-
باحث في علم الاجتماع
الدولة الإسلامية: إسلامية لا مدنية (الحلقة الثالثة)
مصطفى إنشاصي
قبل أن أعرض للحلقة الثالثة أود أن أوضح لصديق وقد يكون هناك آخرين مثله يعترضون على العنوان في ضوء التراجعات التي حدثت عند كثير من المسميات الإسلامية في زمن ما أسمته الإدارة الأمريكية (ثورات الربيع العربي)، فأثناء حوارنا حول الحلقة الأولى اعترض على بعض ما ورد فيها وأهمها اعتراضي على تسمية الدولة الإسلامية (دولة مدنية)، وأنني بذلك أسبح ضد التيار في وقت أن الإسلاميين حتى السلفيين حسب تعبيره غيروا موقفهم وقبلوا بها! كذلك عرج في حديثه على الديمقراطية وأن الإسلاميين أخيراً اعترفوا بضرورتها ولم يعودوا يرفضونها! وهنا سأكتب ردي عليه أثناء الحوار ليكون رداً لكل الإخوة القراء الذين قد يكون لهم نفس الاعتراضات، قلت:
تعلمت من إسلامي منذ بداية التزامي ألا أكون إمعة كما أمرنا الرسول الكريم صلَ الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأن نوطن أنفسنا حتى إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أمسكنا. وبعض الإخوة الكرام في إطار الحركة الإسلامية – إن صح التعبير - في ضوء الظروف الحالية واستراتيجياتهم أو تكتيكاتهم السياسية قبلوا بـ(دولة مدنية بمرجعية إسلامية) وذلك شأنهم ولا يعني أن قبولهم بذلك هو الصواب كما لا يعني رفضي له أنه خطأ، ولكنه ليس ملزماً لي ولا يحق لأحد أن يُخطئني في موقفي وكأن الصواب هو ما رأوه! وللإخوة حق توضيح أسباب الرفض لدي، وهي باختصار:
إن أي مصطلح في لغته الأم له: معناه، ودلالته، ورمزيته، في بيئته التي ظهر فيها وتم التعارف عليه ويكون محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية، عند ذكره يستحضر السامع له كل تلك العوامل جملة واحدة، ومصطلح (الدولة العلمانية/المدنية) هو مصطلح نشأ في المجتمعات الغربية وكان ثمرة صراع طويل لقرون بين الكنيسة والمفكرين الغربيين وعند ذكره فهو يُذكر سامعه بكل المصائب والمآسي والمعاناة والدماء والمشانق والحرق والصراع و… و… التي مارستها الكنيسة ورجال الدين في أوروبا لكل مَنْ اعترض على حكمها أو اكتشف ما يخالف ما ورد في ما يسمونه (الكتاب المقدس)، في الوقت الذي كانت ممارسة الإسلام والدول الإسلامية عكس ذلك مع العلماء ورواد الفكر …!
أما الديمقراطية فقلت الأمر لا يحتاج إلى جدل طويل فهي أيضاً مثل مصطلح (الدولة العلمانية/المدنية) نشأت في بيئة غربية ولها معناها ودلالتها ورمزيتها التي هي محصلة عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية، والديمقراطية كأداة أو وسيلة لتحقيق مبدأ الشورى في الإسلام لا اعتراض عليها، أي وسيله لمعرفة الرأي العام ورأي الأكثرية حول مسألة ما لا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية والكليات العامة للعقيدة شيء مقبول، أما إن كانت دين يراد منها التشريع لنا بما يخالف ما دعا إليه الإسلام باسم رأي الأكثرية فهي مرفوضة!
