منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 9 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 84
  1. #21
    قضية التماثيل .. ووطن الأماثيل!

    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ..................................

    كتب مكرم محمد أحمد في الأهرام يوم الثلاثاء الماضي 4- 4- 2006م ؛ مقالا حول موقف مدير الجامعة الأميركية بالقاهرة ، من مواد الثقافة العربية التي قرر المدير إلغاءها من مقررات الدراسة بالجامعة ، وهي المواد المتفق عليها في " بروتوكول " بين الحكومتين المصرية والأميركية . ولم يستجب المدير لمناشدات الأساتذة والطلاب بالإبقاء على مواد الثقافة العربية مع هامشيتها وبساطتها ، وتخلى عن منهج الجامعة الذي يقوم على الحوار والتفاهم ..
    واضح أن السيد مدير الجامعة الأميركية يتحرك وفقا لسياسة بلاده الصليبية الاستعمارية التي أعلنت الحرب على الإسلام ( وليس الإرهاب لأنها أول من صنعه ورباه وغذاه) ، وراحت بالصلافة والعجرفة تأمر الحكومات العربية والإسلامية بإلغاء الإسلام من إعلامها وتعليمها ، وثقافتها وفكرها ، تحت مسمى تغيير الخطاب الديني .. ولم تعبأ أميركا الصليبية الاستعمارية – وهى التي لا تتمسك بقيم المسيحية ولا تعاليم المسيح – بأية قواعد قانونية أو مواثيق دولية في حق الدول المختلفة في المحافظة على ثقافتها وهويتها ، ومن ثم جاء قرار مدير الجامعة الأميركية ، صادما للأمة بوقاحته واستفزازه وعنصريته..
    هذا الحدث الجلل الذي يعبر عن هوان الأمة على نفسها ، لم يستوقف كتاب المار ينز في بلادنا ، ولكنهم هاجوا وماجوا لأن فضيلة المفتي أصدر فتوى تحرم التماثيل ، وتطوّح بعضهم في حلقة الذكر " الاستعماري" تعبيرا عن كراهيته للإسلام وثقافته، وراح يصف المفتي بممالأة السلفية ، والانتماء إلى طالبان ، ووصل الأمر بواحدة من إياهن إلى المطالبة أن يغلق شيخ الأزهر والمفتي فمهما ، ولا يتكلمان بل لا ينطقان بأية فتوى طالما هناك قانون ودستور يحكمان البلاد !
    كتاب المار ينز موتورون من الإسلام وثقافته ، يتعاملون مع شرائع الأرض والسماء بود وتسامح ما عدا الإسلام . يعلموننا ليل ونهار أن الغرب ليس واحدا ، وأن اليهود الغزاة ليسوا واحدا ، ولكنهم يضعون الإسلاميين جميعا في تصنيف واحد، يطلقون عليه كل ما يحمله القاموس اللغوي من معان سلبية وشريرة ورديئة وبذيئة .
    قبل فترة رفض الأنبا شنودة تزويج المطلقات والمطلقين من النصارى الذين تحكم المحاكم بانفصالهم ، لأن ذلك في رأيه مخالف للإنجيل ، ولم ينبس واحد من كتاب المار ينز ببنت شفة ، ولا أظنه يستطيع .. لسبب واحد ، وهو أن غير المسلمين يحمون شرائعهم ،ويستطيعون الرد المؤلم والموجع على من يتعرض لها . أما الإسلام فهو الحائط الواطئ الذي يقفز عليه كل سفيه وعميل وبائس دون أن يخسر شيئا ،أو يتأثر بشيء !
    وكنا نتصور أن كتاب المار ينز – ومعظمهم من اليسار المتأمرك ومرتزقة النظام – يمكن أن يكون لديهم حد أدنى من الخجل والحياء ، فيوجهون أقلامهم إلى معالجة القضايا الحيوية التي يضج الناس منها على المستويات المختلفة كافة .. ولكنهم للأسف لا يستطيعون مواجهتها مواجهة جادة ومخلصة وصادقة . فهم يعملون لحساب من صنعوا مشكلات الوطن ومن فاقموا من أزمته ومتاعبه وآلامه.. والعبد لا يستطيع أن يرفع رأسه في وجه سيده.
    لقد أصبحنا أمثولة بين أمم العالم في التخلف والعجز وقبول الذل والاستسلام لما يفعله الآخرون بنا ، وصرنا نخرج من مأزق إلى آخر ، ومن محنة إلى أخري ، وانظروا ما ذا جرى لنا على مدى شهرين فقط: موت ألف مصري في عبارة الرجل المحصّن- كارثة الطيور التي أذهبت الثروة الداجنة وأوقفت حال الناس وحرمت الفقراء من طعم اللحوم – اشتداد الغلاء وكان السكر في مقدمة السلع والتليفونات في مقدمة الخدمات ، ولن يكون الوقود الذي أعلنوا عن قرب رفع أسعاره آخر السلع ، لأنه سيشعل الأسعار تلقائيا – امتداد طابور البطالة – تبديد أموال الدولة في المظهريات وإنفاق المليارات فيما لا يفيد وفقا للجهاز المركزي للمحاسبات ...
    القوم لم يتوقف سعارهم المحموم في حملتهم على فتوى المفتي بسبب التماثيل ، ولكنهم تجاهلوا ما يعانيه المصريون من قهر واستبداد ونظام فاسد ينتفش فيه الفاسدون والمنافقون ويستأسدون ..
    إننا نتساءل : هل يأخذ كتاب المار ينز بكل الفتاوى في الأمور الإسلامية أساسا ؟ إن بعضهم لا يفيق من الخمر ، وبعضهم لم يركع ركعة واحدة .. وبعضهم لا يقبل أن يعطي فقيرا قرشا واحدا بدعوى أن الدولة مسئولة عنه، وبعضهم لا يهتز ضميره وهو يمارس الرذيلة أو يأخذ ما ليس له من أموال المسلمين .
    لقد صرنا أمثولة الأمم .. بل أماثيل في سياستنا واقتصادنا وثقافتنا وواقعنا وأخلاقنا وحاضرنا ومستقبلنا .. ومع ذلك فالقوم مشغولون بقضية التماثيل التي أثاروها في العام الماضي ، وصنعوا من أجلها مناحة ملأت الدنيا لأن رئيس حي أو مدينة لم يضع تماثيل لآلهتهم المزعومة في إحدى الحدائق ..
    ويا وطن الأماثيل .. لابد من فجر جديد.

  2. #22
    عبدالمنعم سليم جبارة.. رجل لا يحبّ الضجيج

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    .................................

    كنت كلما دخلت عليه مكتبه أداعبه بالآية الكريمة، "ومزاجه من تسنيم" (المطففين/27).. وكان يبتسم ابتسامة هادئة، ولكنها تعبِّر عن فرح عميق، فقد رزق بفتاة سماها "تسنيم" بعد ولد سماه "زياد". كان اسم "تسنيم" نادراً، ولكنه اسم قرآني جميل، صارت صاحبته اليوم عروساً في الدراسات العليا بعد أن تجاوزت العشرين.
    مرَّ الزمان سريعاً مذ قابلته لأول مرة في مقر مجلة "الدعوة" بالتوفيقية عام 1976م، كان هادئ السمت، قليل الكلام، يهتم بما هو مفيد، لا يحفل بالثرثرة، ولا يبدي انفعالاً، ولكنه يتجه نحو العمل، العمل فقط، وحوله كوكبة من الشباب، صاروا اليوم مبرزين في أعمالهم، "صلاح عبدالمقصود"، وكيل نقابة الصحفيين، "بدر محمد بدر" مدير تحرير "آفاق عربية"، "أحمد عز الدين"، مدير تحرير "المجتمع"، وغير هؤلاء من جيلهم والجيل التالي بعدهم أعداد أخرى حققت نجاحات في ميدان عملها الصحفي والثقافي والفكري، تعلمت من "عبدالمنعم سليم جبارة" وعملت معه.
    تعرفت إليه بواسطة صديقي الراحل "جابر رزق"، وكانا يديران مجلة "الدعوة" في ظل الأستاذ "عمر التلمساني" والأستاذ "صالح عشماوي" ـ رحم الله الجميع ـ وكانت "الدعوة" آنئذٍ تصدر شهرية، وتغطي مع مجلة "الاعتصام" التي كنت محرراً بها نشاط الحركة الإسلامية، وتعبِّران معاً عن رؤية إسلامية لأحداث تلك الفترة التي أعقبت حرب رمضان، والإفراج عن المعتقلين من التيار الإسلامي، والسماح بهامش من الحرية التعبيرية.. كان لي شرف الكتابة في الدعوة، وخاصة بعد إعلان مبادرة الرئيس الراحل "أنور السادات" بزيارة القدس المحتلة، والتفاوض مع الكيان الغازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة.
    توطدت معرفتي بعبدالمنعم سليم جبارة بعد ذلك، وكان هناك مفارقة طريفة، وهي أننا تزوجنا في عام واحد (عام1 978)، ثم تعاونت معه فيما بعد حين أعيد إصدار مجلة "لواء الإسلام" التي صار رئيساً لتحريرها، وكنت أتولى تحرير القسم الأدبي فيها، حتى سافرت إلى العمل بالخارج، وجاءت حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت من جانب العراق)، فأغلقت "لواء الإسلام" تحت ضغط الأحداث ومضاعفاتها، فلم أقابله إلا لماماً، ولكني كنت أتابع مقالاته المستمرة والدؤوب في العديد من المجلات والصحف: "المجتمع، الأحرار، الشعب، الحقيقة، آفاق عربية، وغيرها". وكان فيما يكتبه ملتزماً بالرؤية الإسلامية النقية التي لا تتأثر بالدعاية السائدة، ولا تنخدع بالأقوال التي تصدر عن خصوم الإسلام، كان يرى الأشياء كما يوجب الإسلام أن تُرى، لا كما يريد الآخرون أن نراها. ثم إنه يصوغها في عبارات علمية دقيقة بعيدة عن الانفعال العاطفي أو الهجاء السياسي.. فقد كان يرصد ما يراه، ثم يبدي رؤيته الإسلامية في وضوح، لا يراوغ ولا يخاتل ولا ينافق، وكانت مقالاته في معظمها تتجه نحو معالجة القضية الفلسطينية ومستجداتها على الساحة السياسية والعربية، منطلقاً من فهم محدد يؤمن أنَّ الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين واستعادة بيت المقدس.
    لقد تخرج عبدالمنعم سليم جبارة في كلية الآداب، وكان تخصصه في "الجغرافيا"، وهو ما ساعده في تحليلاته السياسية على استيعاب أحوال العالم الإسلامي، بل العالم كله، فقد كانت الدنيا تحت ناظريه يعرف تضاريسها الجغرافية كما يعرف تضاريسها السياسية، ولذا جاءت كتاباته عميقة، تشير إلى وعي جاد بما يدور على خريطة العالم.
    وكانت تجربته الإنسانية زاخرة وعامرة، مع قسوة بعض جوانبها ومراراته وبشاعته، فقد ولد في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1930م لعائلة ميسورة في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، ومكّنه المستوى المادي المرتفع لأسرته من دخول جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً). وانضم وهو طالب في ا لجامعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشارك في عمليات الفدائيين ضد المستعمرين الإنجليز بمنطقة قناة السويس في أوائل الخمسينيات، واعتقل عام 1955 وظلَّ بالمعتقل حتى أفرج عنه عام 1974م بعد أن قضى نحو عشرين عاماً ذاق فيها مرارة السجن وبشاعة التعذيب وقسوة الظلم، وقد عبَّر "نجيب الكيلاني" ـ رحمه الله ـ عن هذه المحنة في روايته المؤثرة "رحلة إلى الله"، وكان صديقاً لعبدالمنعم سليم ورفيقاً له في السجن، بعد محاكمات 1965م، وقد أشار "نجيب الكيلاني" إلى علاقته بعبدالمنعم مذ كانا طالبين في الجامعة، الأول كان طالباً في الطب، والآخر في الآداب، وسجلها في كتابه الضخم الذي ترجم فيه لنفسه "لمحات من حياتي"، وأذكر أنني حين ذكرت له بعض الوقائع التي وردت في الكتاب، وحكاها لي نجيب شفاهة، ضحك، ولم يعلق، كعادته، وكأنه يستحي أن يشير إلى ما تعرَّض له في المعتقل، على العكس من صديقه "جابر رزق" الذي سجَّل ما جرى وحدث بصراحة بالغة، وكان الهدف منها كشف الممارسات الوحشية لبعض البشر الذين ماتت قلوبهم، وهو ما عبَّر عنه أيضاً الكاتب الراحل "مصطفى أمين" في كتابه المشهور "سنة أولى سجن" وأشار فيه إلى ما أصاب المعتقلين السياسيين من تعذيب بشع!
    لقد خرج "عبدالمنعم سليم" من غياهب الظلمات وهو في الرابعة والأربعين من العمر، لم يتزوج، ودون وظيفة، فعمل في وزارة التربية والتعليم موجهاً بالتعليم الثانوي، وفي عام 1976م انضم إلى مجلة "الدعوة"، ثم أعير إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل في مجال التدريس، ويؤسس مع آخرين مجلة "الإصلاح"، ثم ترك الإمارات وعاد إلى مصر بعد سنوات.
    الميزة الرئيسية التي تميز عبدالمنعم سليم، هي أنه لا يحب الضجيج، بمعنى أنه يريد أن يخدم دينه ودعوته إلى الله في صمت، فلا يسعى إلى الأضواء، ولا يجري وراء البريق، ولا يستشعر "الأنا" التي تعبِّر عن حب الذ ات أو النفس، إلا في مواقف التضحية والبذل، حينئذٍ يقدم نفسه وروحه، في صمت ودون ضجيج. إنَّ بعض العاملين في مجال الحركة الإسلامية والدعوة إلى الله تتسلل إليهم آفة "النرجسية" أو "حب الظهور" أو "الانتفاخ الكاذب". ولكن رجلنا كان متواضعاً، أو حريصاً على التواضع الذي يدخله في دائرة الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. هو يريد أن يقول كلمته في هدوء ثمَّ يمضي، وكأنَّه لا يريد أن يعرف أحد أنه هو الذي قال، ولعلَّ ذلك كان من وراء كتابته مئات المقالات بأسماء مستعارة، حيث كانت بعض المطبوعات تحمل له أكثر من مقالة، فيوقع بأسماء مثل: أبوزياد، أبوطارق، د. سيد الفضلي، د. أحمد عبدالحميد البنهاوي، وغيرها..
    وأذكر أنَّ كاتباً يحمل اسمه ـ وهو من تيار آخر ـ احتج كتابة بأنَّ تشابه الاسمين يوقع صاحبنا في مآزق مع التيار الذي ينتمي إليه، فأضاف الراحل الكريم إلى اسمه لقب العائلة "جبّارة" دون أن يجد في ذلك غضاضة، ليفرِّق الناس بين الاسمين.
    إنَّ تواضع "عبدالمنعم سليم جبّارة" في الحياة والدعوة الإسلامية، يجعله نموذجاً للداعية الإسلامي، الذي تمكن الإيمان من قلبه، فلم تشغله زخارف الدنيا ولا عرضها الزائل، وفي الوقت نفسه يقدم درساً حياً وبليغاً إلى "المغرورين" أو "السفيانيين" الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم، ويتناسون أنَّ الخدمة في ميدان الدعوة الإسلامية تقتضي التواضع أو إنكار الذات، ليكون عملهم خالصاً لوجه الله، وأشهد أني ما رأيت الرجل يوماً يضع نفسه في مستوى فوق مستوى المسلم البسيط الذي يرجو رحمة ربه وعونه.. مع أنه كان في مواقع تتيح له أن يتيه وينتفش ويزهو ويفاخر.. ولكنه كان ينظر إلى الآخرة متخلقاً بأخلاق الإسلام والسلف الصالح.
    ولعل ذلك كان من وراء التكريم الإلهي له، وهو التكريم الذي تبدَّى عند وفاته، فقد ظلَّ واقفاً عل ى قدميه، يصلي ويتهجَّد ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهو الليلة المباركة التي يرجح العلماء أن تكون ليلة القدر، فقد اختاره الله وهو يصلي، وتمَّ دفنه يوم الجمعة، ورأى من رافقوه إلى مثواه معالم كرامات تدل على أنَّه من المقبولين إن شاء الله.
    هذا الرجل الطيب والداعية الذي ينكر نفسه، كان مثالاً للمسلم الذي يعرف القناعة والرضا بقدر الله، تقول عنه زوجته: "كان زوجي نسمة لطيفة في حياته ومماته، كان معلماً منذ أول لحظة ارتباطنا، منذ أن ارتضينا هذا الطريق نقطعه معاً إلى الجنَّة، فبدأنا بشقة صغيرة في شبرا الخيمة، ولم اشتر فستان زفاف، بل استعرت فستان أختي، وعقدنا زواجنا بمسجد صلاح الدين بالمنيل في حفل عائلي صغير، ثم فتحت علينا الدنيا أبوابها، فتدفق المال، ولكن كل هذا كان في يده لا في قلبه. لم يغيره فيض العطاء بعد طول الحرمان؛ لأنَّ قلبه قد تعلق بأمل آخر.. الجنة، رغم حياته الزاخرة لم يكن يذكر ما حدث له إطلاقاً، بل كنت أعرفه من الكتب ولا أحدثه فيه، كان يشعر بأن ما يقدمه لدعوته هو كنزه، فكان أحرص ما يكون عليه، وعلى ألا يطلع عليه أحد، فلا أذكر أنه روى لنا ما حدث معه في السجن إلا مرة واحدة، كنا نشكو من شدة الحر، فشرد ببصره قليلاً ثم قال: سبحان الله، لقد كانت تأتي على الأخوان أيام في سجن قنا نظن فيها أنَّ الموت يكاد ينالنا من شدة الحر. وإذا بالمولى عزَّ وجل يرسل ما يلطف به الجو فيخفف عنا والجنود حولنا في ذهول. وحينما كنت أرى إصابات جسده من أثر التعذيب وأسأله عنها كان ينكر بشدة ويتهرب من أسئلتي..".
    وأكتفي بهذا القدر من شهادة الزوجة الصابرة، وما تضمنته من حفظه للقرآن الكريم ودأبه على قراءته وتلاوته باستمرار.. لأقول: "إنَّ عبدالمنعم سليم جبّارة" يقدم أنموذجاً لخدمة الإسلام في صمت ودون ضجيج ودون رياء أيضاً.. رحمه الله، وجعل مست قرَّه في الفردوس الأعلى.

  3. #23
    لغة عصام الغزالي الشعرية
    لا تستعصي على بحر أو قافية .. وتقوم على معجم إسلامي

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ..........................................

    لغة الشعر عند عصام الغزالي تتميز بالسلاسة واللين والمطاوعة، وهي مثل العجينة في يده، يشكّلها كيف يشاء، دون تكلف أو عناء، ولا تستعصي على بحر ولا قافية، وهي بصفة عامة تقوم على معجم قرآني، إسلامي يلحظه القارئ بوضوح عبر قصائده، منذ بداياته حتى الآن، وذلك يعود بالطبع إلى رؤيته الإسلامية للكون والحياة، وثقافته القائمة على الوعي بالتراث الإسلامي.. إلى جانب ثقافة التخصص التي كوَّنت حياته العلمية والعملية.
    والمعجم الإسلامي يتدفق عبر المفردات والتراكيب، بل الصورة والبناء الشعري جميعاً، ويستطيع القارئ أن يطالع في معظم القصائد مفردات الطهارة والتسبيح والتوبة والتقوى والاستغفار والترتيل والصلاة والجنة والحور العين والفتوى والنور والتكبير والصبح والاغتسال والابتهال والصبر والعفة والرزق والبراءة والقضاء والشهادة والزكاة والصحابة والمنابر والبدر، والرسول { والقرآن الكريم والحرام والحلال والهلال والسلام والوضوء والكوثر والمسك والآيات والتوحيد والرق المنشور، والشفاعة والبشارة والاعتصام والفجر والصيام... إلخ.
    وهذا المعجم يعطي بلا شك إشعاعاته الإسلامية في القضايا التي طرحها الشاعر عبر قصائده أو التجارب الشعرية التي يعالجها بصفة عامة، كما أنه يعطي مذاقاً خاصاً للغة الشاعر وصياغته الشعرية، يختلف بالطبع عن المعجم العادي أو المعجم المخالف الذي يلجأ إليه شعراء آخرون، لا يؤمنون بالتصور الإسلامي، أو يؤمنون به ولكنهم لا يطبقونه في تجاربهم الشعرية لسبب أو لآخر.
    إن المفردة الإسلامية في القصيدة لدى عصام الغزالي تعطيها خصوصية من حيث البناء أو التركيب فضلاً عن الرؤية، ولعل قصيدته "عدالة الطين"، تعد من أفضل الأمثلة الدالة.. يقول فيها:
    أقاضيكم أمام الله فاحتفظوا بحجتكم إلى حين
    فلا التزيين يقنعني بموقفكم ولا التخويف يثنيني
    ولا الأوراق تجعلكم على حق بأصباغ وتلوين
    ولا العدل الذي أرجوه عندكم فأطلب منه تمكيني
    @@@
    أحاسبكم أمام الله فانتظروا سيحييكم ويحييني
    ويوقفنا ويسأل وهو علاَّمٌ.. ويفصل في البراهين
    @@@
    أقاضيكم وحسبي اليوم أن خاصمتُ في رفق وفي لين
    وحسبي الله في تأجيل مظلمتي وفي إهدار تأميني
    أقاضيكم.. وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين.(1)
    إن القصيدة تطرح فيما يبدو مظلمة خاصة وقعت على الشاعر، ولكنها في الإطار العام تناقش قضية أوسع تتعلق بالعدالة المطلقة، والعدالة العرجاء أو العدالة الظالمة التي لا تشفي غليل المظلومين، والشاعر يعلن هنا ثقته في العدالة المطلقة التي تتم أمام الله سبحانه، ويسحب هذه الثقة من العدالة العاجزة التي يكنِّى عنها بعدالة الطين، وبين "الثقة" و"سحب الثقة"، نجد المعجم القرآني أو المعجم الإسلامي يحكم البناء الشعري، مفردة وتركيباً وتصويراً.
    إن الشاعر يبدأ قصيدته بجملة "أقاضيكم أمام الله"، والظرف "أمام" يحسم المسألة ويعطينا ما نسميه بثقة الشاعر في العدالة الإلهية، وبالتالي "سحب ثقته" في العدالة الدنيوية العاجزة عن الوفاء بالحقوق. ولفظ الجلالة المضاف إليه يؤكد وجوده في التركيب على انتماء الشاعر واعتقاده، لذا فإن ثقته المطلقة في ربه تقول لخصومه "فاحتفظوا بحجتكم إلى حين"، كأنه ينبههم إلى أن العدالة الدنيوية وإن حكمت لصالحهم فلن تلغي بحال العدالة الآخروية التي تتم بين يدي الله. ثم نرى الشاعر يؤكد على ثقته بالعدل الإلهي من خلال رفض الخوف والتزييف والتزوير.. ولا "الأوراق تجعلكم على حق.."، بل إنه يكرر أن العدل الذي يرجوه ليس عند هؤلاء الدنيويين الذين يستخدمون الترهيب والترغيب.
    وفي خطاب الشاعر لظالمه ما يؤكد أيضاً على إيمان واثق بالبعث والحساب الدقيق يوم الحشر، "فانتظروا سيحييكم ويحييني"، وهو إيمان واثق بأن الله علاَّم الغيوب يعلم السر وأخفى: "ويوقفنا ويسأل وهو علاَّم.." وهو إيمان واثق يدل عليه تكرار لفظ الجلالة أربع مرات، وتكرار الضمير العائد عليه أكثر من مرة، والإتيان بوصفه الدال عليه "علاَّم".. هذا الإيمان الواثق يزرع الأمل في نفس الشاعر التواقة إلى العدل الحقيقي، والرافضة للعدل الخادع الذي يصنعه التخويف والتزوير والتزييف... ومن ثمَّ، فإن مخاصمة الشاعر لظالميه في رفق ولين لا تعني أن حقه قد ضاع، وإنما سيأتي في يوم مشهود.. وفي هذه المرحلة، فإنه يكتفي بربه... "وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين".
    إن الإيمان الواثق بعدالة الله يختلف عن غيره من السلوكيات والمعتقدات، ولو تصورنا شاعراً غير واثق بالعدالة الإلهية، يواجه هذه المظلمة، فإن المرجح أنه سينتقم من الظالمين الذين "أهدروا تأمينه"، أو على أحسن الفروض سينخدع بتزييفهم ويستسلم لهم، وكلا الأمرين لا يتفق مع الرؤية الإسلامية.
    شفافية وطهر
    وفي قصائد "عصام الغزالي" معجم يفيض شفافية وطهراً، وصفاء، ولعل قصيدته "تركة تاجر مسك"(2) من خير الأمثلة على ذلك، وهي تنقلنا إلى أجواء الزهادة والطيبة، وتأمل دلالة "المسك" على رائحة من نوع خاص، ترتبط غالباً بالمسجد وروَّاده، وأذكر ونحن في زمن الطفولة البعيد، كان هناك من يأتون إلى مسجد القرية ويوزِّعون علينا عطر المسك، أو يحملون صناديق خشبية لها باب من الزجاج، تضم أنواعاً مختلفة من العطور، أبرزها المسك، يعرضونه للبيع، وكنا ونحن أطفال نمد أيدينا للبائع كي نصيب شيئاً من روائحه مجاناً، وقصيدة "تركة تاجر مسك" رثاء لراحل عزيز هو والد الشاعر، ويمكن أن تحمل دلالة رمزية دون افتعال بدءاً من مطلعها الذي يقول فيه:
    يا تاجراً للمسك لا في السوق بالمال
    خلَّفت ريح المسك في الذكرى وفي الآل
    فارقتني والدمع في عيني محتبسٌ
    لكن ريح المسك حولي أصلحت بالي
    كما أن القصيدة تحمل معجماً دالاً على الشفافية والطهر والصفاء، ويتردد في جنباتها مفردات: الآيات، القرآن، البعث، المصحف، صوت الحق، التنزيل، النور، الترتيل، ظل الله، العفو، الإقبال، الربح الإلهي، الدين، الخروج من الضيق، المحراب، بيت العلم والقرآن، فضلاً عن العطر والمسك وحاملهما... وتأتي أهمية هذا المعجم من أن الشاعر يطرح من خلاله مفارقة التركة التي تشمل متاعاً دنيوياً، والتركة التي تحمل ميراثاً من القيم والمثل العليا، فضلاً عن الدين، وهذا ما تركه الراحل العزيز:
    يا حافظ التنزيل في صدر وفي شفة
    يرقى بك الترتيل من حال إلى حال
    والنور حول الوجه من رفق ومن دعة
    والظل ظل الله من عفو وإقبال
    خلّفت ما خلَّفت من دين وتربية
    أحن على الأبناء من عمٍّ ومن خال
    أغنيت من قدَّرت أن الله مخرجهم
    من كل ضيق نالهم من غير إذلال
    يا تاجراً للمسك إرث المسك ثروتنا
    تربو مع الإنفاق من علم ومن مال
    ثراء لغوى
    وتبرز أهمية المعجم الإسلامي في الشعر هذه الفترة خاصة، حين نعلم أن المنشور على الساحة الأدبية أو معظمه، يبدو بعيداً عن هذا المعجم، بل معادياً له، بل معادياً للذوق العام، ولست في حل الآن من إيراد نماذج له، ولكن الشاعر مع اهتمامه بالمعجم الإسلامي في الإطار الشامل، يستفيد بالمعجم الشعبي والمعجم العلمي، وكلاهما ليس نقيضاً للمعجم الإسلامي، بل داعم له، وصانع مزيداً من الثراء اللغوي والشعري.. ويلاحظ أن كمية المستخدم من المعجمين تبدو قليلة..
    ويبدو المعجم الشعبي في أفضل استعمالاته مقروناً بالحديث عن الوطن، والتعبير عن حبه، وتظهر مفردات وتركيبات "ترعة الكفر"، وروضة التوت" و"حظيرة الدواجن"، و"الشطوط"، و"الطبلية"، و"القلة"، و"الموت في الوطن".. عبر قصيدته "مصر 1970م"(3) لتقدم نوعاً من المقاومة في وجه الهزيمة والضياع السائدين في تلك الفترة، يقول الشاعر:
    أنا فيك يا بلدي أموت.. فلا أموت ولا العشيرة
    أنا من ترابك زهرة مالت عليه لكي تنيره
    @@@
    أنا ترعة الكفر العجوز وهامة البرج الشهيرة
    وأنا المآذن والنخيل ودوحة التوت الكبيرة
    أنا حين تجمع أسرة "طبلية" عند الظهيرة
    أنا في تماثل من يخفُّ إذا القلوب أتت سريره
    في "قلة" الماء التي يطفي الظميّ بها الهجيرة
    أنا في عيون هريرة.. وعطاء سنبلة فطيرة
    أنا مصر تشرق في ابتسامة طفلتي ذات الضفيرة
    إن المعجم الشعبي يشير إلى تجذّر الانتماء الوطني، وتداخله في النسيج الشعوري، لدى الشاعر، فالمفردة الشعبية ليست مجرد ديكور يزين به أبياته، ولكنها دلالة على عمق نفسي وروحي يربط ما بين الشاعر والوطن.. تأمل "قلة الماء" التي يستخدمها المصريون، وخاصة في القرى، لتبريد ماء الشرب منذ آلاف السنين، ودلالتها في التعبير عن خصوصية الوطن، تجد أنها نقلت القصيدة مع مثيلاتها من المفردات والتركيبات الشعبية من تعبير مجرد إلى تمازج واندماج بين الوطن والمواطن، أو بين الشاعر والوطن.
    مفردات عصرية
    أما المعجم العلمي أو العصري، فقد ورد في قصيدة واحدة يحمل عنوانها دلالة علمية عصرية أيضاً، وهو "سوق اللدائن"(4)، واللدائن هي المصنوعات البلاستيكية التي ظهرت في عصرنا، وهي مرادف لمفردات شتى، مثل التضخم والأشعة والكهرباء والشرائط والمعارض والسرعة والأضواء، والشاعر يستخدم المفردات العلمية أو العصرية للمقارنة بين نوعين من القيم.. قيم الخير وقيم الشر، والقصيدة في مجملها إدانة للعصر وتقلباته التي تكون غالباً ضد الإنسان، يقول في مطلعها:
    يا عصر فلسفة "البلستك" والغثاء
    من لي بعودة فلسفات الأقوياء؟
    عصر التضخم، والصراخ، طغى على
    القيم الجميلة ضاحكاً في كبرياء
    عصر اللدائن، والأشعة، والجنون
    والانتحار تقدماً، والكهرباء
    هل عالم هذا الذي أحيا به
    أم غابة الإنسان: حقد واعتداء؟
    وإذا كانت "سوق اللدائن" تحمل دلالة عصرية، فإن العديد من عناوين قصائد عصام الغزالي تحمل الدلالة ذاتها، ويكفي أن نطالع مثل هذه العناوين في مجموعة شعرية واحدة من مجموعاته: رقص بالقنبلة، أوراق اعتماد، شد الرحال، قصيدة بقلم كاتم الصوت، كتابة التاريخ بالأرجل، مرثية رجل في جهنم، فات ميعاد العمل، خواطر مواطن في حديقة الحيوانات(5)، والعناوين في مجموعها تنبئ عن معايشة شاعر لمجتمعه معايشة حميمة، كما تخبرنا عن معاناته القاسية في بعض الأحيان مما يجري في هذا المجتمع.
    الهوامش:
    ..............
    (1) هوى الخمسين، ص89.
    (2) أهددكم بالسكوت، ص102 وما بعدها.
    (3) لو نقرأ أحداق الناس، ص40 41.
    (4) دمع في رمال، ص 38 39.
    (5) انظر صفحات 12 14 20 65 84 103 104 على التوالي في مجموعة "دمع في رمال".

  4. #24
    عصام الغزالي.. هارب من الأضواء!

    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ...................................

    هذا شاعر من طراز خاص، درس الهندسة، وتخرج في جامعة القاهرة، 1972م، ثم درس علوم الدين والشريعة الإسلامية، وتخرج في كلية أصول الدين بالرياض عام 1398هـ 1978م، فهو يمزج في ثقافته بين العلم والدين، وبين التجربة والوحي، ويملك بهذا أفقاً عريضاً ومتسعاً للرؤية والتصور، وإذا أضيف إلى ذلك حس فني مرهف وموهبة شعرية ساطعة، أدركنا لماذا هو شاعر من طراز خاص.
    وأحمد عصام الدين الغزالي خليل، أو عصام الغزالي، كما يعرف بين الأدباء والشعراء، من شعراء السبعينيات في مصر، وينتمي إلى الشعراء الذين سميتهم "بالورد" في مقابل من سميتهم "بالهالوك"، وكان بودي أن أخصص له فصلاً في كتابي "الورد والهالوك" ـ صدرت منه طبعتان: 1993م، 1994م ـ لولا ظروف حالت دون أن تكون دواوينه تحت يديَّ.
    وقد أنتج عصام الغزالي شعراً كثيراً ضمته خمس مجموعات طبعها جميعاً على نفقته الخاصة وهو من المميزات التي تجعله طرازاً خاصاً مع أن هناك من دور النشر فيما أعلم من يرحب بنشر إنتاجه، ولكنه آثر أن يوزع شعره من خلال دار الوفاء في المنصورة، وهي المدينة التي ولد فيها عام 1945م، ويعيش فيها حتى الآن.
    ومجموعاته الخمس هي "الإنسان والحرمان" 1970م، "لو نقرأ أحداق الناس" 1978م، "أهددكم بالسكوت" 1994م، "دمع في رمال" 1995 (إصدار ثان) ثم "هوى الخمسين" 1999م.
    وعصام الغزالي يأخذ موقفاً من الحركة الأدبية، أو تأخذ منه الحركة الأدبية موقفاً، فهو يعيش مثلي بعيداً عن أضواء القاهرة وصحافتها ونقادها، ويستشعر تبعاً لذلك أنه مظلوم، ومعه حق، مع أن كاتباً صحفياً كبيراً كتب عنه في عموده اليومي، ولكنه يحتاج مع ذلك إلى ناقد متخصص يغازل شعره أو يطارحه الدرس والنقد، ثم إن رؤيته الإسلامية التي تتضح في شعره تجعل الحركة الأدبية
    ومعظمها مشدود إلى تصورات مغايرة تتجاهله ولا تحتفي بموهبته، وفي داخل هذه الحركة من لا يلتفت إلى التصورات أو القيمة الفنية أساساً، بل يعتمد على ما يمكن تسميته بالعلاقات العامة وخاصة في مجال النشر والتعريف، وعصام الغزالي من النوع الذي ينفر من هذه العلاقات... فهو يعتز بذاته اعتزازاً كبيراً، يجعله يترفع عن استجداء الاهتمام بشعره وطلب التعريف به.. هذا وغيره من الأسباب جعل شعر عصام الغزالي بعيداً عن قطاعات عديدة من الجمهور، وإن كانت القطاعات التي قرأته وعرفته قد تمسكت به شاعراً مرموقاً له خصائصه الشعرية، وسماته الفنية.
    وبصفة عامة، فإن شعر عصام الغزالي يدور حول محاور عديدة، منها ما هو تقليدي مثل الغزل والرثاء والإخوانيات والتوبة والاستغاثة والهجاء والغربة، ومنها ما هو مستجد ومستحدث مثل المواجهات الثائرة الغاضبة الحالمة ضد عناصر القهر والاستبداد والطغيان ثم مطالبته بالعدالة الاجتماعية، ورفض العنصرية، ولا ريب أن الشاعر يعالج محاوره معالجات متفاوتة، منها ما هو أقرب إلى الرصد والتسجيل، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى طرح الحلول والإجابات، ولكن الرؤية بشكل عام محكومة بالتصور الإسلامي، الذي يصل بالشاعر أحياناً إلى حد الزهادة في الحياة. ويصوغ الشاعر تصوره أحياناً في إطار يذكرنا بشعراء الزهد في العصر العباسي، خاصة شعر أبي العتاهية، في قصيدته "قالت لي الريح" يقول:
    لا شيء تحميه البيوت
    الكل: من يحيا يموت
    المد يتبعه انحسار والبريق له خفوت
    الحال ظل، يستحيل له دوام أو ثبوت
    في آخر اللحن المغرد سكتة.. قبر صموت
    الرزق في بحر تصارع فيه ملاح وحوت
    وكلاهما في البحر مبتلع وللأمواج قوت
    والرؤية الإسلامية في شعر عصام الغزالي تستوجب دائماً الاستعانة بالحق سبحانه وتعالى، والتوبة والرجوع إليه، وما أكثر القصائد التي يبتهل فيها الشاعر إلى البارئ سبحانه أن يعينه ويلطف به، وأن يحميه من الفتنة، وأن يساعده على العفة، وأن يتمم له ومن معه النور:
    غريبان طوبى لنا يا أبي
    وفي عالم الظفر والمخلب
    تعبنا وجئنا نريح الخطى
    ونستاف عطراً بأرض النبي
    فيا رب أتمم لنا نورنا
    بأيماننا ساطع الكوكب..
    وفي قصيدته "في نور التوبة" يقف أمام ملك الملوك، ويهرول ملبياً ويقول:
    ملك الملوك أتيته ومهرولاً لبيته
    من سار في طلب الهدى فالله هذا بيته
    ألقٌ توضأ بالجلال من المهابة سمته
    إنا يبشرنا كتابك، والكتاب تلوته
    ودنوت للحجر الذي لولاك ما قبلته
    وغمرت صدري من تدفق زمزم وعمرته
    فاقبله سعياً في سبيلك دون ذنبي سقته
    وانفحه نوراً ملء قبر موحد.. لك موته
    واجعله عوناً للضعيف على صراطك فوته
    ولا يعني ذلك أن الشاعر يعتزل الناس أو المجتمع، فزهده والتزامه باب الله، لا يمنعانه أن يغوص في أعماق الواقع غضباً وسخطاً وتمرداً وثورة، ولعل مجموعته "لو نقرأ أحداق الناس" تعطينا دليلاً على هذا الغوص، فقد كانت قصائد المجموعة قبل حرب رمضان 1393ه، تضج بالرفض للهزيمة العسكرية في جبهات القتال، والهزيمة الداخلية في الوطن، فضلاً عن هجاء المهزومين وتعرية سلبيتهم، وفضح تخاذلهم، ولنقرأ على سبيل المثال قصيدته: "برقية إلى ربان سفينة تغرق" التي كتبها ضمن منشورات اتحاد طلاب هندسة القاهرة عام 1972م يقول فيها:
    زميلك وسَّع شرخ القنوط
    و"مات" وعقّد كل الخيوط
    وخلَّى الحمولة وشك السقوط!
    إذا كان يمكن فتح الخطوط
    توجّه سريعاً لأدنى الشطوط
    تماسك.. تحرك قبيل الهبوط
    أخاف عليك من "الأخطبوط"
    وبالطبع، فإن الشاعر يعيش مثل جيله، غربة زمانية حادة، قسوتها تفوق قسوة الغربة المكانية، ويزيدها قسوة غربة الشعر أيضاً في "زمان غريب" فالشاعر يمزج بينه وبين الشعر حتى يصيرا كياناً واحداً:
    أنا الشعر، أرخوا عليَّ الستارا
    فإن الزمان الجميل استدارا
    غريب أنا، في زمان غريب
    كطفل رأى وجهه المستعارا
    فبيني وبين المرايا قناع
    وبيني وبين العيون الحيارى
    فهذا زمان "الجناة الضحايا"
    وهذا زمان "البغايا العذارى"!!
    ولعل في النماذج السابقة، ما يكفي لبيان رؤية الشاعر وتصوره للعالم والكون من حوله، حيث يقدم لنا الشاعر القابض على الجمر الذي يدفع ثمن قبضة حريقاً وألماً، ولكنه لا يتراجع، في الوقت الذي نجد فيه من ينكرون شيئاً اسمه الوطن أو القيم، تفتح لهم أبواب النشر والمؤتمرات الخارجية والداخلية، ويحظون أيضاً بالدعاية الإعلامية!.

  5. #25
    المآذن الكيدية !

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ..................................

    مشكلة كتاب المارينز وأشباههم من كتاب اليسار المتأمرك وكتاب لاظوغلي ، أنهم لا يستطيعون إخفاء مشاعرهم العدوانية ضد الإسلام والمسلمين . هم ليسوا علمانيين ولا ليبراليين ، ولا يساريين حقيقيين ، ولكنهم عدوانيون وكفى ! عدوانيتهم لا تتجاوز الإسلام والمسلمين إلى آخرين ، لأنهم لا يجرءون ، ويعرفون ماذا سيحدث لهم لو فعلوا ، ومهما ارتدوا من أقنعة الموضوعية والاستنارة والحرية ، فهم لا يسمحون أبدا للإسلام أن يكون شريكا، مع أنه صاحب البلاد ، ودين الأغلبية الساحقة ، ودين السلام والتسامح الذي يقبل جميع المخالفين الذين لا يقبلونه ولا يترفقون به بل لا يعاملونه بالمثل ، أو كما يعاملون اليهود والنصارى والبوذيين والصابئة والهندوكيين وغيرهم !
    لقد استغل بعضهم حادثة الإسكندرية , وخروج متطرفي النصارى بالسيوف والسنج في الشوارع ، وقتلهم مسلما عجوزا استجارت به امرأة لحمايتها ، فراحوا يكيلون الاتهامات للمسلمين وللإسلام ، ويرددون الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن الدولة الدينية (!!) التي نعيش فيها ، ويلعب فيها البعض باسم الدين أو يستخدمه وفقا للهوى ، مع أن دستورنا كما يقولون يؤكد أننا دولة مدنية !ثم راحوا يكررون حديثهم عن بناءا الكنائس وتكافؤ الفرص في الوظائف بين المسلمين والنصارى والتمييز ضدهم في وظائف المحافظين ، ثم يشيرون إلى ما يسمى أشرطة الكاسيت " الحقيرة " في الميكروباص وسيارات الأجرة التي تشكك في عقيدة النصارى الدينية وتسخر منها ، ومناهج التعليم التي غيرت الأسماء المشتركة في كتب القراءة من عادل وسعيد التي يتسمى بها المسلمون والنصارى إلى أسماء إسلامية صريحة حاسمة .. ثم يدعى هؤلاء أن تحويل المسلم من دينه إلى النصرانية يدفعه إلى تغيير المكان بل إلى الهجرة من مصر ، وينتهي هؤلاء الكذابون إلى ضرورة مواجهة ما يسمى كتب الفقه الشعبية ذات الطابع الوهابي .. حتى يتم القضاء على تعصب المسلمين ضد النصارى وتحقيق المواطنة الحقيقية .
    واحد من كتاب المارينز المتحول عن اليسار المتأمرك يرتدي مسوح الشجاعة ليقول آن الأوان أن نتحدث بوضوح ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ، وقد أثمرت شجاعة المذكور عن اقتراح قانون موحد لدور العبادة بدلا من هذه " المآذن الكيدية " (!) التي ترتفع فورا ، وتسابق الزمن كلما بنيت ولماذا لابد أن يكون الجامع مواجها للكنيسة على هذا النحو الاستفزازي – حسب تعبيره؟؟
    المآذن الكيدية مصطلح خسيس دنيء صعقني ، لا يقوله إلا عدو للإسلام ، أو لا يسكن هذا الوطن ، أو ينتمي إلى شرائح خونة المهجر الذين يرتزقون بمعزوفة اضطهاد النصارى المزعوم في مصر !
    " المآذن الكيدية !" في بلد سكانه كلهم مسلمون بالعقيدة أو الثقافة عدا فريق التطرف النصراني ، وفريق الخونة الذين يرفعون الأجندة الأميركية ، وفريق العملاء الصرحاء أو المستترين ! وهم بحمد الله قلة قليلة ، ولا قيمة لهم ، ولو استقووا بأميركا أو لاظوغلي ، وكتبوا في الصحف وتكلموا في أجهزة إعلام ينفق عليها المسلمون أو دافعو الضرائب .
    كيف تكون المئذ نة كيدية ، والمسلمون يرفعونها في بلدهم ، في الوقت الذي يرفع فيه المتطرفون النصارى أبراج كنائسهم ببساطة متناهية مع دعم حكومي ودعم أميركي أيضا؛ مع أن الكنائس تفيض عن حاجة النصارى ، ولا تمتلئ بروادها حتى في أيام الأعياد والمناسبات ، وبعضها في المدن الجديدة ما زال مغلقا لعدم وجود رواد !! هل صارت قضية بناء الكنائس قضية القضايا ، أما المآذن فهي " كيدية " حسب زعم كاتب المارينز؟؟ !!إن الكاتب الذي يتملق النصارى ليحصل على منصب صحفي غير مرموق في جريدته الماركسية المتأمركة يسب الإسلام والمسلمين ، ويتهم المجتمع المصري بالتمييز ضد النصارى من خلال الأسطوانة المشروخة ؛ وينسى أويتناسى أن القلة النصرانية المتطرفة وهى تتحرك مستقوية بأميركا الصليبية الاستعمارية ،قد تجاوزت حدود المواطنة ، بعد أن أطمعها النظام البوليسي الفاشي ، فراحت تدعي أنها صاحبة الوطن ، وأن المسلمين غرباء، وأن اللغة القبطية يجب أن تحل محل اللغة العربية ( لغة الغزاة !).

    لو أن الكاتب المغمور الذي يريد أن يصعد على سطح الشهرة بسب الإسلام والمسلمين ، طلب الحقيقة ؛ لعرف أن حكومة الولايات المتحدة تدعم التطرف النصراني ،وتحارب الإسلام والمسلمين في التعليم والإعلام والصحافة ، وتفرض على حكومة القاهرة عدم تعيين أي مسلم – يعرف دينه وليس شيوعيا أو أرزقيا أو لاظوغليا – في الإذاعة أو التلفزيون أو الصحف القومية أو القضاء أوالجامعة أو الجيش أو الشرطة .. بل تمنعه من دخول النقابات والنوادي ..
    هل تقدر حكومة القاهرة أن تعتقل نصرانيا في الفجر كما تفعل مع العشرات بل المئات من الأخوان المسلمين والحركات الإسلامية والناشطين السياسيين في الأحزاب وحركات المعارضة الأخرى ؟
    ليت الكاتب المنافق الأفاق المغمور في الصحيفة الحكومية الميتة يبحث عن طريق آخر للشهرة غير طريق الكذب والادعاء ، لأن مثقفي الميكروباص من أمثاله لا قيمة فكرية أو أدبية لهم ، فهم أبواق تردد ما يملى عليهم من دهاقنة الشر والكيد ، ولو كان كذبا صراحا ، دون أن ينظروا حولهم ، ويعرفوا الحقيقة التي يزعمون التحدث باسمها ، وكنت أتمني أن يقارن فقط بين شرائط الميكروباص " الحقيرة " التي يزعم أنها تهاجم النصرانية – وهو كذاب أشر – مع ما تبثه القنوات الفضائية الصليبية التي يقوم عليها متعصبون عملاء ، يفترض أنهم ولدوا على أرض مصر . ولكن الكذاب أعمى ؛ يرى القشة في عين غيره ، ولا يرى العمود في عينه وعين من يدافع عنهم . ولنا عودة إن شاء الله .


    </i>

  6. #26
    أزمة القضاة .. وكتاب لاظوغلي!

    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ....................................

    شاهد العالم جموع الشعب المصري وهي تتعرض للضرب والسحق على أيدي جيوش الأمن المركزي وفرق الكاراتيه الأمنية التي ترتدي ملابس مدنية . وشاهد هذه الفرق وتلك الجيوش وهي تسحل الناشطين وتضربهم بالجزمة ! كما شاهد شوارع وسط القاهرة، وقد أغلقتها لوريات البوليس وملأتها خوذات الجنود ورشاشاتهم وبنادقهم ! كل ذلك لمنع الشعب المصري من مؤازرة القضاة الشجعان ، ومساندتهم ضد النظام البوليسي الفاشي الذي حول مصر إلى عزبة خاصة يتحكم فيها ، وفي مقدراتها كيف شاء ، دون أن يدرك ما يدور حوله في العالم ،وما يدور داخل الشعب المصري من سخط وغضب وثورة .. ويظن أن " النبّوت " سيحميه ويبقيه إلى أبد الآبدين .
    لقد انتصر القضاة الشرفاء في المرحلة الأولى من نضالهم الوطني ضد النظام البوليسي الفاسد ، وانتزعوا براءة أحد المستشارين ، وبدءوا مرحلة جديدة لإثبات استقلال القضاء ، وحفاظه على القانون واستعادة كرامته التي أهدرها الجلادون في الانتخابات ، وشوارع وسط البلد بضرب القضاة في اللجان الانتخابية أو سحلهم في الشوارع .
    القضاة ميزان العدالة ، والعدل صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ونظام الكون ، لا يستمر إلا إذا قام على العدل، وهناك عبارة خالدة نحفظها جميعا ، وهى : العدل أساس الملك – أي أساس الحكم ، وأساس الحضارة – ولكن النظام البوليسي الفاشي يصر على أن يقوم بناء الوطن على الظلم والمحسوبية والفساد والاستبداد ، ولا يعنيه أن يهان قاض أو أستاذ جامعي أو محام أو مهندس أو طبيب أو طالب أو مواطن عادي.. الوحشية التي يوجهها النبّوت هي القول الفصل في منهج النظام البوليسي الفاسد ، وبعدئذ لا يهم أن يكون الوطن مستباحا للصوص الكبار والمنافقين والأفاقين وشهود الزور وأبواق البهتان والغرباء الطامعين .. بل لا يهم أن يقدم الوطن بثرواته ومعتقداته وأناسه هدية للأعداء والمتربصين تحت مسميات شتى!
    بيد أن ظاهرة شاذة وغريبة فجعت الأسماع والأبصار ، وهي قيام كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص بإهانة القضاة في الصحف والقنوات التلفزيونية ، دون خجل أو حياء ، واتهامهم بأنهم قلة خالفت القانون(!) وتحدثت في وسائل الإعلام ، واشتغلت بالسياسة ، وهو محض كذب وافتراء لا أساس له من الصحة بدليل براءة أحد المستشارين المحالين إلى مجلس الصلاحية بهذه التهم . ثم كان الاتهام البوليسي الذي ألح عليه كتاب لاظوغلي وأبواقها في الصحف والتلفزيون ، وهو تحرك القضاة بناء على تخطيط الإخوان المسلمين ودعمهم ! وكأن القضاة دمى يحركها الأخوان دون إرادة أو رغبة !!
    ألح كتاب لاظوغلي في الصحف الحكومية ، وفعل مثلهم مثقفو الميكروباص من خدام السلطة في القنوات التلفزيونية الأرضية والفضائية ، على علاقة الأخوان بالقضاة ، مما يوحي بأن الأخوان يحركون الأحداث في كل اتجاه ، حتى القضاء يحركه الأخوان ليحصدوا مقابلا لهذا التحريك ، أو الدعم !وكأن القوم يدارون بهذه الاتهامات عار القبض والضرب والسحل للأخوان في شوارع وسط البلد .. ياله من نفاق ، ويالها من وحشية !
    إلى هذا الحد وصلت إهانة كتاب لا ظوغلي ومثقفي الميكروباص للقضاة ، وما دروا أن القضاة يملكون إرادتهم ملكية كاملة ، وأنهم في جمعيتهم العمومية ، وناديهم ، وهم يكافحون منذ عشرين عاما من أجل استقلال السلطة القضائية ، وإبعاد هيمنة السلطة البوليسية الفاشية عن مقدراتها ، وقد قام الشعب المصري بدعم القضاة ومؤازرتهم ، لأنهم قاموا بواجبهم في الدفاع عنه ، وعبروا عن رغباته وأمانيه في إلغاء قانون الطوارئ والقوانين سيئة السمعة ومحاسبة المزورين في الانتخابات التشريعية الأخيرة ولو كانوا من بينهم ، وأيضا محاسبة الجلادين الذين اعتدوا على بعض القضاة وحبسوهم مثل الدجاج ، سواء في لجان الانتخابات أو أمام ناديهم بالقاهرة ، فضلا عن المطلب الأساسي ، وهو إصدار قانون السلطة القضائية الذي أعده القضاة بأنفسهم ، وليس الذي أعدته الحكومة . إن كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص تجاهلوا اعتداء الجلادين من أفراد البوليس الفاشي على القضاة في لجان الانتخابات وسحلهم لأحد القضاة ووضع الحذاء على وجهه أمام نادي القضاة ، وشحنه في " بوكس " الجلادين ، ولم يشفع له أنه مستشار ورئيس محكمة!
    إني أتمنى من نقابة الصحفيين أن تحاسب كتاب لاظوغلي ومثقفي الميكروباص الذين أساءوا إلى القضاة ، وشاركوا في الحملة البوليسية الفاشية ضد أشرف رجال الوطن؛ الذين تعتز بهم مصر وتفخر منذ زمان بعيد أثبتوا فيه قدرتهم على قول الحق وإحقاق العدل ، ولو كان بيع السلطان في المزاد ، كما فعل العز بن عبد السلام رضي الله عنه .

  7. #27
    مسألة بقاء ، وليست مسالة سلام!

    بقلم: د. حلمي محمد القاعود
    ................................

    شغلنا القاعدون عن الجهاد ، والموالون لأميركا واليهود، وكتاب المارينز ،وكتاب لاظوغلي ؛ عن النظر إلى المستقبل الذي يستعد فيه الغزاة النازيون اليهود لجولة أخرى من القتال ضد العرب والمسلمين في لبنان وخارجه، تعيد لجيشهم هيبته المحطمة وقدرته المكسورة .
    شغلونا بنظرياتهم وأفكارهم وأحكامهم بتكفير هذا الحزب أو ذاك ، وعدم شرعية مساندة هؤلاء المقاتلين أو أولئك ، والدخول إلى معمعة التنقيب عن العدو الحقيقي للأمة ؛ هل هو إيران الصفوية أم أميركا الصليبية ؟ وأخذوا يحدثوننا عمن ساند الأميركا ن الغزاة في حربهم ضد العراق وأفغانستان ، وتناسوا من جعلوا أراضيهم ومياههم وسماواتهم قواعد عسكرية وممرات جوية وبحرية للغزاة المجرمين ..
    وتباروا في تحديد من انتصر ومن انهزم ، وأقسم بعضهم بالأيمان المغلظة أن حزب الله جلب العار والشنار للأمة ، لأنه ظل يدافع عن لبنان ، ويضرب اليهود في أعماق معاقلهم 34 يوما تحت قصف الفانتوم 15، 16 ، 18 ، وبوارج ساعر 4، 5 ، ومدفعية الميركافاة ، ولم يهرب من الميدان .. ونسي القوم أن شعبية حزب الله ورئيسه حسن نصر الله ؛ فاقت كل التوقعات على امتدد العالم الإسلامي بسنته وشيعته و،ومسلميه ومسيحييه ، باستثناء تحالف 14 آذار ، وحكومات العرب ، وخونة المهجر ..
    ومن غرائب هذا الإشغال أن القوم كانوا مهمومين بقضايا فرعية ونشرها على أوسع نطاق في الوقت الذي كانت طائرات العدو تدك فيه الضاحية الجنوبية لبيروت وبنت جبيل وبعلبك ومرجعيون وغيرها ، فأي عقلية تلك التي تترك دماء الشهداء ، وأطلال الدمار وقوافل المهجرين ، وتهتم بحكم فك السحر بالسحر ، وإلغاء خانة الديانة في البطاقة الشخصية والوثائق الرسمية ، وفتوى المفتي حول التماثيل وسرد الشتائم والسخرية التي وجهت له ، ونشر ثقافة السلام في ربوع الأوطان المهزومة المنكوبة بالفساد واللصوص الكبار والصغار ، الموعودة بالنكبات وحوادث الطرق والعبّارات والقطارات ؟
    ويدخل تحت هذه الغرائب ما ينقله كتاب لاظوغلي بلا خجل من ملفات زملائهم المخبرين حول تحركات هذه الجماعة الإسلامية أو تلك ، مما يعد سقطة مهنية وخلقية بكل المقاييس .. أما سخريتهم من الحديث عن التطوع والقتال بجانب الأشقاء في لبنان ضد الغزاة اليهود فحدث ولا حرج .. لقد ذهبت بهم سخريتهم إلى حد الصفاقة والوقاحة حين جعلوا من رغبة التطوع ، وجودا فعليا لميليشيات مسلحة تستعد للانقضاض على الحكم وسرقته ، وتناسوا أن لا ظوغلى لم ولن تسمح بهذه المليشيات المزعومة ، فهي تعلم دبة النملة في كل مكان .. وحاشا لله!
    شغلونا وتناسوا أن القضية الأكبر والأعظم؛ هي قضية الوجود المستباح ، مما يتطلب أن ينهض الناس جميعا لحماية وجودهم وأرضهم وحاضرهم ومستقبلهم .
    شغلونا ، وتناسوا أن الشيطان الأكبر ، يقود بنفسه عملية استباحة البلاد والعباد ، وتأكيد الحصار على لبنان جوا وبحرا وبرا ، ليخنق الشعب الذي يزعم أنه يحميه ويحرره ويحافظ على استقلاله ، بعد أن أخفق الشيطان الأصغر في تحقيق أهدافه ، ثم إن الشيطان الأكبر يساوم الدول الكبرى لتقوم بجوانب محددة من هذه المهمة كي يفرغ للمهمة التالية التي أعلنت عنها الآنسة كوندي ؛ وهي بناء الشرق الأوسط الجديد ، بدءا بضرب إيران وتمزيقها إلى دويلات تستدعي بالضرورة تمزيق العراق والسعودية وسورية رسميا ، وانتهاء بالجائزة الكبرى حيث تتمزق أم الدنيا والسودان الشقيق!
    وأسأل هؤلاء الأشاوس والنشامى الذين يرون في أميركا واليهود ملاذا وملجأ : من الذي سلطكم على أمتكم في هذا الوقت الحساس وهذه الظروف الحرجة لتساعدوا الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر ؟
    من الذي خدعكم كي لا تروا أبعد من أنوفكم ، وتغدروا بأمتكم ، وتطعنوها من الخلف ؟
    إنكم بوصفكم عربا تحت الاحتلال وتحت الهيمنة النازية اليهودية لا تساوون شيئا ، ولا قيمة لدمائكم وأعراضكم وكرامتكم .. تقول عميرة هاس ؛ مراسلة ها آرتس ، في مقال لها يوم 23/8/2006/ :
    " حسب قوانين الاحتلال ( اليهودي طبعا ) ونظمه ؛ لا يعد الجنود الذين يقتلون المدنيين الفلسطينيين مجرمين ومشبوهين أو متهمين أو مدانين إطلاقا..".
    ومعنى هذا يا قوم أن إنسانية النازي اليهودي تستبيح المهزوم ، وتفعل به ما تشاء لدرجة الموت ، وما يحدث في فلسطين يحدث في لبنان ، وحدث في مصر والأردن وتونس . النازي اليهودي يقتل العربي والمسلم دون رحمة ولا شفقة ،ولا تثريب عليه ، وأنتم تتشحون بالعقلانية والمغامرات المحسوبة ، والتخطيط الاستراتيجي لتنفذوا عملياتكم " يوم القيامة " ، وتستخلصوا حقوقكم عندما " تقوم الساعة "!
    بئس ما تفعلون ، وبئس ما تفكرون ، أيها الموالون لأميركا ن واليهود؟!
    ما رأي الذين يتحدثون عن قاعدة "الولاء والبراء "؟ ما حكم من يوالي الأمير كان واليهود، ويري فيهم إلّها من دون الله ، وناصرا من دون الله ، وملجأ من دون الله ؟
    لقد جاء اليهود الغزاة إلى بلادنا ليكونوا قاعدة عسكرية للصليبيين الهمج ، تضرب بلا عقاب ، وتنسف بلا حساب ، والذين يتصورون أن مجلس الأمن الدولي سيعيد إليهم حقوقهم ؛ واهمون ، أو قاعدون بمعنى أدق. إن مجلس الأمن الدولي لم يعد حقا للعرب والمسلمين منذ إنشائه ، بل أسهم في ضياع حقوقهم ، وصار مجرد إدارة من إدارات الكابيتول ( الخارجية الأميركية ) يأتمر بأمره، ويسمع ويطيع لمن يجلس فيه ، ولو كان الآنسة كزندي .. فإلى متى أيها السادة تنتظرون السلام وعودة اللاجئين وتحرير القدس ؟
    لقد لخص كاتب يهودي نازي الموقف باختصار شديد وعميق ؛ جين قال :
    نحن أمام صراع متواصل ومستديم . ومن سيكون أقوى في عقيدته وحقه ؛ هو الذي سيبقى ، المسألة هي مسألة بقاء وليست مسألة سلام لشدة الأسف " ( ليمور سمينيان درش- معا ريف نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي3/8/2006م).
    نعم مسألة بقاء وليست مسألة سلام !
    فهمها النازي اليهودي ، وعمل من أجلها ، مع أنه ليس صاحب حق ، ونحن مشغولون بخلافاتنا وتفاهاتنا ، تاركين جوهر الأمور تسويغا للقعود عن الجهاد ، ورغبة في التخلف عنه :
    " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ؛ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر ، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " ( التوبة:81-82).
    ماذا نقول لربنا وقد امتلكنا الرجال والسلاح والمال ( دماء الشهداء رفعت دخول كثير من العرب القاعدين! )، ولم نواجه العدوان النازي اليهودي ، ولم ندعم المجاهدين بالمال والسلاح والقول الواضح الصريح؟
    أيها السادة :إن المسألة مسألة بقاء .. وليست مسألة سلام..
    وبقاء العرب جميعا مرهون بالجهاد ، وليس غيره.


    </I>

  8. #28
    الأنـــــــــــــــــــــــــدال

    أ.د. حلمى محمد القاعود
    ............................

    هو صمت القبور . دلالة الموت الأبدى .. تطبق على العواصم العربية والإسلامية . لم ينطق أحد ، والغزاة النازيون اليهود يدمرون لبنان ويحاصرونه ، بعد أن دمروا غزة وحاصروها.... مئات القتلى والجرحى من المدنيين البسطاء فى غزة ولبنان ، يلقون حتفهم أو ينزفون الدماء ، دون أن تهتز عاصمة عربية ، أوتصدر بيانا يستنكر أو يشجب – كما كان فى الزمن القديم! – إبراء للذمة على الأقل ، وكأنهم يوافقون ضمناً ، بل يساعدون ضمنا ، حكومة الغزاة النازيين اليهود على حرب الإبادة ضد الفلسطينين واللبنانيين الذين يقودون المقاومة الوحيدة ضد الإجرام النازى اليهودى ..
    حكومة موسكو استنكرت العدوان النازى اليهودى على الفلسطينيين واللبنايين ، كما استنكرت استخدام اليهود للقوة المفرطة ، ولكن الأشاوس والنشامى العرب والمسلمين لم يستنكروا أبداً ، بل لم ينطقوا أبداً ، واكتفى بعضهم بالقيام بدور ساعى البريد بين العدوّ النازى اليهودى والمقاومة الإسلامية فى غزة ولبنان .. وفى سياق هذا الدور لا يخافت ولا يخجل من طلب إلى المقاومة أن تستسلم للعدو وتسلم بمطالبه !
    لقد قامت المقاومة الإسلامية فى غزة بعملية " الوهم المتبدد " ، فقتلت جنديين من الغزاة ، وأسرت ثالثاً ، وقامت المقاومة الإسلامية فى لبنان بعملية " الوعد الصادق " ، فقتلت سبعة من الغزاة ، وأسرت اثنين . وكان ذلك تحولاً بارزاً فى أداء المقاومة أذهل العدو ، وأربك خططه العدوانية ، وحطم كبرياءه وصلافته ، وأتاح الأمل لتحرير الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين من قبضته .
    الغزاة النازيون اليهود فى فلسطين تعودوا أن يأمروا فيُطاعوا ، وقد أمروا الأنذال فأطاعوهم منذ بدء غزوهم لفلسطين ، لدرجة أن الخونة الأوائل كانوا يطلبون منهم مبالغ مالية قليلة لإحياء ليالى شهر رمضان المعظم فى قصورهم المنيفة ! ( راجع ما كتبه المؤرخون اليهود الجدد عن الخيانات العربية ) ولكن الأمور تغيرت بعد بدء المقاومة والانتفاضات واعتماد الشهادة سبيلاً إلى استخلاص الحقوق وتحرير الأوطان وتخليص المقدسات .. وإذا كان الغزاة اليهود قد انزعجوا لهذا الأسلوب الذى تبناه الشعب الفلسطينى والعربى ، فإن المفارقة تكمن فى أن الأندال توافقوا مع الغزاة فى هذا الرفض ، وصارت المقاومة ذات الصبغة الإسلامية خطراً داهماً يجب عليهم التصدى له ووأده وسحقه واستئصاله من الوجود !
    بماذا تفسرون قسوة الأنظمة العربية الحاكمة ضد شعوبها عامة ، والمقاومة الإسلامية خاصة ، فى الوقت الذى تطأطئ فيه رءوسها وتصمت صمت الحملان عن إجرام الغزاة اليهود وعدوانهم واستهانتهم بالعرب والمسلمين ، فضلاً عن القوانين الدولية وما يسمى الشرعية الأممية ؟
    أليس من العار أن تصمت الأنظمة على تدمير لبنان وقتل ابنائه ، فى الوقت الذى لا تتسامح فيه مع كاتب أو ناشط سياسى كتب أو قال كلاماً لا يُعجبها أو لم يرق لها؟
    أليس من العار أن تصمت المدافع على الجهات المحتلة ، ولكنها لا تتردد فى دك المدن والقرى التى يفترض أن بها معارضين لهذه الأنظمة ؟
    أليس من العار أن تتفرغ بعض الأنظمة لمحاربة الإسلام والحجاب وتخصيص بطاقات ممغنطة لمن يدخلون إلى المساجد أو يخرجون منها ؛ فتضع الأولين تحت المراقبة وتترك للآخرين حرية الحركة ؟
    إن الأندال هزموا الشعوب العربية والإسلامية من الداخل قبل أن يهزمهم الغزاة النازيون اليهود ، ومع ذلك فإن هذه الشعوب بدأت تستيقظ وتأخذ زمام المبادرة ؛ وستنتصربإذن الله بعد أن تقدم الدم والمال والجهد والصبر الجميل .
    المقاومة الإسلامية فى غزة ولبنان تقلق العدوّ النازى اليهودى وتقض مضجعه ، والعدو يتمادى فى عدوانه مدعوماً بالصليبية الاستعمارية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة ، وصمت الأندال ، وتواطئهم أيضاً .
    شعوبنا بعيداً عن الأندال ، تستطيع أن تقدم الكثير لدعم المقاومة وإيلام العدو وداعميه ، يستطيع التجار فى البلاد العربية والإسلامية أن يوقفوا صفقاتهم مع الدول الاستعمارية الصليبية طالما هناك بديل فى أماكن أخرى . يستطيع المواطنون أن يُقاطعوا البضائع القادمة من بلاد التوحش الاستعمارى الصليبى . يستطيع المواطنون أن يُقاطعوا الشركات والهيئات والأفراد التى تتعامل مع العدو النازى اليهودى أو تمالئه ، أو تمالئ الصليبيين الاستعماريين . يستطيع المواطنون العرب والمسلمون أن يفعلوا الكثير ، ولهم فى تجربة الدانمرك أسوة حسنة ، وعلى علماء الدين أن ينهضوا بدورهم فى هذا السياق لقيادة الأمة مهما كانت الضرائب التى ينبغى دفعها .. وألا يعتمد ا على علماء السلطة وفقهاء الشرطة ، الذين باعوا الآخرة بالدنيا ، وآثروا رغد العيش على شرف الدعوة والجهاد ..
    (( فاصبر صبرا جميلاً . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا )) ولا عزاء للأندال !
    .....................................
    *مصر الحرة ـ 16/7/2006م.


    </i>

  9. #29
    ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ 1 من 6

    بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
    .........................................

    في مشروع مكتبة الأسرة الذي ترعاه السيدة سوزان حرم الرئيس مبارك، لعام 2000م، صدر كتاب بعنوان "ضد التعصب" للدكتور جابر عصفور، وهو كتاب كبير الحجم نسبياً يقع في 464 صفحة من القطع المتوسط 14-19.
    والدكتور جابر عصفور، كاتب معروف، وهو على صلة بالتراث العربي، خاصة التراث النقدي، وله فيه إسهام من خلال رسالته حول الصورة الفنية لدى النقاد القدماء، ثم إنه بالنسبة للعمل العام، قد اقترب من النظام في عهد عبدالناصر، الذي عيَّنه معيداً بكلية الآداب، بعد أن كان مدرساً في منطقة نائية، إثر رسالة تلقاها منه، كما اقترب من النظام في عهد السادات عن طريق السيدة جيهان رؤوف حرم الرئيس، وكانت طالبة في قسم اللغة العربية الذي ينتمي إليه الدكتور جابر.
    وفي العهد الحالي، ارتقى الدكتور جابر سلَّم القيادة الثقافية الرسمية من خلال المجلس الأعلى للثقافة ونشاطاته المتنوعة "اللجان ـ الجوائز ـ الندوات ـ المؤتمرات ـ النشر ـ المسابقات..."، ومن بداية التسعينيات تقريباً صارت مقالاته، "مانيفستو" حركة الحداثة ثم ما يعرف بالتنوير بعدئذ!.
    علاقتي بالرجل على المستوى الشخصي طيبة، وعلى الصعيد الفكري عاصفة، إلى الدرجة التي يمكنني أن أصفه بالصديق اللدود!، وفي أعماقي أهتف دائماً: اللهم اجعل جابر عصفور جندياً من جنود الإسلام، أو أقول: اللهم انصر الإسلام بجابر عصفور، فهو يملك القدرة والطاقة على الدفاع عن الدين، ومواجهة خصومه.
    ولعل كتابه "ضد التعصب" يمثل أوضح الأمثلة على الفارق الشاسع بيني وبينه، في الرؤية وتناول القضايا، حيث ينحاز عبر صفحاته، إلى الخطاب الرافض للمرجعية الإسلامية، بل الحانق عليها، المعادي لها، من خلال قضايا ثقافية طارئة ذات صلة وثيقة بمفاهيم إسلامية راسخة، ومن هذه القضايا: قضية نصر أبوزيد، وما يسمى تكفير حسن حنفي، ورواية وليمة لأعشاب البحر.
    إن جابر عصفور ينحاز إلى هذه القضايا انحيازاً عاطفياً غير عقلاني، ويناصر أصحابها بلا تحفظ، وفي المقابل لا يرى إيجابية واحدة لدى الخصوم ـ أعني الإسلاميين ـ بل يؤاخذهم جميعاً بما يفعله السفهاء، ويرتب على ذلك أحكاماً بظلامية الفكر الإسلامي وإظلام الإسلاميين!، ثم ينتهي بصورة ما إلى أن التعصب سمة ملازمة للإسلام، وبالتالي فهي مفارقة لغيره من العقائد والأفكار.
    كان الدكتور جابر ـ للأسف الشديد ـ طرفاً أساسياً في أهم هذه القضايا، وعنصر تصعيد لها، على حساب الآخرين أو الوطن، ولم يجد غضاضة ـ وهو المسؤول التنفيذي للثقافة والمؤثر الفعال في وسائط الدعاية ـ أن يشعل النار ضد الإسلاميين وفكرهم، وأن يصمهم جميعاً بالظلامية والإرهاب! وأن يستثمر مناخ العنف والعنف المضاد الذي ساد البلاد عقب مقتل الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ ليؤلب السلطة التي ينطق باسمها، والرأي العام الذي يخاطبه ضد الإسلام والإسلاميين بوصفهم قتلة ودعاة تخلف وخرافة.
    لو أن الدكتور جابر التقط قضية واحدة من القضايا المطروحة، وعالجها بمفهوم إسلامي، ومرجعية إسلامية، لكنا معه على طول الخط، حتى لو أخطأ، لأن الخطأ حينئذ يمكن تصحيحه وتوضيحه وبيانه، ولكنه للأسف الشديد، ظل طوال خصومته ينطلق من مرجعية غربية لا تتفق مع الإسلام في معظم منطلقاتها.
    وأبادر إلى تحفظ بأن مرجعية الإسلام تتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واجتهادات العلماء الثقات، ولا يصحّ أن يأتي بعض الناس الذين لا يحفظون قرآناً ولا يفقهون حديثاً، ولم يدرسوا فقهاً أو شريعة لنجعلهم علامات على الإسلام أو مرجعية لأحكامه وقيمه، وتشريعاته، فهذا هو الضلال بعينه، إن الإسلام يحكم على المسلمين، والمسلمون لا يحكمون عليه.. وكل يؤخذ منه ويرد عليه، إلا المعصوم ص.
    ومن العدل والإنصاف أن نتابع بعض القضايا التي عالجها الدكتور عصفور، لنرى إلى أي مدى كان اتهامه للإسلام والمسلمين بالتعصب صائباً أو غير صائب.

    ترويج الكتـاب

    فور نزول كتاب "ضد التعصب" إلى الأسواق، رافقته حملة واسعة لعرضه والتعريف به في كبريات الصحف الحكومية والحزبية بأقلام تهاجم الإسلام صراحة، أو تهاجمه نفاقاً سعياً لمكاسب مادية آنية، في الوقت الذي تظهر فيه عشرات الكتب الجادة دون أن تحظى بأي اهتمام ولو بسطرين على امتداد عمود عرضه خمسة سنتيمترات في صحيفة سيارة.
    وهذا يقودنا إلى قضية خطيرة ومهمة بدأ بها الدكتور جابر عصفور كتابه، وهي قضية الحرية والتعصب، وقد صدرها بمقولة لأستاذه طه حسين ملخصها أن الحرية لا تتحقق بالتمني، ولكن تؤخذ عنوة "فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون"، وقد جعل جابر عصفور هذا المعنى في استهلاله لكتابه الذي هو مجموعة مقالات سبق نشرها في صحف بقوله: "إن حرية التفكير والإبداع هي جزء لا يتجزأ من حرية الإنسان الاعتقادية والسياسية والاجتماعية. وهي مسؤولية عقلية وأخلاقية واجتماعية وسياسية"، ومضى يفسر هذه المسؤولية بإسهاب، ونحن معه في تفسيره، وإن كان لنا بعض التحفظات على مصطلحاته وتصوّراته في هذا المجال.
    بيد أن المفارقة في موقف طه حسين تكمن في إصراره على أن يقول هو ما يشاء، ويحرم غيره من الرد عليه، وذكر بعض معاصريه أنه كان يذهب إلى الصحف التي تنشر ردوداً مغايرة لما يقول، ويطلب من أصحابها عدم نشر هذه الردود، ولم يؤثر عنه أنه وقف موقفاً واضحاً إلى جانب حرية الشعب أو الأمة، بل إنه قبل رشوة من انقلاب يوليو 1952م حين وضع اسمه رئيساً لتحرير جريدة "الجمهورية" قرابة خمسة عشر عاماً دون أن يكتب كلمة واحدة في هذه الجريدة، بل دون أن يذهب إليها، وكان يتقاضى مرتبه دون عمل مقابل.. أين هذا من موقف العقاد الذي دخل السجن وتعرّض للجوع بسبب مواقفه من أجل الحرية؟
    إن الكلام عن الحرية جميل، ولكن تطبيقه أجمل.. ويصبح هذا الكلام قبيحاً وبشعاً وشنيعاً حين نطبقه بالنسبة لأنفسنا ونحرّمه على غيرنا من المخالفين، وهذا ما فعله طه حسين وكثير من تلاميذه الذين يرون الحرية حقاً لهم وحدهم دون غيرهم. كان طه حسين لا يرد غالباً على مخالفيه، بل كان يهجوهم ويكنِّي عنهم دون أن يذكرهم، وهذه فصامية عجيبة من رجل يدعو لأخذ الحرية بالقوة.
    وجابر عصفور تلميذ طه حسين، يفعل الشيء نفسه للأسف، فهو يحمل علــى المتعصبين ـ كما يسميهم ـ ويقصد بهم التيار الإسلامي، ويصمهم بالإرهاب والقمع والأصولية ـ بالمفهوم الغربي ـ وينفي عنهم العقلانية والإبداع والاجتهاد، ويؤسس على ذلك نتيجة خطيرة وهي تقويضهم الدولة المدنية والمجتمع المدني باستبدادهم الديني، ورغبتهم في إقامة الدولة الدينية، وسيطرتهم على المؤسسات التضامنية للمجتمع المدني، مثل نقابات المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها.

    بل هو المتعصب

    هذه الحملة من جانب جابر عصفور تحمل مغالطات تؤكد تعصبه ضد تيار مخالف يمثل الأغلبية الساحقة، ويتكرر مفهوم هذه الحملة على امتداد مقالاته في كتابه "ضد التعصب". وإذا كانت الحرية ـ كما يقول ـ مسؤولية عقلية وخلقية واجتماعية وسياسية، فمن واجبه أن يدافع عنها بوصفها حقاً للآخرين، وما لا يعجبه في مفاهيمهم وتصوراتهم يرد عليه بالمنطق والحجة مع المرجعية الواضحة التي تحدد منطلقاته وأفكاره.. ولكن الذي نراه لديه ولدى تيار العقلانيين ـ كما يسميهم ـ هو هجاء لا يستند إلى منطق أو حجة، وتحريض رخيص ضد هؤلاء الإرهابيين الظلاميين الأصوليين الذين يقوضون المجتمع المدني ومؤسساته التضامنية، حتى لو أتت بهم انتخابات حرة نزيهة إلى مقاعد القيادة في نقابات متعددة أو مؤسـات مختلفة.
    والغريب حقاً، أن يعتقد الدكتور جابر عصفور أن الدولة المدنية نقيض الدولة الإسلامية، وكنت أظنه في البداية يقصد بالدولة المدنية، الدولة النقيض للدولة البوليسية أو الدولة العسكرية أو الدولة التي تحميها الطوارئ وتأخذ فيها الديمقراطية الحقيقية إجازة مفتوحة، وللأسف اكتشفت أنه يقصد بالدولة المدنية الدولة التي لا تبقي للإسلام على أثر، بل تستأصله من حياتها تماماً، وإذا أبقت على أثر فهي دولة دينية بالمفهوم الكنسي، على غرار الدولة الدينية في العصور الوسطى المظلمة بأوروبا.. وبالتأكيد فإن جابر عصفور لا يرى غضاضة في تدخل الفاتيكان في الشؤون السياسية الدولية، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الروسي في حرب الشيشان ومباركته لتدمير جروزني وسحق المسلمين، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الصربي في تأييد ميلوسوفيتش وكاراديتش ومباركتهما لذبح المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ولا تدخل البطريرك نفسه في تأييد مرشح المعارضة الصربية لرئاسة الجمهورية، وعدّه الفائز في الانتخابات... ولا... ولا...
    بيد أن الدكتور عصفور يقيم الدنيا ولا يقعدها لأن المصريين أو العرب أو المسلمين يريدون إقامة دولة إسلامية على أسس العدل والشورى والمساواة والأخلاق والرحمة، فهذه الدولة دينية كهنوتية في مفهومه، وهي أخطر من دولة صلاح نصر وحمزة البسيوني وصدام حسين!.
    لقد أرسى الإسلام الحنيف قيمة التسامح بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورفض العنصرية والاستعلاء المرذول والكبر في صورها المختلفة، وجعل المنتمين إليه أحراراً تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ودوت مقولة عمر في أرجاء الأرض "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، ودعا القرآن الكريم إلى الدفع بالتي هي أحسن، وحرّض على العفو الذي هو أقرب للتقوى: فهل يحق لنا بعدئذ أن نتهم الإسلام بأنه ضد الدولة المدنية، ونكفِّر الداعين إليه حين نصفهم "بالتأسلم"، ونخلط ظروف العنف والعنف المضاد، بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لنسحب على الإسلام صفات الدم والقتل والجهل والمؤامرة؟
    لا ريب أن الدكتور عصفور يغالط كثيراً حين يستخدم مفهوم الدولة الدينية في مقابل الدولة الإسلامية، ومفهوم المجتمع المدني في مقابل المجتمع الإسلامي، ومفهوم الحرية الغربية مقابل التسامح الإسلامي، ومفهوم التعصب ضد الإسلام، فالتعصب المقيت والخطير كان السمة الأساسية في فكر اليساريين والدنيويين الذين ينافح عنهم الدكتور عصفور .

    </i>

  10. #30
    ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ (2 من 6)

    بقلم أ.د. حلمي محمد القاعود
    ................................

    التيار اليساري الدنيوي الذي ينافح عنه الدكتور جابر عصفور، لا يؤمن بالحرية ولا يتقبلها إلا إذا اتفقت مع ميوله ورغباته، وحققت مصالحه وغاياته، وهو يتاجر بالحرية والليبرالية والاستنارة دون أن تكون مبدأً أو خُلقاً أو قيمة حقيقية، والدليل على ذلك قائم في سلوك هذا التيار وممارساته على مستويات عدّة.
    لقد باع هذا التيار نفسه من أجل المناصب والمكاسب التي ينالها من وراء الأنظمة المتعاقبة، بل وصلت الحال إلى أن اختصم الأقارب في هذا التيار من أجل منصب هنا أو هناك، وخاصة في وزارة الثقافة التي استخدمت سياسة المنح والمنع لتجمع أكبر قدر من الأنصار الذين يؤيدون سياستها الفاسدة ومنهجها المريب، وقد تخلّى هذا التيار عن مقولاته وشعاراته ليقبل الاحتفال بالغزاة (ما سُمي بالعلاقات الثقافية مع فرنسا)، وتأييد حكم الطوارئ، واستبداد الحزب الحاكم، والتخطيط الثقافي لاستئصال الإسلام وإقصائه تحت شعار محاربة التطرف والإرهاب.
    وفي وزارة الثقافة على سبيل المثال فإن لجان المجلس الأعلى للثقافة تضم في أغلبيتها الساحقة أعضاء من التيار اليساري الدنيوي، ومن شذّ عن ذلك فهو استثناء لذر الرماد في العيون، علماً بأن وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة من الهياكل القومية العامة التي يفترض أنها تمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً شاملاً يعبّر عن حقيقة التيارات السائدة فيها، ولكن أدعياء الحرية والليبرالية والاستنارة قصروا هذا الحق على أنفسهم، مع أنهم أقلية ضئيلة جداً تمثل الغرب الاستعماري في مصر، ولا تمثل ثقافة الأمة ولا تعبر عن تطلعاتها بحال.
    مجلات وزارة الثقافة لا تكفّ عن الضجيج والصراخ من أجل "فقه الحرية"، ولكنها لا تتقن غير "فقه المصادرة" وراجعوا أعداد هذه المجلات لتروا أنه تيار واحد هو الذي يتكلم ويبدع ويدرس ويترجم، ذلكم هو تيار أدعياء الحرية والليبرالية والاستنارة!، وكأن هذه المجلات من الممتلكات التي ورثوها عن آبائهم وذويهم، وليست ملكاً للشعب كله الذي تمثل الأغلبية الساحقة فيه تياراً آخر مخالفاً يرفضهم.
    ومن المفارقات أن وزير الثقافة حين أصدر جريدة بأموال المسلمين، تدافع عنه وعن خطاياه الثقافية، رفع على رأسها عبارة لقاسم أمين تفيد بقبول الآراء المخالفة وضرورة نشرها، ولكن جريدة الوزير بعد عددين أو ثلاثة ـ ولعل ذلك كان للتمويه ـ أحكمت الحصار حول المخالفين، ولم تفسح صدرها وقلبها إلا للأتباع من أنصار الوزير، أعني التيار الدنيوي بفصائله المختلفة!
    وجريدة الوزير تكرار لمجلة كانت تصدرها مؤسسة الأهرام اسمها "الطليعة" ورفع محررها على صدرها شعاراً لفولتير يقول: إنني على استعداد أن أدفع دمي ثمناً لإعلان رأيك.
    ثم فوجئ الناس أن هذا المحرر يعني دفاعه عن حرية الفصائل الأخرى اليسارية الدنيوية ولا يعني بقية خلق الله من المسلمين وغير المسلمين!
    مشكلة الدكتور جابر عصفور والتيار الذي يتحدث باسمه أنهما يؤمنان أن حرية الآخر مرفوضة تماماً، وأن غايتهما الأساسية هي إقصاء هذا الآخر تماماً مهما كان موضوعياً ومعتدلاً ومتزناً، وإلا فلننظر في المؤتمرات والندوات والمنشورات ومعارض الكتاب وغيرها من أوجه النشاط الثقافي، ثم نسأل من الذي يحضرها ويستفيد بها، ومن الذي تدور حوله الأضواء؟!
    والإجابة بالطبع: أعلام التيار اليساري الدنيوي، وكأن مصر المسلمة عقمت إلا من هؤلاء، صحيح أن الظروف قد تستدعي أن يتسرب شخص مغاير أو أكثر إلى هذه الأنشطة، ولكن هذا التسرّب يأتي لغاية معروفة سلفاً هي تحسين الوجه الثقافي الذي تظهر به السلطة الثقافية المستبدة.
    إن الحرية ـ كما ينادي عصفور وغيره ـ لاتتجزأ، ومسؤوليتها شاملة، ولكنها في واقعهم تتجزأ وتتحدّد، وتلك لعمري آفة التيار اليساري الدنيوي الذي يؤمن عملياً بمبدأ ميكافيللي: الغاية تبرر الوسيلة!
    إن الضجة التي أثيرت حول نصر أبو زيد، وحسن حنفي، ومارسيل خليفة، وامرأتين خليجيتين، وحيدر حيدر، كان من المنتظر أن يحدث مثلها إن لم يكن أكبر منها من أجل الذين تقمعهم سلطات الحكومات المدنية ـ كما يسميها اليساريون والدنيويون ـ وتضعهم في السجون بلا محاكمات، أو تحاكمهم أمام محاكمات عسكرية لا يُردّ حكمها ولا ينقض، لأنهم يخالفون هذه السلطات في مناهجها، ويطالبون بالحرية والعدل والشورى والمساواة والإصلاح.. ولكن اليساريين والدنيويين ـ يمضون على منهج الغرب في احتقار العرب والمسلمين، ولا ينطقون بكلمة، ولا يتفوهون بلفظة لأن هذه السلطات ستمنع عنهم الماء والكلأ لو تكلموا، وتستغني عن خدماتهم لو نطقوا، وستبحث بعدئذ عن غيرهم بالضرورة، لذا فإنهم حريصون تماماً على الصمت عند اغتيال الحرية الحقيقية، والضجيج من أجل منتهكي حرمة الإسلام والمسلمين، ويصبح تأويل المحكم من آيات القرآن الكريم إبداعاً واجتهاداً وصنعاً للمستقبل، وغناء آيات القرآن الكريم على الألحان الموسيقية عملاً فنيّاً راقياً، والتوفيق بين الإسلام والحداثة الغربية بحثاً مبتكراً وإنجازاً فكرياً، وسبّ الذات الإلهية والرسول الكريم ص وتشويه صورة الإسلام، وتلويث المسلمين من الإبداع الذي لا يفقهه إلا أعلام النقد المستنير من أمثال اليساري فلان وعلان وترتان!
    لو أن التيار اليساري الدنيوي الذي يمثّله جابر عصفور يعبر عن نفسه في وسائط ثقافية يملكها، ما اعترض أحد، ولكنه يعبّر عن نفسه في وسائط قومية يملكها الناس جميعاً ومنهم الأغلبية الساحقة المسلمة، وفي الوقت ذاته يمنع هذه الأغلبية الساحقة المسلمة من التعبير عن نفسها في الوسائط التي تملكها، فهل هذا عدل؟ وهل هذه حرية؟.

صفحة 3 من 9 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الفنان أحمد حلمي مصاب بالسرطان
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-13-2014, 06:05 AM
  2. كتاب 28 حرف /لـ أحمد حلمي
    بواسطة عبد الرحمن سليمان في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-15-2013, 08:19 PM
  3. نرحب بالأستاذ/أحمد حلمي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-15-2012, 05:45 AM
  4. قراءة أ.د / حلمي القاعود ، في محموعة قصصية للشاعر الدكتور / عزت سراج
    بواسطة الدكتور/عزت سراج في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-05-2010, 03:12 PM
  5. الف مبروك أحمد حلمي...
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-12-2009, 11:14 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •