منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: وعـاد النـورس..

  1. #1

    وعـاد النـورس..

    وعـاد النـورس..






    ثلاثون سنة.! كأنني أقفز فوقها الآن..
    أكاد أعلّب في حافلة طويلة لونها فضي، ونوافذها ضيقة. تحمل على جناحها الطويل، كتابة زرقاء أنيقة (عبر الصحراء)..
    ألّوح بيديّ لمظاهرة من المودعين.. أمي أبي أخوتي ورتل طويل من الأقارب..
    وهي تقف وراءهم في مكان بعيد، تلوّح لي بمنديل أبيض يلامس أطراف شالها الأخضر، فأوزع كفي الملوّحة عليهم جميعاً..
    يأخذني المقعد الوثير، في اللحظة التي تلسعني دموع أمي بآخر سوط قاتلت كي ألقيه بعيداً أمام طموح مجهول..
    رحلة عبر رمال الصحراء الصفراء.
    عشرون ساعة أو تزيد ولا شيء إلا الفراغ، يحشو حلماً تبخر بعد ثلاثين سنة، وتقزّم إلى زمن لم يتجاوز الساعتين، يوم اقتلعوني وأدخلوني في أجنحة عملاقة، قذفتني إلى عتبة ما زالت تحبو إلى أمل سيبدأ الآن من جديد..
    تلال مغروزة على صدر بادية قاحلة، تقيأ الرمل على صفحتها صفرة باهتة.
    تمتد تحتي، تنزف بصاقاً وريقاً جافّاً حامضاً انتزع على مدى ثلاثين سنة جلدة حلقي، وطفا فوقي، يلد كل ساعة رمالاً تطير، تحجب ضوء الشمس، وتطبق على قبة السماء، تغزو الصدور وتتلفها.
    طحنتني وصيّرتني قفصاً مجعداً يحمل تفاصيل جسد منهك..
    تلال مغروزة على صدر بادية ولدتها صحراء عميقة، تتراكض تحت بصري وتقترب كلما هبطنا إليها، تقترب وتفرد سطوحها، تنبسط على ضفاف أخاديد عميقة وناعمة، كانت مجاري لسيول فياّضة امتصّتها الرمال وتركتها أثراً بعد عين..
    تنبسط أكثر، يخالطها لون أخضر خجول، يغوص مداد اللون الحميم فيها أكثر فأكثر، ليكشف فجأة عن جنّة خضراء، غوطة تتماوج بين ثنياتها أشجار الشام الباسقة، وفروع بردى الثرّة.
    نحوّم فوقها لحظات..
    ولا نلبث أن نحط على أرض مطار دمشق..
    حملت حقيبتي الصغيرة، وغرزت خطواتي واحدة بعد الأخرى على إسفلت الطرقات..
    لم أجد أحداً في انتظاري، كلهم ذهبوا.!
    من خطفته يد المنون، ومن ضيعته خطوب الحياة، ولا أسمع رغم هدير الزحام، إلا صوت حذائي، يحمل الفراغ ويدقّه على الأرض..


