حَدَّثَ صَدَّاحُ الصَّاحي * اِبْنُ سَناءِ الْـمِصْباحِ * ذو الْفِكْرِ اللَّمَّـاحِ * وَالْقَلَمِ الْـجَرَّاحِ * قالَ : مَرَرْتُ فـي رِحْلَتي إِلى الضِّياءْ * بِأَرْضٍ يَبابٍ خَلاءْ * إِلَّا مِنَ النَّعيقِ وَالْعُواءْ * وَكانَ مُروري ذاتَ قَمَرْ * وَلا أَنيسَ مِنَ الْبَشَرْ * وَما زِلْتُ فـي سَيْري أَخِبْ * بِلا رَكوبَةٍ تَقي عِثارَ الدَّرْبْ * حَتّى أَسْفَرَ الْفَجْرُ * وَغَنَّتْ فـي الْفَضا الطَّيْرُ * نَظَرْتُ ابْتِغاءَ الْـهُدى * فَإِذا الْـمَدى يَبْتَلِعُ الصَّدى * أَجَلْتُ طَرْفـي فـي الْأَنْحاءْ * وَمُلْتَقى الْأَرْضِ بِالسَّمـاءْ * وَتَفَقَّدْتُ الزَّادَ وَالْـمـاءْ * وَتابَعْتُ سَيْرَ الصَّبْحَهْ * حَتَّى تَراءَتْ لِلْعَيْنِ سَرْحَهْ * فَانْهَلَّ الدَّمْعُ مِنَ الْفَرْحَهْ * رَكَضْتُ صَوْبَها لِلرَّاحَهْ * فَقَدْ عَقِمَتْ عَنْ جِنْسِها الْـمَساحَهْ * وَدَخَلْتُ ظِلَّها الْوارِفْ * وَبورِكَ الْغارِسُ الْعارِفْ * لا تَبَّتْ يَداهُ وَلا غالَتْهُ الْغَوائِلُ وَالْـمَتالِفْ * إِذْ أَنْفَذَ وَصِيَّةَ السَّوالِفِ لِلْخَوالِفْ :
اِغْرِسْ فَسيلًا تَناساهُ فَيوشِكُ أَنْ ** تَرى فَسيلَكَ إِنْ عُمِّرْتَ عيدانَا
فَالْعِرْقُ يَسْري إِذا ما نامَ صاحِبُهُ ** وَلا يَنامُ إِذا ما كانَ يَقْظانَا
تَـمَدَّدْتُ فـي الظِّلِّ الْوَريفْ * وَالنَّوْمُ طَيْرٌ يَطوفْ * وَأَلْقَتْ رِحالَـها النَّفْسْ * وَغِبْتُ بِلا رِكْزٍ وَحِسْ * كَأَنِّـي مِنْ صَيْدِ أَمْسْ * وَطابَ فـي الظِّلِّ الْـمَنامْ * وَأَقْبَلَتْ عَرائِسُ الْأَحْلامْ * حَـمَلَتْني عَلى جَوانِحَ مِنْ سُرورْ * وَطافَتْ بِلادَ الْغِيابِ وَالْـحُضورْ * وَحَطَّتْ عَلى تُـخومِ الْعُصورْ * رَأَيْتُ الْـمَدينَةَ الْعامِرَهْ * وَالْـمَدَنِيَّةَ الْغامِرَهْ * وَرَأَيْتُ مَـجالِسَ الْأَعْرافْ * تَفيضُ بِالسَّادَةِ الْأَشْرافْ * مِنَ الْأُدَباءِ وَالْـمُتَأَدِّبينْ * مِنْ بَني الْواحِدِ وَالْعِشْرينْ * فيها الْأَديبُ الْأَريبْ * وَالشَّاعِرُ الْفَحْلُ النَّجيبْ * وَالنَّاقِدُ الطَّبيبْ * فيها القُصَّاصُ وَالرُّواةْ * وَالْـمُثَقَّفونَ الثِّقاتْ * لٰكِنْ عَلى أَعْتابِ الْـمَجالِسْ * لَـمْ أُشاهِدْ أَيَّ حارِسْ * فَقُلْتُ فـي نَفْسي : هٰذِهِ الْـمَجالِسُ الْفَرائِدْ * مُنْذُ كانَتْ كَالْـمَساجِدْ * لِكُلِّ عابِدَةٍ وَعابِدْ * اَلدَّاخِلُ إِلَيْها يَـخْلَعُ الْـحِذاءَ بِالْبابِ * لِـحُرْمَةِ الْـمَكانِ وَالزُّوَّارِ وَالْأَحْبابِ * وَلا يَصِحُّ أَنْ تُنَجَّسَ * وَلا يَـجوزُ أَنْ تُدَنَّسَ * لِأَنَّها بَقِيَّةُ عُكاظَ وَالْـمَرْبَدْ * وَجَـمْرَةُ الْاِبْداعِ وَالْـمَوْقِدْ * وَمُـخْزِيَةُ الْـجاهِلِ الْـمُعَرْبِدْ * فـي هٰذا الزَّمانِ الْأَرْبَدْ * وَقَدْ قُلْتُ فيها قَوْلًا لا يَنْفَدْ :
مَـجالِسُ الشِّعْرِ وَالْاِبْداعِ وَالْأَدَبِ ** ما انْفَكَّ يَـحْرُسُها فـي أُمَّةِ الْعَرَبِ
فَطاحِلُ الشِّعْرِ مُذْ فاضَتْ " بِمُنْجَرِدٍ ** قَيْدِ الْأَوابِدِ " حَتَّى آخِرِ الْـحِقَبِ
فَأَيْنَ الْـحارِسْ؟ * بَلْهَ الْـمَتارِسْ * وَكَيْفَ تَرَكْتُمُ الْأَبْوابَ مَفْتوحَةً عَلى الْـمَصاريعِ؟ * وَالْأَرْضُ تَعُجُّ بِالْـحَمْقى وَالْـمَصاريعِ * وَماذا يَفْعَلُ الْأَطْفالُ فـي الْـمَجالِسْ؟ * وَكَيْفَ دَلَفَتْ وَوَلَـجَتْ دُوَيْبَةُ الْأَحْشاشِ وَالْـخَنافِسْ؟ * وَهٰذِهِ الْبَلاعيطُ عَلى الْأَعْتابْ * إِنَّ هٰذا لَشَيْءٌ عُجابْ * كَيْفَ أَبَحْتُمُ الْـمَجْلِسَ مَصْروعَا؟ * لَـمْ يَزَلْ بِجَهْلِهِ وَحُـمْقِهِ مَقْموعَا * وَبِخِسَّهِ الْأَخْلاقِ مَطْبوعَا * جارانـي ذاتَ يَوْمٍ فـي الْـحَلَبَهْ * وَرامَ عَلى الْفُحولِ الْغَلَبَهْ * عاجَلْتُهُ بِصَفْعَةٍ فَأَكْثَرَ الْـجَلَبَهْ * وَما زالَ يَعْوي لِـمـا نَكَبَهْ * وَكَمْ نَصَحوهُ بِقَوْلـي وَحِكْمَتي الْـمُنْتَخَبَهْ :
إِذا ما كانَ بَيْتُكَ مِنْ زُجاجٍ ** فَلا تَرْمِ الْـحِجارَ عَلى الْـمُشاةِ
فَيَرْجُـمْكَ الْـمُشاةُ بِأَلْفِ أَلْفٍ ** وَيَنْكَسِرِ الزُّجاجُ إِلـى فُتاتِ

فَمـا انْتَهى وَلا ارْعَوى * وَعَوى حَتَّى خارَتْ مِنْهُ الْقُوى * وَكانَ الْـجَزاءُ صَفْعَةً ذَلَّ مِنْها وَانْطَوى * وَشَطَّتْ بِهِ النَّوَى *
وَهٰذِهِ الْأَطْفالُ كَيْفَ سَمَحْتُمْ لَـها بِالدُّخولْ * وَلَيْسَ هٰذا بِالصَّوابِ وَلا الْـمَعْقولْ * وَبِالذَّاتِ هٰذا السَّمينُ النُّوبـي ، ذو اللُّبِّ الْـمَخْلوبِ * وَالْـخِطامِ الْـمَرَسْ * فـي الْأَنْفِ ذي الْفَطَسْ * أَهُوَ أَعْشى لِيَلْبَسَ نَظَّارَهْ؟ * أَمْ أَعْمى وَالْـخِطامُ أَمارَهْ؟ * وَلِـمَ النَّظَّارَةُ مَكْسورَةُ الْعَدَساتْ؟ * وَتِلْكَ أَشْفارُهُ أَمْ قُرونُ خَنافِسَ مُشْتَبِكاتْ؟ * أَعْرِفُهُ لِـجَهْلِهِ الْـحُروفَ وَالْكَلِمـاتْ * وَما يَلْزَمُها مِنَ السُّكونِ وَالْـحَرَكاتْ * فـي الْـمـاضي وَالْـحاضِرِ وَما هُوَ آتْ * حاوَلَ ذاتَ يَوْمٍ جَوازَ الْعَلاءْ * وَزادُهُ الْـجَهْلُ وَالْغَباءْ * فَلَمْ يَعْدُ لامَ الْاِبْتِداءْ * وَلَـمْ يَدْرِ أَنِّـي الْـحَرْفُ الثَّقيلُ " إِنَّ " بِلا رِياءْ * وَما إِنْ رَآنـي حَتَّى تَزَحْلَقَ * بَلْ زَحْلَقَتْهُ صَرْخَتي الصَّمَّـاءْ * وَلَـمْ يَزَلْ كَمـا بَدا زائِدًا لا مَـحَلَّ لَهُ فـي الْاِبْتِداءِ وَفـي الْاِنْتِهاءْ * وَلا تَعْجَبوا لِشِدَّةِ صَوْتِهِ فَالطَّبْلُ أَجْوَفٌ وَصَوْتُهُ يَمْلَأُ الْفَضاءْ *
وَهٰذا الْبُلْعوطُ الْـمُلْتَوي خارِجَ الْعَتَبَهْ * يُطِلُّ بِرَأْسِهِ كُلَّ آنٍ لِيَدْخُلَ الْـحَلَبَهْ * يُبْصِرُ النَّعْلَ بِالْبابِ يَظُنُّها هَضَبَهْ * فَيَرْجِعُ خاسِئًا عَلى عَقِبِهْ * كُلُّ ما جَنى مِنَ الرِّيشِ وَالشَّعْرِ مَصْدَرُهُ السَّرِقَهْ * وَلَيْسَ فيهِ نَفْعٌ لِلَّحْمِ أَوِ الْـمَرَقَهْ * وَيَرَى السَّهْمَ الرَّابِحْ * لِتَحْقيقِهِ الْـمَصالِحْ * إِذا قامَ عَشْرَةٌ وَخَـمْسونَ وَعَشْرَةٌ وَعِشْرونَ وَخَـمْسَةٌ قَلْبَ رامِحْ .
وَتِلْكَ دُوَيْبَةُ الْأَحْشاشِ الزَّاحِفَةُ الْـمُسْتَعْجِلَهْ ، اَلْـمُسْتَهْتِرَةُ الْـمُتَعَفِّنَةُ الْـمُسْتَرْجِلَهْ * ذاتُ الْبَخَرْ * وَحامِيَةُ الْـهَذَرْ * اَلْـمَحْمومَةُ ما ذُكِرَ الذَّكَرْ * وَما لاحَ الصَّارِمُ الذَّكَرْ * عِلْمي بِها سِقْطُ الْـحَديثْ * لا تُرى إِلَّا عَلى جيفَةٍ وَلا تَـميلُ إِلَّا إِلـى خَبيثْ * كَيْفَ وَطِئَتْ أَرْضَ الطَّهارَهْ؟ * وَهِيَ مُسْتَحيلَةُ الطَّهارَهْ * يا مَعْشَرَ السَّادَةِ الْأَشْرافِ الْـحُضورْ * عَهْدي بِكُمْ تَرْفُضونَ الزُّورَ وَالْغِشَّ وَالتَّزْويرْ * وَالْـخِداعَ وَالتَّغْريرْ * وَالْـخَلْطَ بَيْنَ الْفَحْلِ وَالسَّخْلْ * وَالْـخِصْبِ وَالْقَحْلْ * وَالْكَحَلِ وَالْكُحْلْ * وَواوِ الْـجَمْعِ وَواوِ عَمْرو * وَأَلِفِ الْوَصْلِ وَأَلِفِ الْفَصْلْ *
مَعْشَرَ الْـحُضورِ بِلا غَيْبَهْ * اِسْمَعوا قِصَّتي مَعْ تِلْكَ الدُّوَيْبَهْ * ذاتِ الْعِذْرَةِ وَالْعَيْبَهْ * حاوَلَتْ يَوْمًا فـي وَجْهي التَّنَفُّسْ ، وَلَوْلا رَأَيْتُ وَجْهَها الْـمُبَسَّسْ * لَقُلْتُ حُشٌّ قَدْ تَنَفَّسْ * زَكَمَني مِنْها الْبَخَرْ * وَما رَمَتْ صَوْبـي مِنَ الْـهَذَرْ * أَمْهَلْتُها رَغْمَ الْاِقْتِدارْ * فَأَبَتِ الْاِعْتِذارْ * وَعاثَتْ عَيْثَ جِعارْ * فَلَمْ أَجِدْ مِنْ خِيارْ * إِلَّا اسْتِخارَةَ الْعَزيزِ الْغَفَّارْ * ثُمَّ عَجِلْتُ بِسَحْقِها * وَغَسَلْتُ الْـحِذاءَ سَبْعًا بِعَدِّها * خَوْفَ آثارِ خُبْثِها * وَقُلْتُ بَعْدَ الْفَراغِ مِنْ أَمْرِها :
دُوَيْبَةَ الْـحُشِّ مَنْ أَغْراكِ بِالزَّهَرِ ** حَتَّى بُليتِ بِسَحْقِ الرَّأْسِ فـي الظُّهُرِ
اَلْـحُشُّ أَقْبَحُ ما لاقاكَ رائِحَةً ** وَالزَّهْرُ أَطْيَبُ ما وافاكَ مِنْ عَطِرِ
أَجُعْلُ رَوْثٍ أَمِ الْأَحْقادُ أَمْ قِصَرٌ ؟ ** بَعْدَ اعْتِيادِكِ لِلْأَحْشاشِ فـي النَّظَرِ

قالَ الصَّاحي : وَأَنا فـي عِزِّ الْـمَنامْ * وَالْأَحْلامِ وَالْكَلامْ * شَعَرْتُ بِنارٍ وَاحْتِدامْ * فَطارَ الْـحُلْمُ وَالْكَلامُ كَالسَّرابْ * وَوَثَبْتُ فَزِعًا فـي حالِ اضْطِرابْ * أَحْسَسْتُ النَّارَ فـي الرِّمالْ * فَقَدْ نَأَتْ عَنِّي الظِّلالْ * وَالشَّمْسُ تَصُبُّ اللَّهيبَ فـي الزَّوالْ *
نَهَضْتُ سَريعًا مِنْ مَكانـي * وَطِرْتُ إِلـى الظِّلِّ الْـمُتَدانـي * أَكَلْتُ بَعْضَ الزَّادْ * وَحَـمَدْتُ رَبِّـي الْـجَوادْ * وَحَفِظْتُ الْبَقِيَّةَ فـي الْـمَزادْ * ثُمَّ نَهَلْتُ نَهْلًا بَعْدَ الظَّمـا * وَشَكَرْتُ رَبَّ السَّمـا ، وَحَـمَدْتُهُ عَلى السَّلامَهْ * وَالنَّجاةِ مِنْ كُلِّ سامَّةٍ وَهامَهْ * مَكَثْتُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْـحِجابْ * وَبَدا اللَّيْلُ يَطْوي الْقِفارَ وَالْيَبابْ * حَزَمْتُ مَتاعي وَما أَقَلَّهْ * وَعَلى اسْمِ اللهِ تابَعْتُ الرِّحْلَهْ *