وأعود لاستكمال المقالة:
منذ نجاح الثورة في تونس وفي مصر خاصة كثر الحديث أو قُل الجدل حول هوية الدولة المستقبلية التي يريدها الشباب والشعب بصفة عامة، وهناك مَنْ أعلن رفضه صراحة لإقامة دولة إسلامية واصفاً إياها بأنها ستكون دولة دينية عنصرية تصادر الحريات الفردية وتضطهد الأقليات …إلخ، فأنصار الدولة المدنية وأنصاف المثقفين ليس لديهم إلا مثال واحد للدولة الدينية هو دولة الكنيسة، أو الحكم الديني الكهنوتي الثيوقراطي، التي حكم فيه الباباوات باسم الله أوروبا فترة العصور الوسطى الأوروبية بزعم الحق الإلهي والعناية الإلهية (التفويض الإلهي)، ولا يعرفون شيء عن الدولة الإسلامية إلا ما تلقوه عن الغرب الذي شوه حقيقة الإسلام والتاريخ الإسلامي، بسبب غياب القيادات والمرجعية الإسلامية التي تحرص على تقديم المنهج الإلهي في كل عصر بما يتناسب وظروفه، وتخاطب العقول بلغة عصرها ومفاهيمه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. (إبراهيم: 4). وعلى الرغم من تراجع بعض الإسلاميين وقبولهم بدولة مدنية بمرجعية إسلامية إلا أن أنصار الدولة المدنية مازالوا يرفضون ذلك ويشككون في نواياهم!
لا أزعم أني عالم إسلامي أو فقيه ولكني مسلم غيور على ديني وعلي ليس واجب الدفاع عنه فهو ليس متهم، لكن علي واجب التذكرة للذين استقوا معلوماتهم السلبية والمشوهة عن الإسلام من مصادر غير موثوقة بسبق الإسلام في كثير من مبادئ ما يسمونه الدولة المدنية، ولا أُطالب بدولة مدنية بمرجعية إسلامية ولكن بدولة إسلامية بمرجعية إلهية حرصاً منا على وحدة الأمة ومصلحة الوطن، لأن الدولة الإسلامية بمرجعية إلهية تجمع بين الديني والمدني – إن صح التعبير لأني كما قلت أستخدم المصطلحات الغربية بتحفظ! - لذلك كإسلامي ألوم الإسلاميين لأنهم تعاملوا مع هذه المسألة من منطلق الضعف أو ردة الفعل أو الجهل بحقيقة الإسلام وهوية الدولة الإسلامية، وحاولوا مجاراة المفاهيم الحديثة والمعاصرة واتخذوا موقف الدفاع فشوهت اجتهاداتهم الإسلام والهوية الحقيقية لنظام الحكم في الإسلام…إلخ!
وذلك راجع إلى أن المنهج التربوي والتوعوي والتثقيفي الفكري لأبناء الحركة الإسلامية – إن صح التعبير- هو منهج تقليدي بعيد عن ثقافة ومفاهيم العصر، لذلك يعاني الإسلاميين أزمة في الربط بين الحداثة – مع تحفظي على مصطلح الحداثة – وبين فهم التشريع الإسلامي بما يتناسب وعصرهم وتطوراته، بمعنى أدق: يعانون أزمة في الربط بين النبوة وبين مفهوم التجديد الإسلامي أو الثورة التجديدية والأصول العقائدية الثورية في الدين الإسلامي، وذلك نابع من إخضاع العقل الإسلامي للبصمات الاستبدادية على قطاع العلم الديني المتواكبة عبر القرنين الماضيين مع الاستبداد السياسي.
إن تراجع الإسلاميين ذاك على صعيد الفكر يدل على أن الحركة الإسلامية مازالت تعاني أزمة في المعرفة بالمصطلح القرآني في زمن "التجديد الإسلامي"، نتيجة إخضاع مرتكزات الوعي القرآني لأسلوب الوعظ الديني وهو أكبر نكبة على الإسلام. كما أن تراجعاتها تحت ضغط العلمانيين والاستجابة لمصطلحات العصر التي تتعارض مع المصطلح الإسلامي فيه تكريس لتجزئة الثقافة التي يرفضها الإسلام، وكان يجب عليهم الثبات على موقفهم والتمسك بمصطلحاتهم! لذلك لا بد من إحداث ثورة في الوعي لدى أبناء الحركة الإسلامية ومفكريها من أجل التهيئة لتكوين جيل القيادة الإسلامية العالمية الثانية.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى