قِـيـَم العــولمة فــي الأدب الطِّـفْــلِي في فلســطـين

٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٠بقلم عماد عبد الله موسى


مفهوم العولمة:
بدأت العولمة تحط رحالها داخل حقول الحياة المختلفة وفي الأذهان وفي العقول؛ بشكل جعلت منها موضوعاً للجدل حول مفهومها ونشأتها، ودفعت إلى طرح العديد من التساؤلات التي من أبرزها: هل العولمة طفرة ظهرت وستختفي؟ وهل هي ظاهرة .. وإذا كانت كذلك، فما هو مفهومها؟ وما هو مضمونها؟ وما هي قيمها؟ وما هي أسباب نشأتها وتكوينها؟ وما هي مراحل تطورها؟ وما هي مجالاتها؟ فإن كانت طفرة فقد ظهرت وسوف تموت مثل سائر الطفرات في الحياة الطبيعية؟ وإن كانت ظاهرة فإن هذا يعني أن لها خصائص الظواهر، والتي قد تتعرض للفناء الكلي أو الجزئي بحيث تتطور من هذه المكونات ظاهرة أخرى.
هناك بعض الآراء التي ترى أن العولمة ظاهرة قديمة، عرفتها البشرية عبر مراحل تطورها التاريخي، وهذا ينفي عن العولمة سمة الجدّة والمعاصرة، وأنها لا تحمل الجديد، فلما كانت كذلك، فلماذا لم نسمع بهذا المصطلح قبل ظهوره واستعماله في حياتنا المعاصرة؟. ولماذا هذا الإسقاط الدائم على التاريخ؟ إن تبني هذا التفسير فيه شيء من المغامرة، لأنها تحتاج إلى إثبات وأدلة وبراهين. وتجنباً لأية مغالطة ممكنة الحدوث نرى أنه من الضرورة عرض مفاهيم العولمة وآراء الباحثين والمختصين في هذا الشأن.
فما هي العولمة؟
العولمة: "مصطلح شاع استخدامه بسرعة تفوق شروط تشكل المعنى وتأسيس المرجعية التي يحيل إليها في الواقع، فهو لفظ مشحون بعديد المعاني لا يزال يبحث عن مدلول مادي واضح، فهو يعني الآن كل شيء ولا يعني شيئاً بعينه، ولا زالت تبحث لنفسها عن معايير ومقومات تحول الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تقوم عليها إلى قيم إنسانية شاملة ترسخها كأيدلوجيا جديدة". (1)
فالعولمة إذن هي مدلول عام يحتقب معاني متعددة، ولكنه إلى الآن لا يشكل مرجعية يمكننا العودة إليها، نظراً لما يكتنفها من تعميم وتعتيم، ولأن مداليلها قيد النشوء والتطور، ولم تأخذ شكلها النهائي بعد. في حين أن الدكتور مفيد شهاب يرى في كلمته الافتتاحية في مؤتمر الإعلام العربي الأوروبي الذي عُقد في البحرين بأن العولمة هي: "مجرد تعبير أكاديمي لا يشعر الكثيرون بوجوده حولهم، وذلك قبل أن يتحول إلى واقع ملموس ضاغط يتيح فرصاً، ويفرض مخاطر، خاصة في مجالين رئيسيين هما: الاقتصاد والإعلام؛ اللذين أصبحا عالَمين بالكامل، فالتوجهات والمشكلات الاقتصادية تنتقل من إقليم إلى آخر بسرعة كبيرة، وكل شعوب العالم تتابع الحدث في نفس الوقت تقريبا". (2)
يُعد هذا المفهوم للعولمة أكثر تحديداً من سابقه، لأنه وضع الإصبع على مسألتين في غاية الأهمية وهما: الاقتصاد والإعلام، وربما يعود ذلك إلى كونهما عالمه المحسوس والمرئي والمدرك واقعياً، نظراً لأن التغيير الذي طرأ ويطرأ على المنظومة الثقافية والاجتماعية عادة ما يكون بطيئاً، ولأنه يمس الهويات الوطنية والثقافية للمجتمعات والشعوب. ومع ذلك فإن هذا المفهوم يبقى قاصراً عن تقديم مضامين أكثر شمولاً بما يضمن معالجة التحول الحاصل في الاقتصاد الوطني والإقليمي إلى اقتصاد معولم. وهل بإمكانه فعلاً أن يتحول؟ وهل يمتلك القدرة على التحول؟ وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإعلام، ومع ذلك فإنه قد أصاب كبد الحقيقة عندما تحدث عن الاقتصاد بوصفه العمود الفقري الرئيس لتحويل المجتمعات إلى أسواق استهلاكية للمنتج الاقتصادي والثقافي والإعلامي.
أما برهان غليون فيعرف العولمة بأنها: "ديناميكية جديدة تبرز داخل العلاقات الدولية من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسرعة في عمليات انتشار المعلومات والمكتسبات التقنية والعملية للحضارة؛ يتزايد فيها دور العالم الخارجي في تحديد مصير الأطراف الوطنيــة المكونة لهذه الدائرة المندمجة لهوامشها أيضاً" (3). ويتفق الأستاذ محمد سعيد أبو زعرور في بعض الجوانب مع ما أورده برهان غليون في تعريفه للعولمة، إلا أنه أكثر تحديداً منه للطرف المتضرر من العولمة، لذلك يرى بأنها "نظام عالمي جديد يقوم على العقل الالكتروني والثورة المعلوماتية القائمة على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود؛ دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم". (4)
فالعولمة كما هو واضح تتخذ اتجاهين: الأول منتج للعولمة، والثاني مستقبل لها؛ سواء أكانت اقتصادية أم إعلامية أم غير ذلك. وهذا يعني تحول في طبيعة العلاقات الدولية، وبداية لإنهاء المفاهيم الوطنية والإقليمية لصالح المفهوم الأوسع والشمولي؛ ألا وهو العولمة. ويفسر ريتشارد فلاكس حركة التحول في العالم الرأسمالي وسرعة هذا التحول، فيقول: "نحن ننتقل من الرأسمالية المرتكزة على التصنيع والإنتاج المكثف لسلع تدوم كالسيارات والبردات وسواها؛ إلى رأسمالية ترتكز على المعلومات وتطوير صناعة اللهو وأوقات الفراغ، وهكذا فإن الرأسمالية تغير طبيعتها بالكامل تحت تأثير العولمة"(5). ويرجع فلاكس عملية التحول في الصناعة إلى تأثير العولمة دون أن يقول لنا ما هي العولمة؟ و كيف أثرت في صناعة السلع الدائمة بالانتقال إلى صناعة اللهو.
العولمة ظاهرة قديمة أم جديدة
هناك اتجاه فكري يرى بأن العولمة ظاهرة قديمة وليست وليدة العصر، ومن أصحاب هذا الاتجاه الدكتور سلطان أبو علي، والذي يقول أن العولمة: "ظاهرة ليست جديدة، ولكنها قديم جداً، ولكن الجديد المصاحب لها هو الإيقاع السريع الخاص وسرعة انتقال المعلومات"(6). ويتفق الدكتور محمود عبد الفضل مع رأي سابقه بأن العولمة ظاهرة قديمة، ولكنه يرى بضرورة التعامل معها حتى لا نخرج من التاريخ، فيقول: "العولمة ظاهرة قديمة تأخذ أشكالا جديدة ولا نستطيع أن ننعزل عنها تماماً، لأننا لو رفضناها سنكون خارج العالم، فسيادة الدولة مهددة في ظل العولمة وخطر الهيمنة يأتي أيضاً". (7)
إذا أمعنّا النظر في هذا المفهوم سنجده يقود إلى نوع من التهويم والضبابية، لأنه لم يكشف عن هوية العولمة، لكونه لم يوضح كيف تهدد العولمة سيادة الدول! وأي الجوانب السيادية تصبح في خطر؟ وما نوع الاستجابة لتلافي خطر العولمة. وأيّد هذا الاتجاه اللواء طلعت مسلم، الذي يرى بأن العولمة: "ظاهرة قديمة ومستمرة وتكاد تكون بدايتها ترجع إلى بداية البشرية ذاتها، وسوف تستمر إلى نهايتها؛ لكنها لاقت دفعة كبيرة في السنوات الأخيرة نتيجة لتطور وسائل الاتصال، وهو ما يوحي بأن هناك رسالة واحدة لكل هذه الأرض، وأنها رسالة عالمية وجهت للناس كافة". (8)
ينسجم هذا الرأي مع الآراء التي تعتبر العولمة ظاهرة قديمة، إلاّ أنه مثلهم لم يقدم مفهوماً واضحاً ومحدداً للعولمة، ناهيك عن خلطه بين العالمية والعولمة. فالعالمية تعني تقاطع البشرية في بعض مواضيع الإرث الإنساني، والذي اتّسمت به بعض الأجناس الأدبية التي عالجت قضايا إنسانية مشتركة، ولكن العولمة أمر مختلف عن ذلك تماماً، لأنها ذات طابع مركزي مهيمن ومسيطر. فهناك قوة اقتصادية ذات قدرة إنتاجية عالية وتمتع بالسرعة في التوريد والتسليع والتسويق، من مهامها القضاء على الاقتصاديات الوطنية؛ أو السماح لها بإعادة تصنيع بعض المنتجات التي تُصنع موادها الأولية في الشركات العابرة للقارات لدواعي اقتصادية بحتة، وهناك طرف مستهلك عليه تغيير نفسه ليتمكن من استهلاك هذه المنتجات، وهذا يعني أن المرتكز الأساسي للعولمة هو الاقتصاد. فأين هو الاقتصادي البشري في القديم الذي تمكن من تعميم ظاهرته، وفرضها على المجتمعات البشرية عبر القوة الإعلامية والعسكرية والتحكم في انسياب الأموال وسرعة انتقالها، سواءً على صعيد الإنتاج أو التسويق، لأن قوة الإنتاج وضخامته وتعدده وتنوعه تسلتزم فرض قوة التسويق والترويج عبر الوسائل التي أشرنا إليها آنفاً. وهذا ما تفتقر إليه الاقتصاديات البشرية القديمة، لأنها لا تمتلك وسائل التوسع والانتشار؛ ولا تمتلك وسائل النقل الرخيصة، ولا تمتلك سوقاً مالية ولا سرعة في انتقال البضائع وانسياب الأموال عبر الشبكة العنكبوتية.
وتختلف الدكتورة أماني قنديل مع هذا الاتجاه قائلة: "إن العولمة مفهوم جديد أصبح شائعاً في الفترة الأخيرة، حيث الإنسانية تنتقل من عملية نمو معقدة تتفاعل فيها الأبعاد المختلفة مع التغيير الشامل"(9). فالدكتورة تقر بأن العولمة ظاهرة جدية ولكنها ترى أن المهم هو( كيفية مواجهة هذه العولمة". (10)
وفي هذا السياق يحدد الدكتور على هلال العولمة في سياقين أحدهما إيجابي والآخر سلبي فيقول: "العولمة لها إيجابياتها ولها مخاطر تهدد سيادة الدول العربية والتفاوت الاجتماعي واحتمالات التهميش في الأدوار الإقليمية والدولية". (11)
إلاّ أن الدكتور سعيد محارب يحذر الباحثين والمختصين من النظرة الايجابية المفرطة للعولمة لذلك نجد "كثيراً من باحثي الشرق الأوسط ومفكريهم لا ينظرون إلى العولمة إلاّ بمنظار المنقذ من التخلف، فقد عجزوا عن تحقيق النهوض بمجتمعاتهم وشعوبهم، وباتوا ينتظرون من يأتي لينقذهم، ولذا تعلقوا بقشة العولمة التي لن تخرجهم من التخلف ستقذف بهم في مقره" (12)
إن المتفحص لأقوال الدارسين يصل إلى نتيجة واضحة؛ وهي أن العولمة مصطلح ما يزال غير ناضج من حيث المفهوم؛ وغير ناضج في حقوق الممارسة الفكرية العربية أيضاً، وهذا ما يفسر الغموض الذي يكتنف العولمة كمصطلح، لأنه "مصطلح مستحدث ولا نعرف آثاره الايجابية والسلبية الواقعة على دول العالم الثالث؛ ومن بينها الدول العربية". (13)
إلاّ أن هناك شِبه إجماع على أن العولمة هي إحدى "الظواهر الجديدة التي يلدها التطور؛ ويُناط بالتنظيم والقوانين أمر تكيّفها مع الصالح العام بأغلال يصعب تجنبها"(14)، وذلك لأن العولمة ـ كما يقول حازم صاغية ـ "تطلق مساراً يجمع واحدية النسق إلى الغنى والتعدد في داخله". (15)
وبهذا يشير صاغية إلى مسألة هامة وهي ضرورة تغيير الأنظمة والقوانين؛ لتسير في نسق التعدد والغنى، وهذا ما يقصد به عولمة القوانين والتشريعات لصالح القوة الاقتصادية والسياسية الواحدة، أما عناصر العولمة ومكوناتها "فهي مركبة؛ لأنها تحتوي على عدة عناصر؛ منها السياسي والاقتصادي والتكنولوجي، وجميعها تتضافر لتتشكيل شيء جديد". (16)
إن هذا المفهوم يكشف لنا أن العولمة ليست أحادية الجانب، لأنها ذات مكونات متعددة المجالات، ولكن هذه المكونات والعناصر تبقى مادية إذا لم يتم التطرق إلى الجوانب المعنوية، والثقافية والاجتماعية والمنظومة الفكرية والقانونية والقيمية، وهذا يعني أن العولمة "في معناها المحسوس في مراحل تشكلها الأولى، ولا زالت تبحث لنفسها عن معايير ومقومات تحول دون شروط الليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي تقوم عليها إلى قيم إنسانية شاملة ترسخها كايدولوجيا جديدة" (17)
ولكن تركيز الباحثين يبقى منصباً على الجوانب المادية للعولمة لأنها تعني "حرية السلع والخدمات والأيدي العاملة ورأس المال عبر الحدود الوطنية والقيمية" (18)، على الرغم من المخاطر التي تحمله على النواحي المعنوية والقيمة للشعوب في المشهد القيمي السلبي للعولمة.
