغة الصحيحة كالتالي: "وسوف أذهب إلى الأب، وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه "البرقليطوس" لكي يبقى معكم إلى الأبد". والكلمات التي أضافها هي ما تحتها خط. وهذه البشارة تكاد أن تكون محل إجماع من هؤلاء المهتدين، وسيكون الحديث عنها من جانبين:
الجانب الأول بشارة المسيح عليه السلام بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال النقاط التالية: 1-أن هذا النبي الذي بشر به المسيح عليه السلام عَلَّم الناسَ مالم يعلموه من قبل، ولم يكن في تلاميذ المسيح ومن بعدهم من علّم الناس شيئا غير الذي كان عَلَّمهم المسيح. 2-تضمن النص أن هذا الشخص المبشر به لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يخبر بالحوادث والغيوب. ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يُوحَى. وقد تواتر عنه إخباره بالحوادث المقبلة والغيوب التي تحققت في حياته وبعد مماته. وتتفق هذه البشارة مع بشارة موسى عن هذا النبي المنتظر عندما أخبر أن الله قال: "وأجعل كلامي في فيه". وقد سبق الحديث عن هذه البشارة ضمن بشارات العهد القديم. 3-أن هذا النبي المنتظَر بكََّتَ العالم على الخطيئة، ولا خطيئة أعظم من الشرك،.ولم يقتصر عمل محمد صلى الله عليه وسلم على اقتلاع الشرك من جزيرة العرب وبَعْث رسله وكتبه إلى ما جاوره من الدول والإمبراطوريات يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بل لما لم تُقْبَل دعوته استل سيفه مؤذنا بإعلان الحرب على الشرك مهما كان موقعه. 4-أن الشخص المبشَّر به يؤنب العالم. ولقد اعتقد اليهود أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه. واعتقد النصارى أن المسيح قد صُلِب وأنه الله أو ابن الله. ولم يزل العالم يعتقد هذا الاعتقاد حتى جاء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وجلّى كل الحقيقة عن المسيح من أنه عبد الله ورسوله، وأنه لم يُصْلَب ولم يُقْتَل، بل رُفِع إلى السماء. 5-في هذا النص صرّح المسيح عليه السلام أن الشخص المبشَّر به هو "روح الحقيقة". ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر كل الحقيقة عن الله وعن وحدانيته ورسله وكتبه ودينه، وصحح كثيرا من الافتراءات والأكاذيب التي كانت مدونة ومعتقدا بها. فهو الذي وبخ النصارى على اعتقادهم في الثالوث وادعائهم أن المسيح هو ابن الله، وكشف مفتريات اليهود والنصارى ضد أنبياء الله ورسله، وطهَّر ساحتهم من الدنس والعيب الذي ألحقه بهم اليهود. 6-ذكر المهتدي الترجمان في سبب إسلامه أن أحبار النصارى كان لهم مجلس يجتمعون فيه ويتذاكرون فيه أنماطا من المسائل، فاختلفوا يوما حول النبي الذي يأتي بعد المسيح والمسمى في الإنجيل: "البارقليط"، وانفض المجلس في ذلك اليوم ولم يصلوا إلى حقيقة هذا اللفظ. وقد تخلف عنهم في ذلك اليوم أكبر علمائهم،. فلما رجع الترجمان إليه أخبره الخبر، وطلب الترجمان من هذا العالم أن يبين له الحقيقة فأخبره أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. 7-قال المهتدي الهاشمي: إنه جاء في الإنجيل المكتوب باللغة القبطية الذي كتبه أحد البطاركة في سنة 506م ما معناه: الآتي بعدي يسمى: الفارقليط بندكراطور، أي الروح المنشق اسمه من اسم الحمد. سيبعث الحياة في أمه ليست لها من الحياة نصيب إلا الضلال في برية فاران كجحاش الأُتُن. وذكر أن هذا الإنجيل منزوع الغلاف، وذكر كاتبه في ديباجته أنه نقله من أصول الإنجيل الحقيقي. 8-استخرج هؤلاء المهتدون تطابق كلمة "البارقليط" مع اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته. وبيانُ هذا التطابق كما يلي: أ-هذا الاسم: "بارقليط" يوناني، وتفسيره باللغة العربية: أحمد أو محمد أو محمود. وقال المهتدي عبد الأحد داود: ومن المدهش أن الاسم الفريد الذي لم يعط لأحد من قبل كان محجوزا بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء. ونحن لا نجد أبدا أي يوناني كان يحمل اسم "برقليطس" ولا أي عربي كان يحمل اسم أحمد. ب-قال المهتدي عبد الأحد داود موضحا هذا التطابق: إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى بن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان "مبشِّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" واحد من أقوى البراهين على أن محمدا كان حقيقة نبيا، وأن القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبدا أن يعرف أن كلمة "البارقليط" كانت تعني "أحمد" إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي. وحجة القرآن قاطعة ونهائية لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي "أحمد" و"محمد" صلى الله عليه وسلم. ج-أن اسم البارقليط لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزِّي، والناصر، والمنذر، والداعي. وإذا ترجمت حرفا بحرف إلى اللغة العربية صارت بمعنى "الداعي"، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وقد وُصِف في القرآن الكريم بمثل ذلك في قوله تعالى: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه". وقد فهم أوائل النصارى أن هذه اللفظة إنما تعني الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم .
ومن البشارات أيضا قول المسيح في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: "إن أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متي جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني". قال المهتدي النجار: وهذه البشارة في معنى قوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى* إنْ هو إلا وحيٌ يُوحَى". وقال المهتدي الهاشمي معلقا على هذه البشارة: والمسيح يبصّر أمته بأن لديه أمورا كثيرة تفوق طاقة احتمالهم، وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بـ"الروح الحق"، فتكون العقول قد تفتحت، والقلوب قد ذهب عنها رَيْنُها، والنفوس قد أُلْهِمَتْ بعد فجورها تقواها. في هذه اللحظة قد يكون الناس قد استعدت أفهامهم، واتسعت مداركهم لاحتمال كل ما يلقى إليهم على لسان هذا النبي الذي لا يتكلم من نفسه، وإنما من وحي يوحى إليه من ربه بالقرآن.
ويذكر المسيح عليه السلام بعض أوصاف هذا الرسول الخاتم التي تساعد على تمييز شخصيته، منها قوله: "ذاك يمجّدني". فمن صفات هذا الرسول أنه يمجد المسيح، ولم يأت أحد بعد المسيح ويمنحه من التمجيد والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أمه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلة التي وضعه الله فيها، وهي العبودية والرسالة، سوى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صفات هذا الرسول أنه سيرشد الخلق إلى أمور وحقائق لم يبلّغها المسيح، وذلك في قوله: ويخبركم بأمور آتية"... إلخ... إلخ.
والآن إلى القارئ الكريم مجرد عينةٍ جِدّ محدودةٍ من الكتب التى وضعها هؤلاء المهتدون إلى الإسلام من أهل الكتاب، ومع كل كتابٍ اسم صاحبه: "الدين والدولة" لعلي بن ربّن الطبري، و"تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" لعبد الله الترجمان، و"النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية" للمتطبب، و"إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى المغربي، و"مسالك النظر في نبوة سيد البشر" لسعيد بن الحسن الإسكندراني، و"محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" لعبد الأحد داود، و"محمد نبي الحق" لمجدي مرجان، و"محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن" لإبراهيمخليل أحمد. وينبغى ألا ننسى أن من بين أسباب دخول تلك الجماهير الغفيرة من أهل الكتاب على مر العصور فى الإسلام اقتناعهم بهذه النبوءات الموجودة فى كتبهم، فآمنوا بمحمد موقنين أنه هو النبى الذى بشرت به التوراة والإنجيل.
كذلك تثير تلك البشائر مسألة أخرى لا أدرى كيف يمكن حلها. ذلك أن المبشر يحتاج بدوره إلى من يبشر به كى نصدقه، وهذا الذى بشر به يحتاج أيضا إلى من يبشر به ويقول لنا إنه نبى صادق، وهذا المبشر الثالث يحتاج إلى مبشر رابع يسبقه ويشهد له... وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى نبى لم يشهد له نبى سابق عليه لأنه هو أول الأنبياء، فلا يوجد من يسبقه. ثم هل يستطيع المتنطع السخيف العقل أن يقول لنا مثلا: أى نبى يا ترى شهد بأن هناك نبيا سوف يأتى اسمه نوح؟ ومن ذا الذى شهد لإبراهيم عليه السلام وبشَّر به نبيا؟ أم من يا ترى بشَّر بيوسف؟ وهذه مجرد أمثلة ثلاثة لا غير. أما البشارات التى وردت فى العهد القديم ويقول هذا اليوحنا المتنطع إنها شاهدة بألوهية السيد المسيح فقد سبق أن تناولتها من قبل فى دراسة مفصلة وبينت أنها لا علاقة لها بالسيد المسيح من قريب أو من بعيد، اللهم فى خيالات أمثاله وأوهامهم. وأنى للخيالات والأوهام أن تحق حقا أو تبطل باطلا؟ وأيا ما يكن الأمر فهل كانت بشارات أنبياء العهد القديم بلاحقيهم مانعة لهؤلاء الأنبياء اللاحقين من مقارفة الجرائم البشعة من الزنا والزنا بالمحارم والقتل والشرك والتزوج بالوثنيات ومساعدتهن على عبادة الأوثان؟ فهؤلاء هم أنبياء الكتاب المقدس الذين يضعهم يوحنا الدمشقى بإزاء سيدنا رسول الله زاعما وواهما أنهم أفضل منه. ألا بُعْدًا لك يا بعيد!
ومع هذا كله فلسوف نتناول الآن بعضا من البشارات التى يكايدنا بها ذلك المتنطع: فمؤلف إنجيل متى يقول إن هناكنبوءة فى العهد القديم بأن مريم ستلد ولدا وتسميه: "عمانوئيل". لكن ذلك المؤلف نفسه قد نسى أنه قال قبل ذلك مباشرة، وعقب ذلك مباشرة أيضا، إن يوسف قد سماه: "يسوع" تحقيقا لهذه النبوءة.كيف؟ لا بد أن نرسو على بَرّ ونعرف: أهو عمانوئيل أم يسوع؟ إن هذا يذكّرنابأغنية شادية التى تقول فيها إنها، من ارتباكها بسبب مشاغلة حبيبها لها، إذا طلبأبوها أن تُعِدّ له كوبا من القهوة فإنها تعد بدلا من ذلك كوبا من الشاى وتعطيهلأمها: "21وسَتَلِدُ اَبنا تُسمّيهِ يَسوعَ، لأنَّهُ يُخَلَّصُ شعْبَهُ مِنْ خَطاياهُمْ".22حَدَثَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبٌّ بلِسانِ النَّبـيَّ:"23سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْنا يُدْعى "عِمّانوئيلَ"، أي الله مَعَنا.24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ. فَجاءَباَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوع"َ. وبالمناسبة فلم يحدث أن سمى أحد سيدنا عيسى عليه السلام فى يوم من الأيام: "عمانوئيل" رغم أن كثيرا من النصارى: صبيانًا وبناتٍ ممن ليسوا أبناءً أوبناتٍ لله يُسَمَّوْن: "عمانوئيل"! كما أن بقية النبوءة التى تنسب لإِشَعْيَا عن حَبَل العذراء وولادتها طفلا يسمَّى: "عمانوئيل" تقول: "زبدا وعسلا يأكل متى عرف أنيرفض الشر ويختار الخير، لأنه قبل أن يعرف الصبىُّ أن يرفض الشر ويختار الخير تُخْلَى الأرض التى أنت خاشٍ من مَلِكَيْها" (إشعيا/ 7/ 15- 16)، ولم يرد فى الأناجيل قطأنه، عليه السلام، قد أكل زبدا وعسلا، فهل نقول، بناء على هذا وطبقا لما جاء فىالنبوءة، إنه لم يستطع أن يرفض الشر ويختار الخير؟ ثم إنالكلام هنا عن طفلٍ بشرى تماما، طفلٍ يجرى عليه ما يجرى على كل أطفال البشر، فهو لمينزل من بطن أمه عارفا الخير والشر كما ينبغى لابن الإله أن يكون، وهذا إن كان منالممكن أو حتى من اللائق أن ينزل ابن الإله من بطن امرأة، بل عليه أن يمر بعدة مراحل حتى يكتسب موهبة التعرف إلى الخير والشر والتمييز بينهما. ولقد رجعت إلى كتاب "A New Commentary on Holy Scripture" (لندن/ 1929م) لأمحص معنى هذا الكلام، فوجدتمحرريه: تشارلز جور وهنرى جاودج وألفرد جيوم يقولون إن إشعيا إنما كان يتنبأ بماسيحدث لبنى إسرائيل فى المستقبل القريب، وإن حَبَل العذراء ليس إلا إشارة إلى الآيةالتى سيقع عندها ما أَخْبَر به، إلا أن النصارى قد استغلوا تلك النبوءة فى الكلام عنميلاد عيسى عليه السلام، وهو ما لا يوافق عليه اليهود أبدا. وقد ورد فى شرحالمحررين المذكورين أن النبوءة تقول إن التى ستحبل وتلد طفلا يسمى عمانوئيل "damselوليست "virgin"، التى تستعمل للعذراء مريم عليها السلام، وهو ما يعضدهاستخدام بعض الترجمات الفرنسية عندى لكلمة "la jeune fille"، وإن كنت وجدتها فى بعضالترجمات الفرنسية والإنجليزية الأخرى:"vierge, virgin: عذراء". وقد انقدح فى ذهنى عندئذ أن السبب فى هذا الاضطراب هو أن الكلمة الأصلية تعنى"damsel"، التى تعنىأيضا "غادة، آنسة، صبية"، وأن رغبة النصارى فى تحميلها المعنى الذى يريدون هىالمسؤولة عن ترجمتهم لها بــ"عذراء". ومرة أخرى لم يكتف العبد لله بذلك، بلاتخذتُ خطوة أخرى فرجعت إلى مادة "Imanuel" فى "The International Standard Bible Encyclopedia" لأقرأ تحت هذا العنوان الجانبى: "The Sign of Immanuel" السطورالتالية عن النبى إشعيا والعلامة الثانية التى عرضها على الملك أحاز كى يَثْنِيَهعن تحالفه مع مملكة آشور، هذا التحالف الذى رأى أنه يؤدى إلى التبعية لتلك الدولة:He then proceeds to give him a sign from God Himself, the sign of "Immanuel" (Isaiah 7:14). The interpretation of this sign is not clear, even apart from its New Testament application to Christ. The Hebrew word translated "virgin" in English Versions of the Bible means, more correctly, "bride," in the Old English sense of one who is about to become a wife, or is still a young wife. Psalms 68:25 English Versions of the Bible gives "damsels." Isaiah predicts that a young bride shall conceive and bear a son. The miracle of virgin-conception, therefore, is not implied. The use of the definite article before "virgin" (ha-`almah) does not of itself indicate that the prophet had any particular young woman in his mind, as the Hebrew idiom often uses the definite article indefinitely. The fact that two other children of the prophet, like Hosea's, bore prophetic and mysterious names, invites the conjecture that the bride referred to was his own wife. The hypothesis of some critics that a woman of the harem of Ahaz became the mother of Hezekiah, and that he was the Immanuel of the prophet's thought is not feasible. Hezekiah was at least 9 years of age when the prophecy was given (2 Kings 16:2). Immanuel, in the prophetic economy, evidently stands on the same level with Shear-jashub (Isaiah 7:3) as the embodiment of a great idea, to which Isaiah again appeals in Isaiah 8:8 (see ISAIAH, VII).
وفيه، كما يرى القارئ، أن الكلمة المستخدمة فى الأصلمعناها "عروس" أو "شابة على وشك الزواج" أو "زوجة جديدة"، وليس "عذراء"، وأن تفسيرالآية المذكورة فى النبوءة ليس واضحا، وإنْ كان التفسير القائل بالحمل الإعجازىّمستبعَدا رغم ذلك، فضلا عن أن هناك من يقول إن المقصود بالغادة هو زوجة إشعيا نفسه، ومن يقول إن المقصود بــ"عمانوئبل" ليس شخصا بل فكرة من الأفكار العظيمة!
