في باكورة إنتاج شاعرنا حامد أبو طلعة الشاعر المجدد ، الذي أعتبره نقلة واسعة في عالم الشعر العمودي العربي الحديث ، أتشرف أن أقدم لديوانه الأول ، فهو شاعر شديد المحافظة على شكل القصيدة وبحورها وموسيقاها ، لكنه يتفنن في رسم معالم جديدة لها بالصور الملونة الحديثة الألوان ، الوامضة الضوء ، تخطف قصائده أبصار من ينظر بنبض قلبه إليها ، وتتسمر عيناه على لقطاته الفكرية والنفسية الجديدة الرائعة ، يقول الشاعر في قصيدته :

لا إكراه في الحب
أجيبنـي : إذا شـاخ اشتياقـي
فما هي حُجَتي عند التلاقـي؟!
وما ذنبي وقـد أشعلـتِ نـارا
من الهجران تنذر باحتراقـي؟!
وما قولي ؟!وقد عجزتْ أُسـاةٌ
سوى : كلا إذا بلـغ التراقـي
وموت الحب – لو تدرين – خيرٌ
لنا مـن عيشـهِ مثـل المُعـاقِ
سأسلو عنه ، أقضي العمر حـرا
فما أحلى شعـور الإنطـلاقِ!
فلا في الحبِّ إكراهٌ ، وهـا قـد
تبيّنتْ الطريـقُ مـن النفـاقِ
فهو يرسم بريشته صورا مختلفة فيها ذوب الحب ، ومرارة الفراق ، وكراهية التقلب ، والإحساس بالكبرياء الجريحة ، مغلفة كلها بغلاف لا يسمح لغير البصير برؤية المستتر من شعوره المجروح ، والمشتاق ، والذائب حبا معا !
وهو يصف معاناته وكبراءه معا في قصيدة أخرى بعنوان : حتى ذلك الحين ، فيقول :
أظنُّ أنك يومـاً سـوف تأتينـي
تملُّ صومعة الهجـران ، لا الدِّيـنِ
فتسبق النبضَ في أضـلاعِ خائفـةٍ
من رؤية الجدْبِ في وجه الأراضينِ
تتوهُ في الشوقِ حتى لا تكاد تُـرى
تسير همساً على حـدِّ السكاكيـنِ
واللوم في جانب المشـوار تركنـهُ
تؤجل الخوض في سخف الشياطينِ
وسوف تأتي فؤاداً في اللقـاء بمـا
أماتني في سنيـن الهجـر ، يحيينـي
وتطرق العفو آنـاء الكـلام وأط
راف السكوتِ . تذيب البأس باللينِ
إذا كؤوس المعاناة التـي قطعـتْ
بالأمس حنجرتي ، أليـوم تروينـي
فهو كعادته يصور إحساسه ، وعمق جرحه ، ويتذكر أمنياته الجريحة والتي أصبحت مكسورة الجناح كسيحة ، ويصور مشية أحلامه وتصوراته همسا على حد السكاكين ، ولكنه أحيانا كان يعنف وتثور زوابع غضبه وصخب موجه ، عندما يتذكر الكيد والمكر والغدر فيقول في قصيدته : صواع الكيد :
دسَّتْ صواع الكيد بين متاعـي
إذ أذنَّتْ في الناس أين صواعي؟
هي خدعةٌ كانت دسائس ليلـةٍ
رشقتْ نقاءَ سريرتـي بخـداعِ
لحقتْ بقطعان الشياه وخلَّفـتْ
أشبالها ، هدمتْ عرينَ سباعـي
يا ليتها وقفتْ لتُدركَ بعضَ مـا
خُلِقَتْ له إذ ما دعاها الداعـي
لكنْ كعادتها مضتْ واستدبرتْ
قلباً يلوك الغيظ من أضلاعـي
يغرونها بالعذب مـن كلماتهـم
يلقونهـا بتـلـوُّنٍ وقـنـاعِ
غدر ومكر ، ولكن المكر لا يحيق بغير أهله فكانت النتيجة أو وقعت بالحفرة التي أرادت إيقاع شاعرنا بها ، وتنكر لها من حرضها على تخريب عشها بمعسول الكلام الذي لم يلبث أن ذاب ثلجه تحت وهج الحقيقة ، وهو هنا يتناص مع صواع الملك في سورة يوسف بشكل جميل سلس رائق .
والشاعر أبو طلعة أحيانا يؤرخ لنفسه ويصور حياته بشعرة وينثر قلبه على ورقه ، ويرسل رسائل مشفرة بنبضات قلبه لتلك التي تبادله الحب ولكنها لا تستطيع البوح به ، أو إظهره بسبب تعقيدات الحياة وصرامة التقاليد فيقول في قصيدته : طينة الخبال :
قلبي كقلبك بالمشاعـر يلهـجُ
لكنها سجنٌ ، فكيف المخـرجُ
كالنار من كل الجهات تلفُّنـا
مجنونـةٌ ، لمّـا تـزلْ تتأجـجُ
كالغول شيءٌ لم نجـد تفسيـرهُ
لازال مسألةً تخيـف وتحـرجُ
أو أنها حلوى بها السم الـذي
يفني، ومنظرها يسـرُّ ويبهـجُ
تبّت يداها استحكمت حلقاتها
حتـى ظننـا أنهـا لا تفـرجُ
ويتناص مع سورة المسد ، ومع حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : من شرب الخمر كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال .
وبسورة إبراهيم بذكرها شراب أهل النار ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم بشراب الزناة بجهنم ، فيقول :
حمَّالة الحطب التي ما إن تـرى
ناراً خبتْ في الخافقين تؤجِّـجُ
تعستْ ، فطينتها الخبال تصبّبتْ
بصديد أصحاب النميمة تُمزجُ
لتذوقها أفواه من شربـوا لنـا
كأس التآمر والنُّهـى تتفـرَّجُ
أمـا فؤادينـا فهاهمـا أغلقـا
باب النوى ، جعلا الهوى يتوَّهجُ
فالصلح خيرٌ ، والقطيعة خِسَّـةٌ
والحب بالوصل الجميل يُتـوَّجُ
ويصور يأسه مع حنينه المكسور ، وكرامته التي يأبى أن تكلم فيقول في قصيدته بعنوان : كوز الحنين :
قل يا زمان الشؤم إني لـم أعـد
ذاك الذي بسنين عمري تعبـثُ
أرهقتني ، مثل السراب تلوح لي
و فؤاديَ الظمآن خلفك يلهـثُ
سأعيد منهجة الحياة ، أقيم مـن
لحد السنين صفاءهـنَّ وأبعـثُ
سأكون أول من يخالـف قلبَـهُ
ويعيد ترتيب الـرؤى ويؤثـثُ
وأهدُّ بنيان الهوى فيطيـب لـي
بعد الخرافات المقـام فأمكـثُ
و أزجُّ في النسيان بالأنثى فـلا
أحتاج من تمضي الوعود و تنكثُ
مَنْ حبُها وهمٌ يصـادر نبضتـي
من خافقي ، و وفاؤها لا يلبـثُ
يا سيدي كوز الحنيـن كسرتـه
أوقاتَ كنتُ عن السعادة أبحثُ
وشاعرنا أبو طلعة وفي ، لا يغلق الباب لعودة التصافي ، قلبه كبير يمكنه تناسي الماضي والجرح الذي تسببت به هاجرته ، ويصف معاناته بسبب قسوة الأحباب ، فرغم القسوة يصفهم بالأحباب ويستعد لفتح نوافذ قلبه ، ويتجاوز معاناته ، يقول في قصيدته بعنوان : نافذات الوصل :
دقّ قلبي نافـذات الوصـل فافتـحْ
لتـراهُ بالتجافـي كيـف أصـبـحْ
هاكَ - يا ابن الناس - قلبي صار سِفْراً
من عذابٍ ، من همـومٍ ، فتصفَّـحْ
ضاقت الدنيا على مثلـي فصـدري
صـار للأحـزان والآلام مـسـرحْ
كلّ أيامـي مـع الهجـران حـزنٌ
فمتى - يا أيها القاسي - سأفـرحْ؟
أيها القاسـي علـى قلبـي رويـداً
قسوة الأحباب كالسكِّيـن تذبـحْ
لا تدعني.جئتُ فوق الشوق أمشـي
حافي القلب وهذا الشـوق يجـرحْ
كن رحيماً ، إنمـا للشـوق وخـزٌ
مثل وخز الشوك في جفـنٍ مُقـرَّحْ
جئتُ والأعذار لو تـدري حديـثٌ
من دموعٍ ، فقبـول العـذر أصلـحْ
تُبْتُ - يا ابن الناس - فاقبلني ، فإني
إن أكن أذنبتُ ذنبي منـكَ فاصفـحْ
كن كريماً - يا حبيبـي طالمـا قـد
دقَّ قلبي نافذات الوصـل - وافتـحْ
تنتهي تلك القصيدة بذوب من الحنان والشكوى ومنتهى الكرم والتسامح ، وهذا يدل على عمق ما يحمله قلبه من الحب العميق والإخلاص والتجاوز .
وشاعرنا يستخدم كل شيء من الشماعة لربطة العنق ، لوجبة الطعام في تصويره معاناته فهو يرى في كل شيء من حياته معاناة ويرى حبيبته في كل زوايا حياته ويتنفسها ويشربها ، ويصور حزنه على آثارها وخطراتها في حياته ، وبنفس الوقت يبقى حبه الرائق والراقي والجميل بعفته وطهارته ونقائه ، يبقيه في إطار من التقديس وعدم نسيان أدق التفاصيل يسترجها صورا ملونة مكسوة بحانه وشوقه وتحسره على ما فات منها ، وتلهفه لعودة المياه العذبة في جدول حياته الرقيق ، وهو يصور شعوره بتلك المرأة التي ملكت عليه جهاته حتى وهو نائم ، فيقول في قصيدته بعنوان : ليلة نوى :
من لذة النوم - يا عيناهُ - لـلأرقِ؟!
من راحة النفس للوسواس والقلـقِ؟!
ألوذ بـالآي والأذكـار إن نفثـتْ
نفّاثة الشوق في قلبـي وفـي حدقـي
زمزمتُ قلبـي بالآمـال خشيـة أن
ألقاه يركض كالمجنـون فـي الطـرقِ
أفصّل الحلـم ، أبنـي فـي مخيلتـي
منازل الوصلِ والآمـالِ فـي الأفـقِ
فتطلع الشمسُ تلو الشمـس تاركـةً
أطروحة الليل أحباراً علـى الـورقِ
أوّاهُ - يا نفس - شاء اللهُ ، لا تكني
صبّابة اللوم . يكفي ما الفـؤاد لقـي
إني غزلتُ - ونبض القلب ينهرني -
رباطة العشق ، فالتفّتْ علـى العُنـقِ
يكفينيَ البين ، لو تدرين مـا تركـتْ
شيطانة البين مـن سهـدٍ ومـن أرقِ
موائد الحب عنـد النـاس عامـرةٌ
و وجبة الآه - طول العمر - في طبقي
أعلّق الحزن - ساعات النهار - على
شمّاعة الصمت ، والأحشاءُ في الْحُرَقِ
مشيئـة الله ، مـاذا تفعليـن وقـد
هام الفؤاد وصـار الحـب معتنقـي
أرجوكِ ما اللوم - يا نفساه - يردعني
وبيعة الصبر عند الهجـر فـي عنقـي
إن المـحـبـة داءٌ لا دواء لـــهُ
غير التقلّب فـي رضوانهـا . فثقـي
هكذا أنت شاعرنا تعيش بين جدرانك الأربعة ، التذكر والحسرة والصبر وانتظار الفرج !!
أنت تعيش كما قلت في قصيدتك : حالة حب لا ينتهي !!
أخبريني كيف صار الملحُ سُكَّـرْ ؟!
كيف صار الشوكُ أعنابا ، وأثمـرْ
أيّ فصلٍ ؟! ألبس الأغصان ثوبـاً
أنبت الأشواقَ في قلـبٍ تصَّحـرْ
أيّ يومٍ ؟! صار فيه الصخـر قلبـاً
بقليـلٍ مـن جـفـاءٍ يتفـطّـرْ
صار نبعاً من حنانٍ مـن شعـورٍ
وأحاسيسٍ تحيـل الرمـل جوهـرْ
أخبريني - لستُ أدري - عن ربابٍ
في ثوانٍ صار غيمـاً ثـم أمطـرْ
عن مساءٍ صار مثل الصبـح نـورا
عن نهارٍ جانَبَ الشمـسَ وأقمـرْ
أخبريني - لست أدري - أو دعيني
كلُّ شيءٍ - فجأةً -حولي تغيّـرْ !
هكذا إحساسنا بالحبِّ ، قالـتْ .
أإلى هذا المدى ؟! ، قالت : وأكثرْ
تحيتي لك شاعرنا الروح المرفرفة فراشات ملونة ول جدول الحب لحظة انبثاق الفجر وقطر الندى ، وللقاريء أقدم ديوانا ليس كباقي الدواوين فهذا الديوان هو فكر ، وتجربة ، ونثير قلب على ورق ، ونبض عشق لا ينتهي ، وروح تتنفس في حروف الشاعر !!