نشأة العولمة:
يحاول بعض الباحثين وضع إطار تاريخي لتطور العولمة؛ من أجل إيجاد محددات زمنية مقنعة لنشأتها، وفي هذا السياق تندرج رؤية محمد سعيد بن سهو لنشأة العولمة ومراحلها حيث قسمها إلى مراحل ثلاث هي:"
1- مرحلة البداية: التي بدأت مع ظهور مشروع مارشال الأمريكي، الذي أقيم بهدف إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي استهدف إعادة تنظيم العلاقات النقدية وأسعار الصرف ووسائل الدفع الدولية، وقد تمثل ذلك بظهور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
2- مرحلة العولمة الإقليمية: التي بدأت مع بداية النصف الثاني من عقد الخمسينيات، وذلك عن طريق إنشاء سوق مشتركة ضمن معاهدة روما المشهورة، فسوق أوروبية موحدة، فاتجاه اقتصادي ونقدي ضمن اتفاقية (ماستريخت) التي تضم خمسة عشر بلداً صناعياً من بينها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، مما أدى إلى ظهور فضاء اقتصادي وتجاري ونقدي واجتماعي أوروبي.
3- مرحلة العولمة الكونية: يمكن اعتبار عام 1985م بداية لهذه المرحلة، حين أعلن الرئيس السوفييتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف عن حلول ثورة البيروسترويكا، والتي كانت بمثابة الإعلان عن انهيار الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً، كياناً ونفوذاً، وكذلك حادث هدم حائط برلين في خريف 1989م، ثم حرب الحليج الثانية، فقد كانت لهذه الحوادث مجتمعة والتي حدثت خلال الأعوام 1985- 1991م الأثر الواضح الذي هيأ للولايات المتحدة المناخ الأمثل والظرف المواتي للتربع على عرش النفوذ العالمي، فتمكنت من بسط نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري والحضاري على العالم وقوى مركز القيادة الواحدة. (19)
مضامين العولمة:
لقد استعرضنا مفهوم العولمة ونشأتها ومراحلها، وسنحاول إلقاء الضوء على مضمون العولمة ومحتوياتها وقيمها، وما يحمل هذا المضمون من مكونات متناقضة ومتصارعة، وذلك لأن العولمة تقوم على أساس الهدم والتفكيك لمضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وإعلامية قائمة داخل المجتمعات، وإعادة صياغتها وتشكيلها وبنائها وفقاً لمفهوم العولمة وأسسها وانسجاماً مع مصالحها. واستناداً إلى ذلك يعتبر بعض الباحثين أن العولمة "ليست مجرد صياغة عمليات تغير اقتصادي وثقافي، بل هي أيضاً تجريد كثير من المؤسسات المحلية والوطنية من قدر كــبير من استــقلاليتها وقدرتها على أن تعالج المشكلات الاجتماعية". (20)
وهذا يعني أنه لم يعد بمقدور المؤسسات القائمة على حل المشكلات، لأنها لا تنسجم مع المضامين الجديدة للعولمة، فالمؤسسات الوطنية ستتبدل بمؤسسات لها علاقة بالمؤسسات الأم الموجودة خلف البحار، ومدعومة من الشركات العملاقة العابرة للقارات.
