الأسطورة والسياسة
سلام مراد
الأسطورة في تعريفها العام نوع من أنواع الخيال ولكنه يستند إلى حقائق تاريخية.
وقد وردت في اللغة الفرنسية بمعنى الحادث (Histoire) وفي اللغة الإنكليزية بمعنى التاريخ (Historia) واتخذت الأسطورة معنى الحكاية، سواء أكان لها أصل مبالغ فيه أم لم يكن لها أصل، والأسطورة في أغلب الأحيان تدل على الحادثة القديمة المحفوفة بالمبالغات حتى إلى درجة الخرافة أحياناً.
وكلمة أسطورة في اللغة العربية من فعل سطر، وقد ورد تعريف مفصل لهذا الفعل ومشتقاته في لسان العرب (يقال بنى سطراً والسطر الخط والكتابة).
قال الزجاج في قوله تعالى: ﴿ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾(النحل24) أي قالوا الذي جاء به أساطير الأولين معناه سطره الأولون، وواحد الأساطير أسطورة، كما قالوا أحدوثة وأحاديث وسطر يسطر إذا كتب؛ قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾(القلم1) أي وما تكتب الملائكة.
وقد ورد تغير آخر للأسطورة في اللاوس تحت كلمة (Legende) إنها خبر تاريخي، أو حكاية تاريخية، بالغت فيها المخيلة الشعبية أو الابتكار الشعري، إذاً تتعدد التعاريف والمفاهيم لكلمة أسطورة لكنها تقترب بشكل عام من مفهوم الحكاية الشعبية التي انتقلت إلينا عبر أجيال سابقة؛ وعلى الأغلب لها ماضٍ قديم ولكنها غلفت بمبالغات وخيال شعبي، أضفى عليها أشياء قريبة من المعجزات.
إن المقدمة التي بدأنا بها هي تمهيد للدخول في قراءة في كتاب الأسطورة والسياسة وهي حوارية لكن من الكاتبين العربيين السوري تركي علي ربيعو والعراقي فاضل الربيعي في كتاب صدر عن دار الفكر بدمشق عام 2007.
الكتاب يتحدث عن العنف والأساطير، وبخاصة في بلاد الرافدين؛ ويحاول الباحث السوري تركي علي الربيعو الربط بين الأساطير القديمة في بلاد الرافدين والأحداث المعاصرة في بلاد الرافدين ويأتي بأمثلة معاصرة على تشابه الأحداث بين الماضي والحاضر.
من خلال دراسة الأسطورة بالاستناد إلى حضارات المنطقة وبالأخص عن ملحمة كلكامش؛ وعن الأحداث المعاصرة نموذج اغتيال العائلة المالكة في العراق الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله، ويروي الباحث تركي ربيعو الحادثة من خلال شاهد عيان هو فالح حنظل، أسرار مقتل العائلة الملكية في العراق.
يروي فالح حنظل ما جرى في قصر الرحاب في صبيحة يوم الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم 1958م.
والكتاب صادر عام 1972م
والباحث يربط بين مشاهد وأحداث مقتل العائلة المالكة والميثولوجيا التاريخية في العهود القديمة، فالانقلابيون برأي الباحث كانوا يستبطنون في سلوكهم الكثير من الرؤى الميثولوجية للآخر، هذا الآخر الذي يلبس لبوس الشيطان وبالتالي يجري تبرير ذبحه والتهامه وتقديمه قرباناً على مذبح العنف التبادلي، وبالتالي كان هناك طقس سياسي ميثولوجي يحتفظ بجميع عناصر الفعل الميثولوجي القديم.
كما يتطرق الباحث لمسيرة الحزب الجماهيري ويوازي بينه وبين الجماعة الدينية فالإثنان لا يختلفان كثيراً وخاصة من ناحية السلوك، فالحزب الجماهيري كثيراً ما يستعير بواعث التعبير عن تجربته من الجماعة الدينية، فالنقد داخل الحزب غالباً لا يكون حقيقياً وصادقاً بل يكون مخادعاً ولغايات معينة، فالنقد الذاتي مثلاً يرفعه الحزب كشعار ولا يراد به إلا تطهير الحزب من كل رأي يخالفه، كما أن التسامح الذي ينادي به الحزب بوصفه فضيلة يصبح سلاحاً لتخوين الآخر الذي يخالف أفكار الحزب، وذلك باتهام المخالف للقاعدة العامة في الحزب بأنه يبث الأفكار السامة، فالتهم جاهزة دائماً.
وبرأي الباحث حتى لغة الحزب تأخذ معظم تعابيرها وشكلها من اللغة الدينية للجماعة الميثولوجية الأولى، فهي لغة طقوسية بدائية، وآمرة تنحدر من الأعلى إلى الأسفل ولا تقبل العكس؛ وهي لغة لا تقبل بأقل من الطاعة المطلقة والخضوع الكامل؛ وإذا لم يخضع الرفاق أو الجماعة المؤمنة فهم عصاة؛ ولذلك استنتج رانز فانون في وقت مبكر من خلال دراسته لتجربة الأحزاب في العالم الثالث.
إن قادة الأحزاب في غالبيتهم يتميزون بنبرة الصوت العالية التي تصل إلى الصراخ ويتصرفون كعسكري برتبة عريف، فهم دائماً يصرخون ويعيدون الكلام على ضرورة الانضباط، كالعريف الذي ينادي بضرورة الانضباط في الصف.
إن الانضباط هو ما يميز الجماعة الدينية والجماعة الحزبية عما عداها، والانضباط هو أساس المجتمع الانضباطي الذي هو مجتمع المراقبة والمعاقبة كما كان يسميه ميشيل فوكو؛ ويتحول الحزب الجماهيري كما يقول فانون إلى مصلحة مخابرات، ويصبح الهدف مراقبة الناس ومدى ولائهم للحزب الجماهيري.
والحزب الجماهيري يرفض في أغلب الأحيان مراجعة منطلقاته النظرية من زاوية رؤية دينية محضة، ترى النص الحزبي نصاً مقدساً لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من أمامه، وكل عيب لاحق وطارئ يعود إلى سلوك الجماعة الحزبية لا إلى عيب في النص أو المنطلقات النظرية للحزب الجماهيري، وبالتالي هذه الفكرة هي فكرة ميثولوجية دينية.
والحزب الجماهيري في أكثر الأحيان يرفض مراجعة طريقة تفكيره وعمله ورؤيته للعالم. وفي كل مرة يختل التوازن، يجري البحث داخل الحزب عن ضحية تتوافر فيها جميع صفات القربان، كأن يكون أحد قياديي الحزب ومن المؤتمنين على السر أو يشغل موقعاً قيادياً كبيراً؛ وكل هذه المواصفات هي مواصفات القربان في الميثولوجيات القديمة، وبالتالي يجري التخوين لمجرد الخروج على الجماعة هذه الجماعة التي تشبه في كثير من الأحيان القطيع، وهذا القطيع يقوده دائماً الراعي الكبير؛ إلى مراعي الخصب كما تخبرنا الميثولوجية القديمة؛ وبالأخص ميثولوجيا الراعي والقطيع في العهد القديم.
وقد يكون في التهم الموجهة للخائن شيء من المصداقية؛ ولكن ما يلفت النظر هي تلك الحالة الهستيرية الدينية التي عادة ما ترافق طقوس تقديم الأضاحي في الميثولوجيات القديمة، فالكل مجمع، على إلصاق تهمة الخيانة به ثم تقديمه على مذبح الحزب الجماهيري والدولة الجماهيرية التي تمر بأصعب ظروفها، فمن شأن هذا الإجماع أن يطهر الجماعة الحزبية من كل الأدران التي ألحقها بها هذا (الخائن) و(الغريب) على جماعته الحزبية، والذي تمكن في خلسة من الزمن وبفضل مواهبه الشيطانية من تَسَلُّم أعلى المناصب الحزبية والقيادية في الدولة.
ويرى الباحث أن ما يحصل في مجالس النواب، يشير بشكل غير مسبوق، إلى أن الحزب الجماهيري والجماعة البرلمانية التابعة، تمر في أزمة مجتمعية لا تجد متنفسها كما تخبرنا المثيولوجيات القديمة إلا بتقديم قربان على ضريح العنف التبادلي الذي ينخر المجتمع والدولة، وأنها لم تقطع بعد الحبل السري مع الجماعة الدينية القديمة، وقد تكون هذه من ميزات العقل السياسي عموماً، فكل رأي مخالف هو خيانة، وكل معارضة مرفوضة، وكل الأصوات عليها أن تسكت أمام صوت المعركة القادمة والظرف الصعب الذي يمر به الوطن، وهذه حالة لا تحسد عليها مجتمعاتنا، وهي حالة تسهم في تغييب العقل السياسي والعقلانية السياسية لصالح ردود الفعل التي تتكاثر على طرفي طريق الجماعة الدينية والحزبية، كفطر ذري سام يحول دون بروز نبتة الإصلاح والديمقراطية المنشودة.