حين رغبت قديما في دراسة بنية المثلثة الشعرية، تتبعت حركة أطوال القصائد العربية منذ أقدم مأثوراتها، وانتهيتُ في مظاهر تَقاصُرها إلى ظهور المثلثة على غيرها، ولا بأس فيما يأتي، أن أصطفي منها خمسة أمثلة أخرى متوالية متفاوتة، تزيد ذلك الظهور بيانا إذا ما زدناها نظرا:
المثال الأول من شعر زهير بن أبي سلمى صاحب بيت مقاطع الحق الثلاثة الذي نوهت به فيما سبق، مثلثة طويليّة الأبيات الوافية المقبوضة العروض والضرب حائية القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء، في تَحدِّي الشعراء:
مَنْ يَتَجَرَّمْ لِي الْمَنَاطِقَ ظَالِمًا فَيَجْرِ إِلَى شَأْوٍ بَعِيدٍ وَيَسْبَحِ
يَكُنْ كَالْحُبَارَى إِنْ أُصِيبَتْ فَمِثْلُهَا أُصِيبَ وَإِنْ تُفْلِتْ مِنَ الصَّقْرِ تَسْلَحِ
كَعَوْفِ بْنِ شَمَّاسٍ يُرَشِّحُ شِعْرَهُ إِلَيَّ أَسِدِّي يَا مَنِيَّ وَأَسْجِحِي
والمثال الثاني من شعر جرول بن أوس الحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى نفسه، مثلثة طويليّة الأبيات الوافية المقبوضة العروض والضرب بائية القوافي المفتوحة المجردة الموصولة بالألف، في الاستهزاء بالجُبناء:
حَمِدتُّ إِلَهِي أَنَّنِي لَمْ أَجِدْكُمَا مِنَ الْجُوعِ مَأْوًى أَوْ مِنَ الْخَوْفِ مَهْرَبَا
ضُبَيْبَانِ جَحْلِيَّانِ فِي آمَنِ الْكُدَى إِذَا مَا أَحَسَّا حَارِشَ اللَّيْلِ ذَنَّبَا
تَبَاعَدتُّ حَتَّى عَيَّرَانِيَ بَعْدَمَا تَقَرَّبْتُ حَتَّى عَيَّرَانِي التَّقَرُّبَا
والمثال الثالث من شعر الفرزدق شبيه زهير عند أبي عمرو بن العلاء وراوية الناس عند الجاحظ، مثلثة بسيطيّة الأبيات الوافية المخبونة العروض المقطوعة الضرب بائية القوافي المضمومة المردفة بواو المد أو يائه الموصولة بالواو، في الترفُّع عن الأَدنِياء:
نَكْفِي الْأَعِنَّةَ يَوْمَ الْحَرْبُ مُشْعَلَةٌ وَابْنُ الْمَرَاغَةِ خَلْفَ الْعَيْرِ مَضْرُوبُ
مِنَّا الْفُرُوعُ اللَّوَاتِي لَا يُوَازِنُهَا فَخْرٌ وَحَظُّكَ فِي تِلْكَ الْعَرَاقِيبُ
يَا ابْنَ الْمَرَاغَةِ إِنَّ اللهَ أَنْزَلَنِي حَيْثُ الْتَقَتْ فِي الذُّرَا الْبِيضُ الْمَنَاجِيبُ
والمثال الرابع من شعر "الليالي الأربع" كتاب أحمد بخيت الشاعر المعاصر الذي تأملتُه من قبل، مثلثة وافريّة الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض المذيلة الضرب نونية القوافي الساكنة المردفة بالألف، في الفرَح بالأحبّاء:
أَكَادُ أُضِيءُ يَقْتُلُنِي وَيُحْيِينِي بِكِ الْعِرْفَانْ
يُصَافِحُنِي الَّذِي سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ مَا كَانْ
سَكِرْتُ بِمَا سَكِرْتُ وَمَا سَكِرْتُ فَقَبِّلِينِي الْآنْ
والمثال الخامس من شعر "سمرؤوت" كتابٍ خالصٍ للمثلثات جديرٍ باستغراق النظر فيما بعد، مثلثة هزجيّة الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض المذيلة الضرب رائية القوافي الساكنة المردفة بالألف، في الحزَن على السُّفهاء:
أَخِيرًا تَسْتَوِي الْأَقْدَارْ وَمَا فِي الدَّارِ مِنْ دَيَّارْ
تَرَامَى الْجَارُ جَنْبَ الْجَارِ ذَا الْمَغْرُورُ وَالْغَرَّارْ
فَنَطَّ الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ فَاسْتَعْلَى بِعُقْرِ الدَّارْ
تستولي على تلك الأشعار كلها القصائدُ القصيرة -ولاسيما المثلثة- غير مقصرة عن أداء رسائلها. وما تلك الأمثلة الخمسة إلا معذرة تحوُّلي عما كان قبلها من تأمل الشعر العربي على وجه العموم، إلى ما سيكون بعدها -إن شاء الله- من تأمل كتاب "سمرؤوت" ذي المثلثات الخمس والمئة، لعلني أستوفي ما لبنية المثلثة الشعرية عليَّ من البيان!
--