ومن أجل تقبل هذا الجديد لا بد من تغيير أنماط العلاقات السائدة، وكذلك أنماط السلوك داخل المجتمع وبين الأفراد، بأنماط أخرى أكثر اتساعاً وشمولية، إذ تخرج العلاقات من دائرة المحلية الضيقة إلى عالم لا تفصل بينه حدود جغرافية صارمة، وإن بقيت الحدود الجغرافية لدواعي بعض مظاهر السيادة فهي لن تكون مؤثرة، فوسائل الإعلام تستطيع أن تختزل الجغرافيا وتعبر الحدود وتعسكر في البيوت دون رقيب أو حسيب، وتستطيع أن تشكل الرأي العام المحلي والدولي والإقليمي أو أن تغيره أو تمزقه أو أن توجهه نحو الاتجاه المراد بسهولة كبيرة. من هنا لا يعتبر بعض المختصين "أن مضامين العولمة متناقضة"، وذلك "لأنها تعطي من جهة إشارات مزعجة عن التفكك القوي والاجتماعي، وأشكالاً جديدة من التعاون الدولي من جهة أخرى".(21)
أما بخصوص المضامين المتعلقة بالإنسان فسنجد أن العولمة "تتعامل مع الفرد كذات مجردة مفردة تائهة مستسلمة لا روح فيها، تحيا فقط لتستهلك، لا معنى ولا وجود للقيم لديها، ينحصر وعيها في الفناء المطلق المحتوم، فقد مات التاريخ ولم يبقَ لشيء معنى بعده، فلِمَ الفعل وما غايته" (22)
وهذا دفع بعض الكتّاب إلى التساؤل: "هل يسمح العالم لنفسه أن يتجه صوب شكل من التكامل العالمي، الذي يُضعِف التضامن المحلي، أو يعمق الشعور بالأمن؟! أم تقرر حكوماته والجماعات المدنية فيه أن تقوي المؤسسات التي تؤكد احترام الفرد البشري". (23)
ومن المضامين الخطرة على الإنسان محاولة العولمة الدؤوبة إلى "جعل الفكر الآلي وتركيبته العلمية والتكنولوجية المجردة مستقبل العقل البشري، وأداة خلاصه، التي سوف تقود البشرية إلى نفق مظلم لا نهاية له" (24). وهذا يستلزم بالضرورة "تحويل المجتمعات إلى مصانع للعقول المجردة المفتقرة إلى الحد الأدنى من المرجعية الفكرية والثقافية، الفاقدة لأدوات التحليل ومناهج التفكيك والبناء، ومن ضمنها المنهج العلمي الآلي، ولكن لا بمفرده، إذ من العبث التصور بأن الشعوب تحيا بدون إنسانيات". (25)
ومن الواضح أن العولمة تمسّ الإنسان في جوهره، حيث تعمل إلى تغيير سلوكه عبر إحداث تغيير على بنى الوعي وآليات التفكير عنده، وتلعب وسائل الاتصال الجماهيري دوراً كبيراً في هذا الشأن "لأن الحدود والآفاق المفتوحة أمام هذه الثورة العلمية والتكنولوجية تجعل الكثيرين من العلماء والمفكرين يحسبون لتغيرات جذرية في نمط الحياة والعلاقات السائدة، وقد بدأت انعكاساتها بالفعل في جميع مناحي النشاط الإنساني والاجتماعي والسياسي والثقافي". (26)
قيم العولمة:
تعددت وجهات النظر الدراسية والبحثية فيما يتعلق بالعولمة ومفهومها وتعريفها، وقد كان لهذا الاختلاف انعكاس على مفهوم قيم العولمة، وإن كان هناك شبه إجماع من لدُن الدارسين العرب حول مفهوم هذه القيم سواء السلبية منها أو الايجابية. فالأستاذ محمد فائق يرى واقع العولمة وقيمها "بأنها اتجاه متعاظم نحو تخطي الحدود، أي التعامل دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية، أو الانتماء إلى وطن محدد أو دولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية. ويظهر ذلك بشكل واضح في الشركات متعددة الجنسيات، وفي انتقال رأس المال الذي يظهر بوضوح في بطاقات الائتمان" (27). فقد ركز الدارس على انهيار الحدود وعلى سرعة انسياب رأس المال وحركته من مكان إلى أمكنة أخرى في العالم، ما يفقد الدولة حدودها السياسية لتصبح مفتوحة أمام الشركات العابرة للقارات ويفقد المواطن هويته وانتمائه.
وذلك لأن "العولمة منظومة قيمية فلسفية يفرضها الغرب من خلال آليات هيمنته على العالم" عبر تسويق "القيم السلبية في العولمة" والتي هي القيم الاستهلاكية في الاقتصاد والتحول في قيم الجمال الكوني إلى الجمال الغرائزي". (28)
وقد أدى ذلك إلى دفع مجتمعنا العربي إلى التأثر بهذه القيم، والتي بِتْـنا نشاهدها في جميع مناحي الحياة، الأمر الذي أحدث مجموعة من المتغيرات في واقعنا الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، وعلى وجه الخصوص المتغيرات التي طرأت على منظومة القيم العربية، والتي هي آخذة في التحول الدراماتيكي إلى قيم استهلاكية من الطراز الأول، فأصبح كل شيء مرتبطاً بالاقتصاد، وقابلاً للعرض في السوق الاستهلاكية حسب العرض والطلب، ومرتبطاً بالمال، ومن أجل المال تتم مجمل عمليات تسليع الإنسان والقيم والثقافة والفكر.
ويقع في "مقدمة هذه المتغيرات بروز قيم جديدة فرضتها الحداثة، حيث أن عملية عولمة الاقتصاد لم ترافقها قيم حداثية وكوكبية فقط، بل نشأت جماعات سياسية تتسم بالصرامة والعداء لبعض المؤسسات والقيم الحديثة، وبعض منظمات المجتمع المدني باعتباره آلية من آليات العولمة؛ الذي يتفشى فيه الشعور بالاغتراب وتراخي الولاء القومي والطبقي والاجتماعي، مع النزوع نحو الاستهلاكية، وتعاظم الشعور بالفوضى، إلا أنه لا يمكن إرجاع كل تلك الظواهر إلى العولمة، بل يتداخل المحلي والخارجي في هذا الصدد". (29)
يبدو أن تأثير العولمة أكثر شمولية من القيم الاقتصادية الاستهلاكية، إذ هو يطال الثقافة والفكر والهوية أيضاً، ما يشكل خطراً على العالم العربي والإسلامي، حيث يتمثل هذا الخطر "بحالة الاستلاب الفكري، إذ تحدث النخب السياسية والثقافية في تفاعلها مع الحضارة الغربية مركز العولمة الثقافية اليوم قطيعة مع رموزها الثقافية وتراثها الفكري والحضاري". (30)
ويعود هذا ببساطة إلى طبيعة العولمة ومكوناتها فهي: "إطار فكري يدعو إلى إلغاء الحواجز بين الدول، وحرية انتقال أي شيء: أموال، ومنتجات صناعية أو زراعية، وأفكار أو قيم أو بشر بدون حواجز ولا موانع سوى ما يضعه العالم لنفسه" (31)
من هنا فإننا لا نجد غرابة في أن يتمحور التركيز وينصب الاهتمام على "نقد العولمة في مسألة القيم والمفاهيم على قضيتين:
الأولى: ثنائي العنف والجنس في وسائل الإعلام والسينما العالمية وفي القنوات الفضائية التي دخلت اليوم إلى كل بيت، وعلى ما يمكن أن تسببه من تدهور في السلوك والقيم من خلال انتشار الإباحية والشذوذ في مجتمعات لا تزال تقيم وزناً كبيرا لقيم العفة والاحتشام.
الثانية: تنميط القيم ومحاولة جعلها واحدة لدى البشر في المأكل والملبس والعلاقات الأسرية وبين الجنسين، وفي كل ما يتصل بحياة الإنسان الفردية والجماعية وخصوصاً قيم الاستهلاك، التي تعتبر إحدى أهم ركائز اقتصاد العولمة وانعكاساتها على القيم التي أشرنا إليها. وما يجري على هذا المستوى من تنميط القيم بات معروفاً، وله رموز ومؤسسات إعلامية وسينمائية مختلفة، تتوجه إلى مراحل العمر كافة، وليس إلى مرحلة محددة فقط، وقد زاد من فاعلية هذه المؤسسات التطور الهـائل في وسائل الاتصال وسهولة استخدمها". (32)
أما الأستاذ محمد فائق فقد ركز على العولمة من "شقين: أولهما: واقعي أو مادي جاء نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، وما ترتب عليه من ثورة في وسائل الاتصال والإعلام وانتشار المحطات الفضائية التي تبث برامجها لكل أنحاء الكوكب ولكل البشر على هذا الكوكب دون أن تحدها حدود، وأيضا في ثورة المعلومات الهائلة التي تجسدها شبكة الانترنت". (33)
ويؤكد الأستاذ محمد فائق على أن هذا "الجانب من العولمة غير مطروح للقبول أو الرفض، فهو قد أصبح واقعاً، وإحدى ظواهر هذا العصر الذي نعيشه، وليس أمامنا إلا أن نقبل به، ولكن علينا أن نعرف كيف نتعامل معه، لنكون أكثر تأثيراً في عالمنا، وأما الشق الثاني للعولمة: فهو شق قيمي، جاء نتيجة الطابع التوسعي التنافسي لنمط الإنتاج الرأسمالي، الذي فرض اقتصاد السوق على العالم، وعززه باتفاقية التجارة العالمية (الجات). وهذا الجانب هو الذي يثير كثيرا من المخاوف". (34)
ولا تختلف الصورة كثيرا في المشهد العولمي عندما يتعلق الأمر بالعولمة الثقافية التي تفرض شروطها "لتعزز ـ على ما يبدو ـ الاتجاه الفعلي إلى ثقافة عالمية موحدة، إذ تتراجع الصفة المحلية لأنماط الاستهلاك، وموسيقى البوب، والأفلام، والتلفزيون، لكنها تبقى جزءاً من السوق الثقافية العالمية. بهذا يجئ تغيير شامل من القيم غير الجديد بدوره، لكنه يتطور بطريقة أعمق وأسرع". (35)
ولا شك أن "تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات قد ساهمت في إحداث تغيرات جذرية في المجتمع والثقافة، بحيث أصبحت وسائل الإعلام تقوم بدور كبير في نقل الأفكار والخبرات من ثقافة إلى أخرى وبشكل يسهم في تغيير أساليب الحياة، وأن التطورات الحديثة قد حولت الثقافة إلى سلعة تباع وتشترى، وبسبب هذه التطورات فإن الوجه الثقافي للعولمة تكمل بعضها بعضاً، حيث أصبحت مهددة بالخضوع للقواعد نفسها التي يخضع لها سوق البضائع". (36)
الأمركة والعولمة:
يسود اتجاه مجتمعي وفكري داخل مجتمعاتنا العربية يدمج بين العولمة والأمركة، ويقوم بإدغام الواحدة بالأخرى ويعد هذا "خلطاً بين الأمركة والعولمة، فالأولى تعني فرض النموذج الأمريكي على الشعوب؛ خاصة بعد انهيار المنظومة الروسية، وبزوغ نجم الإمبراطورية الأميريكية كقطب واحد مسيطر على النظام العالمي الجديد، ويريد فرض رؤيته الحضارية على العالم، والثانية تعني المشاركة المبدعة الخلاقة لتكسير الحواجز بين الدول والثقافات". (37)
إن المراقب والمتتبع والمشاهد والمتلقي بشكل عام لما تبثه وسائل الإعلام والسينما الأميريكية من إنتاج ثقافي ضخم ـ والذي يفوق أضعاف ما تنتجه دول العالم ـ لن يجد صعوبة في التعرف على "الأخلاقيات الأمريكية (النمطية الأمريكية للحياة) التي تطرح عبر الألعاب مثلاً، نمطية من التفكير وأشكالاً محددة للشخصية، ونوعيات من التصنيف الذي يمرر من خلال هذه الألعاب؛ التي تكرس في المحصلة الأخلاق الأميريكية النمطية المميزة للثقافة الأميريكية المعاصرة بتنوعاتها وتناقضاتها وبراجماتيتها، وتدعو لمعاداة أي تصور أخر بشكل غير مباشر". (38)
والذي يساعد الأخلاقيات الأميريكية على السيطرة وسرعة الانتشار هو "قدرة التحكم الهائلة والسيطرة والإدارة في الاقتصاد والسياسة ووسائل الاتصال ومصادر الأخبار والمعلومات، والتي تجعل الغرب الأمريكي ـ الأوروبي هو مصدر العولمة". (39)
وقد وقفت ثقافات وشعوب ودول في مواجهة العولمة الأميريكية، ونمت اتجاهات اجتماعية معارضة لهذه العولمة، فالمعارضة الأوروبية كان لها أسبابها القومية أو العنصرية أو الاقتصادية، ولكن "الممانعة في العالم الإسلامي مصدرها الدين والثقافة، التي تتشكل بواسطته على مستوى نظرة الإنسان إلى نفسه ورغباته وإلى الآخر، أي إلى علاقاته الأسرية والزوجية والاجتماعية من دون أن ننسى الشعائر اليومية والأسبوعية والسنوية التي يفرضها الدين". (40)
فالعولمة الاميركية "تتحرك وبشكل قوي في اتجاه توليد حقائقها على الأرض، بما يتناسب وقوة الدفع الاقتصادي والعلمي والثقافي التي أطقتها، ولم يعد من السهل في عالم اليـوم التسليم بمقـولة الاستقلال للثقافة". (41)
وسائل الاتصال "الإعلام" وقيم العولمة:
أحدثت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات طفرة في الحياة الاجتماعية والثقافية في حياة المجتمعات، نتيجة السرعة في تدفق الرسائل الإعلامية ذات المضامين المتخلفة والمتعددة والمتناقضة وغير المنسجمة مع ميراث الشعوب الثقافي، والسرعة في التقاط هذه المعلومات عير الصحون اللاقطة وعبر الشبكة العنكبوتية(الانترنت) ما تحدثه هذه المعلومات من تأثير على جميع الشرائح والفئات العمرية المختلفة.