ومرةأخرى غير المرة الأخرى السابقة لا يكتفى العبد لله بهذا، بل أعود لــ"دائرة المعارفالكتابية" (مادة "عمانوئيل") فأجد الآتى: "عمانوئيل: كلمة عبرية معناها "اللهمعنا" أو بالحري "معنا الله". وهو اسم رمزي جاء في نبوة إشعياء لآحاز ملك يهوذاكعلامة على أن الله سينقذ يهوذا من أعدائها (إش 7: 14، 8 و 10). وقد جاء في إنجيلمتى أنها كانت نبوة عن "الرب يسوع المسيح" (مت 1: 23). لقد نطق إشعياء بهذه النبوةفي حوالي 753 ق. م في أثناء مأزق حرج كان فيه الملك آحاز، حيث تحالفضده فقح بنرمليا ملك إسرائيل ورصين ملك أرام لأنهما أراداه أن ينضم إليهما في حلف ضد أشورالقوة الصاعدة، لكنه فضَّل الوقوف إلى جانب أشور (انظر 2 مل 16: 5- 9، 2 أخ 28: 16- 21). ولكن إشعياء النبي أكد لآحاز أنه ليس في حاجة إلى أن يخشى رصين وفقح ولا إلىالتحالف مع أشور، وقال له : "اطلب لنفسك آية" ليتأكد من صدق ما قاله النبي. ولكنآحاز، بدافع من عدم الإيمان، وتحت ستار التقوى الكاذبة، قال له: "لا أطلب ولاأجرِّب الرب". وعندئذ أعلن إشعياء أن السيد الرب نفسه سيعطيهم آية: "ها العذراءتحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل"، وفي سنواته الباكرة ستنتهي الدولتان اللتانكان يخشاهما: أرام وإسرائيل. وهو ما تم على يد تغلث فلاسر الثالث ملك أشور الذيصعد إلى دمشق وفتحها وسبى أهلها وقتل رصين ملكها في 732 ق. م. وبعد ذلك بعشر سنواتحاصر شلمنأسر، ملك أشور، السامرة مدة ثلاث سنوات، وأخيرا سقطت في يد الأشوريين في722ق. م.
وتتباين الآراء حول مَنْ هذا "الابن المدعوّ: عمانوئيل"، ومَنْ أمهالتي توصف بأنها "عذراء" ("عُلْمة"...). ويرى كثيرون من حيث إنها كانت علامة لآحاز فلا بد أنها كانت تشير أولا إلى مرمى قريب يستطيع آحاز أن يميزه. وهناك أربعة آراءتدور حول هذا اللغز: 1-يرى بعض المفسرين أن كلمة "عُلْمة" (العذراء) لا تدل علىواحدة بالذات، بل هي اسم جنس، فيكون "عمانوئيل" في هذه الحالة رمزا للجيل الجديدالذي ستتم النبوة في باكر أيامه. ولكن هذا التفسير لا يتفق مع ما جاء بالعهدالجديد، ويقطع الصلة بين هذه النبوة وسائر النبوات المتعلقة بالمسيا. 2-أنها نبوةتشير إلى إحدى امرأتين: إما امرأة إشعياء، أو امرأة آحاز. وفي الحالة الأولى يكونالمقصود "بعمانوئيل" هو "مهير شلال حاش بز" (إش 8 : 1-4)، وأمه هي زوجة إشعياء الموصوفة بأنها "النبية" (إش 8 : 3)، التي كان إشعياء على وشك الاقتران بها، أيأنها كانت مازالت عذراء في وقت النطق بالنبوة. ويؤيدون هذا الرأي بأن أولاد إشعياءكانوا رموزا (انظر عب 2: 13 مع إش 8: 18). ويرى آخرون أن "العذراء" المقصودة هيإحدى زوجات آحاز، وأن الابن المقصود هو "حزقيا". ولكن هذا الرأي تعترضه صعوباتخطيرة، فحزقيا كان قد وُلد فعلا منذ نحو تسع سنوات قبل النطق بالنبوة (انظر 2 مل 2: 16،18:2)، بينما من الواضح أن النبوة لم تكن عن أمر قد حدث، بل عن أمر سيحدث. 3-أن النبوءة تشير إلى المستقبل البعيد، وبخاصة في ضوء ما جاء في إنجيل متى (1: 23)عن العذراء مريم وابنها يسوع الذي "يُدعى اسمه: عمانوئيل، الذي تفسيره اللهمعنا" لأنه كان هو الله الذي "ظهر في الجسد" (1 تى 3: 16)، والذي "فيه يحل كل ملءاللاهوت جسديا" (كو 2: 9). ومع أنه تفسير سليم بالنسبة لمرمى النبوة البعيد لكنه يتغاضى عن أن النبوءة كانت علامة لآحاز. (4) أن النبوءة مزدوجة المرمى كالكثير مننبوات العهد القديم، فعمانوئيل والعذراء رمزان، فالعذراء يرمز بها في المرمى القريبإلى امرأة إشعياء أو امرأة آحاز، وفي المرمى البعيد إلى العذراء مريم. و"عمانوئيل"يرمز في المرمى القريب إلى "مهيرشلال حاش بز" أو إلى "حزقيا"، أما في المرمى البعيدفإلى الرب يسوع.
ولا شك في أن النبوة كانت في مرماها البعيد تتعلق بولادة الرب يسوع المسيح من مريم العذراء، وهو ما نراه بكل وضوح في إنجيل متى حيث نقرأ: "هذاكله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: "هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعوناسمه: عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (مت 1: 21- 23). وهو الذي يقول عنه إشعياء أيضا: "لأنه يولد لنا ولد، ونُعْطَى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبامشيرا إلها قديرا، أبا أبديا رئيس السلام " (إش 6: 9)، فهو وحده الذي يحق أنيقال عنه: "الله معنا"، ولم يكن مولده خلاصا من ضيقة وقتية، بل خلاصا أبديا منالخطية والموت". ومن هذه المادة يتضح الأمر كله، فالقوم يلوون عنق النص كى ينطق بمايريدون رغم أنه لا علاقة له بهذا الذى يريدون، وذلك على مبدإ: "عنزة ولوطارت".
و لدينا كذلك نبوءة إشعياء، التى يقول النصارى إنها خاصة بعيسى عليه السلام وتثبت أنه هو الله أو ابن الله، وفاتهم أنه قد تكررت الإشارة فى سفر إشعياء إلى أن الكلام الذى يقولون إنه خاص بعيسى إنما تتعلق بـ"عبد" لله لا بابن لله ولا بالله نفسه. وهذا هو النص فى سياقه كاملا كما ورد فى السفر المذكور: "13هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. 14كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. 15هكَذَا يَنْضِحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ أَفْوَاهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ. 1مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ 2نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. 3مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، هنا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. 4لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. 5وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. 6كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. 7ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. 10أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. 11مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. 12لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعيا/ 52/ 13- 15، و53/ 1- 11).
فها هو ذا مؤلف سفر إشعياء يصف الشخص الذى تدور حوله النبوءة على لسان المولى سبحانه بأنه عبد لله لا ابن له. ولا ننس أنه لم يحدث مرة أن قال المسيح عليه السلام لأحد ممن تعامل معهم: "يا عبدى، أو يا عبادى"، بل إنه لم يسمهم حتى "عَبِيدًا" (وهى الكلمة التى تُسْتَخْدَم عادة لعبد الإنسان لا لعبد الله، الذى يُجْمَع عادة على "عِبَاد") بل سماهم: "أحبّاء": "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي" (يوحنا/ 15/ 15). أى أن المسيح، عليه السلام، من الناحيتين: الإيجابية والسلبية كلتيهما، هو عبدٌ لله كسائر عباد الله، وإنْ زاد عنهم بأنه كان رسولا نبيا. لكن قول مؤلف إشعياء عن ذلك العبد: "7ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" هذا القول لا ينطبق على السيد المسيح صلى الله عليه وسلم، إذ إنه لم يكن صامتا بل كان يتكلم طوال الوقت مع تلامذته وأعدائه والمرضى المتعَبين، وهذا الكلام هو الذى ألَّب عليه المجرمين الفَسَقَة. حتى عندما وُضِع على الصليب حَسْب روايات مؤلفى الأناجيل لم يكفّ عن الكلام، بل كان يجيب على ما يوجَّه له من أسئلة وتهكمات. كما أخذ يصيح ويتألم وهو فى نزعه الأخير حسبما يزعمون. ثم إنه لم يُدْفَنْ مع أشرار، ولا مات مع أغنياء. ورواية الصَّلْب موجودة لكل من يريد، فليدلّنا القوم على خلاف ما نقول! وفوق ذلك كيف يقال إنه قد ظُلِم، وهو ابن الله أو الله ذاته؟ هل الآلهة يمكن أن تُظْلَم؟ أوليس أبوه هو الذى أرسله بنفسه لكى يموت هذه الميتة فداء للبشرية؟ فكيف يسمَّى هذا ظلما؟ الواقع أنه إذا قلنا إنه كان هناك ظلم فليس أمامنا إلا القول بأن الظالم هو مَن اختاره وأرسله، أستغفر الله، لا مَنْ أسلموه لقتلته ولا مَنْ صلبوه، لأن هؤلاء جميعا إنما كانوا الأدوات المنفذة للمشيئة الإلهية، التى إنما عملت ما عملت رحمة بالبشرية وتكفيرا لها عن ذنوبها كما يقولون! كذلك فالسيد المسيح لم يكن محتقَرا، معاذ الله! وإذا كان فمِنْ قِبَل المجرمين المنافقين من بنى إسرائيل فقط، وهؤلاء لا قيمة لهم عند الله، أما الذين يؤمنون به فيحبونه ويحترمونه. والأناجيل مملوءة بالكلام الطيب الذى كان أتباعه يغدقونه عليه. وفوق ذلك فإن قول إشعياء: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها" لا ينطبق على السيد المسيح بحال لأنه لم يحدث أنْ حمل أحزان أحد ولا تحمّل أوجاعه، بل كل ما هنالك أنه أذهب عن بعض المرضى (وليس عنا كلنا نحن البشر) الأحزان والأوجاع التى كانوا يقاسونها ولم يتحمل هو نفسه شيئا منها، وإلا فهل كان فى كل مرة يشفى فيها أحدا من مرضه كان يصاب هو بدلا منه بذلك المرض؟ هذا هو معنى العبارة، وهو ما لا ينطبق على المسيح بتاتا، بيد أن القوم فى تفكيرهم وتفسيرهم لكتابهم المقدس لا يجرون على أى منهج أو منطق، بل يقولون كل ما يعنّ لهم بغض النظر عما فيه من شطط عن المنطق والعقل! كذلك فإن الكلام يخلو تماما مما يعتقده النصارى فى السيد المسيح من أنه قام من الأموات وصعد إلى السماء! ثم إن نهاية النص تتحدث عن نسل له تطول أيامه، وليس للمسيح أى نسل، لسبب بسيط هو أنه لم يتزوج كما يعلم جميع الناس: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ".
ولا بد من التنبيه إلى أن كثيرا من المفسرين اليهود يؤكدون أن المقصود فى هذه النبوءة هو النبى إرميا، وليس عيسى عليه السلام. أما الفريق الآخر منهم الذى يرى أن الكلام عن المسيح فإن المسيح عندهم ليس هو ابن مريم بل شخصا آخر لا يزالون فى انتظار مجيئه كما هو معروف (انظر "Matthew Henry Complete Commentary on the Whole Bible" فى التعليق على الفقرات 13- 15 من الإصحاح الثانى والخمسين من سفر إشعياء)، وهذا الشخص لن يكون واحدا من الأقانيم المعروفة لأنهم لا يعرفون التثليث النصرانى الذى هو، فى الواقع، نتاج الفكر المتأخر عن المسيح. وعلاوة على هذا نجد ألفرد جِيّوم فى "A New Commentary on Holy Scripture"(لندن/ 1929م/ 459) يؤكد أن هناك خلافا حادا حول حقيقة الشخص المومإ إليه هنا لم يهدأ أُوَارُه، وأن التفسير القديم الذى كان يرى أن المراد بتلك النبوءة هو السيد المسيح قد أخلى مكانه لحساب القول بأن المقصود هم بنو إسرائيل كلهم، وبخاصة أنه قد سبق فى سفر إشعياء استعمال لفظ "العبد" مرادا به بنو إسرائيل. كما أنه من غير المعقول أن يكون الكلام بهذا التفصيل عن شخص لن يظهر إلا بعد 500 عام تقريبا. ومن هذا يتبين لنا أن كلام المتنطع الدمشقى هو كلامٌ فِشِنْك.
إن المنهج الذى يريدنا ذلك المدلس أن نجرى عليه لَيُذَكِّرنى بطلاب هذه الأيام. إنهم لا يريدون أن يفكروا بأنفسهم لأنفسهم، بل تراهم إذا سألناهم عن رأيهم فى مسألة ما يردون بأن كل ما يريدونه منا هو أن نذكر لهم رأينا نحن، وهم يحفظونه ويعيدون كتابته فى ورقة الإجابة، وكان الله يحب المحسنين، إذ ما دمنا نعرف الإجابة الصحيحة فلماذا نُعْنِتهم ونرهق أذهانهم ونضيع وقتهم؟ وكأن وقتهم له أية قيمة. أما المنهج الذى نريده نحن من الناس فهو أن يبسطوا أمامهم الدعوة التى يأتيهم بها أى رسول أو مصلح ليروا فيها رأيهم محللين ممحصين مدققين مقارنين، ومجربين أيضا إذا أمكن. بهذا لا بغيره يكون اختبار الدعوات والنبوات لا بشهادات الآخرين. وهذا المنهج هو منهج القرآن، إذ دائما أبدا تجده يخاطب العقول ويعرض البراهين ويحث على التأمل والتفكير، وهو ما لا يحسنه المتنطع الكذوب المسمى بـ"يوحنا الدمشقى، فقد درج على حفظ ما يلقى إليه من دون تفكير أو عقل، شأن طلاب هذه الأيام النحسات.
فإذا أردنا أن نقارن بناء على هذا بين الدين المنسوب لعيسى وبين الدين الذى أُوحِىَ إلى محمد، فماذا نجد؟ نجد أن الإسلام ليس مجرد عبادة أو مجموعة من الأخلاق بل شريعة كاملة تغطى كل جوانب الحياة وأنشطة الحضارة البشرية كما هو معلوم، أما دين عيسى فلا يعدو بعض الوعظيات المغرقة فى المثالية والتى لا تصلح لأى بناء اجتماعى أو حضارى على الإطلاق. ومن هنا نفهم تأكيد السيد المسيح بأن مملكته ليست من هذا العالم. والواقع أن ما نسبه إليه مؤلفو الأناجيل من مواعظ أخلاقية هى كلمات لا تسمن ولا تغنى من جوع، كما أن التصرفات المسندة له هناك من شأنها أن تقوض المجتمعات التى تحاول أن ترتكن إليها: فمثلا كيف يقوم مجتمع أو حضارة على نبذ العمل والمال تماما طبقا لما كان عيسى يأمر به أتباعه؟ أو كيف يقوم مجتمع أو حضارة على أساس التسليم للمجرمين لا بما يريدون فقط بل بأزيد مما كانوا يحلمون بحيث إذا هاجمك لص مثلا وأراد غَصْبك رداءك فعليك أن تتنازل له عن الإزار أيضا... إلى آخر ما نعرفه عن موعظة الجبل وما يشبهها فى الأناجيل من الكلام المنمَّق الجميل الذى لا يؤكّل عيشا؟
أما محمد عليه الصلاة والسلام فقد أتى بتشريعات لم تغادر شيئا من شؤون الحياة إلا ونظمته وقنّنته على أحسن ما يكون التناغم مع فطرة البشر وأوضاع حياتهم وظروف مجتمعاتهم، جامعة بين المثالية العاقلة الكريمة والواقعية الطاهرة الحكيمة. ألم يبن دولة ناجحة فى المدينة استطاعت، فى غضون عدة عقود لا راحت ولا جاءت فى حساب التاريخ، أن تتحول إلى إمبراطورية اكتسحت معاقل الشرك والتثليث وعبادة النار والبقر والبشر؟ بلى. ثم إن معجزات السيد المسيح على جلالها أقل فائدة للعباد من هذه الإنجازات المحمدية بكل ما تشتمل عليه من تشريعات ونظم سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية وعسكرية وقانونية. ذلك أن الذى يعطى الجائع صنارة ويعلّمه كيف يصنع ما شاء من الصنانير، ثم يشرح له كيف يقوم بعملية الصيد ليسد جوعته ويدخر بعضا من السمك المصطاد ليبيعه لغيره مقابل شىء مما عند ذلك الغير لا يملك مثله هو، فيَطْعَم ويغتنى، ويُطْعِم ويُغْنِى بدوره مَنْ حوله، لأفضل ألف مرة من تزويد ذلك الجائع بأكلة سمك أو أكلتين، ثم يتركه بعد ذلك للجوع والضياع والبطالة والانقضاض على حقول الآخرين ليأكل منها دون إذن من أصحابها، وبخاصة أنه ليس عنده وقت لتلبية حاجات كل جائع، وأنه عاجلا أو آجلا مُغَادِره إلى الأبد ومُبْقِيه وجهًا لوجهٍ مع أمعائه الخاوية وزوجته وأطفاله الصارخين لا يعرفون كيف يتصرفون ولا كيف يواجهون هذا المأزق العسير!
