سيمَاهُمْ
... فرأوه بأعين وسمعوه بآذان صدقتهم الإخبار عن حقيقته فكذبوها، وأبصرهم بعين فراسته فأفصحت له عن مخبرهم أجمعين فصدقها، ثم إنهم تمادوا كثيراً في التقليل من شأنه بينهم، وأفرطوا في تجاهله وعدم مناداته باسمه الصريح كلما حضر مجالسهم، فظلوا يبالغون في شغل أذهانهم ساخرين بما يتقلب فيه من أمور وأحوال، ولا يكفون ضاحكين ملء أفواههم عن التفكه بذكر كنيته ولقبه، بل إنهم يتخذونه مقهقهين هزؤاً في أغلب ما يدور بينهم من أحاديث أثناء غيابه ...
نعتوه بالغبي والأبله، وهو شعلة متوهجة من الذكاء، وقبس لامع من الفطنة، ومما وسموه به بريء براءة الذئب من دم يوسف، ثم رموه بما هم أهل له وليس من سيرته في شيء، وعندما رأوه يؤثر الصمت على الكلام في محله، ويبادر إلى التحدث في مقامه، نسبوا إليه قلة البضاعة وكساد السلعة، ووصفوه بالذي هم أحق به منه وأجدر، فلم يفقهوا شيئاً مما علمه واهتدى إليه، ولم يدركوا أن صمته نابع من حكمة بالغة، وجهلوا ما ينطوي عليه حديثه من رجاحة وبعد نظر ...
اليوم فقط، وبعد الذي حدث وزلزلهم، أيقنوا بأنهم كانوا غير مصيبين إذ لم ينزلوه المكانة اللائقة به بينهم، لكن اعترافهم بخطئهم، وإقرارهم بتفريطهم لم يتجاوز مسامعهم إلى سمعه، ولم يكشفوا عن وجهه النقاب إلا في حال غيابه، وبدل أن يغيروا ما بأنفسهم نحوه، أعلنوها حرباً عليه لا هوادة فيها، حقداً منهم وحسداً، فضاقوا بحضوره بينهم ضيقاً ليس عليه من مزيد، وكرهوا إثارة سيرته والنطق باسمه، فسفهوا آراءه ظلماً، وزعم بعضهم لبعض أن رأيهم هو السديد ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com