إنه مما لاشك فيه "أن المسارب الإعلامية تشكل طوفاناً لم يسبق له مثيل في التاريخ، فآلاف المحطات الفضائية، وآلاف الشركات المنتجة للمواد تتزاحم في الفضاء، وتنهمر وابلاً من القيم والسلوكيات والمواد الغريبة عن طبيعة هويتنا وثقافتنا، ونحن لم نتجاوز بعد عقدة الحداثة الأولى التي داهمتنا قبل قرون". (42)
لذلك فإن وسائل الإعلام تعد "من أبرز العوامل المؤثرة في القيم التربوية المتعددة، وإذا أهملت وسائل الإعلام هذه القيم ولم تحرص على إكسابها للطفل فإن ذلك سيؤدي إلى خلق جيل بأكمله فيما بعد، فيه من الخطورة ما يهدد المجتمع، وعليه فإن من واجب وسائل الإعلام أن تستقي مضامين برامجها من واقع المجتمع وقيمه وثقافته؛ لا من تلك الثقافات الوافدة التي لا تتفق مع قيمنا وعاداتنا، حتى لا تتضارب القيم لدى الطفل". (43)
ومع ذلك فإنك تجد القنوات الفضائية والانترنت "تبث وترسل مواد واضحة المأرب، كالأفلام والمواد الإعلامية الجنسية؛ أو التي تجاهر بعدائها لنا ولوجودنا، أو تلك التي تمرر صورة مشوهة لنا، فهناك ما يحمل كل ذلك بشكل مباشر، فالطفل الذي ننسى حواسه المتأهبة ونحن نتابع الشاشة أو الصحيفة يكون على اتصال أكثر التصاقاً وتأثراً منا، إنها تشكل بنيته ونحن ساهون عنه، متخيلين أنه لا يعبأ بها، أو قاصر عن التأثر بها، وإذا كان الكبار ينقادون لتأثيراتها فإن الصغار يبنون وفق هذه التأثيرات". (44)
وتشير العديد من الدراسات الى "أن الأطفال يميلون إلى تقبل المعلومات والأفكار والقيم التي تقدمها وسائل الإعلام، التي تسهم في تغيير وبلورة الاتجاهات لديهم، من خلال الأساليب المباشرة وغير المباشرة بإثارة ردود أفعال سلوكية أو وجدانية، وذلك من خلال تقديم درامي ذكي، نراه في أفلام الكرتون وأفلام المغامرات والمسلسلات، حيث تبدو واقعية بالنسبة لهم، وكما أنهم يتذكرون الصورة بشكل أفضل". (45)
من هنا فإننا نجد أن أكثر ما يشكل خطراً على الطفل هو مضامين الرسائل الإعلامية "البرامج" التي تعتمد على المضمون القيمي المعولم المتوفر في السوق الإنتاجية للبرامج والأفلام والمسلسلات والكتب، ومن أبرز هذه القيم السلبية: "العنف بأشكاله المختلفة والقسوة والتعصب وعدم التسامح، وتنمية نزعة العدوان والخيانة والوحشية والهمجية والكذب، والدعوة إلى الحرب وتفجير شهوة القتل، وهذا يعني أن مضمون المادة الإعلامية وما تحمله من توجهات وقيم ضمنية من الممكن أن يؤدي إلى إنضاج الوعي أو تزييفه، وفقاً لمصالح من يمتلك توجيه الرسالة الإعلامية". (46)
فالعولمة ماضية بأبعادها القيمية والثقافية الرأسمالية من أجل سيطرة الثقافة الغربية على جميع الثقافات المنتشرة في العالم، ولتحقيق ذلك تسخّر وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة لنشر ثقافة العولمة ولمنحها القدرة على فرض ما تريد، عن طريق الإغراء والإغواء "وليس عن طريق القوة؛ بل من خلال استعمال الإغراءات التي وفرتها التقنيات الحديثة في مجال الاتصال، وبذلك يمكن القول بأن هذا التغيير قد تمثل على نحوين:
1. اللجوء إلى ثقافة الصورة بدلا من ثقافة الكلمة.
2. التوجه المباشر للقاعدة العريضة دون التوقف للجدل مع الصفوة". (47)
وهذا يدفعنا إلى طرح عدد من التساؤلات حول الرسالة الإعلامية ومدى موضوعيتها: ما مدى انحياز الخطاب الإعلامي لبعض الفئات وبعض الطبقات؟ وما مدى انعكاس القيم المرغوبة حضارياً في البرامج التلفزيونية؟ وما مدى تلبية البرامج لاحتياجات المتلقي؟
قيم العولمة الايجابية:
العولمة تيار اقتصادي وقيمي جارف؛ يطل علينا عبر وسائل الاتصال المختلفة وفي ثنايا المعرفة والكتابة والإبداع والسينما وغيرها، وتصاحب العولمة دعوات "إلى العيش المشترك لسكان كوكب الأرض، ومن ثم يتبنى أيدلوجية تقوم على فتح الأسواق، وحرية تدفق المعلومات، وتدعم حقوق الإنسان والتنافس الحر، فإن هذا يتطلب ترسيخ قيم الحداثة التي تؤسس على النظرة العلمية المؤسسة على العقلانية واحترام ذاتية الفرد باعتباره حراً وفاعلاً اجتماعياً، وهذا يتطلب الاحترام والتسامح تجاه التعددية الثقافية، مما يضع قضايا حقوق الإنسان في بؤرة الاهتمام". (48)
ويرى كثير من الدارسين والكتّاب أن "القيم التي تبشر بها العولمة هي قيم تعتمد على العقلانية والحداثة وحقوق الإنسان والتسامح وقبول الآخر، وهي قيم لها رصيد في ثقافاتنا في عهود الازدهار، مما يسهل غرس تلك القيم في المنظومة القيمية العربية، بشرط أن تتوافر الإرادة السياسية والوعي الحضاري للحظة التاريخية التي تمر بها الأمة العربية". (49)
لذلك "تتشابك العلاقة بين حقوق الإنسان والعولمة بشكل كبير، حيث تؤثر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تأثيراً عميقاً على حقوق الإنسان في كل المجالات". (50)
ويركز الدارس على أهمية "دور التربية الفاعل في محو المعوقات التي تحول دون غرس تلك القيم، أو تحاول أن تغير من اتجاهات تلك القيم المرغوب فيها، وربطها بالموروث الثقافي الإسلامي العربي، أو من خلال بث القيم المرغوب فيها والتي عن طريقها يمكن تكوين الإنسان العربي المعاصر، الذي يتمسك بهويته وموروثه الثقافي، وتفاعله الخلاّق مع مفردات العصر الحديث الذي يحياه". (51)
القسم الأول: قيم العولمة الديمقراطية والإنسانية في قصص الأطفال المترجمة إلى اللغة العربية:
هناك أسئلة ملحة تُطرح علينا حول الديمقراطية من أبرزها: ما هي الديمقراطية؟
وكيف تطورت الديمقراطية؟ وكيف عالج الأدب قضايا الديمقراطية وكذلك القيم الإنسانية المتمثلة بمنظومة حقوق الإنسان وإعلاناته؟

تميزت الحياة في المجتمعات البدائية بغياب واضح للقيود المحددة والملزِمة في الوقت نفسه للإنسان، إذ لم توجد القوانين الوضعية التي تحكم تصرفات الإنسان في تلك المجتمعات، وكان محكوماً لقوانين الطبيعة مثل (الفصول، والحياة، والموت). ثم ما لبثت هذه المجتمعات أن تطورت مع تطور المجتمع نفسه، فقد برزت بعض الأعمال، ولجأ الإنسان للصيد والزراعة لحل مشكلته الاقتصادية، الأمر الذي جعل من التعاون ضرورة مجتمعية، والذي يتطلب تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الجدية لمنع اعتداء القوي على الضعيف، فظهرت بعض القوانين والأعراف. ومع مرور الزمن وتطور الحياة وتزايد السكان كان لا بُدّ من تدوين القوانين، والتي أطلق عليها التشريعات، وتم تحديد مهام التشريعات من أجل توضيح ما هو مسموح به وما هو ممنوع، بقصد توجيه تصرفات الأفراد لضمان استمرار التعايش بينهم ولضمان حركة التطور التاريخي.
فالديمقراطية هي مفهوم أوجده الإنسان، ليكون أسلوب حياة للشعوب، حتى تستند إلى قوانين عادلة استمدت من الأديان والعقائد السماوية والمعتقدات البشرية، بهدف ضمان الحرية والمساواة بين الأفراد وتحقيق العدالة. ومن الجدير بالذكر أن فكرة الديمقراطية ظهرت في العصر الإغريقي (أرسطو وأفلاطون)، ثم في العصر اليوناني، وتطورت في العصور الوسطى على يد فلاسفة ومفكرين كجان جاك روسو ومنتسكيو، وتبلورت في عصر الثورة الفرنسية والأمريكية، حيث أضيفت في كل عصر أفكار كثيرة تهتم بحقوق الفرد داخل المجتمع ودخلت في جميع جوانب الإنسان.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول أن الديمقراطية هي "مبدأ معترف به عالمياً، وهي هدف يقوم على القيم المشتركة للشعوب في المجتمع العالمي بأسره، بغض النظر عن الفروق والاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي بذلك حق أساسي للمواطن يجب أن يمارسه في ظل مناخ من الحرية والمساواة والشفافية والمسؤولية، مع مراعاة احترام التعدد في الآراء ومراعاة المصلحة العامة". (52)
ومن أبرز ما تقوم عليه الديمقراطية أنها "لا تـنفصم عن الحقوق المنصوص عليها في الوثائق الدولية، لا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مما يعني تطبيق هذه الحقوق تطبيقاً فعالاً، على أن تقترن ممارستها بالمسؤولية الشخصية والجماعية. وتقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان… وعلى الانتخابات كأداة للتمثيل السياسي والفصل بين السلطات الثلاث، وإلى القانون الذي يشرع حماية حقوق أفراد المجتمع وحرياتهم العامة وتنظيم علاقاتهم وحماية مصالحهم، وهي شروط أساسية لاحترام مبدأ سيادة القانون ومعايير حقوق الإنسان في الديمقراطيات المعاصرة". (53)
وسنعالج في هذا المحور عددا من القصص الطفلية الأمريكية والبريطانية المترجمة إلى اللغة العربية والموجه للأطفال الفلسطينيين، حيث صدرت القصص الأربع عن سلسلة أسس الديمقراطية، وعن إبداع المعلم، عام 2004، بالتعاون مع مركز التربية المدنية في كاليفورنيا، وبالتعاون مع الشبكة العربية للتربية المدنية في الأردن، وأما الخامسة فقد صدرت عن مركز تامر للتعليم المجتمعي بالتعاون مع دائرة التعاون الدولية ـ المملكة المتحدة، وهذه القصص هي:
1- الدببة المنصفة تتعلم عن العدالة Fair Pears learn about justice
2- السمكة زمردة تتعلم عن الخصوصيةJessica Fish learns about privacy
3- حارس حديقة الحيوانات يتعلم المسؤوليةThe Zoo keeper learns about RESPON SIBILLITY
4- دحبور وفرحانة وحكاية السلطة ORB AND EFFY LEARN ABOUT Authority
5- الأميرة ذات الرداء الورقي، روبرت منش، ترجمة روز شوملي.
وانطلاقاً من عناوين هذه القصص، يتضح لنا مدى ارتباط هذه العناوين بمضامين هذه القصص ارتباطاً عضوياً وثيقاً، بهدف عكس العنوان داخل البناء السردي، وبقصد رسم ملامح الشخصيات، وتوصيف مواقفها، وتحديد مسار اتجاهاتها نحو تعلم هذه القيم وممارستها، ومن أجل غرسها في وجدانهم وعقلهم لتصبح طريقة تفكير وأسلوب ممارسة في حياتهم اليومية، وبهذا يتم توجيه مساراتهم السلوكية نحو المستقبل ليصبحوا أكثر استجابة وتقبلا لهذه القيم الديمقراطية والإنسانية.
القصة الأولى: الدببة المنصفة تتعلم عن العدالة:
العنوان منذ البداية يصف الدببة بالمنصفة أي بالعادلة، ولكنها تحتاج إلى عملية التعلم في كافة المجالات لتحقق العدل والإنصاف في معاملاتها اليومية، فالقصة تقر منذ البداية بأهمية قيم العدالة في الفكر الديمقراطي الغربي فتقول: "كانت جميع الدببة جيراناً وأصدقاء معاً، كان الأطفال يلعبون معاً، يدرسون في المدرسة ذاتها، وكانت الدببة تشترك في العديد من الأشياء وفي الكثير من المغامرات. (54)
القيم الإنسانية:
وإذا ما قرأنا النص قراءة متأنية فسنجد أن هناك تأكيداً على قيم مشتركة تتسم بها الجماعة البشرية، وهي:
1- حسن الجوار.
2- الصداقة.
3- اللعب.
4- التعليم.
5- الروابط المشتركة في الكثير من القضايا المجتمعية.
فاستعمال المفردات ذات القدرة التحديدية للمعنى القيمي واضحة الدلالات؛ والتي تشير إلى العمل الجماعي والانتماء وممارسة الحقوق بالتساوي، ويمكن حصرها فيما يلي: "جميع، جيران، أصدقاء، معاً، المدرسة ذاتها، الاشتراك".
الحرص على البيئة:
تحتوي القصة على عدد من الإشارات إلى البيئة؛ وإلى دور الجهات المختصة في تجهيز جزءٍ منها للرفاهية والتنزه، وتحديد أماكن للأطفال للعب واللهو وتناول الطعام: "ووصلوا أخيراً إلى المكان الذي قصدوه، ووجدوا بقعة جيدة للأكل، فيها شجر كبير وفيها كثير من الظل. كما وجدوا طاولة لتناول الطعام، ومنطقة كبيرة للعب". (55)
فتوفير المكان يتطلب المحافظة على نظافته لاستخدامه من قبل الآخرين، ويتطلب تنظيفه وتركه جميلاً كما كان، وهنا تبرز مسؤولية الفرد والجماعة في الحفاظ على البيئة: "قالت الأم مسعودة: دعونا نستعد للذهاب إلى البيت، ليتأكد الجميع من عدم ترك نفايات". (56)
احترام القوانين والأنظمة مسؤولية فردية وجماعية:
وتتطرق القصة إلى مشاركة الزوج لزوجته في العمل المنزلي، من أجل إبراز المساواة دون تكرار هذه المواقف: " قالت الأم رغدة لزوجها: أرجوك ساعدني في ترتيب الطاولة". (57)
ولكن، هناك إشارة أخرى إلى ضرورة المشاركة في العمل الجماعي وفي اللعب وغيره: "وتذكر رمزي ما قالته أمه: يجب أن تشارك الأصدقاء، لا شك أنك ترغب في مشاركتهم لك ". (58)
ولم تغفل الأم عن تنبيه ابنتها بضرورة احترام قوانين العائلة، لأن احترام القوانين يحافظ على السلامة الفردية والبدنية للإنسان، ولأن القوانين وُضعت لمعالجة الاحتياجات الفردية والمجتمعية، لذلك طلبت الأم من ابنتها قائلة: "نجمة لا تتسلقي الأشجار، يجب أن تطيعي قوانين العائلة". (59)
فالدعوة إلى احترام القوانين والأنظمة مسؤولية تربوية أيضاً، لذلك يجب تعليمها للصغار في المدارس، وهي مقدمة للوعي وتوطئة لخلق ثقافة قانونية لدى التلاميذ بحيث يتعلمون حقوقهم الدستورية، ويعرفون واجاباتهم ومسؤولياتهم تجاه أنفسهم واتجاه الدولة والمجتمع. ولكن عدم احترام القوانين أو محاولة الخروج عليها غير خاضع للمزاج الفردي في التطبيق، وغير خاضع للرغبات وللعواطف والمحسوبيات، ومن يخالف ذلك، عليه أن يعرف أن هناك عقاباً بانتظاره، لذلك "قررت الأم أن تلفت نظر ابنتها إلى موضوعين اثنين، الأول: احترام القوانين وعدم مخالفتها، والثاني: الحصول على العقوبة المناسبة في حال ارتكاب المخالفة وكسر القاعدة القانونية، "قالت: أنتِ صغيرة جداً على تسلق الأشجار يا نجمة، فقد وضعنا هذه القاعدة للحفاظ على سلامتك، ولكنك كسرت القاعدة". (60)
إلا أن ذلك لم يمنع من العقوبة: "اذهبي الآن واجلسي تحت الشجرة؛ أنت ممنوعة من اللعب حتى أناديك إلى الغداء". (61)
فالسارد يشير إلى الجماعة "وضعنا " التي وضعت القوانين والأنظمة وليس الفرد، من أجل السلامة الفردية والبدنية لأفراد المجتمع. ولكن هناك ميل واضح لدى بعض أفراد المجتمع إلى خرق القانون، ومخالفة القواعد المعمول بها نتيجة تضخم النزعة الفردية، أو بروز (الأنا) بشكل فاقع، ويظهر ذلك عند اتخاذ القرارات التي تخدم الفرد وتتجاوز مصلحة الجماعة، بحيث لا يقوم الفرد بأخذ رأي الآخرين في مسألة ما، من هنا "فكر تيمور: هل من الإنصاف أن تقرر باسلة اللعبة التي سنلعبها". (62)
لقد أدار تيمور الفكرة في رأسه فاكتشف أنها غير مقبولة، لأنها لا تحترم آراء الآخرين، وتلغي مشاركتهن في الرأي "فقال: انتظروا لحظة، يجب أن نوافق على اللعب، بعد ذلك يمكننا التصويت برفع الكف". (63)
نلاحظ كيف أدخل السارد مبدأ التصويت العلني من أجل ضمان مشاركة الجميع لاختيار اللعبة التي تتناسب مع الجميع، وهو مبدأ أساسي من مبادئ العمل الديمقراطي، سواء على مستوى التفكير أو الممارسة أو التربية. وذلك، لأن الأمر لا يقتصر على اللعب، بل، يتجاوزه لقضايا أخرى، فمع أن الديمقراطية تعنى بحقوق الفرد (الإنسان)، ولكن لا يعني ذلك عدم احترام حقوق الآخرين في الاختيار، وبالتالي تعمل التربية الديمقراطية على ضمان حقوق الفرد، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام حقوق الآخرين عبر تطوير الحقوق الجماعية دون إلغاء للحقوق الفردية. مع أن الناس لديهم قدرات متباينة في العمل والإنتاج، فهذا لا ينقص شيئا من الحقوق " فجود قالت بفخر، انظروا هذا هو التوت الذي التقطته، لقد التقطت توتاً من أي شخص آخر" (64). ولك
المصدر
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23684