وبمستطاعنا أن ندير هذه المقارنة على ثلاثة محاور: الأول هو مدى توفير كل من الدينين للتشريعات التى تنظم أمور الحياة. والثانى هو القيم الحضارية التى يبشر بها كل من الدينين. والثالث هو عنصر الرجال الذين رباهم كل من الرسولين. ونبدأ بالتشريعات، ومعروف أن النصرانية تخلو تماما من أى شىء يتعلق بتنظيم المجتمع أو الدولة: سواء فى مجال السياسة والحكومة، أو الاقتصاد والعمل والإنتاج والصناعات والحرف والبيع والشراء والربا، أو العلاقات التى تربط أفراد الأسر والأقارب والجيران بعضهم ببعض، أو الحروب والمبادئ التى ينبغى الالتزام بها عند وقوعها. ذلك أن النصرانية ليست سوى طائفة من النصائح الأخلاقية المثالية التى تتأبى على التطبيق مهما كانت رغبة الشخص أو المجتمع فى ذلك لأنها تدابر الفطرة البشرية وتفترض فى الناس أنهم مجموعة من الملائكة الأطهار الأبرار، أو من ألواح الثلج، فهم لا يحسون ولا يغضبون ولا يتألمون ولا يقلقون على شىء ولا يرون له قيمة، ومن ثم لا يثورون ولا يتمردون على أية إهانة أو إذلال. وبطبيعة الحال فإن الناس ليسوا كذلك ولا يمكن أن يكونوا كذلك. ولهذا كان لا بد من تشريعات تنظم أمورهم فى مجالات الحياة المختلفة، وهو ما قام به الإسلام على خير وجه، وراعى فيه إقامة توازن عبقرى بين واقعية القوانين ومناسبتها للطبيعة الإنسانية مع العمل فى ذات الوقت على السموّ بتلك الطبيعة إلى أقصى ما يمكنها بلوغه من درجات الرقى والسموق رغم ذلك. وعلى هذا فمن الظلم وضع الإسلام موضع المقارنة مع النصرانية، إذ لا تستطيع هذه الديانة الأخيرة أن تصمد لحظة لتلك المقارنة. وينبغى هنا ألا ننسى ما قاله المسيح عليه الصلاة والسلام من أن مملكته ليست من هذا العالم، وهى كلمة قاطعة الدلالة على أن النصرانية، حتى دون تحريف، لا تصلح للحياة الدنيا، فكيف تصح مقارنتها بالإسلام، فضلا عن تفضيلها عليه؟ إن هذا كلام لا يدخل العقل! وهنا ننتقل إلى المحور الثانى فى المقارنة بين محمد والمسيح عليهما جميعا السلام، وهو محور القيم الحضارية.
ومن المعروف أن الحضارة تقوم على عدة أسس هى العقيدة، والأخلاق، والقانون، والعلم، والذوق، والعمل. وليكن آخر شىء هنا، وهو العمل، هو أول ما نتناوله فى المقارنة بين الإسلام والنصرانية. وكان المسيح عليه السلام، طبقا لما يقوله كتّاب الأناجيل، ينظر إلى العمل على أنه عائق فى طريق دعوته. ولهذا كان يأمر كل من يدخل فى تلك الدعوة أن يترك وراء ظهره مهنته التى يأكل منها، وكذلك أسرته، ويتبعه: "17مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ:«تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ».18وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 19فَقَالَ لَهُمَا:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». 20فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. 22فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ" (متى/ 4)، "وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعًا كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِالذَّهَاب إِلَى الْعَبْرِ. 19فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». 20فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». 21وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ:«يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». 22فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»" (متى/ 8)، "9وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ" (متى/ 9. وبالمناسبة فهذا النص الصغير يدل دلالة قاطعة على أن كاتب هذا الإنجيل ليس هو متى حوارى عيسى، فهو يتكلم عن متى نفسه بوصفه شخصا آخر، وهذا ظاهر من استعماله له ضمير الغائب لا المتكلم"، "24حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي»" (متى/ 16).
ويتصل بهذا تهوينه عليه السلام من شأن المال، مع أن المال فى أصله عنصر رئيسى من عناصر الحياة، إذ هو ترجمة الجهد المبذول فى العمل والإنتاج أو فيما يحتاج إليه الإنتاج كى يمكن إنجازه. ولا يمكن أن يُدَان المال ومالكوه، اللهم إلا إذا أتى من حرام، أو أُنْفِقَ فى حرام، أما إدانته والتنفير منه والدعوة إلى كراهيته كأنه شرٌّ فى ذاته كما كان المسيح يفعل طبقا لما يقول مؤلفو الأناجيل فهو ما لا يمكن الموافقة عليه، لأنه يهدم ركنا من أركان الحياة والعمران البشرى، وإلا فمن أين يأكل الناس ويشربون ويلبسون ويسكنون إذا أهملوا العمل وما يترتب على العمل من كسب ومال؟: "19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ! 24«لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. 25«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (متى/6).
ولقد يبدو أن ما يقوله المسيح هنا يشبه ما قاله الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام عندما أشار إلى أن الله سوف يرزقنا كما يرزق الطير. بيد أن هناك فرقا ضخما وخطيرا بين الكلامين، ألا وهو أن الرسول محمدا قد وضّح ماذا يقصد بالمقارنة بيننا وبين الطير، وهو ألا نركن إلى الكسل ونهمل العمل، بل علينا أن نطلب الرزق من مظانّه. وإذا كانت الطير تترك أعشاشها وتطير فى فضاء الله الوسيع سعيا وراء الحبة والدودة، وحينئذ تحصل على رزقها، فكذلك ينبغى أن نتحرك نحن أيضا ونجتهد ونتعب حتى نحصل على رزقنا. فالرزق لا يأتى دون تعب وعرق وكد وكدح. وهذا معنى ربطه صلى الله عليه وسلم بين الرزق وبين شرط التوكل على الله حقّ توكُّله: "لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا". وهذا ما لا نجده فى حديث السيد المسيح عليه السلام، بل فيه أن الله يرزق الطير دون مجهود من جانبها، وهذا غير صحيح كما يعرف جميع الناس.
ولنتابع: "16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». 18قَالَ لَهُ:«أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. 19أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». 20قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟» 21قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 22فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! 24وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 25فَلَمَّا سَمِعَتَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ:«إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 26فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ. 27فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 29وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 30وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ»" (متى/ 19. ولو قيل إن الغِنَى إذا كان من حرام أو يدفع إلى حرام أو يشغل صاحبه عن طاعة الله ويغريه بالإثم فإنه يشكل عندئذ عقبة تمنع صاحبه من دخول ملكوت السماوات، فلا خلاف على هذا القول. أما التنفير من المال مطلقا فلا أدرى كيف يكون!).
ولذلك كان من ثمرة هذا الموقف المبدئى من السيد المسيح أنه وتلاميذه كانوا يعتمدون فى مطعمهم وملبسهم ومركبهم على ما يجود به عليهم الآخرون، أو على ما يقابلهم فى طريقهم من حقول أو حظائر يهجمون عليها دون إذن من أصحابها، أو على معجزات السيد المسيح الطعامية. وإذا لم تأت المعجزة بالثمرة المطلوبة لَعَنَ التينة المسكينة التى لم تستجب له لأن الأوان ليس أوان تين، وليس لها ذنب فى ذلك. وليس على تلك الأسس تقوم المجتمعات البشرية، بل على العمل والجِدّ والإنتاج وامتهان الحرف والصنائع المختلفة، وإلا انقرض المجتمع وضاع: "5هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. 7وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. 8اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. 9لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ، 10وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْن وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ" (متى/ 10)، "1فِي دلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. 2فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ:«هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» 3فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 4كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. 5أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ 6وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! 7فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! 8فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا»" (متى/ 12. والطريف أن كاتب الإنجيل يعرض المسألة على أنها انتهاك لحرمة السبت، وينسى أو يتناسى انتهاك حرمة الحقل فى غياب صاحبه والأكل منه دون إذنه)، "14فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. 15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَامًا». 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». 17فَقَالُوا لَهُ:«لَيْسَ عِنْدَنَا ههُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ». 18فَقَالَ:«ائْتُوني بِهَا إِلَى هُنَا». 19فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. 20فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. 21وَالآ كِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى/ 14)، "32وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ:«إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» 33فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعًا هذَا عَدَدُهُ؟» 34فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». 35فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، 36وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. 37فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَل مَمْلُوءَةٍ، 38وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُل مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى/ 15)، "1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلاً لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا»" (متى/ 21)، "18وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، 19فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا:«لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ" (متى/ 21)، "17وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 18فَقَالَ:«اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي». 19فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ" (متى/ 26).
هذا ما تقوله الأناجيل فى موضوع العمل والمال. وهو، كما نرى، لا يصلح للمجتمعات البشرية، فإن المسيح لن يبقى على الأرض طول الحياة حتى يوالى الناس بما يحتاجون. كما أنه لن يظل يصنع معجزات، والدليل على ذلك قصة الحقل وقصة التينة وقصة عيد الفصح. ولن يستفيد من معجزاته إلا من حوله حسبما شاهدنا. ليس هناك إذن سوى سبيل واحد هو العمل والإنتاج والاعتماد على النفس والتعاون وتوزيع الاختصاصات، كل شخص فيما يحسن ويتقن. وهذا ما يقوله الإسلام: لقد تكرر فى القرآن الشريف مراتٍ بعد مراتٍ، عقب الإيمان مباشرةً، الأمرُ بالأعمال الصالحات، وهى تشمل كل شىء تحتاجه الحياة الإنسانية كى تتحرك وتستمر، وأوجب العمل على المسلمين: "وقُلِ: اعملوا، فسَيَرَى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون". وفى أحاديث الرسول ما يدل على أنه لا بد من العمل واتخاذ كل إنسان مهنة يزاولها ويعيش منها مُعِينًا إخوانه فى المجتمع والإنسانية ومستعينًا بهم، وأن المال خيرٌ ما كان من حلال وما أُنْفِق فى حلال وأُدِّىَ فيه حق الله والآخرين، وأن العمل واجب حتى آخر نَفَس فى حياة الإنسان، بل حتى آخر لحظة فى عمر الدنيا، وأن العبادة لا ينبغى أن تعطل الإنسان عن عمله ولا أن تجور عليه، وربما قُدِّم فى بعض الظروف عليها، وأن المهن كلها محترمة، وأنه لا يكفى أن يؤدى الإنسان العمل، بل لابد من إتقانه على الوجه المطلوب. باختصار ليس فى الدنيا ما يعاب على من يستمتع بطيباتها ما دام يراعى ربه فيها. فالإسلام لا يدابر الحياة ولا يتجهم لها، بل يأخذ بيدها ويتعاون معها على خير البشرية. يقول الرسول الكريم: "من بات كالاًّ من عمل يده بات مغفورا له"، "ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعِنَان فرسه في سبيل الله. ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ رجل معتزِل في غُنَيْمَةٍ له يؤدي حق الله فيها"، "المؤمن القوى خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍّ خير"، "خير الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غِنًى. وابدأ بمن تَعُول"، "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينارٌ تصدقتَ به على مسكين، ودينارٌ أنفقتَه على أهلك: أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك"، "نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح"، "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبي فليمسك أرضه"، "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهُرهم. لقد كَفَوْنا المؤونة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال: لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم".
و"عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قبل الإسلام في التجارة. فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي ‏صلى الله عليه وسلم: مرحبا بأخي وشريكي! كان لا ‏‏يداري ولا يماري! يا سائب، ‏قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تُقْبَل منك، وهي اليوم تُقْبَل منك. وكان ذا ‏سَلَفٍ وصِلَة"، "‏ما بعث الله نبيا إلا راعِيَ غنم. قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا. كنت أرعاها لأهل ‏ ‏مكة ‏بالقراريط"، "الخيل لثلاثة: لرجلٍ أجرٌ، ولرجلٍ سترٌ، وعلى رجلٍ وِزْرٌ: فأما الذي له أجر فرجُلٌ ربَطها في سبيل الله فأطال لها في مَرْجٍ أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات. ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنَّتْ شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له. فهي لذلك الرجل أجر. ورجلٌ ربطها تغنيًّا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجلٌ ربطها فخرًا ونِوَاءً، فهي على ذلك وزر"، "على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالخير، أو قال: بالمعروف. قال: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر، فإنه له صدقة"، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده. وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"، "عن سعد بن أبى وقاص: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: بالشطر؟ فقال: لا. ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، "أفضل الصدقة ما ترك غِنًى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"، "عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة. ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم يتلو: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات... إلى قوله: الرحيم". إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"، "كان (معاذ بن جبل رضي الله عنه) يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم "البقرة"... فتجوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا فقال: إنه منافق. فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة، فقرأ "البقرة"، فتجوزتُ، فزعم أني منافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معاذ ، أفَتَّانٌ أنت؟ (ثلاثًا). اقرأ: "والشمس وضحاها" و"سبح اسم ربك الأعلى" ونحوها.
و"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعضٌ، وأفطر بعضٌ، فتحزّم المفطرون وعملوا، وضَعُف الصُّوّام عن بعض العمل. قال: فقال في ذلك: ذهب المفطرون اليوم بالأجر"، "‏لأن ‏ ‏يغدو ‏ ‏أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك، فإن ‏ ‏اليد العليا ‏ ‏أفضل من ‏ ‏اليد السفلى، ‏وابدأ بمن ‏ ‏تعول"، "‏جاء الفقراء إلى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقالوا: ذهب أهل ‏الدُّثُور ‏من الأموال بالدرجات العُلاَ والنعيم المقيم: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون! قال: ‏ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ‏ظهراَنيْه ‏إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين"، "‏ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"، "من بات كالاًّ من عمله بات مغفورا له"، "‏إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده‏ فسلة فليغرسها"، "عن سلمان (وكان عبدا مملوكا لبعض أهل المدينة، فأراد أن يتحرر من رِقّه، فكاتَبَهم على أن يغرس لهم شجرا بحيث إذا نجح الشجر أعتقوه) ‏قال: فأتيت النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏فذكرت ذلك له قال: ‏اغرس واشترط لهم. فإذا أردت أن تغرس ‏‏فآذِنّي. قال: فآذَنْتُه. قال: فجاء فجعل يغرس بيده إلا واحدة غرستها بيدي، فعَلِقْن إلا الواحدة"، "الدنيا خضرة حلوة... فمن أخذها بحقها بورك له فيها. ومن أخذها بغير حقها لم يبارَك له، وكان كالذي يأكل ولا يشبع"، "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز"، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"... إلخ.
كما نظّم الإسلام الصدقات ولم يتركها لمزاج المسلم: إن شاء أداها، وإن شاء لم يؤدها، وإن شاء أخرج كثيرا، وإن شاء أخرج قليلا، وإن شاء استمر فى تأديتها، و إن شاء توقف، بل قنّنها وجعلها حقا للفقير لا بد من إخراجه، وجعل لها موظفين يقومون على جمعها وتوزيعها. أى أنه أتبع المبدأ بتطبيقه ولم يتركه كلاما فى الهواء. وتمثِّل النسبة التى يخرجها المسلم القادر من ماله فى مجال الصدقات مقدارا معقولا يكفى للقضاء على الفقر، ولا يسلب الأغنياء كل ثروتهم بل يترك لهم الكثير. والمقصود بالفقر هنا الفقر الناشىء من عجز صاحبه عن الكسب أو من اختلال الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لا الفقر الناتج عن الكسل والبلادة وقلة الكرامة والطمع فيما فى أيدى الآخرين دون وجه حق. ولأن الزكاة نظام مقنن فى الإسلام فقد استمر حتى عصرنا هذا الذى لم تعد الحكومات الإسلامية فيه تهتم بتطبيقه، إذ لا يزال كثير من المسلمين يخرجون حق المحتاجين فى أموالهم طيبةً به نفوسهم راجين قبول الله له وإثابتهم عليه.
هذا عن العمل، والآن إلى بعض ما جاء به الإسلام عن العلم وفضله ومكانة أهله عند الله: ففى القرآن نقرأ مثلا الآيات المتلألئة التالية: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" (طه/ 114)، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ" (الزمر/ 9)، "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (المجادلة/ 11)، "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران/ 18)، "نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (الأنعام/ 143)، "قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ" (الأنعام/ 148)، "وَإِنَّهُ (أى يوسف) لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ" (يوسف/ 68)، "نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف/ 76).
أما الأحاديث المحمدية فها هى ذى بعض دُرَرِها: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم،. وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم... إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلّون على معلِّم الناس الخير"، "فقيهٌ واحدٌ أشدّ على الشيطان من ألف عابد"، "من سُئِل عن عِلْمٍ عَلِمه ثم كتمه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار"، "نضَّر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها. فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه"، "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحْيِيَ به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة"، "من طلب العلم فأدركه كان له كِفْلان من الأجر، فإن لم يدركه كان له كِفْلٌ من الأجر"، "إن مما يَلْحَق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته عِلْمًا علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورّثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته"، و"عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون من أجود جودا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الله تعالى أجود جودا، ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعدي رجلٌ علَّم علما فنشره، يأتي يوم القيامة أميرا وحده. أو قال: أمة وحده"، "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا يُنْتَفَع بعلمه"، "مَثَل علم لا ينتفع به كمَثَل كنز لا يُنْفَق منه في سبيل الله"، "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"، "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغَشِيَتْهم الرحمة وحَفَّتْهم الملائكة وذكَرهم الله فيمن عنده"، "إذا اجتهد (المؤمن) فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر".
ومن هذه الجواهر يتبين لنا قيمة العلم ومدى اهتمام الإسلام بل اعتزازه به وحضه عليه وتشجيعه من يسعى لتحصيله. ويكفى أنه هو الشىء الوحيد الذى أمر الله رسوله عليه السلام أن يستزيد منه، وأنه هو الشىء الوحيد أيضا الذى لم يورِّث الأنبياء شيئا آخر سواه، وأن فضل العالم على سائر الناس، بما فيهم العابد، هو فضلٌ جِدُّ كبير، وأن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ، وهو ما لا مثيل له ولا قريب منه فى أى مذهب أو فلسفة أو نظام أو دين آخر، بل أقصى ما يطمع فيه المخطئ فى هذه الحالة هو أن تخفف عنه العقوبة، أما أن يُعْفَى منها تماما فهذا حلم صعب المنال. لكنْ أن يُؤْجَر رغم خطئه فهذه هى عبقرية دين محمد عليه الصلاة والسلام. وليس فى النصرانية واحد على المليون من كل ذلك، والعهد الجديد متاح لمن يريد التحقق من هذا الذى نقول، فليقلِّبْه براحته وعلى أقلّ من مهله، وأنا زعيم أنه لن يعثر على شىء من ذلك بتاتا، بل سيخرج بانطباعٍ مؤدّاه أن العلم بالنسبة للنصرانية هو شىء لا وجود له على الإطلاق، وكأننا حين نتحدث عن العلم فإنما نتحدث عن العنقاء! ترى كيف يمكن أن تقوم حضارة دون علم؟ لكن ينبغى ألا ننسى ما هو منسوب للمسيح عليه السلام من قوله إن مملكته ليست من هذا العالم! وهذا هو محور الاختلاف بين الإسلام والنصرانية: الإسلام هو دين الحضارة والحياة والحيوية والتقدم. والنصرانية، على العكس من ذلك، تعطى ظهرها للحياة وترتدى ثياب الرهبان وتستقبل الموت والسكون، ولا تهش لحركة العقل وتوثّب الحضارة!
أما فى الجانب الخلقى فيردد النصارى أن المسيح عليه السلام قد أتى بشريعة التسامح. يقصدون قوله: "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم... إلخ"، لكننا سبق أن قلنا وكررنا القول إن هذه المبادئ الخلقية لا تصلح للمجتمعات البشرية، وإلا تحوّل الأمر فيها إلى كارثة إ ترى ماذا يريد المجرمون والظلمة أحسن من ذلك الكلام الذى لن يجنى منه أصحاب الحق والمظلومون سوى الألم والهوان والضياع، مما ينشر الاضطراب فى المجتمع كله ويأخذه إلى الهاوية والانهيار؟ إننا قد نفهم أن يلجأ الإنسان إلى التسامح فى بعض الظروف، وبخاصة إذا كان أقوى ممن أساء إليه أو كان عاجزا عن أخذ حقه أو وجد أن نيله هذا الحق سوف يؤدى إلى ضرر أفدح من ضرر الصبر والتغاضى. أما أن يتحول التسامح والإغضاء إلى سياسة دائمة فهو البوار والانتحار الاجتماعى والسياسى. لنأخذ مثلا ما فعله الغرب فينا حين جلب اليهود من كل أرجاء المسكونة وأقام لهم برغم أنوفنا نحن العرب دولة على أرض فلسطين وشرد معظم أهل البلاد فى الآفاق وانتهج مع الباقين سياسة التقتيل والترويع والاعتقال وهدم البيوت والحصار وتقييد الحريات والتنكيل والتحقير والتشنيع عليهم بأنهم هم المعتدون والإرهابيون، وأن الصهاينة قوم مساكين لا يبغون أكثر من أن يأخذوا بلاد الفلسطينيين ويقتلوهم ويستعملوا الباقين خدما يلعقون أحذيتهم صباح مساء دون أن يقابل ذلك من جانب اليهود حمد أو شعور بالجميل... إلى آخر ما يعرفه كل أحد عن طريقة التعامل الصهيونى والغربى مع الفلسطينيين المظاليم. فبالله عليكم ماذا يريد الصهاينة أفضل من نصح الفلسطينيين بالسكوت على ما حدث لهم، مع شَفْعه بتقديم بناتهم وزوجاتهم وأمهاتهم للمحتلين اليهود ليفسقوا بهن جريا على سياسة: من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن اغتصبك رداءك فاترك له الإزار أيضا، ومن سخَّرك ميلا فسَخِّرْ نفسك له ميلين، وأعطه كل ما معك فوق البيعة واستسمحه أن يخفف عن نفسه الملل بصفعك على قفاك ولكمك فى وجهك وتحطيم أنفك وأسنانك وركلك فى أردافك والبصق فى وجهك وإمطارك بالشتائم المعتبَرة المنتقاة حتى تُدْخِل البهجة على نفسه وتتركه وأنت مطمئن أنه قد استوفى رغبته المريضة فى إيذائك واشتفى من الأُكَال الذى يعذّبه والذى لا يهدّئه إلا إيذاء الآخرين من العرب والمسلمين؟
وفوق ذلك فإنه لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد فى يوم من الأيام مجتمع بشرى يقوم على التسامح المطلق، وإلا فلنلغ الشرطة والقوانين والمحاكم والحكومات ونعيش كما يعيش الناس فى الحدوتة التى كنت أسمعها وأنا طفل صغير والتى تقول إنه كان هناك أيام زمان بلاد لا يتعامل الناس فيها بالفلوس، بل كل من أراد شيئا فما عليه إلا أن يذهب إلى التاجر أو الصانع أو الزارع الذى عنده ذلك الشىء ويقول له: أعطنى كذا وكذا مما عندك "بالصلاة على النبى"، فيعطيه ما يريد ويذهب هو بما أخذ دون أن يكلف نفسه أن يقول: "شكرا". فهل هذا معقول؟ إننا إنما نعيش فى دنيا الواقع والحقائق لا فى دنيا الحواديت، فلنأخذ بالنا حتى لا يضحك علينا الناس! ثم إنه إذا كان عيسى عليه السلام قد دعا إلى التسامح على هذا النحو فإنه، كما وضحنا من قبل ونكرره الآن، كان أول من خرج على ذلك الكلام ولم يلتزم به قط، وإلا فمن الذى كان يلعن بنى إسرائيل لا يكف لسانه عنهم أبدا ويصفهم بــ"المرائين" و"قتلة الأنبياء وراجمى المرسلين" و"أولاد الأفاعى" و"خراف بنى إسرائيل الضالة" و"فاعلى الإثم" و"الشعبالصُّلْب الرقبة" و"الجيل الشرير" و"لصوص المغارة"؟ أليس هو عيسى عليه السلام حسبما نقرأ فى الأناجيل فى كل مناسبة وفى كل غير مناسبة حتى إننا لنظن أنه لم يكن يعرف هدوء الأعصاب، ولا لسانُه التوقفَ والسكينةَ، وأن الداعى إلى التسامح شخص آخر غيره، بل شخص يعاديه ويجرى على نقيض سنّته. بل إنه لم يُعْفِ تلامذته أنفسهم من سوط لسانه، إذ اتهمهم بقلة الإيمان أكثر من مرة، وبالذات بطرس الذى تكرر إفراده له بذلك الاتهام. أما أمه فلا أذكر أنه وجه لها كلمة طيبة قط طوال وجوده على الأرض، بل كان خشنا فظا معها حتى إنه ذات مرة رد على من نبهوه إلى أنها تنتظره هى وإخوته خارج البيت الذى كان فيه، قائلا إن أمه وإخوته الحقيقيين هم من يؤمنون برسالته. فما معنى هذا؟ وهذا كله موجود فى الأناجيل. وحتى لو صدقنا أنه كان يتسامح فعلا كما كان يأمر غيره أن يفعل، فإن مدة التسامح والصبر لم تتجاوز ثلاثة أعوام، ثم ترك الدنيا ومضى إلى ربه.
أما محمد فإنه قد جرى على خطة الصبر والغفران لا أعواما ثلاثة فحسب، بل ثلاثة عشر عاما قبل أن يؤذَن له بالقتال بعدما كانت كل فرص الصبر والعفو والتغاضى قد نَفِدَتْ كلها ولم تأت بنتيجة. ولا شك أن لكل شىء فى دنيانا هذه من نهاية! فحبال الصبر لا يمكن أن تمتد إلى الأبد إلا إذا كنا نعيش فى غير دنيا البشر! ثم هاتوا لى إنسانا واحدا أضربه على خده الأيمن فيدير لى خده الأيسر، وألعنه فيباركنى حسبما توصى الأناجيل! هذا أمر مستحيلٌ استحالةَ طلوع الشمس من مغربها، وتلك الاستحالة أمر طبيعى تماما، فهكذا طُبِع الناس منذ الأزل حتى الأبد. كما أن الحياة لا تستقيم بالتسامح المطلق الدائم، "ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض" كما جاء فى القرآن المجيد، إذ لا يَفُلّ الحديدَ إلا الحديد! والبشر كلهم يعرفون ذلك أكثر مما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا من المخادعين ليكتمون الحقيقة عامدين متعمدين. والمسيح عليه السلام هو نفسه القائل إنه ما جاء ليُلْقِىَ سلاما بل سيفا، وإنه سيكون سببا فى انقسام البيت الواحد على نفسه، بما يدل أقوى دلالة وأجلاها على أن خطة التسامح لا يمكن أن تكون مطلقة مفتحة الأبواب على الدوام، وأن الاصطدام قادم قادم مع استمرار العنت والاضطهاد والعدوان من جانب الخصوم، وإلا فالعفاء على كل شىء وكل أحد! ومن ناحية أخرى فقد سمعنا الرسول الكريم يدعو لقومه فى عز اضطهادهم له ولأتباعه قائلا: رب، اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون!
إن القرآن لا يأمر أتباعه بإدارة الخد الأيسر، لكنه يوصيهم مع ذلك بالحِلْم والصبر والرد على الجاهلين بـ"سلام عليكم" وبالعفو عند المقدرة، إلا أن لكل شىء نهاية كما قلنا. ولابد أن يأتى يوم يفيض فيه الكيل ويتخذ الإنسان عندئذ من الإجراءات ما يُسْكِت عنه المجرمين المتوحشين ليتنفس الصُّعَداء، وإلا فلْنُلْغِ الشرطة والنيابة والقضاء والمحاكم والحكومات كما قلنا من قبل ساخرين! وهذه بعض من النصوص التى تحث المسلم على الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة، وإن كان القرآن لا يوجب عليه ذلك، بل يؤثر فقط العفو والصفح فى كثير من الظروف على رد العدوان بالعدوان: "وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" (الشورى/ 43)، "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (النحل/ 126- 128)، "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فُصِّلَتْ/ 34- 35)، "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ" (ق/ 39- 40)، "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً" (المزَّمِّل/ 10)... وهلم جرا.
ومع ذلك نجد فى القرآن عقوبة لكل جريمة يرتكبها الشخص فى حق الأفراد أو فى حق المجتمع ككل، وبغير هذا فلا قيام ولا استمرار لأى كيان جماعى فى دنيا البشر، اللهم إلا إذا أمكن مثلا إلغاء نظام المرور وترك سائقى السيارات والقطارات والدراجات والطائرات يفعلون ما يحلو لهم، وهو ما لا بد أن تكون نتيجته التوقف تماما عن الحركة فى كثير من الحالات أو البطء الشديد فى الانتقال من مكان إلى مكان، فضلا عن الحوادث والمصائب المرورية التى لا تعد ولا تحصى. فهل هذا ممكن؟ وعليه فقِسِ النظام الاجتماعى كله بمؤسساته وهيئاته وإداراته وقوانينه ومحاكمه وسجونه. تصور مجتمعا يحاول أى شخص فيه أن ينجز شيئا، وهو يعرف أنه لا ضمان لحصوله على ثمرة كده، ولا أمان له إن خرج إلى الشارع لأن السفلة ينتظرونه على باب الدار ليشتموه، والمجرمين يتربصون به ليضربوه ويسرقوه، والقتلة يمسكون بسكاكينهم أو مسدساتهم ليجهزوا على حياته وإلى القبر يشيعوه، والعَهَرة يتمترسون على الناصية حتى إذا خرجت واحدة من نساء بيته هتكوا عرضها وأهانوه وفضحوه ودمّروه! هل يستطيع مثل ذلك الشخص أن يكون عنده نفس للعمل والإنتاج؟ قل له من هنا للصبح: "تسامح يا أخى الكريم! يا أخى الكريم من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن قتلك مرة فقم من موتك وتعرض له كى يقتلك مرة أخرى فيكون لك مكان بارز فى ملكوت السماوات"، لكنه لن يأخذ حرفا واحدا مما تقول على سبيل الجِدّ، فأرح نفسك إذن، بل اسألها: أأستطيع أنا فلانًا الفلانىّ أن أفعل هذا؟ والجواب معروف سلفا، فلا تضيع وقتك إذن، بل تَحَلَّ بالعقل، وكُلْ وعِشْ وقُلْ: يا باسط، واحمد ربك أن هناك شرطة وسجونا ومحاكم وقوانين وحاجة اسمها "عيب" و"حرام" و"ممنوع" "وضد القانون"، وإلا كانت حياتك كارثة بكل المقاييس!
والآن إلى بعض لمحات من أخلاق الإسلام: فمن الآيات القرآنية نقرأ: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ* الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ* وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (البقرة/ 261- 271)، "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا* وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا* وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا" (الإسراء/ 23- 30)"، "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (النور/30- 31)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (النور/58- 61)، "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (لقمان/ 14- 15)، "وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان/ 18- 19)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات/ 6)، ""يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات/ 11- 13)".
أما أحاديث النبى عليه السلام فى هذا الميدان فنسوق منها الأحاديث التالية: "كل ذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين أو قطيعة الرحم، يعجّل لصاحبها في الدنيا قبلالموت"، "عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: ‏لا يدخل الجنة منكان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. فقال له رجل: ‏إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنا، ونعلي حسنة. قال: إن الله يحب الجمال، ولكن الكبر من ‏بطر ‏الحق وغمص ‏الناس"، "عن عائشة ‏ ‏قالت: ‏كنت ‏أطيّب النبي صلى اللهعليه وسلم ‏بأطيب ما يجد حتى أجد ‏وَبِيص ‏الطيب في رأسه ولحيته"، "لا يَفْرَكْ (أى لا يبغض) مؤمن مؤمنة. إن كرهمنها خُلُقًارضيمنها آخر"، "‏إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه"، "من نفَّس عن مؤمنٍ كُرْبَةً من كُرَب الدنيا نفس الله عنه كُرْبة من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنياوالآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "‏اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة"، وعن أبى موسى الأشعرى: "‏قال النبي ‏صلى الله عليه وسلم: على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإنلم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة‏ ‏الملهوف. ‏قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فيأمر بالخير، أو قال: بالمعروف. قال: فإن لم يفعل؟ قال: فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة"، "كلّ معروفٍ صدقة"، "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمْرك بالمعروف ونهْيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الردئ البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة"،"إخوانكمخَوَلكم (أى خَدَمكم)، جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليُطْعِمْه مما يأكل، وليُلْبِسْه مما يَلْبَس. ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"، "لا يقولنّ أحدكم: عبدي، فكلكم عبيدالله، ولكن ليقل: فتاي. ولايقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي"، "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه"، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: "لم يكن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فاحشا ولا متفحشا، وإنه كان يقول: ‏إن خياركم أحاسنكم أخلاقا"، "إن مِنْ أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا"، "إن أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقا، الموطَّؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبُرَآء العيب"، "ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة"، "إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم , ولكن يَسَعُهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، "من مشى في حاجة أخيه المسلم أظله الله بخمسة وسبعين ألف ملك يدعون له، ولم يزليخوض في الرحمة حتى يفرغ، فإذا فرغ كتب الله له حجة وعمرة. ومن عاد مريضا أظله الله بخمسة وسبعين ألف ملك لا يرفع قدما إلا كتب له به حسنة، ولا يضع قدما إلا حطعنه سيئة ورفع له بها درجة حتى يقعد في مقعده، فإذا قعد غمرته الرحمة فلا يزال كذلك حتى إذا أقبل حيث ينتهي إلى منزله"، "الحياء خير كله"، "لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين (أىْ شخصين متجاورين فى مجلس أو اجتماع) إلا بإذنهما"، "عن جابر بن سمرة: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدناحيث ينتهى (أى حيث ينتهى به المجلس)"، "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يدهحتى يكون هو الذيينزع يده، ولا يصرف وجهه عنوجههحتى يكون هو الذييصرف وجهه عن وجهه،ولم يُرَ مقدِّمًا ركبتيه بين يَدَيْ جليس له"، "عن أبى أمامة الباهلى: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه، فقال:لا تقوموا كما تقومالأعاجم يعظّم بعضها بعضا"، "يُشَمَّت العاطس ثلاثا، فما زاد فهو مزكوم"، "‏قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي‏صلى الله عليه وسلم:دعوه‏ ‏وهَرِيقُوا ‏على بوله ‏سَجْلاً ‏من ماء، ‏أو ‏‏ذَنُوبًا ‏من ماء، ‏فإنما بُعِثْتم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين"، "لا يحلّ لمسلم أنيهجر أخاهفوق ثلاث. يلتقيانفيَصُدّ هذا، ويَصُدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، "لا تَبَاغَضوا ولا تَحَاسَدوا ولا تَدَابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلمأنيهجر أخاهفوق ثلاث ليال"، "ليس منامن لم يوقّرالكبير ويرحم الصغير ويأمربالمعروف ويَنْهَ عن المنكر"، "لا يدخل الجنةَقَتّات (أى نمّام)"، "سِبَاب المسلمفسوق، وقتاله كُفْر"، "من آذى ذِمِّيًّافأنا خَصْمه"، "ألا من ظلم معاهَدًاأو انتقصه حقه أو كلفه فوقطاقته أو أخذ له شيئا بغير حقه فأنا حجيجه يوم القيامة. وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى صدره: ألا ومن قتل رجلا له ذمة الله ورسوله حَرَّم الله عليه الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا"، "دخلت امرأة النار في هرةربطتها فلم تطعمها، و لم تدعها تأكل من خَشَاش الأرض، حتى ماتت"، "(وعن رسول الله) أن رجلاً وجدكلبًا يلهث من العطشفنزل بئرافملأ خفه منها ماء، فسقى الكلب حتى رَوِيَ. قال الرسول: فشكر الله له فغفر له. فقال الصحابة: أإن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟ قال: فى كل كبدٍ رطبةٍ أجر".
كذلك ففى الوقت الذى نقرأ فى الأناجيل ما يدل على أن المسيح لم يكن يبالى بالنظافة، بل كان يؤثر العكس طبقا لما تخبرنا به تلك الأناجيل، نجد نقيض ذلك تماما فى القرآن والسنة كما سوف نرى بعد قليل. لنأخذ مثلا النص التالى الموجود فى الإصحاح الحادى عشر من إنجيل لوقا: "37وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. 38وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. 39فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:«أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا. 40يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضًا؟ 41بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيًّا لَكُمْ. 42وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْل، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. 43وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. 44وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!». 45فَأجَابَ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وَقالَ لَهُ: «يَامُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هذَا تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضًا!». 46فَقَالَ:«وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. 47وَيْلٌ لَكُمْ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. 48إِذًا تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. 49لِذلِكَ أَيْضًا قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ 50لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ، 51مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هذَا الْجِيلِ! 52وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ»". كما أنه لا ينادى أمه إلا بــ"يا امرأة": ومن ذلك أنه كان فى عرس فى قانا الجليل ونَفِدَت الخمر فلفتت أمه نظره إلى ذلك، فكان جوابه عليها: "ما لى وما لك يا امرأة؟" (إنجيل يوحنا/ 2/ 4). ولم تفارقه هذه الخشونة حتى حين كان على الصليب يستقبل الموت حسبما نقرأ فى الإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا: "25وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. 26فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُو َذَا ابْنُكِ». 27ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ". ومن جهة أخرى نجد أن تعاليمه عليه الصلاة والسلام، حسبما تخبرنا الأناجيل، تخلو من أى توجيه يتعلق بالذوق والصحة.
أما تعاليم القرآن المجيد والسنة المشرفة فمملوءة بكل ما يحمى المجتمع من مظاهر القبح والتشويه والأذى والمرض، والتنبيه إلى أن كل شىء فى الدنيا إنما يجرى بحساب منضبط ويخضع لميزان دقيق، فلا إفراط ولا تفريط لمن يريد النجاة من متاعب الحياة والاستمتاع بصحة جيدة، وأن ثمة قواعد للذوق واللياقة ينبغى مراعاتها فى التعامل اليومى حتى تمضى عجلة الحياة والعلاقات الاجتماعية سَلِسَةً دون توقف أو صرير، ويسود الحب والتفاهم والصفاء. ففى القرآن مثلا نقرأ قوله تعالى: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة/ 145)، "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة/ 222)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" (المائدة/ 90- 91)، "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف/ 31)، "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل/ 68- 69)، "فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النحل/ 114- 115)، "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (الرحمن/ 7- 9)، "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا* وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا" (النساء/ 85- 86)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ" (النور/ 27- 29)، "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (الحجرات/ 3- 5)، "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الممتحنة/ 8- 9)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (المجادلة/ 11).
وفى الحديث النبوى: "إن الله جعل لكل داء دواء، فتداوَوْا، ولا تَدَاوَوْا بحرام"،"لكل داء دواء،فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"، "ما ملأ آدميٌّ وعاءًشرا من بطنه. بحسب ابن آدمأكلات يُقِمْنَ صُلْبه. فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسه"،"‏إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"، "عن ‏عائشة ‏رضي الله عنها ‏أن رسول الله ‏ ‏صلىالله عليه وسلم ‏ ‏كان إذا أتى مريضا أو أُتِيَ به قال: ‏أَذْهِب الباس ربَّ الناس. اشْفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما"، "عُرِضَتْ عليّ أمتي بأعمالها حَسَنةً وسيئةً: فرأيت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق،ورأيت في سيئ أعمالها ‏النُّخَاعة ‏في المسجد لا تُدْفَن"، "الإيمان ‏بضع ‏وسبعون بابا: أدناهاإماطةالأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله"، "‏بينما رجل يمشي بطريقٍ وجد غصن شوك على الطريق‏ ‏فأخَّرَه، ‏فشكر الله له فغفر له"، "لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه"، "اغتسلوايوم الجمعة واغسلوا رؤسكم، وإن لمتكونوا جُنُبًا، وأصيبوامنالطِّيب"، "‏لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، "تَسَوَّكوا، فإن السواك مَطْهَرَةٌ للفم، مرضاةٌ للرب. ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك"مالكم تدخلون علىّ قُلْحًا؟ استاكوا،فلولا أن أشق على أمتيلأمرتهم بالسواك عند كل طَهُور"، "‏الفِطْرة خمس: الختان ‏ ‏والاستحداد (أى حَلْق العانة) وقصّ الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط"، "عن ‏ابن عباس ‏أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏شرب لبنا فمضمض وقال: إن له دسما"، "‏من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال: فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته"، وعن أبى أيوب الأنصارى "أن النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏نزلعليه فنزل النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏في السُّفْل، وأبو أيوب‏ ‏في العُلْو. قال: فانتبه‏ ‏أبو أيوب ‏ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟‏فتَنَحَّوْا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ‏فقال النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ ‏السُّفْل أرفق. فقال: لا ‏أعلو سقيفة أنت تحتها. فتحول النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏في العلو، وأبو أيوب ‏في السفل. فكان يصنع للنبي ‏صلى اللهعليه وسلم ‏‏طعاما، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه. فصنعله طعاما فيهثوم،فلما رُدَّ إليه سأل عن موضع أصابع النبي‏صلى الله عليه وسلم، ‏فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النبي‏صلى الله عليه وسلم:‏لا، ولكني أكرهه. قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت. قال: وكانالنبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏يُؤْتَى (أى يأتيه الوحى فى أى وقت، فلهذا لم يكن يأكل الثوم)"، "كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في المسجد، فدخل رجلثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏بيده أن "اخْرُجْ"،‏كأنه ‏يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته. ‏ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: ‏أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟"، "قال‏‏ (أبو رجاء العطاردي): خرج علينا ‏عمران بن حصين، وعليه ‏‏مُطْرُفٌ ‏‏من ‏خَزٍّ ‏لم نرهعليه قبل ذلك ولا بعده، فقال إن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: ‏من أنعمالله عز وجل عليه نعمة فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على خَلْقه"، "‏عن ‏ ‏ابن عمر ‏أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏غيّر اسم‏ ‏"عاصية"، ‏وقال: أنتِ ‏جميلة (أى هذا اسمك من الآن فصاعدا)"، وعن أبى سعيد الخدرى: "‏إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يُؤْذَن له فلْيرجع"، "‏يسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير"، "‏إذا كنتم ثلاثة فلا ‏ ‏يتناجى ‏اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه"، "‏لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا"، "إنّتبسُّمَكفيوجهأخيك يُكْتَب لك به صدقة، "قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يَرْحَملا يُرْحَم"، "الجنة تحت أقدام الأمهات"، "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك (أى فى فمها)"، "ألا عسى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب الأَمَة! ألا خَيْرُكم خيركم لأهله (أى لزوجته)"، "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي. ما أَكْرَم النساءَ إلا كريم، و لا أهانهنّ إلا لئيم"، "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه"، "إن الله يبغض كل جَعْظَرِيٍّ جَوّاظ صخّاب في الأسواق"، "رِفْقًا بالقوارير (أى الجنس اللطيف)".
ونصل إلى المقارنة بين العقيدتين: والإسلام، كما هو معروف، دين التوحيد النقى الذى لا يدانيه دين آخر فى هذا. أما النصرانية فهى ديانة التثليث، وهذا التثليث لا يدخل عقولنا: فأولا كيف يتجسد الله بحيث لا يشغل من الزمان والمكان إلا حيزا محدودا ضئيلا، وهو الذى خلق الزمان والمكان والكون كله، والمطلق الذى لا تحده حدود، والأرض جميعا فى قبضته، والسماوات مطويات بيمينه المباركة؟ وثانيا كيف تنفرد النصرانية بهذا التثليث من بين الأديان السماوية كلها؟ ثم ها هو ذا العهد القديم، الذى يؤمن به النصارى أيضا، فأين منه هذا التثليث؟ الجواب هو أنه لا وجود فيه لتثليث ولا تربيع ولا تخميس! فلماذا النصرانية بالذات دون سائر أديان السماء؟ بل إن الأناجيل ذاتها تخلو تماما من ألفاظ "الثالوث والتثليث والأقانيم الثلاثة"، وليس لهذا من معنى إلا أن تلك العقيدة لم تظهر فى النصرانية إلا بعد المسيح وكتابة الأناجيل. أى أنها لم تكن يوما من العقيدة التى جاء بها السيد المسيح عليه السلام وأنها إنما اختُرِعَتْ بأُخَرة. وثالثا أن النصرانية لا تنفرد فقط بالتثليث شذوذا عن أديان السماء، بل تتفق فى ذلك مع بعض ديانات الوثنية، إذ كان عند الفراعنة تثليث، وعند الإغريق تثليث، وعند الهنود تثليث. وهذا من الوضوح بمكان بحيث لا تمكن المماراة فيه بأى حال، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (التوبة/ 30). ورابعا أنه لا يصح أن يقال إن الله قد تجسد ليموت على الصليب ويُصْفَع ويهان ويُضْرَب بالحربة فى جنبه ويسخر به كل من هب ودب ويجأر فى الفضاء العريض دون أن يجد من يجيبه ويحميه، وذلك من أجل أن يفدى البشر من خطيئتهم. وإذا قيل: لقد كان الله قادرًا على الغفران والفداء دون شىء من هذا العار زعم الزاعمون إنه إنما فعل ذلك كى يشعر بآلام عباده. ومعنى هذا أنه سبحانه ليس عنده القدرة على إدراك آلام البشر أو تصورها إلا إذا ضُرِب وأُهِين وشُتِم وسُمِّر على الخشبة وقُتِل. فأى إله هذا؟ فمن ذا الذى خلق الآلام والأوجاع إذن؟ وهل هناك شىء فى كون الله لم يخلقه الله نفسه؟ وسادسًا هل هذا الكائن الجسدانى هو الله؟ بطبيعة الحال لا، إذ يقولون إن هذا هو الجانب الناسوتى فى المسيح. ومعنى ذلك أن الله ليس هو الذى تألم وصُلِب وقُتِل. أى أنه سبحانه لم يخض تجربة التألم ومقاساة العذاب، بل الذى خاضها هو إنسان مثلى ومثلك أيها القارئ. وعلى هذا فهو سبحانه لم يَفْدِ أحدا، بل الذى تحمل عبء الفداء شخص ليس له فى الثور ولا فى الطحين، شخص مسكين استضعفه الله و"شَيَّله" القضية دون أن يكون قد ارتكب ذنبا، وهذا واضح من صراخه وهو على الصليب: إلهى، إلهى، لم تركتنى؟ وهو ما يتضح أيضا من كلامه قبل ذلك عن الله سبحانه بوصفه "رَبّه"، كما فى رده على إبليس مثلا حين أخذه ليجربه وطلب منه، ضمن ما طلب، أن يخر ساجدا له، فما كان منه إلا أن أجابه قائلا: مكتوب أنه للرب إلهك وحده تسجد! وهو ما يعنى مرة أخرى أن الخطيئة القديمة قد عولجت بظلمٍ أشنع منها. فأى لخبطة هذه؟ وسابعًا لو أنه سبحانه وتعالى قد تجسد وصُلِب وقُتِل فداءً لعباده، أفلم يكن ينبغى أن تكون النتيجة هى الغفران الشامل لكل الناس فى كل الأزمان؟ لكننا ننظر فنجد أننا لا نزال فى مكاننا السابق لم نبارحه، إذ يجب على الناس أن يؤمنوا بتجسد الله وموته على الصليب كى يتم الفداء. إذن فلماذا نزل وتجسد ومات إذا كان كل هذا لا أثر له؟ وثامنًا لقد كان ينبغى أن يكرَّم يهوذا مرشد الجند إلى المكان الذى كان يختفى فيه السيد المسيح مع تلامذته. أليس هو الأداة التى أعانت على تنفيذ الخطة الإلهية للتكفير عن خطايا البشرية؟ بيد أن النصرانية تقول عكس ذلك تماما، فيهوذا فيها ملعون. عجيبة! وتاسعًا ليس يهوذا وحده هو الملعون، بل أيضا الإله الذى كان تسليم يهوذا إياه للسلطات سببا فى أن يبوء هو باللعنة، فقد جاء فى سفر التثنية أن من يُصْلَب فهو ملعون. إذن فيهوذا ملعون، والإله الذى سلمه يهوذا للسلطات ملعون أيضا. أى أن النصرانية تسوى بين القاتل والمقتول، وبين الظالم والمظلوم. ومعنى هذا أن الأمر قد ازداد تعقيدا وتشابكا: فعيسى قد أتى لافتكاك البشر من اللعنة التى استحقوها بسبب الخطيئة، لكن موته بدلا من هذا قد جلب اللعنة على يهوذا رغم أنه واحد من أولئك البشر الذين نزل الله من عليائه ليفك ربقة اللعنة من حول رقابهم. وفوق هذا فإن الله قد جلب اللعنة على نفسه. ثم إنه بعد هذا كله لم يحل مشكلة الخطيئة المزعومة، بل أضاف إليها خطيئة كفر اليهود وغير اليهود به واستحقاقهم من ثم اللعنة الأبدية. وهى أبدية لأن أحدا لن يأتى بعد ذلك ليعتق البشر من أوهاقها، فالمسيح لا يأتى إلا مرة واحدة! وعاشرًا ما الحكمة يا ترى فى سكوت الله كل تلك الدهور المتطاولة التى يعدها علماء الطبيعة بملايين السنين قبل أن يفكر فى رحلته تلك الأرضية التى لم تأت بالنتيجة المرجوّة، إذ ما زال مليارات الناس يكفرون بالتجسد، بل يكفرون حتى بعيسى مجرد نبى؟ ولنلاحظ أنه عندما مات المسيح على الصليب كما تقول الأناجيل لم يكن هناك إلا قلة قليلة تؤمن به. حتى الحواريون أنفسهم لم يكونوا يؤمنون به جميعا، بل كانوا ناقصين واحدا هو يهوذا، علاوة على أن إيمانهم بالمسيح لم يكن على المستوى المطلوب. وهذا ليس رأينا نحن، بل رأيه هو، إذ كان يتهمهم بقلة الإيمان وعدم الفهم، كما كان ينادى كبيرهم بـــ"يا شيطان". وفوق هذا فإن صورة الجنة والنار فى النصرانية غير واضحة ولا مقنعة، على عكسها فى الإسلام كما يعرف ذلك كل من له أدنى معرفة بالديانتين. ثم إن المبادئ الخلقية التى أتت بها النصرانية لا تناسب الطبيعة البشرية فى شىء حسبما وضحنا، والدليل على ذلك أنه لا يوجد حتى ممن يتعصبون أشد التعصب لتلك الديانة من يطبّق شيئا مما هو منسوب للسيد المسيح من دعوة مفرطة فى المثالية غير القابلة للتطبيق لتَعَاكُسِها تمام التَّعَاكُس مع فطرة البشر.
كذلك كيف يكون المسيح ابن الله، وفى إنجيل يوحنا (1 / 5) أن الناس كانت تسميه: "ابن يوسف"، وهو نفس ما قاله متى (1 / 55) ولوقا (3 / 23، و 4/ 22)، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم؟ بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف مرارًا إنهما "أبواه" أو "أبوه وأمه" ( 2 / 27، 33، 41، 42 ). كما قالت مريم لابنها عن يوسف إنه أبوه (لوقا /2 /48). وعلاوة على ذلك فإن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم، وهو إنجيل متى، تَسْرُد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ("رجل مريم" كما سماه مؤلف هذا الإنجيل) ثم تتوقف عنده. فما معنى هذا؟ لقد توقعتُ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى. وهو ما يؤكده النص التالى المأخوذ من مطلع إنجيل توما (أحد الأناجيل غير القانونية)"And a certain Jew when he saw what Jesus did, playing upon the Sabbath day, departed straightway and told his father Joseph: Lo, thy child is at the brook, and he hath taken clay and fashioned twelve little birds, and hath polluted the Sabbath day"، إذ يقول المؤلف إن أحد اليهود الغيارى على الشريعة الموسوية، حين رأى عيسى الصغير يصنع يومَ سبتٍ من الطين طيرًا، ذهب من فوره إلى "أبيه يوسف" وشكا له ما صنع ابنه من الاعتداء على حرمة اليوم المقدس. ومثله قول مؤلف ذلك الإنجيل فى موضع آخر إن عيسى ذهب ذات يوم لزراعة القمح مع "والده" فى حقلهم: "Again, in the time of sowing the young child went forth with his father to sow wheat in their land: and as his father sowed, the young child Jesus sowed also one corn of wheat"... وغير ذلك من المواضع التى وُصِف فيها يوسف بأنه "أبوه". بلإننا لنقرأ أن يوسف، تعجُّبًا من المعجزات التى كان يعملها عيسى الصغير، قد دعا ربهشاكرا أنْ أعطاه غلاما مثله:"Happy am I for that God hath given me this young child".
والآن إلى المقارنة بين موقف كل من أصحاب النبيين الكريمين رضى الله عن الفريقين كليهما: فأما أصحاب السيد المسيح فلسوف نورد تصرفاتهم منذ ظهر الخطر على حياته صلى الله عليه وسلم حتى تم صلبه بناء على معتقدات النصارى. وها هو ذا ما صنعوه حسبما كتب مؤلف إنجيل متى (فى الإصحاحين: 26- 27)، وهو يكفى عن مؤلفى الأناجيل الآخرين: "20وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 21وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». 22فَحَزِنُوا جِدًّا، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ:«هَلْ أَنَا هُوَ يَارَبُّ؟» 23فَأَجَابَ وَقَالَ: «الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي! 24إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». 25فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ:«هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ لَهُ:«أَنْتَ قُلْتَ».26وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ:«خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي». 27وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً:«اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، 28لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 29وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي». 30ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. 31حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِىَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. 32وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 33فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا». 34قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 35قَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هكَذَا قَالَ أَيْضًا جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ. 36حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ». 37ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. 38فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». 39ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ». 40ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 41اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 42فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». 43ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. 44فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 45ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. 46قُومُوا نَنْطَلِقْ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُني قَدِ اقْتَرَبَ!».
47وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ. 48وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً:«الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ». 49فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. 50فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟» حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوْا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ. 51وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذْنَهُ. 52فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! 53أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ 54فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟».55فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. 56وَأَمَّا هذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ». حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا. 57وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. 58وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ إِلَى دَاخِل وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. 59وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، 60فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيرًا تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ 61وَقَالاَ:«هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». 62فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» 63وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ:«أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» 64قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ». 65فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! 66مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ». 67حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ 68قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟».69أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً:«وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!». 70فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!» 71ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 72فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» 73وَبَعْدَ قَلِيل جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: «حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!» 74فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ. 75فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا.
1وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، 2فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي. 3حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ 4قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» 5فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. 6فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا:«لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». 7فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. 8لِهذَا سُمِّيَ ذلِكَ الْحَقْلُ «حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هذَا الْيَوْمِ. 9حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ:«وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ، 10وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ».11فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قِائِلاً: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ». 12وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. 13فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟» 14فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدًّا. 15وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَادًا فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيرًا وَاحِدًا، مَنْ أَرَادُوهُ. 16وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. 17فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» 18لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. 19وَإِذْ كَانَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً:«إِيَّاكَ وَذلِكَ الْبَارَّ، لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ». 20وَلكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. 21فَأجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ مِنْ الاثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ!». 22قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» 23فَقَالَ الْوَالِي: «وَأَيَّ شَرّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: «لِيُصْلَبْ!» 24فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!». 25فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا:«دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا». 26حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. 27فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، 28فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، 29وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ.
32وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. 33وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» 34أَعْطَوْهُ خَّلاً مَمْزُوجًا بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. 35وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». 36ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. 37وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً:«هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». 38حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ. 39وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ 40قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». 41وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ! 43قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ!». 44وَبِذلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ. 45وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. 46وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 47فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا:«إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا». 48وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. 49وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا: «اتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ!». 50فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ".
إن الإنسان ليستعجب أشد الاستعجاب ويتساءل: ترى أين الجموع الذين كانوا يحيطون بالمسيح ويتبعونه فى كل مكان يذهب إليه، ويعُدّهم مؤلفو الأناجيل بالآلاف، وكان عليه السلام يطعمهم، ويشفى أصحاب الأمراض المستعصية منهم، بل ويعيد بعضهم إلى الحياة مرة أخرى بعد أن ماتوا؟ بل أين حواريوه المقرَّبون؟ لقد تبخروا كلهم، وكأنهم فَصّ ملح وذاب؟ واليمين التى أقسمها بطرس بأنه لن ينكره ولن يتخلى عنه، ترى كيف نسيها وهان سيده عليه إلى هذا الحد؟ ولدينا أيضا ذلك التلميذ الآخر الذى أمسكه الجند من ملابسه فخلعها عن جسمه وتركها لهم وانطلق هاربا وهو عريان كيوم ولدته أمه. الحق أنها محنة! وأى محنة! أهذه ثمرة كل تلك التربية التى تَلَقَّوْها على يديه صلى الله عليه وسلم؟ أهذه حصيلة كل تلك الصحبة التى صحبوه إياها؟ فأين ذهبت كل تلك الخطب والأمثال التى كان يَسُحّ بها فى آذانهم سحًّا؟ أتراهم لم يكونوا يهتمون بما يقول، بل بما كانوا ينتظرونه على يديه من شفاء فقط؟ ولا ننس فوق ذلك أن عيسى، فى نظر النصارى، هو إله، وليس بشرا. أفهذه غاية جهد الإله؟ إن محمدا إذن، كما سوف نرى حالا، لأبرك أثرا وأقدر فى التربية والتوجيه، وهو البشر الذى لم يزعم هو ولا زعم له أحد من أتباعه أنه إله أو ينحدر من صلب الآلهة! أليس كذلك؟ ولا يقل أحد إن المسيح قد نهى تلاميذه عن الدفاع دونه، وأمر بطرس أن يغمد سيفه مرة أخرى. ذلك أن رواية الأحداث على هذا النحو لا تقنع أحدا، إذ من أين أتى بطرس بالسيف؟ وكيف لم يتنبه المسيح إلى ذلك السيف قبل أن يشهره حواريّه؟ بل لماذا كان بطرس يحمل سيفا أصلا، ولم تكن هناك معارك تسوّغ ذلك؟ ولماذا هو بالذات دون سائر زملائه الذى كان يحمل سيفا؟ كما أن الحواريين لم يكونوا رجال حرب. ثم إن محاولات السيد المسيح الابتعاد مع تلاميذه عن أنظار أعدائه دليل على أنه لم يكن يريد الموت. ويعضد هذا صلاته قبل القبض عليه وابتهاله إلى الله أن يجيز عنه تلك الكأس المرة، وكذلك صرخاته على الصليب، وتحقيره قبل القبض عليه من شأن تلميذه الخائن الذى تنبأ بأنه سوف يسلمه إلى الأعداء طبقا لما يرويه مؤلفو الأناجيل. فإذا أضفنا إلى هذا أن السيد المسيح عليه السلام قد أعلنها صريحة مدوية أنه إنما جاء بالسيف، كان من الصعب علينا جدا الاطمئنان إلى ما يُنْسَب له من أن ما أُخِذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، وإلا كان كمن يكذّب نفسه بنفسه.
هؤلاء إذن أصحاب المسيح عليه الصلاة والسلام، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فنورد لهم تصرفاتهم فى موقفين من أخطر المواقف التى مرت به صلى الله عليه وسلم. ولسوف نراهم وهم يضحون بحياتهم وراحتهم من أجله ويفدونه بكل غال لديهم، وكلهم حُبٌّ له وحِرْصٌ على ألا يخلص إليه سوء أويناله أذى. يستوى فى ذلك الرجال والنساء. إنها ملحمة، وأى ملحمة! ملحمة البطولة والإيمان والإخلاص والنبل والتطلع لنيل الشهادة والفوز برضا الله. وها هما ذان الموقفان: فأما الأول فمن قلب المعمعة أثناء معركة أحد بعد أن تحولت كِفّة الميزان لصالح المشركين وتطورت الأحداث بسرعة وأحدق الكفار بالنبى يريدون قتله. وإلى القارئ ما جاء فى سيرة ابن هشام بشىء من التصرف: "وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشِقِّه فأصيبت رباعيته وشُجَّ في وجهه وكُلِمَتْ شفته ودخلت حلقتان من حلق المغفر وجنته. ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عُبَيْد الله حتى استوى قائما، ومَصَّ مالك بن سنان الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده. وعن عائشة عن أبي بكر الصديق أن أبا عبيدة بن الجراح نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثَنِيّته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غَشِيَه القوم: مَنْ رجلٌ يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا، يُقْتَلون دونه حتى كان آخرَهم زيادٌ أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه. وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد. قالت: خرجتُ أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سِقَاءٌ فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خَلَصَت الجراح إليّ. وكان على عاتقها جرح أجوف له غَوْرٌ، قالت: إن ابن قمئة، لما ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يقول: دُلّوني على محمد، فلا نجوتُ إن نجا. فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان. وتَرَّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النَّبْل في ظهره، وهو منحنٍ عليه حتى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فردها (أى الرسول) بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما. وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبَلَ القومَ فقاتل حتى قُتِل. وقد وجدوا به يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته. عرفتْه ببنانه. أما عبد الرحمن بن عوف فأصيب فُوه يومئذ فهَتِمَ وجُرِح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعَرِجَ".
وأما الموقف الثانى فكان فى غزوة الحديبية حين لـَجّ الخلاف بين قريش والمسلمين وأضحى الأمر على شفير الانفجار فى أية لحظة، وبدأت المفاوضات الشاقة. جاء فى صحيح البخارى: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة،فخذوا ذات اليمين. فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرَة الجيش، فانطلق يركضنذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس : حل حل. فألـحَّتْ، فقالوا: خلأتِ القصواء! خلأتِالقصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأتِ القصواء، وما ذاك لها بخُلُق،ولكنْ حَبَسها حابسُ الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خُطّةً يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها فوثبتْ. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُدَيْبِيَة على ثَمَدٍ قليل الماء يتبرّضه الناس تبرُّضًا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه. وشُكِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثمأمرهم أن يجعلوه فيه. فوالله مازال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عنه. فبينما هم كذلكإذ جاء بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول اللهصلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلواأعداد مياه الحديبية، ومعهم العُوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين. وإنقريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم. فإن شاؤوا مادَدْتُهم مدة ويُخَلّوا بيني وبينالناس. فإن أَظْهَرْ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا. وإن هم أَبَوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.وليُنْفِذَنَّ الله أمره. فقال بُدَيْل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشا،قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا. فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم:هات ما سمعتَه يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى اللهعليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أَيْ قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أو لستُ بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا. قال: ألستمتعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خُطّة رُشْد. اقبلوها ودعوني آتيه. قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليهوسلم نحوا من قوله لبُدَيْل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيتَ إن استأصلتَ أمرقومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرىوجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقًا أن يفرّوا ويَدَعوك. فقال له أبو بكر: امصصببظر اللات! أنحن نفرّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أماوالذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلمالنبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأسالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلىلحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أَخِّرْ يدك عن لحيةرسول الله صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرةبن شعبة. فقال: أيْ غُدَر، ألستُ أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أماالإسلام فأَقْبَل، وأما المال فلستُ منه في شيء. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما تنخّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره.وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّونإليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أَيْ قوم، والله لقد وفدتُ علىالملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيتُ مَلِكًا قَطُّ يعظّمه أصحابه مايعظِّم أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم محمدا. والله إنْ تنخَّم نخامة إلا وقعتْ في كفرجل منهم فدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره. وإذا توضأ كادوا يقتتلونعلى وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر تعظيما له. وإنهقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه. فقالوا:ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظّمون البُدْن (أى الأضاحى)، فابعثوها له. فبُعِثَتْ له، واستقبله الناس يُلَبّون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدّوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ، فما أرى أن يُصَدّوا عنالبيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز، وهو رجل فاجر.فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. قالمعمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى اللهعليه وسلم: لقد سهل لكم من أمركم. قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبي صلى الله عليه وسلمالكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب. فقالالمسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: "باسمك اللهم". ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك،ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسولالله، وإنْ كذبتموني. اكتب: محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك لقوله: لايسألونني خُطّةً يعظّمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها. فقال له النبي صلى اللهعليه وسلم: على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لاتتحدث العرب أنا أُخِذْنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب، فقال سهيل: وعَلَىأنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددتَه إلينا. قال المسلمون: سبحانالله! كيف يُرَدّ إلى المشركين، وقد جاء مُسْلِما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بنسهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ. فقال النبي صلى اللهعليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدا.قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأَجِزْه لي. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى، فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أَيْ معشر المسلمين، أُرَدّ إلى المشركين، وقد جئتُ مُسْلِما؟ ألا تَرَوْن ما قد لَقِيت؟ وكانقد عُذِّب عذابا شديدا في الله. قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى اللهعليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدوّناعلى الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إنيرسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيتفنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال:فإنك آتيه ومُطَوِّفٌ به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي اللهحقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلِمَنعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره. فاستمسِكْ بغرزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت :لا. قال: فإنك آتيه ومطوِّفٌ به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسولالله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ماقام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكرلها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يانبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدْنَه ودعا حالقه فحلقه. فلما رَأَوْا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلقبعضا حتى كاد بعضهم يقتل غما. ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا، إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ. الله أعلم بإيمانهن. فإن علمتموهن مؤمناتٍ فلا تَرْجِعوهن إلى الكفار، لا هُنّ حِلٌّ لهم ولا هُمْ يَحِلّون لهن، وآتوهم ما أنفقوا. ولا جناح عليكم أن تَنْكِحوهن إذا آتيتموهن أجورهن، ولا تُمْسِكوا بعِصَم الكَوَافِر". فطلّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشِّرْك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير، رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلتلنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون منتمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا.فاستلّه الآخر، فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبوبصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه، فضربه حتى بَرَد (أى مات)، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة،فدخل المسجد يعدو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك. قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمهمِسْعَر حرب، لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَالبحر. قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج منقريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فوالله ما يسمعونبِعِيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لـَمـّا أرسل: فمن أتاه فهو آمن.فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كَفَّ أيديَهمعنكم وأيديَكم عنهم ببطن مكةَ من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيرا* هم الذين كفروا وصَدّوكم عن المسجد الحرام، والهَدْىَ معكوفا أن يبلغ مَحِلّه. ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تَعْلَموهم أن تطؤوهم فتُصِيبَكم منهم مَعَرّةٌ بغير علم لو تَزَيَّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما* إذ جَعَل الذين كفروا فى قلوبهم الحـَمِيّةَ حَمِيّةَالجاهلية". وكانت حميّتهم أنهم لم يُقِرّوا أنه نبي الله، ولم يُقِرّوا بـــ"بسم اللهالرحمن الرحيم"، وحالوا بينهم وبين البيت".
ثم لْنقرأْ هذه الباقة البديعة من أحاديثه صلى الله عليه وسلم ونسأل أنفسنا: أويمكن مثل هذا النبى أن يكون نبيا كذابا مدلسا كما يدعى عليه الأفاقون الأفاكون؟ لنقرأ: "إن الله كتب الحسنات والسيئات: فمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة. فإن هَمَّ بعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. فإن هو هَمَّ بعملها كتبها الله له سيئة واحدة"، "إن عبدا أصاب ذنبا... فقال: ربِّ، أذنبتُ...فاغفر لي. فقال ربه: أَعَلِمَ عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي. ثممكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا... فقال: ربِّ، أذنبتُ... آخَرَ،فاغفره؟ فقال: أَعَلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا...، قال: رب، أصبتُ... آخَرَ، فاغفره لي. فقال: أَعَلِمَ عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتلعبدي، ثلاثا، فليعملما شاء"، وفى الحديث "أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله.قال: فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترَوْنَه كذلك. يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها، أو منافقوها، شكإبراهيم، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه. فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا. فيتبعونه، ويُضْرَب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم. وفيجهنم كلاليب مثل شوك السعدان! هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قَدْر عِظَمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم: فمنهم المؤمن يبقى بعمله، أو الموبَق بعمله، أو الموثَق بعمله، ومنهم المخردل، أو المجازى، أو نحوه، ثميتجلى. حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخْرِج برحمته من أراد منأهل النار، أمر الملائكة أن يُخْرِجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أرادالله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود،تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود،فيخرجون من النار قد امتُحِشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبتالحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجههعلى النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة، فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذُكَاؤها. فيدعو الله بما شاء أن يدعوه، ثم يقولالله: هل عسيت إن أُعْطِيت ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره.ويعطي ربه من عهودٍ ومواثيقَ ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار. فإذا أقبل علىالجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قَدِّمْني إلى باب الجنة. فيقول الله له: ألستَ قد أَعْطَيْتَ عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أُعْطِيت أبدا؟ ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! فيقول: أي رب. ويدعو الله حتى يقول: هل عسيتَ إنأُعْطِيتَ ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره. ويعطي ما شاء من عهود ومواثيق، فيقدّمه إلى باب الجنة، فإذا قام إلى باب الجنة انفهقت له الجنة فرأىما فيها من الحبرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلْنيالجنة. فيقول الله: ألستَ قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أُعْطِيت؟فيقول: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكونن أشقى خلقك! فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له: ادخل الجنة. فإذا دخلها قال الله له: تَمَنَّهْ. فسأل ربه وتمنى، حتى إن الله ليذكّره، يقول: كذا وكذا، حتى انقطعت به الأماني. قال الله: ذلك لك، ومثله معه"، "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك فيالدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"، "قال رجل لم يعملحسنة قط لأهله: إذا ماتفحرِّقوه، ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر. فوالله لئن قدر الله عليهليعذبنّه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم. فأمرالله البَرّ فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: منخشيتك يا رب، وأنت أعلم. فغفر الله له".
ونعود، بعد هذ الرحلة الطويلة، إلى يوحنا الدمشقى فنقول إن كذبه وتدليسه لا يقف هنا، بل يتعداه إلى القول بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ذكر فى كتاب "ناقة الله" (يقصد سورة "الشمس") أن الناقة المذكورة هى من عند الله وأنها شربت النهر كله فلم تستطع أن تنفذ من بين جبلين، وأن ناسا فى ذلك المكان كانوا يشربون الماء يوما، والناقة يوما، وأنها بشربها الماء كانت تمدهم باللبن، وأن أولئك الأشرار قاموا بقتل الناقة، التى كان لها رغم هذا فَصِيلٌ أخذ يبتهل إلى الله أن يأخذ أمه الميتة إليه... وغير ذلك من التفاصيل المضحكة الكثيرة كما يقول. وطبعا كل هذا كذب فى كذب، وتضليل فى تضليل، إذ ليس فى سورة "الشمس" أكثر من أن قوم صالح قد عقروا الناقة فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها. وأتحداه وأتحدى كل من يردد وراءه هذا الكلام أن يرينى فى تلك السورة شيئا غير الذى قلتُه. وهذه هى الآيات التى تعرضت لقصة الناقة من تلك لاسورة: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا* إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا* فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا* وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا".
ومن كذبه الوقح أيضا ما ينسبه إلى أنبياء بنى إسرائيل من أنهم جميعا بدءا من موسى فنازلاً قد تنبأوا بمجىء "الرب يسوع ابن الإله المتجسد وموته على الصليب ثم قيامه بعد هذا من القبر، وأنه سيكون القاضى على جميع البشر: الأحياء منهم والأموات على السواء"، وهو ما يعنى أن أنبياء بنى إسرائيل كانوا يدعون بدعوة الوثنية والشرك. وهذا كله غير صحيح البتة. وكنا نحب لو أنه أورد تلك النبوءات لنرى ماذا قال أولئك الأنبياء بالضبط طبقا لكلامه، لكنه لم يكلف خاطره شيئا من ذلك، وهو ما دفعنى آنفا إلى أن أورد بعض تلك النبوءات حسبما قرأت عند غيره من رجال الدين النصارى ورددت عليها وبينت أنها لا تمت لعيسى عليه السلام بأية صلة من قربب أو بعيد كما مر شرحه فى هذه الدراسة، فضلا عن أنه لا صلة بينها وبين الوثنية والشرك بالله سبحانه وتعالى.
ثم يستمر فيقول إن المسلمين يرموننا بالشرك لأننا نشرك مع الله عيسى المسيح إلها وابنا للإله، فكان جوابنا عليهم أن ذلك هو ما قاله لنا الأنبياء فى كتبهم، وأنتم تؤمنون بهؤلاء الأنبياء وما أَتَوْا به من الكتب. فإذا كان لكم أى اعتراض فلتوجهوه إليهم لا إلينا، إذ هم الذين قالوا ذلك وعلّمونا إياه. لكن بعضهم يرد بأن الأنبياء لم يقولوا هذا، بل نحن الذين أخطأنا تفسير أقوالهم، على حين يقول بعض آخر إن اليهود هم الذين صنعوا هذا لتضليلنا. هذا ما قاله ذلك الدمشقى الذى يتنفس الكذب والتدليس تنفسا. والحق أن الأمر لا يقتصر على إساءة تفسير النصوص الكتابية، بل يمتد إلى تحريف الوحى السماوى نفسه: خذ على سبيل المثال تقسيم سفر "التكوين" للبشر إلى ذكورٍ هم أبناء الله، وإناثٍ هن بنات الناس. فمن أين أتى هذا التقسير إلا من تحريف النصوص الإلهية بإضافة هذا الشرك إليها والزعم بأنه جزء منها؟ وخذ ما قاله سفر "التكوين" أيضا عن بنتى لوط، اللتين أتتا أمرا لا يمكن أن يخطر إلا فى بال العاهرات الشاذات العريقات فى العهر والشذوذ، إذ اتفقتا على سُقْيَا أبيهما الخمر حتى ينسطل، ثم تنام كل منهما معه ليلة كى تحبل منه لأنه لم يكن هناك رجال يمكن أن يقوموا بهذه المهمة الإنسانية الملحة، فخافتا أن ينقرض النسل البشرى من الأرض. يا سلام على الإنسانية! وتم الأمر كما رسمتاه بالضبط، وقام الأب بالمطلوب وهو سكران. أستغفر الله. ثم يقول لنا الكذاب الجامد الوجه الغليظ الجلد إن الأنبياء هم الذين قالوا ذلك، وإنه هو وقومه ليسوا سوى مرددين لما قالوه. ورغم ذلك كله يأنس هذا الوغد فى نفسه الجرأة على التطاول على رسول الله محمد سيد ولد آدم لا الخنازير من أمثال هذا الوغد الحقير! ولنأخذ أيضا ما قاله كاتب سفر "أخبار الأيام الثانى" (فى الإصحاحين 21- 22) من أن الملك يهورام كان عُمْره لدى موته أربعين عاما، وعُمْر ابنه أخزيا، الذى خَلَفه فى الحكم، اثنين وأربعين، بما يعنى أن الابن كان أكبر من أبيه بعامين. الله أكبر! هل الأنبياء، يا بكاش يا نتاش، هم الذين قالوا هذا، وما أنتم إلا مرددون لما قالوه؟ وهل الأنبياء هم الذين سطروا العهر الموجود فى سفر "نشيد الأناشيد" عن الأفخاذ الملفوفة والأثداء المفعمة والتأوهات الشبقة التى تصدرها فتاة تفحّ شهوة وجوعا مُسْتَعِرًا لمضاجعة الرجال؟ وهل الأنبياء هم الذين قالوا لكم إن داود قتل قائده أوريا الحثى ليخلو له وجه امرأته، التى كان قد شاهدها من فوق سطح قصره وهى تستحم متجردة تماما كما ولدتها أمها (بالله ماذا كان يصنع ملك مثله فوق سطح قصره، وزوجة قائده وجاره تستحم فى فناء القصر المجاور عارية كما ولدتها أمها، وكأنه لم يكن فى قصرها حمّام تستتر بداخله، وكأن الملك كان يصعد كل يوم لتطيير طائرته الورقية مثل الأطفال؟ ما علينا. فلنعد إلى ما كنا فيه)، ففى الحال أنعظ الملك (بارك الله فى فحولته!) وبعث إليها من فوره (فالأمر عاجل لا يحتمل تأجيلا ولا تسويفا، فهو من أمور الدولة الملحة. أليس روقان مزاج الملك على رأس أولويات الدولة؟) نعم، بعث إليها قوادا متمرسا أتاه بها فى غرفة نومه، فكان ما كان مما لست أذكره، فظُنَّ شَرًّا ولا تسأل عن الخبر. فهو، كما لا يخفى عن ذكائكم وذكاء السامعين، معروف لا يحتاج إلى إيضاح. وإلا أفكانا يترنمان بالمزامير مثلا؟ وهى بالمناسبة أم سليمان صاحب "نشيد الأناشيد"، ومن شابه أمه وأباه فما ظلم. ثم أرسل داود قائده أوريا زوج المحروسة إلى خط النار آمرا الجنود أن ينكشفوا عنه فى أول فرصة ويتركوه وحيدا عند بدء المعركة حتى يقتله الأعداء، وبذلك يكون قد تخلص منه بصنعة لطافة. يا للإجرام! ثم يقولون إن الأنبياء هم الذين قالوا هذا! وعلى هذا فإشارته إلى إيمان المسلمين بأنبياء بنى إسرائيل وبالكتب التى أَتَوْا بها لا موضع لها هنا، إذ ليست هذه هى الكتب التى نزلت على أولئك الأنبياء، وهم لا يمكن أن يقولوا هذا، وإلا فليسوا بأنبياء! ونحن المسلمين لا نؤمن بشىء مما هو منسوب للأنبياء الكرام من تلك الأقوال الكفرية أو الأفعال الإجرامية، ومن ثم فحجة هذا الكذاب داحضة ولا تلزمنا على أى وجه، وكل ما قاله هو سخف فى سخف، وتنطع فى تنطع!
كذلك يدخل فى الكذب السافل زَعْمُه أنه كان يقول للمسلمين الذين يَصِمُون النصارى بالشرك لعبادتهم مع الله المسيح عيسى بن مريم: إنكم تؤمنون بأنه كلمة من الله وروح منه، ومعروف أن الكلمة والروح لا يمكن أن تنفصلا عمن توجدان فيه، فعليكم إذن أن تؤمنوا بربوبيته. وهذه أيضا حجة متهافتة، إذ إن القرآن، الذى قال عن عيسى: كلمة من الله وروح منه، ووضّح ذلك بقوله عن مريم عليها السلام: "فنفخنا فيها من روحنا" (الأنبياء/ 91)، هو نفسه الذى قال عن آدم: "ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه" (السجدة/ 9)، وكذلك هو نفسه الذى يقول عن أبى البشر: "إن مَثَل عيسى عند الله كمَثَل آدم: خَلَقَه من ترابٍ ثم قال له: "كن" فيكون" (آل عمران/ 59)، وهو ما قاله فى نفس السورة لمريم ردا على استغرابها أن يكون لها ولد من دون أن يمسَّها رجل: "قال: كذلكِ الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمرا فإنما يقول له: "كن" فيكون" (آل عمران/ 47). أى أن آدم هو أيضا مثل المسيح كلمةٌ من الله هى "كن"، التى بها تكون الأشياء بعد أن لم تكن. فهل يُعَدّ آدم هو أيضا إلها مثلما يعدون عيسى إلها؟
وكذبة أخرى من أكاذيبه التى لا تعرف حمرة الخجل، إذ يقول إن المسلمين يتهموننا بممارسة الوثنية لتمجيدنا الصليب، فنرد عليهم بأنه مثل تقبيلكم ولمسكم للحجر الأسود. ثم يضيف أن بعض المسلمين كانوا يعللون لنا ما يصنعونه بذلك الحجر بأن إبراهيم قد ضاجع هاجر فوقه. وهذه كذبة ضخمة يصعب تماما بلعها. وهى تدل، كما أقول وأنبّه دائما، على أن القوم لا يتورعون عن مقارفة أى شىء فى سبيل نصرة باطلهم والتشويش على حقنا. ذلك أنه ما من أحد من المسلمين يمكن أن يقول هذا الكلام. ولا ريب فى أن هذا التاعس البائس قد ألفه وقد شعشعت الخمر فى رأسه بعدما عب من كؤوسها المترعة ما أذهل لبه وبرجل عقله، فأخذ يهذى متأثرا بما يقوله كتابهم عن أنبياء الله ورسله، ومنهم إبراهيم الخليل، الذى صوروه على أنه ديّوثٌ تَرَك أبيمالك يأخذ منه زوجته دون أن ينبس بحرف، إذ شغله السرور بقطيع البهائم الذى أعطاه إياه ذلك الملك عن الاهتمام بامرأته. أى أن القطيع عنده كان أغلى من العِرْض والشرف. مع أنه "أحسن من الشرف ما فيش" على رأى عمنا فؤاد الدقن! أما إعزاز المسلمين للحجر الأسود فهو يختلف اختلافا جذريا عن تمجيد النصارى للصليب، فالحجر الأسود لا يرتبط بأى معنى من معانى الوثنية ولا أية شعيرة من شعائر الشرك، بعكس الصليب، الذى تتمحور حوله عقيدة الشرك عندهم، إذ تقول هذه العقيدة إن المسيح هو الله أو ابن الله وإنه نزل من السماء إلى الأرض ومات على الصليب تكفيرا عن خطيئة البشرية الأولى التى ارتكبتها حواء وأغرت بارتكابها آدم. وكل هذا لدى المسلمين شرك غليظ لا يمكنهم التسامح فيه. أما الحجر الأسود فيلخص موقفَ المسلمين منه قَوْلُ عمر بن الخطاب لذلك الحجر، وعمر أحد أقرب الصحابة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إني لأعلم أنك حجرلايضر ولا ينفع. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قَبَّلْتُك". ثم إن تقبيل الحجر الأسود أو لمسه ليس من شروط العمرة ولا الحج، بل مَنِ شاء واستطاع أن يقبّله أو يلمسه فليفعل، ومن لم يشأ أو لم يستطع فلا حرج عليه. ولا يتوقف هذا الكذاب المختلق عند هذه النقطة، بل يضيف إليها أن الحجر السود هو فى الواقع رأس أفروديت، التى كانوا يعبدونها قبلا، واسمها: "كَبَار". فتأمل هذه الوقاحة، إذ المعروف أن أول شىء أتاه الرسول لدن فتح مكة هو تحطيم الأوثان جميعها، فكيف يمكن أن يبقى صلى الله عليه وسلم على رأس وثن من هذه الأوثان، ثم لا يكتفى بهذا، بل يقبّله ويلمسه أيضا، وهو الذى لم يكن يزعجه شىء قدر ما ترعجه الوثنية والشِّرْك بالله تعالى؟
ولقد كان كاتب مادة "Pierre noire" فى النسخة الفرنسية من ":Wikipédiaالويكبيديا- الموسوعة المشباكية الحرة" حريصا فى الفقرة الأولى من تلك المادة على أن ينفى عن الحجر الأسود أن يكون موضوعا لعبادة أو تفاؤل أو مرتبطا بأى اعتقاد خرافى مهما كان: "Elle n'est ni un objet d'adoration, ni un fétiche quelconque, ni un porte bonheur, mais reste simplement une pierre ". ثم لقد رأينا أنه لم يكن يوجد وثن اسمه "كَبَار"، اللهم إلا فى خيال هذا الخَرِف الضال. وبالمناسبة فإن أقصى ما قاله المستشرقون فى أصل الحجر الأسود، على كثرة ما يلوون حقائق الأمور إلى الجهة التى يَرَوْنَها جديرة بالإساءة إلى الإسلام، أنه نيزك هبط قديما من السماء. ويجد القارئ شيئا من هذا الرأى فى مادة "Black Stone" فى النسخة الإنجليزية من موسوعة الــ"Wikipedia: ويكيبديا".
أما آخر كذبات ذلك اليوحنا وأحطّها وأشدها وَغَادَةً فهى ادعاؤه بأنه كان يقول هذا الكلام كله للمسلمين فى وجههم أيام الدولة الأموية، التى كان يشتغل فيها جابيا. تصوروا كيف يكذب هذا الوغد فيزعم، من غير أن يطرف له جفن، أنه كان يجبه المسلمين بقلة أدبه فى حق الرسول الكريم وبتطاوله عليه دون أن يخشى شيئا رغم أنه أذل وأقل من أن يجرؤ على شىء من هذا. لقد كان يعيش فى ظل خلفاء بنى أمية، فهل كان حكام بنى أمية يشبهون فى الذلة والصَّغَار والتفاهة وقلة القيمة حكام المسلمين والعرب اليوم؟ أم هل كان مسلمو تلك الأيام كمسلمى العصر الحاضر لا قَدْر لهم ولا قيمة؟ لا أظن إلا أنهم كانوا سيضربونه بالجِزَم على وجهه حتى يصرخ من حَرّ الصفع قائلا: حقى برقبتى!
أوَتظن، أيها الوغد النذل، أنك كنت تجرؤ على تقايؤ شركك والاستعلان بإجرامك النذل على هذا النحو فى حضور أى مسلم ثم تنجو بجلدك النجس فى تلك الأزمان العزيزة التى كان العالم كله يقف تعظيم سلام لأية قطة "تُنَوْنِوُ" باللغة العربية؟ أوتظن أننا يمكن أن نأكل من مزاعمك هذه فنصدّق أنك قد ناقشت المسلمين وجَبَهْتَهم فى وجوههم بقلة أدبك ونزقك وتطاولك؟ ثم كيف تريدنا على أن نصدق مزاعمك العريضة هذه، وليس لك أى ذكر فى كتب المسلمين فى ذلك الحين؟ وكل ما هنالك إشارات ضئيلة إلى أبيك، الذى يقول عنه أبو بكر الصولى مثلا فى كتابه: "أدب الكُتّاب": "وكان ديوان الشام إلى سرجون بن منصور، وكان روميا نصرانيا، كتب لمعاوية ولمن بعده إلى عبد الملك بن مروان، ثم رأى عبد الملك منه توانيًا، فقال عبد الملك لسليمان بن سعد مولى لحسين، وكان على مكاتبات عبد الملك والرسائل: ما أحتمل سحب سرجون، أفما عندك حيلة في أمره؟ فقال: بلى أنقل الحساب إلى العربية من الرومية. فقال: افعل. فحَوَّله، فولاه عبد الملك جميع دواوين الشام وصرف سرجون". وهو ما يقوله أيضا ابن عبد ربه فى "العِقْد الفريد" تحت عنوان "من نَبُل بالكتابة، وكان قَبْلُ خاملا": "سَرْجون بن منصور الرومي: كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان، إلى أن أمره عبدُ الملك بأمرٍ فتوانىَ فيه، ورأى منه عبدُ الملك بعضَ التفريط، فقال لسُليمان بن سَعْد كاتِبه على الرًّسائل: إنَّ سرَجون يُدِلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه في حِسابه، فما عندك فيه حِيلة؟ فقال: بلى، لو شئتُ لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى العربية. قال: أفعل. قال: أَنُظِرْني أُعَانِ ذلك. قال: لكَ نَظِرَة ما شِئْتَ. فحَوَّل الديوانَ، فولاه عبدُ الملك جميعَ ذلك".
يا يوحنا، إنك نكرة لا قيمة لك، ولهذا لم يلتفت إليك أحد. لقد كنت تعيش فى عصر عمالقة بنى أمية، وآخر من عملت لهم هو عبد الملك بن مروان. أو يُتَصَوَّر أن يسكت على وقاحتك وتجديفك ابن مروان فلا يقتطف بسيفه رقبتك النجسة؟ خَسِئْتَ ولُعِنْتَ أيها الكذاب! وقد مر آنفا قول بعض النصارى الشوام عن كتابك: "جدل بين مسيحي ومسلم"، إنك كنت تكتب لأهل دينك باليونانية مفسّرًا العقيدة، ولم تكن تتوقّع أن يقرأ العرب الفاتحون أى شىء مما تكتبه. وهذا هو غاية العقل والمنطق، أما التشدق والتنطع فما أيسرهما على كل كذاب جبان. وقد جاء فى "مجمع الأمثال" للميدانى: "الذِّيخ في خلوته مثل الأسد"، والذيخ: ذَكَر الضبع. وهذا مثل قولهم: "كل مُجْرٍ في الخلاء يُسَرّ". ولم لا يُسَرُّ، وليس هناك من ينافسه، إذ هو يُجْرِى حصانه فى الخلاء وحده؟
وبعد، فإن أمثال يوحنا الدمشقى ما زالوا يلجأون إلى الكذب وسيلة لنشر دينهم. وليس ما يفعله زكريا بطرس فى التلفاز شيئا آخر سوى انتهاج طريقة يوحنا الدمشقى، طريقة الكذب والتدليس. وقد شاء الله أن يكشف إحدى ألاعيب هذا القمص الليلة (ليلة السبت 12 يونيه 2010م) بعدما راجعتُ دراستى هذه، فإذا بى أجد مفاجأة من العيار الثقيل فى مقال الأستاذ فراج إسماعيل بجريدة "المصريون" الضوئية، وهى عبارة عن خطاب أرسله إليه من أمريكا نصرانىٌّ من نصارى المهجر المصريين استيقظ ضميره فبعث يفضح مسرحية أحمد أباظة (أو بالأحرى: أحمد المتأبِّظ)، ذلك الولد المتنصر الذى يزعم أنه من أسرة أباظة الشهيرة. فماذا قال الأستاذ جوزيف بطرس فى خطابه؟
تعالوا نقرأه معا: "جاءتني هذه الرسالة من السيد جوزيف بطرس، وهو أحد أقباط المهجر المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية، أنشرها بدون تدخل فيما عدا التصحيح النحوي: أستاذنا الكريم فراج إسماعيل، ذهلت من الشفافية والانفتاح الذي كتبت بهما مقالك الأخير: "هذا شأنهم"، ولم أتوقع إطلاقا أنك ذاتك الذي انتقدت من قبل بعنفٍ بعض سلوكيات أقباط المهجر وحتى بعض سلوكيات الكنيسة المصرية في الداخل وهجومك العنيف على زكريا بطرس برغم أنك أجريت حوارا معه أعاد هو نشره على موقعه الألكتروني. لقد أظهرت من هذا المقال قيمتك كمسلم مؤمنًا بدينه وبتعاليمه قويًا به منفتحا على الآخرين مستوعبا تاريخ مجتمعنا المصري الحبيب المتقبل للتنوع الحضاري والثقافي والديني والذي عاينته بنفسي عندما كنت واحدًا ممن يعيشون على أرض وطني الحبيب قبل أن تجبرني الظروف المعيشية على الهجرة. دعني أقول لك: لقد جعلتني أحتقر نفسي، ليس فقط بل آخرين معي من الأقباط المصريين المهاجرين الذين يكتبون في مواقع الانترنت. فقد وصفناك، وأعذرني للوصف القبيح بأنك "حمار آخر من حمير الأمة"، فقد كان وصفًا يغلي بالتطرف البغيض الذي لا يناسب الشخصية المصرية مسلمة كانت أم مسيحية. ولأنه أصبح لك حق في رقبتي سأفشي لك هذا السر الذي يتعبني كمسيحي، فأنا أحد أصدقاء المدعو أحمد أباظة والمقربين منه. لعلك سمعت به أو قرأت عنه، فهو شخص يطل من نفس القناة الفضائية التي كان يطل منها زكريا بطرس، ويزعم أنه اهتدى إلى النور بعد رحلة عذاب استمرت 17 شهرا في سجون مصر، وأن عائلته الأباظية قد تخلت عنه واضطهدته، ووصل به الافتراء والكذب أن كرر ذلك في تلفزيون البي بي سي منذ فترة، وهي الإطلالة التي جعلت أمه تتعرف عليه بعد أن اختفى فجأة من قريته منذ سنوات طويلة دون أي أثر، ورغم أنه كان يظهر بانتظام في برنامج يقدمه من قناة "الحياة" التي عرفها الكثير في العالم العربي بأنها قناة زكريا بطرس (يقصد قناة "الحياة" التي تبث من قبرص). عندما سمعته أمه ورأته قالت على الفور إنه "إبني عبدالمحسن علي عبدالمحسن" وأرسلت إليه كيف يحنو قلبه ويرحم دموعها ويتصل بها وهو الذي يقول في برنامجه وعلى موقعه بالانترنت أنه من عائلة أباظة، وأن عمه هو ماهر أباظة وزير الكهرباء السابق والكاتب الراحل فكري أباظة والكاتب الراحل ثروت أباظة ورجل الأعمال الراحل وجيه أباظة وأن أبيه هو مصطفى أباظة من وجهاء العائلة الأباظية. وكان في البداية قد قال إنه ابن ماهر أباظة نفسه وأنه حاول هدايته إلى المسيحية مع شقيقه وأمه. وعندما فضحه البعض على الانترنت بأن ماهر ليس له إلا ابنًا واحدًا طلبنا منه أن يقول إنه عمه. لقد بلغته دموع أمه فلم يتأثر مع أنه يقول لنا دائما إن دموعه لا تنقطع بسبب مقاطعة عائلة أباظة له والسجون والتعذيب الذي لقيه في مصر بعد أن أحضروا له الشيخ الشعراوي وقال أمورا قبيحة على الشيخ، ويتلفظ على الرسول محمد بأفظع مما يتلفظ به زكريا بطرس.
وحتى لا أضيع وقتك ووقت من سيقرأ هذه الرسالة إن تفضلت بعرضها في مقالك سأقول لك الحقيقة كاملة وعليك أن تتأكد منها بنفسك أو ترسل جريدة "المصريون" من يتأكد منها أو أن يتطوع أحد قرائك بذلك، فأنا هنا أذكر لك أسماء واضحة. المدعو أحمد أباظة ليس هذا اسمه، فهو شاب فشل في حياته الدراسية، وكان يشرب الخمور ويزني، واسمه الحقيقي هو عبد المحسن علي عبد المحسن من قرية "دويده" التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية. وهو توأم لمدرس في الأزهر، وله أخت متزوجة من عمدة القرية، واسمه صالح العوضي. لقد كان لصًّا وزانيا وفاشلا، وهذا هو كل تاريخه. ولم يدخل السجن، وإنما سافر إلى الأردن بحثًا عن عمل، فلما لم يجد دخل لبنان وهناك عاش فترة وتعرف على راعي كنيسة دله على زكريا بطرس في قبرص. ومن هناك بدأت رحلته الوهمية التي يدعي فيها أنه ضحى من أجل المسيح. عبدالمحسن هذا أصبح من الأغنياء جدا، ويرفل في النعيم، ومعروف بعلاقاته النسائية. ونحن كأقباط مهجر لا نعتقد أن ذلك ثمن لاعتناقه المسيحية، فهو لا يعني شيئًا مهمًّا رغم البطولات التي يزعمها ونسبه الذي يكذب به على الناس. والذي نستغربه أن عائلة أباظة لم تخرج لتنفي هذه الأكاذيب. هناك سر وراءه يجعله حريصا على توجيه الطعنات لمصر وتحريضنا نحن المسيحيين من الجذور لكي نحرض على الطائفية البغيضة. وفي النهاية أشكرك كثيرا على مقالتك: "هذا شأنهم"، فهي تدل على الشخصية المصرية الأصيلة المحبة لوطنها ووحدة نسيجها المسلم والقبطي. فأنا أحب ديني المسيحي، وأنت تحب دينك الإسلامي. فما العيب في ذلك؟ وما الذي يجعلنا نعادي بعضنا؟".