    * * * *


    وحدها كانت زينة المكان، تلوّح بمنديل أبيض، تمسح به لحظة بعد لحظة دمعات تساقطت تلعن الزمن والحلم وبذور الفراق.. قالت:
    - لا تسافر.. أعطيك عمري، وأعطيك لمسة أحلامك..
    كانت ثرية وتكبرني بعدة سنوات، يومها تعارفنا، كنت شاباً تخرجت من الجامعة أحمل اختصاصاً في علوم التاريخ، تصّورت أن الدنيا تفتح أبوابها لتستقبل نبوغي، ومع كل يوم راح يمضي يتقلص الحلم أكثر، يصير التاريخ الذي عبأني وأسدل حولي ملاءة انتماء شديدة التعقيد، قيداً يعض على أطرافي، يكبّلني، يشدّني إلى القاع..
    بحثت بجهد أكثر وصبر أكثر فلم أجد إلا بصيصاً يطل علي من وراء الحدود، قلت علي أن ألهث خلف الأولين، أقطف مثلما يقطفون، وأحمل في كل ترحال وإياب الهدايا، ورنات الدنانير..
    في تلك اللحظة رأيتها، تميس بقوامها الممشوق بين اللوحات والمخطوطات التي زخر بها معرض لمجموعة من الشباب..
    في تلك اللحظة أيضاً تسلقتُ حدود ذاتي، ونفضتُ رسماً صنعته لنفسي، وتعلقت حتى أطراف أهدابي على سحر خفي يطل من عينيها السوداوين..
    كانت رائعة تلك التي أنستني بلحظة لا تزيد، حزني وحقدي..
    عفاف.. وينحدر صوتي، يتسرب في شقوق الطرقات التي دققنا عليها خطانا، ينساب رائقاً صافياً، يعطّر أطراف الاسم الذي ملك عمري..
    عفاف.. تلتصق على صدري، تداعبني خصلات شعرها الأسود الفاحم المعقوص في شريطة حمراء، تسفح على جبهتي فيض أنوثتها، وتعبئ في أطرافي عطرها المسكر..
    تسألني في لحظة شوق من أنت.؟ فيضيع الجواب عن لساني، أحسبها خنجراً جاء من بعيد ليغرز في صدري سمّه القاتل، يضيف إلى قائمة المجهولين اسماً لرجل يحمل قضية..
    قلت لها أول اسم تدحرج من ذاكرتي، فابتسمت، قالت:
    أنت من تكون.. أحبك.. فملكتني..


    * * * *


    عبرت الشارع العريض، لمست براحتي سور الحديقة المدبب، فوجدته قاسياً مثل يدي، جافاً مثل العروق النافرة من أصابعي.. تركت الحقيبة تسقط، وتخطيت البوابة، تهالكت على أول المقاعد، فجلست إلى جانبي.. عبأنا الصمت ساعة، ثم لهثتُ من جديد..
    أسافر إلى الضفة الأخرى.!
    صور لي غروري أن سيلاً من الدموع سيضمخ وجنتيها لكنها لم تفعل، قالت كلاماً غريباً عجيباً..
    تحدثت عن التاريخ، عن الأيام التي تكتب التاريخ، قالت:
    إن شيئاً ما لابد أن يكون على خطأ.!
    هذا العبور المجنون بين الحلم والواقع، هذا البطلان الذي يغلف سبل الحياة، ويلون اسودادها القاتم بشال حريري أخضر، ومنديل أبيض انتصبا هكذا في لحظة أمل.. قالت:
    أنت من تكون، أحبك.. أعطيك عمري، كل أحلامك تصير في لحظة تقول فيها نعم بين يديك..
    في الشارع البعيد، أقبل المساء صافياً، والطرقات تقود الخطى كيف تشاء، شعرها الأسود يتعربش على كتفي ويدها تطوقني..
    تتراكض الأشجار من حولنا مثل فراشات تعبث بأجنحتها الطرية ريح خماسينية، يأخذها الجنوب لحظة، ويسحبها الشرق لحظات. وحدها أقدامنا تسربت بنا إلى علبة ليل..
    الأضواء خافتة وعبق العطور يصدح فوق موسيقى غربية هادئة، تضيف إلى المزاريب الملتفة حول الطاولات أنيناً شبقاً يدغدغ أطراف الأصابع ويلقي بنا على مقعد مزدوج وثير..
    تهمس في إذني:
    لا تسافر.. إبق معي، نعش معاً، إلى أن نموت معاً.!
    تتراقص الأحرف بين أسناني.!
    تسافرين معي.؟ نحقق المعادلة الصعبة..
    فتبتسم، تقترب مني أكثر، تكّز على أسنانها:
    يا حبيبي.. ذكر النورس يسافر ويعود، أما إذا غادرت أنثاه عشها ليوم واحد، يحتله طائر جديد..
    كانت ثرية، وتكبرني بعدة سنوات، ذكية وجميلة، رأيتها كذلك، أجمل من خيالات ألف أنثى تقفز في صدر مراهق.. قالت:
    نتزوج ونعيش..
    لم أجرؤ، قبضت على لساني مجموعة هائلة من اللاءات، ورغم ذلك لم أجرؤ..


    * * * *


    اصطدمت أصابعي بالمسمار البارز من ظهر المقعد، ما زال كما كان منذ ثلاثين سنة.
    شجرة الصفصاف، نافورة الماء ترسل رذاذاً يتطاير إلى كل مكان، تستقبله وجوهنا المشطورة بألم الرغبة المستحيلة فننتعش، نقوم إلى مقعد آخر أمام البركة الضحلة، أطفال ينثرون فتات خبز إلى قبيلة من البط تسبح هنا ويستقر بعضها هناك، يلهث فحل وراء قطعة تكاد تغوص، يغطس إليها.! ثم يتنازل عنها إلى أخرى.!
    زوجته، أحد أبنائه، لم يعد المكان يسمح بالتمييز بين الأنواع..
    تنظر إلي وتبتسم..
    تطير من حولنا وريقات المرجان والتمر حنّة، تظللنا شجرة نخيل عقيم وحيدة تتوسط بألق مجموعة من أشجار الصنوبر الفضفاضة، تنثر في كل حين ثمارها اليابسة بصمت فوق رمل لونته برتقالة المساء بلون حميم، يقرعّني، يهمس في إذني:
    إنها إلى جانبك، يلامس فخذها ركبتيك، وتجول أصابعها الهفهافة بين طيّات حزنك المقيم..
    على زاوية الشارع الثاني بيتها، تطل شرفتها الساكنة تحت عريشة ياسمين على مفارق شوارع عدة. تحمل مع ما تحمل إبريق فخّار يتوسد الإفريز، يراقبني كلما أتيت ويناديها، فتقفز الدرجات، تصل إلى الفسحة الأخيرة، يستقبلها صدري..
    عفاف.. بعد رسالتي الرابعة، أخذتني رناّت الدنانير، وربطات العنق والسيارات الفاخرة، وبين هؤلاء تنافست الأيام فيما بينها وراحت تتدحرج كالكرات، تسوق معها الأشهر والسنوات..
    ثلاثون سنة.!
    أعترف أنني لم أكن صادقاً، ولم أكن مخلصاً، وحين قذفتني أجنحة عملاقة أنا وحقيبة حقيرة كل ما تحتويه ملابس داخلية وحذاء.. صحوت من غفلة مديدة.!
    لم تتبدل الأشياء أمامي إلا قليلاً..
    بائع الصحف القديم المتعتب بوابة الحديقة تبدلت واجهته عشرات الصور الملونة لأفخاذ ونهود وشفاه مكتنزة ليس فيها إلا دعوات مجنونة، وأكداس من أطعمة الأطفال الرخيصة..
    ارتفعت الأرصفة قليلاً، وانتصبت جسور، وثقبت أنفاق، وتلونت زوايا الشوارع بخطوط بيضاء عريضة لا يكترث بها أحد..


    * * * *


    وحدي على مقعد الحديقة.. تداعب أصابعي الفراغ.
    وتنّز أقدامي على رمل المساء خيبة ليس لها مثيل..
    لو كانت إلى جانبي..!
    أعرف أنها هناك، على مرمى شارع واحد، في بيتها المطل على غابة من الصنوبر تشدني لأبقى، فأهرب..
    أعترف أنني لم أكن مخلصاً ولم أكن صادقاً..
    أحببتها. لكنني أحببت في المقابل أشياء أخرى، رأيتها أكثر أهمية، وقبل أن أصحو من دوامة الأحلام السخيفة حاسبتني نفسي..
    أيها المتشرد، بلا زوجة ولا ولد، ليس لك إلا ستّون سنة فارغة، وحقيبة خفيفة تزداد ثقلاً كلما طال بك المسير، ولا تعرف إلى أين.؟
    يخزني المسمار البارز من ظهر المقعد، تسري في أطرافي رعشة خفيفة، تهزنّي أكثر وتدعوني إليها..
    تحملني حقيبتي هذه المرة، ويطويني غروري تحت إبط وعرق سفوح كثيرة لم تعد على ذات القدر من الأهمية..
    تتلمّس أصابعي حجارة الأبنية المتلاصقة، وأسوار الحدائق التي بدت أكثر مناعة من قبل.
    يمسكني رصيف ويتركني آخر، وتتزاحم جذوع الأشجار بين خطواتي، تغلق أمامي مساحة الدروب.
    أقتلع خطواتي المتعبة على المنعطف الأخير، أرى صورتي ملتصقة على زجاج طويل.. شيبي يئن، وسنوات عمري الستين تسخر مني، تسألني.!
    إلى أين تمضي.؟
    فأصمد..
    أفتقد إبريق الفخار، ويصفعني عويل عريشة الياسمين المحنّطة، أحمل أعضائي، وأنصت إلى وقع خطواتي على الدرج الرخامي واحدة اثنتان عشرة…
    يطل علّي الباب المصفّح بلون بني غامق، تمتد سلاميات أصابعي تطرق الخشب طرقات ما زالت تحمل شجوني وغروري وصبوتي..
    لحظات وينفرج الباب..!
    صبي ما زال بعمر نبتة الدادا التي سمعت وشوشاتنا المجنونة، ثم سخرت منا وهي تطرح ورودها الزهرية. تفاجؤنا في الصباح التالي بذبولها المتعّمد..
    تلعثمت واصطكت أسناني، أحسست بعرق بارد ينزلق على كفّي، يكاد يفلت الحقيبة من يدي..
    - عفاف..؟
    ينظر في وجهي طويلاً، يشاغل حيرته بضرب ضلفة الباب بمقدمة قدمه النحيلة، ثم يبتسم بصفاء:
    - عفاف.؟ لا يوجد أحد بهذا الاسم..!
    - لكنها مثلك تحب مزيج الألوان التي ترتديها..
    ينفتل إلى الداخل.. يلطمني صوته الدقيق:
    - ستي، ستي.. رجل عجوز يسأل عن واحدة اسمها عفاف..
    أسمع رتابة تتابع طرقات ثلاث على مسافة قريبة..
    أغرز وجهي في الأرض، وأنزل الدرجات الرخامية التي بدت لامعة برّاقة..
    يتابعني صوت خفيض، مقلوع من قاع ثلاثين سنة..
    - أنا عفاف..!
    وحين أواصل صمتي وهبوطي، تردد بإصرار أكثر يسابق خيبة خطواتي:
    - أنا عفاف..!
    ناضلت بكل ما تبقى في محاجري من قوة كي لا أرفع ناظري.. كانت قدماي تداعب برفق رخامات الدرج، أناضل كي أرى في بريقها صبّية، تقف دائماً وراء صفوف المودعين..
    تلوح بمنديل أبيض يلامس شفيف شال أخضر، يتعانقان مع شريطة حمراء تتوسط شلال شعرها الأسود..
    تلقفني الشارع..
    وأخذني بعيداً المنعطف الأخير..
    موقع عدنان كنفاني
    http://www.adnan-ka.com/

  2. #2
    نجد هنا في سرد الاديب الكبير عدنان كنفاني نوع صعب من الحديث الجواني,العامل النفسي مضخما حتى الثمالة,حتى الانا الأعلى,أين أنا؟ماذا فعلت؟لماذا رحلت؟
    حتى ان الرموز المطروحة :بتضاريسها وشخوصها "عفاف" تبرز عامل الوطن على مصراعية ,وتؤذن بألم الفراق,وامل العودة,ولأن أمل العودة طيف حلم وجدناه بسطور قليلة في آخر النص,الأديب كنفاني يتقن اللعبة السردية بامتياز,ليمسك بيد القارئ ويقول له:هذا وجعي,وتكاد تحمل معظم قصصه العامل المشترك هذا بطريقة ما,لكنه ينجح في عامل التشويق الذي يميزه كقاص عن غيره ,بالمقدرة على سفح حروفه وكلماته بأريحية وتمكن.
    تتبدى مفاصل النص مابين وصف ذاتي,ودور عفاف,والمكان والرحيل ورغبة الوعدة,وتكاد ميكانيكية النص تظهر محاولته لموازاة المفاصل(فقرات النص) مع بعضها بلا داع ربما لترك مساحة كتابية موازية.
    العنوان موح جدا,وكأن النورس بات مراقا لكل نصوصه واضحا أو مضمرا,تظهر لنا الألفاظ مدى حبر القهر الذي يكتب فيه كاتبنا,وعمق الدفق العاطفي الذي يكتب فيه والشحن الكبير الذي يستثمره لصالح الفكرة:أقتلع-ويصفعني-ينفتل....)
    مررت من هنا وتركت إعجابي.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    أديبنا الكبير , أنت رائع , استمتعت بهذا السرد وشكراً لك .

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •