الغرب والإسلام
خــطر الـوحــدة علـى الـغـرب (34)
مصطفى إنشاصي
إذا كانت حملة نابليون قد كشفت أهمية فلسطين للإمبراطوريات الغربية للسيطرة على العالم القديم فإن حملة محمد علي على بلاد الشام كشفت عن خطر قيام دولة قوية في المنطقة يكون عمادها الوحدة بين قطبي القوة في المنطقة مصر وسوريا الكبرى. كما أنها كشفت كيف لعب الغرب بالطامعين من أبناء الأمة في السلطة والوقيعة بينهم وبين السلطان العثماني في الآستانة، ليوجدوا المبرر لأنفسهم للتدخل في شئون وطننا الداخلية، بحجة أن الخطر الداخلي يهدد الاستقرار العالمي، وذلك من أجل تحقيق أهدافهم في وطننا. بعد أن فشلت سابقا محاولات الاختراق الغربي للأمة والوطن من خلال دعم تمرد بعض الأقليات لزعزعة استقرار الوضع الداخلي في الدولة الإسلامية العثمانية بعد فشل حركة (فخر الدين المعني) في لبنان وإجماع الدول الغربية منذ ذلك التاريخ على إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. وما حدث يكاد يكون هو نفسه ما حدث مع صدام حسين من التغرير به واحتلاله للكويت عام 1990م والتدخل الغربي بعده في وطننا، الذي بدأ بنشر قواعده وقواته العسكرية في كل مكان من الجزيرة العربية والخليج العربي تحت مسميات عدة، حماية دول الخليج من خطر صدام أو غيره، اتفاقيات التعاون العسكري المشترك مع تلك الدول، ومروراً باحتلال العراق، والبقية قادمة إذا لم تتوحد الأمة وتتخلى عن سلبيتها في مواجهة العدو اليهودي الصهيوني - الغربي الذي يريد إعادة رسم خارطتها من جديد.


التغــريـر الغــربـي بمحمــد علـي
لقد وصل محمد علي مع القوة الألبانية التي جاءت إلى مصر على إثر حملة نابليون وبدون الدخول في التفاصيل، استطاع محمد علي التخلص من أعداءه وخصومه وحلفاءه المماليك والمصريين بفضل دهائه ودمويته وحسن استغلاله الظروف لصالحه ليصبح والياً مطلقاً على مصر.
وقد كانت طموحات محمد علي ترنوا إلى الغرب وحضارته وإلى إقامة دولة حسب المفهوم الحضاري الغربي وخاصة النموذج الفرنسي وكان تأثره كبيراً لذلك عندما شرع في بناء مؤسسته العسكرية طلب مساعدة فرنسا في ذلك، فأرسلت إليه بعثة عسكرية بقيادة الجنرال بوير عام 1824م، وكعادة فرنسا في عداءها للإسلام أنها دائماً رائدة وطليعة في جلب المصائب على الأمة الإسلامية، فقد عمل هذا الجنرال بتوجيه من قيادته على مستويين، أحدهما:
التخريب وتدمير المؤسسات الإسلامية وإقامة مؤسسات موازية لها على النمط الحضاري الغربي.
والآخر: إحداث أول شرخ في وحدة دولة الخلافة وإحداث أول مواجهة عسكرية داخلية بين جيوش الدولة نفسها، وإضعاف قوة المسلمين في وقت تتربص فيه الدول الغربية الصليبية بدولة الخلافة.
فقد "حددت الوزارة الفرنسية للجنرال بوير مهمته: "بأن يقنع محمد علي بعدة مبادئ، وأن يجعله يتصرف بشكل يكسب فيه عطف أوروبا المسيحية ... وأن يركز قواه من أجل إعادة البناء الداخلي، عن طريق إصلاح البنى القائمة إذ أن ذلك يجعله يحقق كسباً أكبر في نظر العالم المتمدن – المتحضر- أما إذا ما أراد أن ينطلق في سياسة توسع وطنية فإن إفريقيا وسوريا تشكلان إمكانيات عظيمة لا تحمل معها مجازفات ذات شأن". اللغة نفسها اليوم التي يطالبنا بها الغرب لنحسن صورتنا في نظر شعوبه، وهذه الدعوات لم تجلب على الأمة طوال تاريخها غير الخراب.
في حين كانت بريطانيا أكثر صراحة في تحديد الجبهة التي على محمد علي التفكير في التوسع فيها، عندما حذره السفير الإنجليزي سالت "عام 1820 من غزو الحبشة، لأنها نصرانية، وهي البلد الوحيد في إفريقيا الذي صمد صموداً مظفراً خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوروبا عامة، ومن انجلترا خاصة أن تقف موقف اللامبالاة إذا ما تعرض هذا البلد للهجوم، وهناك كثيرون من –جمعية الكتاب المقدس - في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد".


حملة محمد علي على بلاد الشام
فلم يعد أمام محمد علي غير قتال دولة الخلافة سوريا وما وراءها والتوغل والتوسع في أراضيها، وما أن تقدمت جيوش محمد علي على الجبهة السورية وحققت انتصاراتها وتوغلت في آسيا الصغرى حتى وصلت ضواحي مدينة بورصة القريبة من اسطمبول عاصمة دولة الخلافة، وخشيت أوروبا أن يحتل محمد علي عاصمة الخلافة ويعيد الدماء الفتية إلى شريان الخلافة الإسلامية، مما يشكل خطراً على مخططات الغرب وأطماعه في وطننا وتهديداً لوجود كيانه داخل حدوده فيما لو عادت الخلافة قوية وعلى رأسها خليفة طموح وقوي مثل محمد علي حتى وإن كان مبهوراً بالحضارة الغربية ومناهجها، فالغرب لم ينسَ تلك الهزائم التي لحقت به أيام الحروب الصليبية الأولى بعد أن توحدت أرض الرباط والجهاد بلاد الشام وأرض الكنانة مصر، ولم ينسَ هزائمه أمام الدولة الإسلامية العثمانية ودخولها القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية والقضاء عليها، ولولا توقف جيوشها أمام أسوار فينا عاصمة النمسا عام 1683 التي لو تم فتحها لفتحت أوروبا كلها فيما بعد، ولم ينسَ توغل جيوشها في أراضي أوروبا الشرقية ونشر الإسلام في بعضها.
لذلك اضطربت وارتعدت أوروبا خشية وخاصة بريطانيا من الوحدة والقوة التي أظهرها محمد علي وقد عبر تشرشل قنصل بريطانيا في دمشق في القرن التاسع عشر "عن مخاوفه من حملة إبراهيم باشا على سوريا ونتائجها القومية في سوريا، إذ خشي أن يؤدي ذلك إلى تأسيس دولة خلافة جديدة في عاصمة الأمويين، وتؤسس بذلك دولة موحدة في غرب آسيا وشمال إفريقيا".
وقد أرسلت الحكومة البريطانية إلى قنصلها العام في مصر "إن حكومة جلالته تعلق أهمية كبرى على الحيلولة ليس فقط دون انحلال إمبراطورية العثمانية بل أيضا دون اجتزاء أي قسم منها".