رسالة فرنسا إلى العرب!

محمد اسحق الريفي

لا شك أن في القرار الفرنسي، القاضي بمنع بث قناة الأقصى الفضائية عبر القمر الاصطناعي الأوروبي "يوتلسات"، رسالة هامة إلى أمتنا تعبر عن عنصرية وحقد غربي كبير ضد العرب والمسلمين، وتعبر عن انحياز غربي كامل للكيان الصهيوني بالتزامن مع تشديد حصاره وتصعيد عدوانه، ومع ارتكابه المجزرة البشعة ضد أسطول الحرية.

كنت في زيارة أكاديمية لجامعة "لومني" الفرنسية في 1995، لحضور مؤتمر علمي، وهي تقع في ضواحي مدينة مرسيليا، ثاني أكبر المدن الفرنسية من حيث المساحة بعد العاصمة باريس. وجدت شيئا عجيباً: سائق سيارة الأجرة التي أقلتني من المطار إلى الجامعة جزائري، وحارس البوابة الرئيسة للجامعة مغربي، وآذن مقر انعقاد المؤتمر جزائري، وأهم الأساتذة الزائرين بريطاني أستاذه باكستاني مسلم. والأغرب من كل هذا، تمعنت في قائمة أسماء المشاركين في المؤتمر، فوجدت أن أكثر من نصفهم أسماؤهم عربية، ثم توجهت لمكان انعقاد مؤتمر آخر في مكان مجاور في الجامعة نفسها، وقرأت قائمة أسماء المشاركين، فوجدت أن أكثرهم أسماؤهم عربية. وفي أول يوم من أيام المؤتمر، أقيم حفل كبير على شرف الحاضرين، وكان "الكسكس" المغربي، أو المفتول باللهجة الفلسطينية، هو وجبة الغداء الرئيسة!

وكنت في زيارة أكاديمية أخرى لجامعة "ليون 1" في 2005، وهي تقع في مدينة ليون، ثاني أكبر المدن الفرنسية من حيث عدد السكان بعد باريس، فوجدت العجب العجاب: أبرز أساتذة الجامعة جزائريون، ومغاربة، ولبنانيون، وكانوا يشكلون معظم الطاقم الأكاديمي للجامعة. كنت أقرأ خلال مروري في ردهات أحد المباني الرئيسة في الجامعة أسماء الأساتذة المكتوبة على أبواب مكاتبهم، فوجدتها سعدية، ومحمد، وعبد القادر، ... وهكذا. والأكثر من ذلك، أن مجموعات الأبحاث والدراسات في الرياضيات والفيزياء والعلوم والإحصاء وتكنولوجيا المعلومات، يقودها هؤلاء الأساتذة العرب والمسلمون... أخبرني أحد الأساتذة الجزائريين في الجامعة، أن الجزائريين هم الذين بنوا مدينة ليون، وغيرها من المدن الفرنسية، وأنهم الآن مهمشون ومعزولون ويعانون الفقر والحرمان، وأن حقوقهم السياسية مهدورة...

وتواصلت خلال زيارتي مع أساتذة جزائريين ومغربيين في جامعات فرنسية أخرى في مدن أخرى، مثل مدينة غرونوبل وتولوز وغيرهما، فوجدت أن هناك شبكة من الأساتذة العرب والمغاربة في الجامعات الفرنسية، الذين يقومون بالإضافة إلى التعليم في الجامعات الفرنسية بأنشطة بحثية وتطبيقية مهمة وحيوية في مجال التكنولوجيا، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبيئة، والصحة، والتصنيع الغذائي، والاقتصاد، وغيرها من المجالات. على سبيل المثال، الأستاذة مريم محفوظ، وهي لبنانية مقيمة في ليون، تستخدم برنامجاً إحصائياً لفحص عينات دم مرضى سرطان الدم (اللوكيميا)، لتحدد نوع العلاج اللازم، وهي تعمل أيضاً في مجال تعليب الأغذية وصناعة أخرى.

هذه الصورة الحضارية المشرقة، تدل على الحجم الكبير للإسهامات المهمة والحيوية التي يقمها العرب والمسلمون للحضارة الغربية، فهم عماد النهضة الحديثة التي تنعم بها فرنسا. ولا بد أن يكون للعرب والمسلمين إسهامات كبيرة في مجال الاتصالات والأقمار الصناعية، وكذلك في الدول الغربية الأخرى، ناهيك عن دور العرب والمسلمين قديماً في الحضارة الإنسانية عامة.

وإذا كانت الرسالة الفرنسية التي تضمنها قرار منع بث قناة الأقصى الفضائية، هي أن العرب يستخدمون التكنولوجيا الفرنسية، ولذا يجب عليهم الالتزام بالأخلاقيات والمعايير الفرنسية والغربية لاستخدامها، فإن فرنسا مخطئة لحد يندى له الجبين. ولفرنسا أن تتصور وضع جامعاتها، ومستشفياتها، ومصانعها، ومراكز أبحاثها، ومرافق الخدمات العامة، والأسواق، وحتى الفرق الرياضية، إذا توقف العرب والمسلمون عن العمل فيها. ولكن مع الأسف الشديد، يعاني العرب والمسلمون من فراغ قيادي كبير، ولذا فهم يُستخدمون ضد مصالح أمتنا، بالطريقة ذاتها التي يُستخدم فيها المال العربي ضد العرب والمسلمين.

أما إذا كانت الرسالة الفرنسية التي ينطوي عليها ذلك القرار العنصري، هي أن فرنسا تقف مع الكيان الصهيوني ظالماً ظلماً كبيراً لا يخفى على أحد، فإن لا أحد يستطيع أن يصدق أكذوبة الديمقراطية والحريات الإنسانية التي تتشدق بها فرنسا وغيرها من الدول الغربية، وعلى رأس تلك الحريات حرية التعبير والدفاع عن النفس، فما تقوم به قناة الأقصى لا يتجاوز حق شعبنا الفلسطيني في فضح الممارسات الوحشية للكيان الصهيوني ضد شعب يتعرض للإبادة على أيدي العصابات الصهيونية المجرمة المدعومة غربياً، وكذلك حق تحشيد الرأي العام العربي ضد تلك العصابات وتحريض العالم الحر على نصرة الشعب الفلسطيني.

هذه الرسالة الفرنسية التي تؤكدها فرنسا عبر مواقفها العنصرية المتكررة والمعادية للعرب والمسلمين، توجب علينا الاعتماد على أنفسنا واستنهاض أمتنا والاهتمام بجامعاتنا ومراكز أبحاثنا، فنحن نتعرض لحرب غربية شاملة تستهدف وجودنا وتُستخدم فيها كل الإمكانات التكنولوجية والعسكرية والسياسية والاقتصادية...

18/6/2010