مصطفى إنشاصي
ولكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وخروج أمريكا منتصرة من الحرب الباردة، وبعد حرب الخليج الثانية وتمكن أمريكا من تشكيل تحالف دولي عسكري – سياسي لردع العراق وإخراجه من الكويت، ونجاحها في جمع الأطراف المتصارعة في (الشرق الأوسط) على مائدة المفاوضات فيما يسمى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وفرض الهيمنة الغربية المطلقة على (الشرق الأوسط)، وبعد نجاح العدو الصهيوني في فرض مشروعه لما يدعيه (السلام) على منظمة التحرير الفلسطينية وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993، ولد وضع جديد يمثل في نظر المخطط الأمريكي تهديداً لمصالح الغرب الأمنية – الاستراتيجية في المنطقة (نفط الخليج وأمن كيان العدو الصهيوني).


وهذا الخطر يتمثل في: استقلال الجمهوريات الإسلامية الست "جمهوريات آسية الوسطى" التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي سابقاً، ومنها جمهوريتان تحتويان على كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، والخوف من انتقال الإسلام السياسي الثوري إليها مما سيؤثر على المصالح الأمنية الاستراتيجية لأمريكا والغرب في المنطقة، فالتقرير الاستراتيجي الأمريكي الصادر في أيار/مايو 1995م حذر "من خطورة تأثير بعض أنظمة (الشرق الأوسط) على ثمانية جمهوريات مستقلة عن الاتحاد السوفيتي سابقاً بسبب الارتباطات التاريخية والثقافية القوية لها مع (الشرق الأوسط). كما يحذر بشكل خاص من إمكانية حدوث اضطرابات في حالة تصدير (الإسلام الراديكالي) على الطريقة الإيرانية إلى جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى. ويرى أن ذلك قد يؤثر على الجهود الإصلاحية في تلك الجمهوريات ويعقّد العلاقات بينها وبين روسيا. ويقترح التقرير ضرورة أن تتضمن أي سياسة أمريكية الحفاظ على استقلال هذه الجمهوريات).


ولما كانت عملية التغيير الشامل جارية في منطقة (الشرق الأوسط)، كان لا بد من إعادة صياغة وتعريف مصطلح (الشرق الأوسط) وتحديده جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وفق هذه التغييرات والتوجهات الجديدة، ووفقاً للمصالح الأمريكية التي تحاول الانفراد بقيادة النظام العالمي الجديد، وتمهيداً لتنفيذ (مشروع الشرق الأوسط الجديد وسوقه الشرق أوسطية) في المنطقة، الذي اقترحه وزير خارجية العدو الصهيوني بعد توقيع اتفاق أوسلو خدمة لمصالح الغرب والعدو الصهيوني، فظهرت مفهومات جديدة لمصطلح (الشرق الأوسط)، سنعرض لبعضها مع التحليل:


يرى (يوسف صايغ) أن الرؤية اليهودية لـ(لشرق الأوسط) تستمد من الجذور التاريخية والتوراتية، التي حددت الأرض من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي، ويقول:
"تمتد تاريخية المنظور (ونحن نغفل شمال أفريقيا من البحث) في إطار الحركة الصهيونية ودولة (إسرائيل) من الجذور التاريخية (التي تحدد المنطقة من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي)، إلى يوميات هرتزل، إلى أدبيات الصهيونية السياسية والجغرافية (خاصة قبل صدور وعد بلفور ومؤتمر فرساي عام 1919 وبعدها) إلى تجسيد المنظور صراحة بعد حرب حزيران/يونيو 1967 بكتاب رسمي أصدرته (إسرائيل) بعنوان (الشرق الأوسط عام 2000)". ويستطرد قائلاً: "يمكن ملاحظة ضبابية مفهوم (الشرق الأوسط) مقابل مفهوم الوطن العربي أو المنطقة العربية. فالأول تعبير جغرافي عائم لم تتضح حدوده بعد، فهو يستثني الأقطار العربية في شمال أفريقيا، لكنه يضم بعض الأقطار العربية من مصر والسودان والصومال غرباً، والعراق شرقاً، واليمن جنوباً، وإلى ذلك المدى، فهو يجزئ المنطقة العربية الواحدة بعملية افترائية تعسفية متعمدة ... المصطلح يضم إلى جانب البلدان العربية المشرقية، و(إسرائيل) القائمة على التراب الفلسطيني بالاغتصاب والاقتلاع والسلب، كلاً من قبرص وتركيا وإيران .. وهي غير عربية – مع أن البيان الختامي لقمة الدار البيضاء لا يذكر البلدان الثالثة الأخيرة بالاسم. ثم إن البعض يوسع المنظور ليشمل أفغانستان كذلك، مع إمكانية امتداده شرقاً من أفغانستان وشمالاً من تركيا. فالمنظور لا يعدو أن يكون تعبير عن بقعة جغرافية غير ثابتة الحدود ... وأخيراً ففي جميع الأحوال يشمل المنظور (إسرائيل) – بل إن (إسرائيل) كما يقول مسئولوها هي قلب (الشرق الأوسط) وتلتقي فيها معظم المشاريع والبرامج المنشورة في إطار (الشرق الأوسط) – وهي مقولة جاءت في خطاب الوزير الصهيوني بيريز في قمة الدار البيضاء.


أما (شيمون بيريز) في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" يحدد خريطة (الشرق الأوسط): "بأنها تمتد من حدود مصر الغربية حتى حدود باكستان الشرقية ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية شمالاً حتى المحيط الهندي وشمال السودان جنوباً، وهي منطقة تجمع دولاً عربية وإسلامية وليس فيها خارج هاتين الدائرتين (العروبة والإسلام) سوى (إسرائيل)".


أما (لطفي الخولي) فيخرج (الشرق الأوسط) عن إطاره المألوف، ويضم إليه أجزاء من جنوب أوروبا، اعتماداً على مبادرة (جاني ديميكيليس) وزير خارجية إيطاليا أثناء أزمة الخليج وحربها عام 1991 التي عبر عنها أكثر من مرة، ولقيت تجاوباً ملموساً من اليونان وأسبانيا، ونعني بها عبارته بشأن إقامة مجلس التعاون والأمن بين جميع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، على غرار مجلس التعاون الأمني الأوروبي، الذي تحكمه اتفاقية هلسنكي التي عقدت عام 1975. وهذه المبادرة تخرج (الشرق الأوسط) عن الصورة التقليدية له وهي: الدول العربية وإيران وتركيا و(إسرائيل) وأثيوبيا، لتصبح مساحته الجغرافية تتسع لتضم الدول الأوروبية المتوسطية (اليونان، إيطاليا، أسبانيا، البرتغال، قبرص، مالطا)، باستثناء فرنسا، وينقل خط حدود (الشرق الأوسط) إلى شمال البحر المتوسط وجنوب أوروبا.


جذور هذه الدعوة تمتد إلى عشرينات القرن الماضي، حيث أطلقت في أوروبا وخاصة فرنسا، وتلقفتها أقلام متغربة في وطننا ودعت إليها، وحاولت ترويجها وتنفيذها، لفصل أجزاء من الأمة والوطن عن الأمة والوطن، وتلحقها بالغرب من خلال تشكيل تكتل إقليمي جديد بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في إسطمبول عام 1924، وتقطع الطريق على الأصوات الوطنية التي كانت آنذاك تدعو لإعادة جمع شمل المسلمين في خلافة جديدة، وقد كان من أشهر منظري هذه الفكرة في ذلك الوقت (طه حسين)، وقد فشلت هذه الدعوة في حينها