مصطفى إنشاصي
منذ أن انطلقت حركات التغيير –الثورات إن صح التعبير- لأن الثورة تعني التغيير الجذري للواقع القائم، وإحداث تغيير ملموس في بداياتها والتأثير بنسب متفاوتة في الواقع تنتهي بالتغيير الجذري والحقيقي على جميع الأصعدة، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي ومحاربة الفساد وغيرها، ولكن الذي حدث في بعض أقطارنا العربية ليس تغييراً جذرياً بقدر ما هو تغيير محدود لبعض الوجوه في الصفوف الأولى وذات الأدوار الرئيسة في الأنظمة السابقة واستبدالها بوجوه من الصفوف التالية من نفس النظام كانت جزء أصيل منه وتتحمل عبئ كبير أو صغير من أخطائه وجرائمه!


أضف إلى ذلك أنها مازالت حارس أمين لنفس نهج الأنظمة السابقة سواء سياسياً أو فكرياً، خاصة أنها حريصة سياسياً على استمداد شرعيتها من الخارج المعادي لمصالح وطموحات الأمة في العدالة والتحرر والاستقلال الحقيقي (العدو اليهودي - الغربي)، كما أنها حريصة فكرياً على نفس نهج الأنظمة السابقة في ولائها للنهج الغربي العلماني ومحاربتها للدين ومنع الجماهير من تقرير مصيرها واختيارها المنهج الذي يحكم حياتها!.


والأخطر من ذلك -لأنه قد يكون أمر طبيعي أن يستمر مًنْ تربى في مدرسة الأنظمة السابقة على نفس النهج في الفكر والممارسة- أن الاتجاهات السياسية الحزبية والتنظيمية - الوجه الآخر للنظام - التي كانت معارضة للأنظمة السابقة وركبت موجة حركة الشباب التغييرية التي لو استمرت بعيداً عن هيمنتها وسيطرتها كان ممكن أن تكون ثورة حقيقة وتُحدث تغييرات جذرية في واقع الأمة، للأسف أنها لعبت دوراً كبيراً في إجهاض نواة الثورة الحقيقة وقطع الطريق على نضوجها لأنها استعجلت قطف الثمار والوصول إلى غايتها الحقيقية –الكرسي- وليس التغيير الحقيقي الذي لو كان هو هدفها لتريثت وتركت الثورة تأخذ دورتها كاملة في تحقيق أهدافها، ولكننا وجدنا بعضها سارع إلى التحالف مع رموز النظام السابق التي تقدمت الصفوف لإجهاض الثورة بزعم حماية إنجازات الثورة ومكاسب الشعب وحقن الدماء وهي في الحقيقة جاءت لتحمي نهج النظام السابق وإلى حد ما رموزه من خلال حماية نهجهم!


ولم تكتفِ تلك الأحزاب السياسية المعارضة بذلك بل وتحالفت مع العدو اليهودي - الغربي سواء كان ذلك علناً أو من خلال إرسال الرسائل أو الاتفاقيات في الكواليس وطمأنته على حماية مصالحه في وطننا وبعضها وعد بحفظ أمن العدو الصهيوني ومزيد من التطبيع معه. بمعنى أنها سعت للحصول على شرعيتها بانتهاج نفس نهج الأنظمة السابقة التي كانت تأخذه عليها وتنتقدها وتهاجمها وتحرض الجماهير ضدها بسببه، أي أنها كما كانت الوجه الآخر للنظام في صفوف ومقاعد المعارضة فإنها ستكون امتداد للأنظمة السابقة في الفكر والمنهج والممارسة وليست بديلاً عنها أو انقلاباً عليها!


منذ تفجر تلك الحركات التغييرية عاد إلى الساحة السياسية والفكرية الصراع القديم الجديد حول نوع النظام السياسي الذي يصلح للحكم في بلادنا، فمن مطالب بنظام علماني على اعتبار أنه أفضل ضمانة للمساواة في حقوق المواطنة لجميع أبناء القطر على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم الدينية، إلى مطالب بنظام ديني ودولة دينية إسلامية، إلى مطالب بدولة إسلامية تتفاوت في مدى مدنيتها أو العكس بدولة مدنية تتفاوت في مدى دينيتها إن صح التعبير.


والبعض اعتبر أن العلمانية ليست ضد الدين وذهب البعض إلى أن الإسلام أول من أسس العلمانية الحقيقية، ومثل هذا إما أنه أسلوب خبيث لتضليل الشباب والجماهير عن حقيقة عداء العلمانية للدين وخاصة الإسلام، أو أنه جهل بحقيقة العلمانية وظروف نشأتها في الغرب ...إلخ، وجاء أخيراً السيد طيب رجب أردوغان ليفجر قنبلته ويدعو أقطارنا إلى إقامة أنظمة علمانية، وما تفجر بعدها من اتهامات من البعض عن مدى ارتباط أردوغان وتركيا بالمصالح الصهيونية الغربية، وأن حزب العدالة والتنمية - الإخوان المسلمون - في تركيا يلعب دور العراب لتلك المصالح في وطننا! وليس موضوعي الدفاع أو الهجوم على الدور التركي؛ ولكن أوضح موقفي الثابت منه منذ سنوات وقد طرحته في كثير من الحوارات هنا في مراكز دراسات رداً على مَنْ يهاجم حزب العدالة والتنمية التركي أو تصحيحاً لمَنْ يدعو لأن يكون مثلاً وقدوة للأحزاب الإسلامية في بقية أقطار الوطن وخاصة العربية منها، وهو:


أن لتركيا خصوصيتها وظروفها الخاصة منذ أن حاول أن يفصلها أتاتورك وتلامذته الأوفياء لنهجه العلماني المعادي للإسلام والمسلمين عن دينها ومحيطها الإسلامي، ولذلك يجب أن يكون للإسلاميين في تركيا تجربتهم الخاصة التي هم أدرى بصلاحيتها لواقعهم العلماني ولتفادي الصدام المبكر مع حراس العلمانية من قادة الجيش والفكر العلماني وأجهزة المخابرات الصهيونية والغربية المتغلغلة في كل مؤسسات وأجهزة الدولة التركية ومتحالفة معها ضد الأمة والدين، وأنه يجب علينا ألا ننتقد نهجهم الذي يختارونه بما يتناسب وواقعهم السياسي والأمني من خلال تجربتهم وآخرها ما حدث مع الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان ومحاكمته وسجنه وقد فاز برئاسة الوزراء، ولكن أن يدعو البعض أو يدعو هم إلى انتهاج تجربتهم ونهجهم في وطننا فذلك خطأ وقلة وعي باختلاف الواقع والتجربة، وإن كان ذلك لا يعني ألا يستفاد من تجربتهم بما يتوافق مع خصوصية تجربتنا في أقطارنا العربية ولكن لا يكون استنساخ لتجربتهم!