منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4
  1. #1

    مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي

    مقامات طريد الزمان الطبراني/ المقامة الأولى/ د. يوسف حطيني

    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني(1)
    المَقَامَةُ الأُولَى: عَطَا الزِّيْر لا يَأْكُلُ لحْمَ الخِنْزير
    د. يوسف حطيني
    إلى خالد موعد الذي لم يشرب من ماء الزجاجة
    كُنَّا في إِحْدَى لَيالي رَمَضان، في مَجْلِسِ طَرِيدِ الزَّمَان، فوَجَدْناه مُغْتَمّاً في غَاية الكَآَبة، إذْ رَاحَ يَنْظُرُ إليْنَا نَظْرَةً مُرْتابة، ثم انتَفَضَ بنا فَجْأةً وسَأَلَ في صَوْتٍ يُشْبِهُ الهَدير:
    هَلْ تَأْكُلُونَ لَحْمَ الخِنْـزير؟
    قُلْنَا: نَعُوذُ بالله.. الخِنْـزيرُ لا يغار، إذا نَزَا عَلى خِنْـزيرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، ولَحْمُهُ يَخْفِضُ مَنْسُوبَ الشَّهَامَةِ في دِمَاءِ النَّاس، وَيَقْتُلُ فِيْهِم المُرُوءَةَ والإِحْسَاس، ويَتَغَلْغَلُ في الدَّمِ والدَرَقِ والبِنْكِرْيَاس، فَكَيْفَ نَكُونُ لَهُ آكِلين؟
    قَالَ: مَا أَظُنُّكُم إلا فَاعِلين.
    قُلْنا، وَقَدْ رَكِبَنَا شَيْطَانُ القَلَق، وسَارَتْ في دِمَائِنا حُمَّى النَـزَق: كَيْف؟
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنَّا قَبْل ثَلاثِ لَيالٍ نحُثُّ عَجَلاتِ المَرسيدس نحْوَ أَحَدِ الخَانَات الحَدِيثَةِ في المَدينَة، حَيْثُ دُعِينا إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الإِفْطَار، تِلْكَ السَّيَارَةِ التي وَرِثَهَا صَدِيقُنا أبو الجماجم عَنْ أَبِيْهِ المِغْوَار، الّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الثوّار، فَقَدْ تَدَرَّجَ أبُوهُ في الكَرَاسِي، حَتّى صَارَ عُضْواً في المَكْتَبِ السِّيَاسِي؛ ولأنَّ صَاحِبِنا لم يَكُنْ يَحْفَظُ دُعَاءَ السَّفَرْ، فَقَدْ أَوْجَسْتُ مِنَ الخِيْفَةِ والحَذَر، ورُحْتُ أُتَعَوَّذُ وأُبَسْمِلُ وأُصَلّي عَلَى النَّبيِّ العَدْنَان، مُنْذُ انطَلَقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلى المَكَان، بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَان ، فَإِذَا بِنَا وَقَدْ اِبْرَنْقَشَتِ الأَرْضُ، وإِذَا بِنَا أَمَامَ مَرْجٍ أرِيْض ، طَوِيلٍ عَرِيْض، أُقِيمَ عَلَيْهِ صَرْحٌ يَتَحَدَّى الآبَاد، وعَلَى أَبْوَابِهِ حَرَسٌ أكْثَرُ أَنَاقَةً مِنَ الرُّوَّاد.
    وإذْ دَخَلْنَاهُ ضِعْنا في مَدَاخِلِهِ، وأَخَذَتْنَا دُرُوبٌ ودُرُوب، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنا وَقْتُ الغُرُوب، فأَتَيْنَا قَاعةً كَبيرة، طَاوِلاتُها كَثيرة، فَأَدْرَكتُ أنّا وَصَلْنا إلى الطَّعَام، ولم نَجِدْ الفُرْصَةَ لنُسَلِّمَ عَلَى مَعَارِفِنا مِنَ الأَنَام، فَأَسْرَعَ أبو الجَمَاجِم، وتَنَاوَلَ ثَلاثَ تَمَرَاتٍ عَنِ المَائِدة، وَحَشَاهَا في فَمِهِ دُفْعَةً وَاحِدَة، وحينَ مَدَدْتُ يَدي لآكُلَ تَمْرَاً، ذَكَّرَني أنْ أَجْعَلَهُ وِتْرا.. وَهَكَذَا فَعَلْتُ، ثم غَبَّ وغَبَبْتُ، وكَرَعَ وكَرَعْتُ.
    ثمَّ نَظَرْتُ إلى الطَّاوِلاتِ فَوَجَدْتُها شِبْهَ خَالِيَة، فَاسْتَفَزَّتني مَعِدَتي الخَاوِيَة، وقُلْتُ لأَبي الجَمَاجِم: لعلَّنا مَدْعُوونَ إلى أَكْلِ التَّمْرِ وشُرْبِ المَاء، فَسَخِرَ مِنّي وَقَالَ بِلَهْجَةِ خَبِيرِ الخُبَرَاء: أَلَمْ تَرَ مِنْ قَبْلُ مَائدةً مَفْتُوحَة..
    ضَحِكْتُ ضِحْكَةً مَجْرُوحَة، فَاقِداً اتِّزَاني وهُدُوئي، حَتَّى كِدْتُ أَسْتَلْقِي عَلَى قَفَايَ لَوْلا خَشْيَتي مِنَ اِنْتِقَاضِ وُضُوئي، وَقُلْتُ: الحَمْدُ لله عَلَى نِعَمِهِ السَّائِدَة.. لَقَدْ أَصْبَحَ كُلُّ شَيْءٍ مَفْتُوحَاً حَتَّى المَائِدَة..
    عَبَسَ أَبُو الجَمَاجِمِ في وَجهي ثم تَجَهَّم، وسِرْتُ وَرَاءَهُ كالمسرنم، أقلّده في كُلِّ شَارِدَةٍ ووَارِدَة، مَالِئاً صُحُوني مِنَ الأَطْعِمَةِ السَّاخِنَةِ والبَارِدَة، وزَلَحْتُ الطَّعَامَ فَوَجَدْتُهُ لذيذاً، فأكَلْتُ حتَّى حَمِدْتُ العَلِيَّ القَدِير، وَقَدْ لَفَتَني رَجُلٌ يَعْذِفُ مِنَ الطَّعَام الشَّيْءَ اليَسِير، وإِذْ سَألْتُ عَنْهُ أبَا الجَمَاجِمِ قَالَ في خُيَلاء: إنَّهُ وَالِدُ أَحَدِ الشُّهَدَاء، وَقَدْ دَعَوْنَاهُ إِكْرَاماً لابنِهِ الشَّهِيد. أَنْتَ تَعْرِفُنَا أيُّهَا الطَّرِيد، فَنَحْنُ لا نُهْمِلُ أُسَرَ الَّذينَ ضَحَّوْا بالمَالِ والبَنِين، مِنْ أَجْلِ فِلَسْطِين، فَفِي كُلِّ وَلِيمَةٍ ندْعُو واحداً مِنْهُم، يَأْتي لِيَفْثَأَ بِزُجَاجَةِ كولا مَشَاعِرَهُ الحَرَّى، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ حَتَّى يأتيَ دَوْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى، قُلْتُ: يَا أبَا الجَمَاجِم، وَمَاذَا عَنْ أُمَّهَاتِ الشُّهَدَاء، وَمَنْ سَيَدْعُوهُنَّ إلى الوَلائِم؟ قَالَ: بَسِيطَة، تَتَكَفَّلُ بهِنَّ أُمُّ الجَمَاجِم..
    وبينما كنّا نأكل وجَّه أبو الجماجم خطاباً إلى والد الشهيد:
    كُلْ يَا أَخِي.. كُلْ واشْرَبْ هَنِيئاً مَرِيئاً، فَإِنَّ مَالَ الثَّوْرَةِ للثُّوَار.. ثمَّ صَبَّ لَهُ أَبُو الجَمَاجِمِ، بِتَوَاضُعِ الكَريمِ المِعْطَاءْ، كَأْساً مِنْ زُجَاجَةِ المَاء، ولكِنَّ الرَّجُلَ رَفَضَ أَنْ يَكُونَ لهَا شَارِبَا، وحِيْنَ أَصَرَّ اِنْصَرَفَ الرَّجُلُ إلى مَائِدَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ أبُو الجَمَاجِمِ غَاضِبَا:
    "برُولِيتَارية قَذِرَة"!!
    قَالَ لي أبُو الجَمَاجِم: ما رَأيُكَ أنْ تَقُومَ مَعِي لتَأخُذَ بَعْضَ الحلوى؟
    قلت: "إذا الأكل مُو إلَك بطنك مُو إلَك ؟؟"
    فَحَدَجَني بِنَظْرَةٍ قَاسِيَةٍ حَدْجَا، ثمَّ انْطَلَقَ يُغَنِّي مُحْتَجَّا :"طَالِعْ لَكْ يا عَدُوّي طَالِعْ.. مِنْ كُلّ بِيْت وحَارَة وشَارِع".
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    وّحِيْنَ لَمَحْتُ وَالِدَ الشَّهِيدِ في إِحْدَى زَوَايَا الدَّجْمَةِ اقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَسَأَلْتُهُ:
    لمَاذَا لم تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَة؟
    قَال: قِصَّةٌ فِيْهَا لجَاجَة.
    قلت: اروِهَا الآن.
    قَالَ: لا بَأسَ يا طَرِيْدَ الزَّمَان، عَلَى أَنْ يَسْمَعَهَا "فَارِسُ الفُرْسَان".
    ثُمَّ إِنّي ذَهَبْتُ إِلَى أَبي الجَمَاجِم مِنْ فَوْرِي، وَشَرَحْتُ لَهُ أَمْرِي، وَرَجَوْتُهُ أَنْ نَسْمَعَ حِكَايَةَ الزُّجَاجَةِ في بَيْتِهِ الفَسِيح، بَعْدَ أَنْ أَصَابَتْني مِنَ الشَّوْقِ إلى سَمَاعِهَا التَّبَارِيح، فَقَال: إذاً سنَسْمَعُهَا بَعْدَ صَلاةِ التَّرَاوِيح.. وهَكَذَا كَان.
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد، وَهُوَ يَجْلِسُ عِنْدَ العَتَبَة: حِكَايَتي مُقْتَضَبَة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ تَنَاوُلَ لحْمِ الخِنْـزِير يُذهِبُ المُرُوءَةَ، وأنَّ الخِنْـزيرَ لا يَغَار، إذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيْرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، وسَمِعْتُ أنَّ الجِيْلَ السَّابِق قد هَنِئَ بمُجُافُاتِه، وأنَّ عَطَا الزّيْر لمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ في حَيَاتِه.
    قلتُ: عطا الزير فقط..
    قال: عَطَا الزِّير ومحمَّد جَمْجُوم وفُؤَاد حِجَازي والقَسَّام وأَحْمَد يَاسين وصَلاح خَلَف وأبو عَلِي مُصْطَفَى، وغَيْرُهُم كَثير، وَلَكِنَّ الّذينَ أكَلُوا مِنْهُ كَثِيرونَ أَيْضاً.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم: وَهَلْ تُصَدِّقُ أنَّ كَثيراً مِنّا أَكَلَ لَحْمَ الخِنْـزِير؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد: نَعَمْ أُصَدِّقُ.. فَلَيْسَ هَذَا عَلَى أَمْثَالِنَا بِكَثِير.
    انتَفَضَ أبو الجَمَاجِمِ كَمَا لم يَنْتَفِضْ يَوْمَ مَذْبَحَةِ جِنِين، قَائِلاً: "كلام عَدُوّين"، ثُمَّ أَضَافَ، بَعْدَ أنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِه، واتّكَأَ عَلَى جَاعِرَتِه: عَلَيْكَ أنْ تَأتِيَ بالبُرهَان، لا أنْ تَتَّهِمَنَا اِسْتِنَاداً إلى الزُّورِ والبُهْتَان، بَعْدَ أنْ حَارَشْنا الأعْدَاء رَدَحاً مِنَ الزَّمَان؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد: العِرْض عِنْدي لا يَتَجَزَّأ.. فالأرْضُ صِنْوُ العِرْض، وَمَنْ تَجَرَّأ عَلَى بَيْعِ الوَطَن، وَقَبَضَ الثَّمَن، ونَسِيَ الألمَ، ووَقَّعَ وَبَصَم، وَمَنْ رَأَى فِلَسْطِينَ تُبَاعُ في سُوقِ النِّخَاسَة، فَفَضَّلَ ألا يَتَدَخَّلَ في السِّيَاسَة، يُسَاوِي عِنْدِي خِنْـزِيراً لا يَغَار، إِذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيرَتِه جَحْشٌ أو حِمَار.
    قُلْنَا، وقَدْ ألهَبَ عُرُوقَنا هَذَا الكَلام : هَلْ تَضَعُنَا جَميعاً في قَفَصِ الاتِّهَام؟
    قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الأعْدَاءَ صَارُوا يَضَعُونَ لَحْمَ الخِنْـزِير في كُلِّ شَيْء.. في الكُولا، وفي سَائِرِ الخَلْطَات، حتَّى إِنَّهُم يَحُلُّونَ مَسْحُوقَهُ في المَاءِ المُعَبَّأ في زُجَاجَات.
    قَالَ أبو الجَمَاجِم، وَقَدْ خَلَعَ ثَوْبَ الأَدِيْب: مَاذَا تَقْصِدُ يَا قَلِيْلَ التَّهْذِيب؟
    قَالَ: الكُلُّ مُصَاب، مِنَ الشَّبَابِ والشُّيَاب، عَدَا أولئِكَ الفُقَرَاء، الّذِيْنَ لا يَسْتَطِيعُونَ شِرَاءَ الوَجَبَاتِ السَّرِيعَةِ وعُلَبِ الكُولا وزُجَاجَاتِ المَاء..
    قَالَ أبُو الجَمَاجِم: وَأَنَا؟
    قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد بهُدُوءٍ: وَأَنْت.
    أَرْغَى أَبُو الجَمَاجِم وأَزْبَد، وغَلُظَ طَبْعُه، واِرْبَدَّ وَجْهُه، وَمَلأَ الجَوَّ بالصُّرَاخِ والطِّنَان، وَطَرَدَنا جَمِيعاً خَارِجَ المَكَان..
    وإِذْ ذَاكَ لَحِقْتُ وَالِدَ الشَّهِيد، وَقُلْتُ لَهُ فِي ذُهُول: أُصّدِّقُكَ فِي كُلِّ مَا تَقُول، وَلَكِنّي شَرِبْتُ الكَثِيرَ مِنَ الزُّجَاجَات، وَأَكَلْتُ المُتَنَوِّعَ مِنَ الخَلطَات، فَكَيْفَ أنجُو مِنْ هَذَا البَلاء، وأنْتَ أدْرَى بالبِئْر والغِطَاء؟
    قَالَ: تَشْرَبُ مِنْ بُحَيْرَة طَبَرِيَّة.
    قُلْتُ: العَيْنُ بَصِيْرَة واليَدُ قَصِيْرة.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ حَيْفا.
    قُلْتُ: هَذِهِ أَصْعَبُ.
    قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ غَزَّةَ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيْمَان.
    قُلْتُ: هَذِهِ سَهْلة، إلا إِذَا حَوّلَهُ الجَيْشُ الإسْرَائِيليُّ بَحْراً مِنَ الدِّمَاء، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ قَتَلَ عَلَى الشَّاطِئِ أباً وَسَبعَةَ أَبْنَاء.
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    والآنَ بَعْدَ أنْ سَمِعْتُم الحِكَايَة، وَفَهِمْتُم الغَايَة، مَا أنْتُم فَاعِلُون؟
    وَإذْ ذَاكَ لم يَنْطِقْ أيٌّ مِنّا بكَلِمَةٍ أَوْ حَرْف، وَحَطَّ عَلَيْنَا طَائِرُ الفَزَعِ والخَوْف، وَصِرْنَا مِنْ أَمْرِنَا في حَيْصَ بَيْص، ولم نَدْرِ مَا نَفْعَلُ في اللَّيَالي الدَّجُوجِيَةِ القَادِمة، بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَتْنَا الحَيْرَة: أَنَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَاتِ، أَمْ مِنْ مَاءِ البُحَيْرَة؟
    أَمَّا طَرِيدُ الزَّمَان فَقَدْ وَدَّعَنَا إلى البَاب، تَوْدِيعَ الأحباب، قائِلاً بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتَّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: وَمَا عُنْوَانها، قَال: "العَمّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ في غَزَّة"

    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(2)
    المَقَامَةُ الثَّانِيَةُ: العَمُّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ فِي غَزَّة
    د. يوسف حطيني
    إلى الدكتور أحمد عطيّة السّعودي امتناناً لأحماضه الأدبيّة
    حّدَّثَنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني قَال:
    كّنْتُ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ المُخَيَّم، قُرْبَ سُوقِ الخُضَار، عِنْدَمَا انتَبَهْتُ إِلَى أنّ الظَّلامَ قَدْ خَيَّم، وطَارَتْ بَرَكةُ النَّهَار، وإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابي الَّذينَ بَاوَكْتُهُم فِي المُؤْتَمَرَاتِ زَمَناً طَوِيْلاً، يَحُثُّونَ نَحْوِي المَسِير، وكَأَنَّهُم مُقْبِلُونَ عَلَى شَيْءٍ خَطِير، فَحَكَّ في خَاطِري فَأْلٌ سَيِّئ، فَقُلْتُ بِصَوْتٍ وَاجِل: أَجَارَنَا اللهُ مِنْ خَبَرٍ عَاجِل، قَالُوا: الإخْوَةُ يجتَمِعُونَ عَلَى طَاوِلَةِ الحِوَار، وَأنْتَ مَشْغُولٌ بالبَنْدُورَِة والخِيَار؟ قُلْتُ: أَوْجِزُوا، فَإِنّي مُكَلَّفٌ بمُهِمَّةٍ رَسْمِيَّة، مِنْ قِبَلِ وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة ، قَالُوا: سَوَّدَ اللهُ وجْهَكَ. نَدْعُوكَ لغَايةٍ سَنِيّة، فَتُحَدِثُنَا عَنْ شُؤونِكَ الأُسْريّة. ثمَّ أَضَافُوا سَاخِريْن: أَتَذْهَبُ مَعَنَا في الحَال؟ أَمْ تَعُودُ إِلَى أُمِّ العِيَال؟ فَاسْتَفَزَّني هَذَا التَّحَدِّي السَّافِر، وَقُلْتُ: أَذْهَبُ مَعَكُم دُوْنَ اِسْتِخذَاء، وَأَضْمَرْتُ الاِسْتِعْدَادَ لِلَيْلَةٍ سَوْدَاء.
    ثمَّ اِنْطَلقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلَى المَكَانِ، فَوَجَدْنَا فِيْهِ خَلْقاً كَثِيراً، وإِذْ نَظَرْتُ فِيهِ نِظْرَةَ المُرْتَاب، طَالَعَني مِنَ الأَوْضَاح عَجَبٌ عُجَاب، مِنَ الشِّيبِ والشَّبَاب، بالإِضَافَةِ إلى سَافِرَاتٍ وَمُحَجَّبَات، نَامِصَاتٍ وغَيْرِ نَامِصَات، يَتَدَرَّجْنَ مِنَ المَوْجُوْنَاتِ المُستَتِراتِ بِالبَرَاقِع، إلى المُرْتَئِدَات اللائِي يَتَبَرَّعْنَ بِأُنُوثَتِهِنَّ لِعُيُونِ الجَائِع، وَثمَّةَ صُرَاخٌ وَصَفِير، وحَمْحَمَةٌ وزَئِير؛ لِذَا فَقَدْ تجَرْثَمْتُ فِي مَكَاني، ولم أُغَادِرْه، وَنذَرْتُ للرَّحمنِ الصِّيَام، لأنّ الاِسْتِمَاعَ فِي مِثْلِ هَذِه الأَحْوَالِ أقْرَبُ إلى التَّقْوَى مِنَ الكَلام.
    وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان، مُفْتَتِحاً جَلْسَةَ الحِوَار، بِبَيْتٍ مِنْ أَجْمَلِ الأَشْعَار، فَقَال:
    وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا يَظُنَّانِ كُلَّ الظَنِّ ألا تَلاقِيَا
    قَالَ رَجُلٌ نَظِيفُ الوَجْهِ واللِّسَان، وقَدْ زعبَلَ ، وامتَدَّ كِرْشُهُ في غَيْرِ اِتِّزَان: عَلَى الجَمِيعِ أنْ يَعُودُوا إلى حِدُودِ مَا قَبْلَ حَرْبِ حَزِيْرَان.
    بَيْنِي وبَيْنَكُم ظَنَنْتُ الرَّجُلَ يَتَحَدَّثُ عَنْ حَرْبِ سَبْعَةٍ وَسِتِّين، غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لم يَكُن صَحِيْحاً، إِذْ أشَارَ إلى عَامِ 2007، يَوْمَ آلَتْ الأُمُورُ في غَزَّةَ إلى حَمَاس، بَعْدَ أنْ تَفرّثَتْ شَرِطَةُ عَبّاس.
    قَالَ آخَرُ بِاسْتِخْفَاف:
    - وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟
    فَعَلا الهِيَاجُ والوَعْوَاع ، وكَثُر الوِيعُ والوَاع، لَوْلا أنِ اقتَحَمَ رَجَلٌ مُرَقَّعُ الثِّيَابِ، أَوْذَمَ عَلَى السِّتّين، جُمُوعَ المحتَشِدِين، وَهُوَ يحْمِلُ صِينِيَّةَ الشَّاي، فَاكْتَسَت وُجُوهُ الجَمِيعِ بالحُبُور، وَزَالَ التّوَتُرُ والنُّفُور، وَأَقْبَلُوا عَلَى الشَّايِ يَكْرَعُون، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الأَشْرِبَات، يَقُومُ بجَمْعِ الشَّتَات، ويُمَهِّدُ الأَرْضِيَّة، لِتَحْقِيقِ الوحْدَةِ الوَّطَنِيّة، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ حَسَّان:
    إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً فَهُنَّ لِطَيِّبِ الشَّايِ الفِدَاءُ
    قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي أَكْرمَ شَارِبَيْه بِصَوتٍ مُرْتَفِع: شُكْراً لَكَ يا عَمّ حَمْزَة..
    ثمَّ أَضَافَ سَاخِراً: لَعَلَّكَ تُريد مُشارَكَتَنَا الحَدِيث.
    - لا.
    - وَمَاذَا فَعَلْتَ باللَّيْرَاتِ الخَمْسِين، الّتي أعْطَاكَ إِيَّاها أَبُو الأَمِين؟
    - تبرّعْتُ بِهَا لأَهْلِ غَزّة.
    - بهذِهِ السُّرْعَة؟
    - تَبَرَّعْتُ بها حَالمَا رَأَيْتُ لجْنَةَ التَّبَرًعَات.
    - وَهَلْ لَدَيْكَ كَثِيرٌ مِنَ الخَمْسِينَات؟ أنَا أَعْرِفُ أنَّكَ مُثْقَلٌ بالدُّيُونِ الوَالِثَة، وَهَذَا التَّهَوُّرُ قَدْ يَقُودُكَ إلى كَارِثَة.
    - إنَّهُم يُدَافِعُونَ عَنِّي وَعَنْك.
    وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
    هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِغَزّةَ مِن أرْوَاحِنا مَا اسْتَحَلَّتِ
    قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيْف:
    - ألا تَخْشَى ألا يَصِلَ تَبَرُّعُكَ إِلَى أَهْل غَزَّة، أَنْتَ تَعْرِفْ يَا عَمّ حَمْزَة، أَنَّ هَذِهِ التَّبَرُعَاتِ قَدْ يُصَادِرُهَا الأعْدَاء، وأَنَّ جَهْدَكَ قَدْ يَضِيعُ في الهَوَاء.. ثمَّ مَاذَا سَيَفْعَلُ الغَزِّيُّونَ يَا مِسْكِين، بِلَيْرَاتِكَ الخَمْسِين، وهَل سَتَكْفِي للغِذَاء والدَّوَاءِ والبَنْزِين؟
    - أَقُومُ بِوَاجِبي، وَلا يهمُّنِي فِعْلُ الآخَرِين.
    سَأَلَتْ امرأةٌ ذَاتُ مِنْديلٍ مُزَرْكَشٍ بِصَوْتٍ مَمْطُوط:
    وَلمَاذَا لا تُقَدّم تَبَرُعَاتِكَ إِلَى المَسْؤُولِين، يَحْمِلُونَهَا مَعَهُم إِلَى المُحْتَاجِين.
    انْتَفَضَ رَجُلٌ مِن الجَالِسِين قَائِلاً:
    - تُصَادِرُهَا شَرِطَةُ عَبّاس؟
    قَالَ آَخَر:
    - رَحِمَ اللهُ شَرِطَةَ عَبَّاس، فَقَدْ آَلَتْ الأُمُورُ إِلَى حَمَاس.
    قَالَ الرَّجُلُ بِاسْتِخْفَاف، وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟ وشَرِطَةُ عَبَّاس؟
    - تَدَخَّلَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
    - ألا تَعْرِفُ عَبَّاس بنَ فِرنَاس، ذَلِكَ القَائِدَ الدِّرْبَاس، الَّذِي أَرَادَ أنْ يَطِيرَ مِنْ رَام الله إِلَى القُدْسِ بِنِصْفِ جَنَاح.. فِعْلةَ مَنْ يَسْعَى إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاح.
    قَالَ العَمّ حَمْزَة قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ: لا تَغْبَجُوا الشَّاي عَلَى مَهَل، فَالعَشاء الّذي طَلَبْتُمُوهُ سَيَصِلُ في العَجَل.
    قَالَ الرَّجُل الَّذي أَكْرَمَ شَارِبَيه: العَمّ حَمْزة نَمُوذَجٌ حَيٌّ للبْرُولِيتَاريَا الرَّثَة.
    وَضَعَتْ بَعضُ السَّيِّدَاتُ فَوقَ أُنُوفِهِنَّ الكَمَّامَات، حَتّى لا تُزْكِمُهُنَّ رَائِحَةُ الكَلِمَات، غَيْرَ أنَّه أضاف:
    لَعَلَّكُم لا تَعْرِفُونَ أنَّ العَمَّ حَمْزَة مَا زَالَ يحتَفِظُ بمَفَاتِيحِ بَيْتِه في فِلَسْطِين، وَأَنَّ "كُوشَان" بيتِهِ وحاكُورَتِه مِا زِالِ مِعِهُ في حِرْزٍ مَكِين.
    قَالَتْ إِحْدَى الحَاضِرَات: يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يُصْبِحُ فِيْهِ القَابِضُ عَلَى المِفْتَاحِ والكُوشَان، كالقَابِضِ عَلَى جَمْرَةٍ مِنَ النِّيرَان.
    قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيف:
    إذا كَانَ مِنْ أَهَالي الـ48 فَأَنْصَحُهُ أنْ يَخْلُدَ إلى الجَمَامَة ، وَأنْ يُلْقِي المِفْتَاحَ والكُوشَان في القُمَامَة.
    رَدَّ الرَّجل الّذي أَكْرَمَ شَاربَيْهِ ولِحْيَتِهِ: لَنْ يُلْقِيَ المِفْتَاح، لأنَّ حُدُودَ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ النَّهْرِ إِلَى البَحْر.
    قلتُ في نَفْسِي: حُدُودُ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ الجُرْحِ إِلَى السِّكِّين، غَيْرَ أَنّي خِفْتُ أنْ أَتَدَخَّلَ بالحَدِيْث، فَأَزِيدَ بِلَّةًَ فَوْقَ الطِّيْن، لأنَّ الرَّجُلَ النَّظِيف خَرَجَ عَنْ طَوْرِه، وكَادَ يُحَاصِب المُتَحَاوِرِين.
    هَمَسَ صَدِيقٌ في أُذُني قَائِلاً:
    أُفَكِّرُ في أَنْ أحْتَاصَ للأَمْرِ، حَتَّى لا تَضِيعَ القَضِيَّة.
    قُلْتُ: كَيْف؟
    قَالَ: أَنْشَقُّ مَعَ مجْمُوعَةٍ مِنَ الرّفَاقِ، ثمَّ أُطَالِبُ بالوحْدَةِ الوَطَنِيّة..
    بَعْدَ أنْ أُفْرِغَتْ كُؤُوسُ الشَّاي ارتَفَعَت الأَصْواتُ مِنْ جَدِيد، بالاتهَامِ والقَذْفِ والتَّنْدِيد، وَخِيَانَةِ المِيثَاقِ وَتَضْييعِ الهُوِيَّة، وَلم نَتَّفِقْ إلا عَلَى مُقَاطَعَةِ البَضَائِعِ الأمْرِيكِيّة، في اللَّحْظَةِ الّتي وَصَلَتْ فِيْهَا وَجَبَاتٌ مِنْ مَطَاعِمِ مَاكدُونُالْدز، فَقَرَّرْنَا أنْ نَأْكُلَ الطَّعَامَ اللَّذِيْذ، قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ قَرَارُ المُقَاطَعَةِ حَيِّزَ التَّنْفِيذ.
    ثُمَّ إنَّ الخَطِيبَ بنَ لِسَانٍ بَادَرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الطَّعَامِ إِلَى القَوْل:
    ولا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضةً فَإِنّ الخَوَافي قُـوَةٌ للقَـوَادمِ
    وَقَدْ فَاجَأَني أنَّ قَوْلَه لاقَى تَصْفِيقاً وَاسْتِحْسَاناً مِنْ جَمِيعِ الإِخْوَةِ والرِّفَاق، فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الاتِّفَاق، إِلا أَنَّنِي اكتَشَفْتُ بِسُرْعَةِ البَرْقِ وَهْمَ الصّفاء، فَجَئِزْتُ بِكَأْسِ المَاء، إِذْ سَرْعَانَ مَا عَادَ الخِلافُ والتَّجَافي ، عِنْدَ تَحْدِيدِ القَوَادِمِ والخَوَافي، لِكَيْ يَسْتَطِيعَ عَبّاسُنا أنْ يَطِير، فِي دَرْبِ الاسْتِقْلالِ والتَّحْرِير. فَالجَمِيعُ هُنَا مِنَ القَوَادِمِ القَاسِيَة، ولَيْسَ ثَمَّةَ أيَّةُ خَافِيَة، اللهمّ إلا العَمّ حَمْزَة، لِذَلِك سَارَ الحِوَارُ مِنْ جَدِيدٍ إلى الهَاوِيَة، ولم يُفْلِح الشَّايُ في تَصْفِيَةِ الأَجْوَاءِ مَرَّةً ثَانِيَة.
    واشْتَدَّ الهِيَاجُ والصِّيَاح، حتَّى طَلَعَ الصَّبَاح، وسَكَتَ المُتَحَاوِرُونَ عَنِ الكَلامِ المُبَاح، مَا عَدَا العمَّ حِمْزة الّذِي قَالَ لَنا: "تُصْبِحُونَ عَلَى وَطَنٍ مِنْ سَحَابٍ وَمِنْ شَجَر" ، ثمَّ وَدَّعَنا مُلَوِّحاً بمِفْتَاحِهِ وكُوْشَانِهِ وابتِسَامَتِهِ الرَّائِقَة، وَانْطَلَقَ خَارِجَ سِجْنِ المَكَانِ بخُطْوَتِهِ الوَاثِقَة.
    ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان الطَّبَرَاني قَامَ ليُوَدِّعَنَا تودِيعَ الأَحْبَاب، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ تَتِمَّةِ الحِكَايَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ زَوْجَتِي تَنْتَظِرُني بِالمِكْنَسَةِ وَرَاءَ البَاب، ثمَّ أضَافَ بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: ومَا عُنْوَانُها، قَالَ: "اقْتِرَاحَاتُ زِرْيَاب.. لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب"


    مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانيّ(3)
    المَقَامَةُ الثَّالِثَة: "اِقْتِرَاحَات زِرْيَاب لِتَجْفِيفِ مَنَابِع الإِرْهَاب"
    د.يوسف حطيني
    إلى الفَنَّان الصديق محمود خليلي
    وقد عانى كثيراً أذى إسحاق
    دَخَلْنَا عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَاني هَذَا المَسَاء ، فَوَجَدْنَاهُ يَرُفَعُ عَقِيرَتَهُ بِالغِنَاء، وَأَصَابَنَا ممَّا نَرَى العَجَب، إذْ لم يَسْبِقْ أنْ آنَسْنَا مِنْهُ مَيْلاً إلى الطَّرَب، لِذَلِكَ بَادَرْنَاه إلى السُّؤَال: مَا الّذي دَفَعَكَ إلى ضَرْبِ المَوَّال، وَأَنْتَ لا تَمِيزُ المَقَامَ مِنَ المَقَال؟
    تَبَسَّمَ طَرِيدُ الزَّمَانِ ضَاحِكاً مِن قَوْلِنا، وَأجَاب: ألم أعِدْكُم بالحَديثِ عَنْ زِرْياب، وَعَنْ اِقْتِرَاحَاته لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأنَا لا أَجِدُ أبدَعَ مِنَ اسْتِقْبَالِكُم بنَشِيد، كَانَ زِرْيَاب قَدْ غَنَّاهُ أمَامَ الرَّشِيد، ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان أَخَذَهُ الحَالُ فَصَاح، بِصَوْتٍ أقرَبَ إلى النُّبَاح:
    يا أيُّهَا المَلِكُ المَيْمُونُ طَائِرُهُ هَارونُ رَاحَ إِلَيْكَ النَّاسُ وابْتَكَروا
    قُلْنَا: هَلّا أرحْتَنَا مِنْ هَذَا العَنَاء، وَحَدَّثْتَنا عَنْ أَمِيرِ الطَّرَبِ والغِنَاء.
    قَالَ: حَدِيثُنَا اليَوْمَ مَوْقُوفٌ عَلَى زِرْيَاب، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ ضَحَايَا الإِرْهَاب، اسمُهُ عَلِيُّ بنُ نَافِع، ولم يَكُنْ لَهُ في بَغْدَاد مِنْ شَافِع، إِذْ عَاشَ فِيهَا زَمَناً ثمَّ هَرَب، بَعْدَ أنْ أَدْرَكَتْهُ لَعْنَةُ الطَّرَب، قُلْنا: عَلَيْكَ التَّوضِيح، فَإِنَّنَا لا نَفْهَمُ الرَّمْزَ والتَّلْمِيح، فَقَالَ: حِيْنَ طَلَبَ هَارُونُ الرَّشِيد، أنْ يَأتِيَهُ إِسْحَاق المُوصِلي بمُغَنٍّ جَدِيد، لم يَجِدْ أفْضَلَ مِنْ تِلْمِيذِهِ زِرْيَاب، وَإِذْ غَنَّى زِرْيَاب طَارَ قَلْبُ الرَّشِيد طَرَباً وفَرَحا، وَطَارَ قَلْبُ إِسْحَاق غِلّاً وَتَرَحا، فَعَرَضَ عَلَى زِرْيَابَ أَنْ يَخْتَار إِحْدَى اِثْنَتَين: أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَاد، أَوْ أَنْ يُخْرِجَهُ إلى دَارِ المَعَاد، فَرَجَّحَ زِرْيَابُ أنْ يَفِرَّ إلى الأنْدَلُس، تَارِكاً بَغْدَاد والمَرَابِعَ والرِّفَاق، كي يَفِرَّ بجلِدِه مِنْ أذَى إِسْحَاق.
    وَكُنْتُ قَدْ سَعَيْتُ إلى مجلِسِهِ لإِحدَى عَشْرَةَ خَلَوْنَ مِنْ سِبْتَمْبَر، وَجَلَسْتُ بَيْنَ تَلامِيذِهِ الّذِينَ يتَعَلَّمُونَ الأَشْعَارَ والأَوْزَان، فَسَمِعْتُ أبْدَعَ الأَصْوَاتِ والألحَان، وإِذْ اِنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ سَأَلَني: مَنْ أنْتَ؟
    قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ.
    - أَتَنْتَسِبُ إلى طَبَرِيّة؟
    - اللّهُمَّ نَعَم.
    واغرَوْرَقَتْ نَفْسِي بالكَدَرِ والأَحْزَان، وتَلَبَّسَني التَّوَحُّنُ والهَوَان، حِينَ ذَكَرَ طَبَرِيَّة الّتي فَطَمني الاِحْتِلالُ عَنْ سَمَكِ بَحَيْرَتها قَبْلَ الأَوَان، غَيْرَ أنَّه بَادَرَني:
    - لا تَحْزَنْ يا طَريدَ الزَّمَان، فَكُلُّ طَريدٍ للطَّرِيدِ نَسِيب، وقَدْ عَانَيْتُ مِثْلَمَا عَانَيْتَ، حِيْنَ طَرَدَني إِسْحَاقُ مِنْ بَلَدِي الحَبيب، ونحْنُ جَمِيعاً ضَحَايَا الإِرْهَاب، ولا بُدَّ مِنْ يومٍ يَلْتَقِي فيهِ الصِّحَاب.
    - أراكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ الإِرْهَاب؛ كَأَنَّ بَيْنَك وبَيْنَه ثَأرا، فهَلّا فَصَّلتَ في علاقَتِكَ مَعَهُ، وَقَدْ خَبِرْتَهُ دَهْرا.
    اِعْتَدَلَ زِريَاب في جِلْسَتِهِ، وطَلَبَ لنا كَأْسَينِ مِنْ شَرَابِ الوَرْدِ، ثمَّ قَال:
    لِكَلِّ دَوْلَةٍ الحقُّ في امْتِلاكِ قُوّةٍ رَادِعَةٍ تحقِّقُ بهَا كِيَانهَا، وتُقَوِّي سُلْطَانهَا، وتحمِي بهَا أصْدِقَاءَها، وتُرْهِبَ أَعْدَاءَها، ألم تَنْتَبِه لقَوْلِ اللهِ سُبْحَانه: "وَأَعِدُّوا لهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكم "؟. أمَّا أنْ تمتَدَّ يَدُ القَتْلِ إلى المَدَنيّين الآمِنِيْن، مِنَ النِّسَاء والأطْفَالِ والعَاجِزِين، فَهَذَا مَا لا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ ولا دِين.
    قلتُ: وإنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِين؟
    قَالَ: وإنْ، عَلَى ألا يَكُونَ المُسْتَهْدَفُ وَالِغاً في دِمَائِهِم الطَّاهِرَة، جَالِساً في أفيائِهِم، بينَمَا يُعَانُونَ وَغْرَ الهَاجِرَة ، والدَّاعِي إلى مُهَادَنَةِ المحتَلِّ خَائِب، لأنَّ قِتَالَهُ فَرْضٌ وَاجِب ، وَلَوْ قَامَ بِهِ فِدَائيٌّ رَاعِف ، يَتَزَنَّرُ بحِزَامٍ نَاسِف.
    قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ طَارَتْ مِنْ نَفْسِهِ الحَمِيَّة، فَسَمَّى ذَلِكَ عَمَلِيَّةً انتِحَارِيَّة؟
    قَال: أصَابَتْه لُوثَةُ المُسَاوَمة، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الإرهَابِ والمُقَاوَمَة.
    قُلْتُ وقَدْ أخَذَتني حُمَّى التَّشَرُّدِ وذِكْرَيَاتُ المَبيتِ في العَرَاء، وأزْكَمَتْ أنْفِي رائِحَةُ الدِّمَاء:
    - من تَرَاهُ رَأْسَ الإِرْهَاب؟
    - قال: اِقرأ الماضِي والحَاضِرَ يأتِكَ الجَوَاب. ألم تَقْرَأْ عَنْ العُلُوج ، الَّذينَ قَتَلُوا الهُنُودَ الحُمْرَ والزُّنُوج؟ وَعَنْ ذَلِكَ الخَـنـْزَوَان ، الأحمق اليهفوف ، الذي ألقَى قُنْبُلتَين ذَرِّيَّتَين عَلَى اليَابان، فَقَتَّل عَشَرَات الأُلُوف؟ وعَن المَدَنِيّينَ الّذينَ قَضَوْا نحْبَهُم في جَنُوبِ لُبنَان، وفي العِرَاقِ وأَفغَانِسْتَان؟ أوَلم تَسْمَع أيضاً بعِصَابَتَيْ آرَاغُون وشتِيرن اللَّتينِ رَوَّعَتَا الآمِنِين، في قُرَى فِلَسْطِين، وَامتَدَّ إرهَابُهُمَا إلى الوَسِيط الدَّولي فُولك برنَادُوت لأنَّه تَفَهَّم مَوْقِفَ العَرَب، ولمْ يَخْضَع لإغْرَاءِ الذَّهَب؟ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّاعِرُ عَليّ الجَارِمُ في قَصِيدةٍ مِنْهَا:
    حَسْرَتَا للكُونْتِ بِرْنَا دُوتَ لَوْ تَنْفَعُ حَسْرَهْ
    رَامَ أنْ يَستَنْقِذَ الكَـوْ نَ وَيَسْـتَأْصِلَ شَرَّه
    قتلُهُ جُـبْنٌ وخِــذْ لانٌ ولُـؤْمٌ ومَعَـرّهْ
    خَرَقَ الهُدْنـةَ أبْنَـا ءُ يَهُـوذَا ألْفَ مَرّهْ
    رُبَّـمَا يحفِـرُ ذو الآ مـَالِ بالآمَالِ قَبْرَهْ
    قلتُ: هَلْ مْنْ مَزِيد؟
    قَالَ: هَاكَ مَا تُرِيد: ألم تَسْمَعْ أنَّ الجيشَ الإسْرائِيليّ دِمَّرَ سَفِينةً حَرْبِيّةً لأَصْدِقَائِهِ الأَمْرِيْكَان، في خِلالِ عُدْوَانِ حَزِيرَان ؟، ثمَّ ألم تَرَ أنَّ دَمَ أبي عَمَّار ضَاعَ بينَ الفرَنْكِ والشِّيكل والدُّولار؟ أو لعلّك لم تَسْمَع بالحِقْدِ الّذي انهمَر، كَوَطْفِ المَطَر ، عَلَى دَيْرِ ياسِينَ وقِبْيَةَ وبحرِ البَقَر؟ أولم ترَ الفَتَاة الصَّغِيرة ، عَلَى قَنَاةِ الجَزِيْرَة، إذْ رَاحتْ تَنْدُبُ أبَاهَا عَلَى شَاطِئ بحرِ غَزَّةَ؟ حَتّى إنَّ شَاعِرَكُم الكَنْعَانيّ قَالَ فيهَا:
    "عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ بِنْتٌ. وللبِنْتِ أَهْلٌ
    وللأهْلِ بَيْتٌ. وللبَيْتِ نَافِذَتَانِ وبَابْ…
    وفي البَحْرِ بَارِجَةٌ تَتَسَلَّى
    بِصَيْدِ المُشَاةِ عَلَى شَاطِئ البَحْر:
    أربَعَةٌ، خَمْسَةٌ، سَبْعَةٌ
    يَسْقُطُونَ عَلَى الرَّمْل، والبِنْتُ تَنْجُو قَلِيْلاً
    لأنَّ يَداً مِنْ ضَبَابْ
    يَداً مَا إلهيةً أَسْعَفَتْهَا، فَنَادَتْ: أَبي
    يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
    لمْ يُجِبْها أبُوها المُسَجَّى عَلَى ظِلِّهِ
    في مَهَبِّ الغِيَابْ"
    ثمَّ إِنَّ زِرْيَابَ سَأَلَني: هَلْ وَعَيْتَ حَدِيثي؟ قُلْتُ: وَعَيْتُهُ وحَفِظْتُهُ مُنْذُ كُنْتُ في القِمَاط، وسَأبْقَى أَعِيهِ وأحْفَظُهُ حَتَّى يمشِيَ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاط، غَيْرَ أنّي أَحْبَبْتُ أنْ آنَسَ بِسِحْرِ لِسَانِك، وَعَذْبِ بَيِانِك.
    وبَعْدَ أنْ تنَاوَلْتُ مَعَهُ الطَّعَام، سَأَلتُه: كَيْفَ يَنْتَصِرُ المَظْلومُونَ مِنَ الظُّلّام، قَالَ: بِإِرَادَةِ الحَيَاة، ثمَّ أَشَارَ إلى أَنَّهُ انْتَصَرَ عَلَى إِسْحَاق، حِيْنَ تَجَاوَزَ مِحْنَةَ الفِرَاق، وَنَأْيَ الرِّفَاق، وَطَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الآفَاق، إذْ حَسَّنَ شَكْل العُودِ، وَزَادَ لَهُ وَتَرَاً، وَجَعَلَ مِضْرَابَهُ مِنْ قَوَادِمِ النَّسْر بَدَلاً مِنَ الخَشَب، واِفْتَتَحَ مَعْهَداً مُتَخَصِّصاً في المُوسِيقَى والطَّرَب.
    ثمَّ أضَافَ: ألا تَرَى الاِسْتِمْرَارَ في الحَياة اِنْتِصَاراً عَلَى الطُّغَاة؟ قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: تَتَحَدَّى الغَاصِبِين، وتَفْعَلُ فِعْلَ أجدَادِكَ المَيَامِين، ثمَّ قَرَأَ عَليَّ قَوْلَ شَاعِرِنَا الكَنْعَانيّ:
    "عَالِمُ الآثَارِ مَشْغُولٌ بِتَحْليلِ الحِجَارَهْ
    لِكَي يُثْبِتَ أني عَابِرٌ في الدَّرْبِ لا عَيْنينَ لي ..
    لا حَرْفَ في سِفْرِ الحَضَارَهْ..
    وأنَا أزْرَعُ أشْجَارِي عَلَى مَهْلي
    وعَنْ حُبّي أُغَنّي"
    قُلْتُ: فَمَا قَوْلُكَ في تَرْوِيعِ الآَمِنِين، وَقَتْلِ المَدَنِّيين؟
    قَالَ: هُوَ أمرٌ لا تُقِرِّه الأعرَافُ والدَّيَانَات، حَتَّى لَوْ كَانَ المُسْتَهْدَفُونَ مِنْ سُكَّانِ الغَابَات، أو مِمَّنْ يَقْطُنُونَ في مَانهَاتِن، أو يَعْمَلُونَ في مَبْنَى التَّجَارَةِ العَالَميّ.
    فاربدَّ وَجْهِي وازْوَرَرْتُ عَنْهُ، إذْ رَأَيتُهُ يَتَعَاطَفُ مَعَ الأمْرِيْكان الَّذينَ دَمَّرُوا الأَرْضَ وَحَقَّرُوا الإِنْسَان، غيرَ أنَّهُ غَنَّى لي صَوْتاً حَزِيناً، فَهَدَّأَ رَوْعِي، وأضَافَ:
    لا غَرْوَ أنَّ كَثيراً مِمَّنْ قُتِلُوا لا يُضْمِرُونَ للشُّعُوبِ عَدَاوَةً أو صَدَاقة، فَلا جَمَلٌ لهُمْ فيمَا يجْرِي ولا نَاقَة، لَكِنَّني أُحَمِّلُ المُسْؤُوليّة لحُكَّامِ الأمرِيكَان، الَّذِينَ مَارَسُوا ألْوَانَ الإرهَاب في البُلْدَان، فَشَحَنُوا نُفُوسَ المَقْهُورين، ومَلَؤُوا الصُّدُورَ بحِقْدٍ دَفِين، قَدْ يَنْفَجِرُ في أَيِّ حِين، والأدْهَى مِنْ ذَلِكَ يَا طَرِيدَ الزَّمَان أنَّهُمْ يَتَّهِمُونَ المُسْلِمِين، وَيَصُبُّونَ عَلَيْهِم حِقْدَهُم، مِمَّا يُوَلِّدُ الكُرْهَ في النُّفُوسِ ضِدَّهُم، فَهُمْ يَتَّهِمُونَ الحَنَابِلَةَ والأحْنَاف، والحُفَدَاء والأسْلاف، والمُتَمَدِّنِينَ والأجْلاف، باتِّهَامَات مَا أنْزَلَ اللهُ بهَا مِنْ سُلْطَان، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أَنَّ الـ سي. آي. إيه تَتَّهِمُ الخَلِيفَةَ المُعْتَصِمَ بِتَفْجِيرِ بُرْجَيْ مَبْنَى التِّجَارَة العَالَميّ.
    قُلْتُ وَقَدْ أَصَابَني الذُّهُول: وهَلْ لديهِم بيّنةٌ عَلَى مَا تَقُول؟
    فَقَالَ زِرْيَاب: إنَّهُم يحتَجُّونَ بِشِعْرٍ لأبي تَمَّام يُخَاطِبُ فِيْهِ المُعْتَصِمَ، يَقُولُ فِيه:
    رَمَى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فَهَدَّمَهَا وَلَوْ رَمَى بِكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
    ثمَّ إنّي قُلْتُ قُوْلَ الحَيْرَان: لَقَد تَعِبَ الحُكّام الأمرِيكَان، وأقَضَّتْ مَضَاجِعَهُم الهَجَمَات، فَوَبَشُوا الأَوْبَاشَ للحَرْبِ مِنْ كُلِّ الجِهَات، وَخَاضُوا الغَارَات، ودَمَّرُوا القُرَى والبَلْدَات، فهلّا أرشَدْتَهُم إلى فَصْلِ الخِطَاب في تَجْفِيْفِ مَنَابِع الإرهَاب؟
    قَالَ: عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أنَّ النَّصِيحَةَ كَانَت بجَمَلٍ في سَالِفِ الأَوَان، فَإِنَّني أُقَدِّمُها لهُمْ بالمَجّان، وعَلَى الرُّغْم مِنْ أنَّهُم سَيَبْقُونَ في غِيِّهِمْ سَادِرِين، وأنَّهُم يجْعَلُونَ أُذُناً مِنْ طِيْن وأُذُناً مِنْ عَجِين، فَإِنّي سَأَقُولُ لَهُم بِاخْتِصَار: حُلِّوا عَنْ ظَهْرِنَا، واخرُجُوا مِنْ بَرِّنَا وبحرِنَا، ولا تُسَانِدُوا البَاطِل بالمالِ والسِّلاح، ولا تَتَوَالَسُوا مَعَ أعدائِنَا لتثُخِنُوا صُدورَنا بالجِرَاح، ولا تأبَسُوا الأَوْفَاض ، ولا تهتِكُوا الأعْرَاض، ولا تَسْتَعبِدوا الشُّعُوبَ الَّتي أوْتَغَهَا الوَيْس ، فلا تُدْعَى إلى مَوَائِدِكم إذَا يُحاسُ الحَيس، ودَعُوهَا تَأْبش مِن خَيْرَات أرضِهَا، وتَمْرَحُ في طَولِهَا وعَرْضِها، ودَعوا لقَيْصَرَ مَا لِقَيْصَر، وإذ ذَاكَ تَنْجون، وتَصِلُونَ إلى الرَّاحَةِ الّتي تَنْشُدون.
    قُلْتُ: وَمَاذَا عَنْ بَغْدَاد، وَهَاتِيك الرُّبى؟
    عِنْدَهَا غَنّى لي صَوْتاً مِنْ مَقَامِ الصَّبا، مُتَذَكّراً أيَّامَ الصِّبا، وَفَاضَتْ عَيناهُ بِدَمْعٍ مِدْرَار، أنَّتْ لَهُ الأحْجَار، وفَاضَت الأنهَار، وامْتَلأَ بالحُزْن صَدْرِي، رَغْمَ مَا حُمّل من الخَنَاثير ، فخَرَجْتُ مِنْ فَوْرِي، وأوسَدْتُ في المَسير ، بجناحٍ مهيضٍ، وقَلْبٍ كَسِير.
    قُلْنا: أوجَعتَ مِنّا القُلُوب، ونَكَأْتَ النُّدوب، فَادْعُ اللهَ أنْ يُفَرّجَ الكُرُوب، عَن بَغْدَاد وَفِلَسْطِين، وسَائِر بِلادِ العَرَبِ والمُسْلِمِين، قَالَ: اللَّهُمَ آمِين.
    وحِينَ وَدَّعَنا طَرِيدَ الزَّمَان إلى البَاب، تَودِيعَ الأحبَاب، مَا زِلْنا بِهِ حَتّى وَاعَدَنا عَلى لِقَاٍء قَرِيب، يجُودُ لَنا فِيهِ بحَدِيثٍ عَجِيب، قُلْنَا ومَا رَأسُهُ، قَالَ: الشَّرَوي والغَرَوي في السِّلاحِ النّوَوي.

    مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
    الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
    د. يوسف حطيني
    إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
    أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
    قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
    قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
    فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
    يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
    وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
    - اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
    - وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
    قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
    قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
    - أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
    فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
    قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
    مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
    - في نَوَى.
    قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
    قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
    فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
    قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
    قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
    ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
    - ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
    - قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
    ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
    وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
    1/11/2008
    See Translation
    ‎مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
    الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
    د. يوسف حطيني
    إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
    أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
    قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
    قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
    فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
    يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
    وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
    - اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
    - وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
    قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
    قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
    - أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
    فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
    قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
    مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
    - في نَوَى.
    قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
    قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
    فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
    قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
    قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
    ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
    - ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
    - قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
    ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
    وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
    1/11/2008‎

    ‎مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
    الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
    د. يوسف حطيني
    إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
    أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
    قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
    قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
    فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
    يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
    وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
    - اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
    - وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
    قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
    قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
    - أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
    فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
    قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
    مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
    - في نَوَى.
    قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
    قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
    فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
    قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
    قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
    ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
    - ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
    - قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
    ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
    وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
    1/11/2008‎

    ‎مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
    الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
    د. يوسف حطيني
    إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
    أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
    قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
    قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
    فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
    يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
    وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
    - اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
    - وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
    قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
    قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
    - أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
    فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
    قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
    مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
    - في نَوَى.
    قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
    قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
    فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
    قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
    قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
    ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
    - ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
    - قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
    ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
    وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
    1/11/2008‎
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    مَقَامَاتُ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبرانيّ(5)
    المقَامَةُ الخَامِسَة: وِرْدُ الحِمَام في مُفَاوضَات السَّلام
    د. يوسف حطيني
    إلى صديقي الدكتور معاذ عبد المجيد (أبو جبل).. أينما كان
    غَابَ عَنّا طَرِيدُ الزَّمَانِ وقتاً طَوِيلا، فَقُلْنا: لَعَلَّ وَراءَ اختفائِهِ خَطَراً وبيلا؛ إذْ دَنْكَسَ واختفى في بَيْتِه، ولم يُخَصِّصْ لنا شَيْئاً مِنْ وَقْته، ولم يَسْعَ إلينا، أو يَطْمَئِنَّ عَلَينا، كَفِعْلِهِ في سَالفِ الأيّام، غيرَ أنَّا اليومَ تَذَكَّرْنا وعدَهُ بـ "وِرْدِ الحِمَام"، فَسَعَينا إلى بَيْتِهِ (إِجِرْ لَوَرَا.. وإِجِرْ لَقُدَّامْ )، وإذْ ذَاكَ استقبَلَنا بوَجْهٍ يَتَجَهَّم، ورَاحَ يَتَبَرْطَم، وينفُثُ الدُّخَان، وقد أطلَقَ لغضَبِهِ العِنَان، قُلْنَا: "مَا حَلَّ بِكَ يَا صَاحَبَ الدّار؟". قَالَ: "كنتُ أسمعُ نشرةَ الأَخْبَار".
    قَلْنَا: "وهَلْ فِيهَا شَيءٌ جَدِيد، غيرُ النّفيِ والقَتْلِ والتشريد؟". فَقَالَ، وقد تزاحمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ الكَلِمَات: "الإخوَةُ يتَبَادَلُون الاتهامات، والتَّهَاتِهَ والسَّخَافَات، يَتَجَاهَرونَ بالعَدَاوَةِ أمَامَ الأَصْدِقَاءِ والأَخْصَام، ويُشاهلُ بَعْضُهُم بَعْضاً في قَبِيْحِ الكَلام، فَقَدْ صَارَ العِرَاكُ بينَ الجُرْحِ والأنِين، مَقَدَّماً عَلَى الصِّرَاعِ مَعَ الغَاصِبين".
    قُلْنَا: "ألا تُحَدِّثُنا الحَدِيْثَ الَّذِي وَعَدْتَنا بِهِ ذَلِكَ النَّهَار؟". فَرَدَّ: "واللهِ إِنّي أَتَقَلَّبُ عَلَى جَمْرِ الانْتِظَار، مِنْ أجْل أنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ مِنَ الإِحْرَامِ إلى رَمْي الجِمَار".
    قُلْنَا: وَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟ فَقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    "بعد أن فرَّقَنا الزمانُ أَيْدِي فِلَسْطين، أَقَمْتُ مَعَ أُسْرَتي في دِمَشْقَ بِضْعَ سِنين، في مخيَّمٍ قُرْبَ جَرَمَانَا، كُنْتُ فِيْهِ مِنَ المُؤَسِّسِين، وأَتَاحَ لي ذَلِك أنْ أَتَعَرَّفَ إلى إِخْوَةٍ وَأَصْدَقَاء، حَاوَلُوا أنْ يَكُونُوا لجُرحِي البَلْسَمَ والدَّوَاء، غيرَ أنَّ الزَّمَان، سَرْعَانَ مَا قَذَفَني إلى عَمَّان، وإذْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيَّا، أصَابَتْني مِنَ الشَّوْقِ للشَّام الحُمَيَّا، فاسْتَوْفَقْتُ اللهَ، وأَزْمَعْتُ الرَّحِيل، قَبْلَ أنْ تَفْتُرَ الهِمَّةُ ويَخْبُو الفَتِيْل، ودَحَصْتُ إلَيْها، وقُلْتْ في نَفْسي: أَدْخُلُ مَسْجِدَهَا، لأصلّي للهِ نَافِلةً قَدْ تُصْلِحُ الحَال، وتُحْيِي الآَمَال، ثمَّ أَبْحَثُ عَمّن بَقِيَ مِنَ الأَصْدِقَاء؛ وإذْ دَخَلْتُ وَجَدْتُ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاء، يَتَجَمْهَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَطَط، حَوْلَ شَابٍّ جَعْدٍ قَطَط ، يَسْأَلُونَهُ في الصَّغَائِر والكَبَائِر، فيُجِيبُهُم إِجَابَاتٍ تَرْتَاحُ لهَا السَّرَائِر، فَتَعَجَّبْتُ أشَدَّ العَجَب، مِنْ جُلُوسِهِم بَيْنَ يَدَيْهِ باحتِرَامٍ وَأَدَب، وبينَهُم الفَقِيْهُ الخَطِير، والعَالِمُ النِّحْرِير، وإذْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ الفَتَى، قِيلَ لي في وَجَل: هَذَا مُعاذ بنُ جَبَل.
    فَجَلَسْتُ أتأمّلُ الفَتَى الّذي قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلام: إنَّهُ "أَعْلَمُ أُمَّتي بالحَلالِ والحَرَام"، وَقَالَ عَنْهُ ثَاني الخُلَفَاء الرَّاشِدين: "عَجَزَت النِّسَاءُ أن يَلِدْنَ مِثْلَهُ" في العَالمين. وجَاسَ في خَاطِري مَا قَرَأتُ عن جودِهِ وعدلِه، وزهدِهِ وطيّبِ فِعْلِه، وطَاعَتِهِ لِرَبِّ العَرْشِ العَظِيم، وقِرَاعه إلى جَانِب الرَّسُولِ الكَرِيم.
    وَمَا زَالُوا بِهِ، وَمَا زَالَ بهِم، حَتّى انفَضُّوا عَنْهُ، فاتَّخَذَ في المَسْجِدِ مَكَاناً قَصِيّا، فَاقْتَرَبْتُ مِنْهُ حَيِيّا، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ مَلِيَّا، فَبَادَرَني: مَا وَرَاءَك يَا أَخِي؟
    فَقُلْتُ: يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، عِنْدِيْ مَسْألَةٌ تَقْشَعِرُّ لهَا الأَبْدَان، وتَشِيْبُ مِنْ هَوْلهَا الوِلْدَان.
    قَالَ: فَمَنْ أنْتَ؟ ومِمَّ تُعَاني؟
    قلتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
    فَهَبَّ مُقَبِّلاً مُرَحِّبا، وقَالَ ذَكَّرْتَني أيَّامَ الصِّبا، فَقَدْ سَمِعْتُ آنذَاكَ أنَّ العَرَبَ في الجَاهِلِيَّة، تَعَامَلُوا بالدَّرَاهِمِ الطَّبَرَانيّة، فَمَا مَسْأَلَتُكَ الّتي سَرْبَلَتْكَ بالهُمُوم، وكَسَتْ وَجْهَكَ بالوُجُوم؟
    قُلْتُ: حينَ أَخْرَجَنَا الأعْلاج، مِنْ أرضٍِ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاج، سَارَعَت الدُّوَلُ إلى الاِعْتِرَافِ بالكَيَانِ الخَدَاج، واتَّخَذَ وُجُودُهُ في شِرْعَةِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ صِفَةَ الشَّرْعِيَّة، وصَارَ تَشْرِيدُنَا مَسْألةً إنْسَانِيَّة، ثمّ انهَالَتْ عَلَينا مُبَادَرَاتِ السَّلام مِنْ كُلِّ الأرجَاء، وَتَدَفَّقَت المَشَارِيعُ مِنَ الأعْدِقَاء ، تَدَفُّقَ دِمَاءِ الشِّهَدَاء، إلى أن سَحَبوا جمَاعَتَنا إلى الدَّرَك، وأوقَعُوهُم في الشَّرَك، فَبَصَمُوا في "أوسلو" عَلَى اِتِّفَاقِيَّةِ إِذْعَان، وتَجَاهَلُوا كِفَاحاً طَارِفاً وَتَلِيدَا، وَبَاعُوا لاجِئاً وشَرِيدَا، ومُبْعَداً وشَهِيدَا، ومُعْتَقَلاً وجَرِيحَا، ثم بَصَمُوا عَلَى "غزة وأريحا"، وَعِنْدَمَا استَهْجَنَ النَّاسُ الخَبَر، طَالَعُونَا بـ "واي رِيفَر"، وأردَفُوا بمشْرُوع تِينِيت، وقَبْلَ أنْ يَهْدَأ في صَدْرِنَا الحَرِيق، جَاؤُونَا بِخَارِطَةِ الطَّرِيق، ثمَّ طَلَعَت عَلَيْنَا عَجُوزٌ دَرْدَبِيس ، بخِطَّة للسَّلامِ في "أنَابولِيس".
    قَالَ مُعَاذ: لُعِنَت الحَرْبُ، فَهِيَ مَقتلةُ الأشِدَّاء، ومَأيَمةُ النِّسَاء، فَفِيمَ مُضَايَقَتُكَ يَا طَرِيدَ الزَّمَان، والله يَقُولُ في مُحْكَمِ القُرآن: "وإنْ جَنَحُوا للسِّلم فَاجْنَحْ لهَا "؟
    قُلْتُ: آمَنْتُ باللهِ والرُّسُلِ والقُرْآن، ولَكِنَهُ لَيْسَ سِلْماً يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَن.
    قَالَ: لَقَدْ انشَغَلَ بَالي، واشتَدَّ بَلْبَالي . فَهَلْ تُفَسِّرَ لي مَا فِيْهَا، لَعَلِّي أُقَدِّمُ نَصِيْحَةً وَتَوْجِيْها؟
    قلتُ: مُشْكِلَةُ تِلْكَ الاتّفَاقِيَات، وتَوَابِعِهَا مِنَ المَشَارِيعِ والتَّفَاهُمَات، أنهَا تَدْعُو الضَّحيّةَ إلى نَبْذِ الكِفَاح، ومَنْعِ تَهْرِيبِ السِّلاح، وتَدْعُو قِيَادَتَهُ إلى التَّمَسُّك بالمُسَاوَمَة، وإلى كَفِّ يَدِ المُقَاوَمَة، وممَارَسَةِ التَّوْقِيْفِ والاِسْتِجْوَاب، في حَقِّ مَنْ يَتَهِمُهُم عَدُوُّنَا بالإِرْهَاب.
    فَتَسَاءَلَ مُعَاذ مُتَعَجِّباً: ألا تَمْنَحُكُم الاتّفَاقِيَاتُ أيَّ حَقٍّ مِنَ الحُقُوق؟
    قُلْتُ: بَلَى، تَمْنَحُنَا حَقَّ إعدَادِ المِلَفَّاتِ الصِّحِيَّة، وكِتَابَةِ التَّقَارِير، وهِيَ تَسْمَحُ لَنَا أنْ نُعِدَّ للمَاء والكَهْرَبَاءِ الفَوَاتِير، وأنْ نُصْلحَ المجَارِير، وأنْ نَصْطَفيَ أعْضَاءَ السُّلْطَة الوَطَنِيَّة، شَرِيطةَ أنْ نَطْبَعَ الأسمَاءَ عَلَى نُسْخَتَين، كَمَا مَنَحَتْنَا حَقَّ تَغْيِير الأَعضَاء بِحَسْبِ الضَّرُورَة، عَلَى أنْ نبعَثَ لحكُومَةِ العَدُوِّ عَن التَّغْيِير صُوْرَة.
    - وَهَلْ تَفْرِضُ تِلْكَ الاتّفَاقِيَاتُ شَيْئاً عَلَى الأَعْداء؟
    - تَفْرِضُ عَلَيْهِم تَفْكِيكَ بَعْضِ المُسْتَوْطَنَاتِ الَّتي بَنَوْهَا، والعَجِيْبُ في الأَمْرِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَعَدَّدَت الاِتِّفَاقِيَات اِزْدَادَت المُسْتَوْطَنَات.
    - ومَاذَا عَنْ مَوْضُوعُيْ القُدْسِ واللَّاجِئِين؟
    - لا أَحَدَ يَجْرُؤُ عَلَى ذِكْرِهِمَا مِنْ المُفَاوِضِين، وَهُمَا مُؤَجَّلانِ إلى حِين.
    - ومَاذَا عَنْ مَجْلِسِ الأَمْنِ، والجَمْعِيَّةِ العُمُومِيَّة؟ وَمَا أَصْدَرَاهُ مِنْ قَرَارَاتٍ دَوْلِيَّة؟
    - لا تُشَكِّل للأَعْدَاء أيَّ أرَق، فَهِيَ لَيْسَت سِوَى حِبْرٍ عَلَى وَرَق، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أنَّهَا تَسْلِبُني حَقَّ وُجُودِي، وتَمْنَحُهُم أرضَ آبَائي وَجُدُودِي.
    اِعْتَدَلَ مُعَاذ بنُ جَبَل في جِلسَتِهِ، ثمَّ قَالَ: حِينَ أرسَلَني أبُو عُبَيْدَة عَامِرُ بنُ الجَرّاح لِمُفَاوَضَةِ الرُّوم، تَمَسَّكْتُ بالهَدَفِ المَرْسُوم، وَهُوَ تَوْسِيع النُّفُوذِ والسُّلْطَانِ للمُسْلِمِين، مِنْ أَجْلِ إِعْلاءِ شَأْنِ الدِّين، وَرَفَضْتُ الإِغْرَاءَاتِ والدَّنانيرَ والأَثْوَاب، الَّتي أَرَادَ الرُّومُ تَقْديمَهَا للجَمِيعِ مِنْ أصغَرِ فَارِسٍ حَتّى عُمَرَ بنِ الخَطَّاب . إِنَّ أوّلَ دَرْسٍ مِنْ دُرُوسِ مُفَاوَضَةِ الأعدَاء، هُوَ ألا تَطَّرِحَ الرِّمَاح، قَبْلَ مَوْعِدِ النِّطَاح، وثَانِيهَا أنَّكَ قَدْ تُضْطَرُّ إلى التَّنَازُلِ عَنْ بَعْضِ الأشيَاء، لِكَي تحقِنَ الدِّمَاء، ولَكِنَّكَ لا تَتَنَازَلُ أبَداً عَنْ أُسِّ البِنَاء.
    قُلْتُ: لَقَدْ أَلْقَى جَمَاعَتُنَا السِّلاح، قَبْلَ مَوْعِدِ النِّطَاح، وَتَخَلَّوْا عَنْ أُسِّ البِنَاء، والعَضَائِدِ والجُدْرَان، وحَضَجُوا عَنْ جَادّة السَّوَاء، وَصَارُوا خُزَعْبِيْلَةً يَتَسَّلَى بهَا الأَعْدَاء.
    فَقَالَ وَقَدْ استَوْمَى عَلَيه الإِبْلاس : فَلْيَجْلِسُوا إذاً مَعَ ذَوَاتِ المِرَاط ، أو فَليَذْهَبُوا إلى الحَنُوطِيِّ، فَهُم أَجْدَرُ بالحِنَاط.
    قُلْتُ: وَلَكِنني قَدْ أَجِدُ لهُمْ عُذْرا، فَقَدْ أرهَقَنا العَدُوُّ جُوعاً وَقَهْرا ، وَلَيْسَ لدينا قُدْرَةٌ عَلَى النِّزَال، فالنَّمْلَةُ، كَمَا تَعْلَمُ، لا تُقَارِعُ الأفيَال.
    قَالَ: أنتُمْ تَمْلِكُون الجُغْرَافيةَ والتَّارِيخَ وحِكَايَاتِ الجُدُود، وَهِيَ أقَانِيمُ يَخْشَاهَا العَدُوَّ أكثَرَ ممَّا يخشَى الجُنُود، لِذَا يَسْعَى إلى فَرْضِ سَلامِهِ بالقُوَّة القَاهِرة، لأنَّهُ يخَافُ أنْ تَنْتَقِلَ الذَّاكِرَة، من جِيْلٍ إلى جِيْل، فَتَقْتُل حُلْمَهُ الهَزِيل".
    ثم إنّا سَمِعْنَا عَلَى الجِدَار ضَرَبَاتٍ قَوِيَّة، فَقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان، آنَ أوَانُ الشَّايِ بالميرمِيّة، قُلْنَا: ليسَ قَبْلَ أنْ تَعِدَنَا بمَقَامَةٍ بهيّة، فَقَامَ وَعَادَ بالشَّايِ قَائِلاً: ذُوقُوا شُهْدَه، ولَكنَّنَا سَأَلْنَاهُ قَبْلَ الشُّرْبِ أنْ يُعْطِيَ وَعْدَه، قَالَ: تَأْتُونَ عَلَى المَوْعِدِ، فَأُحَدِّثكم عَن "الحقّ المُبِين في عَوْدَةِ اللاجِئِين".
    22/11/2008
    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبرانيّ(6)
    المَقَامَةُ السَّادِسَة: الحَقُّ المُبِين فِي عَوْدَةِ اللاجِئِين
    د. يوسف حطيني
    إلى "أبو عرب": مغنّي فلسطين
    بَعْدَ أنْ جَمَعْنا الخِلّان، دخَلْنا مَجْلِسَ طَريدِ الزَّمَان، نعزّيه بوَفَاةِ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ دَيْرِ البَلَح، فَأَشْبَعْنَاهُ تَقْبيلاً وضَمَّا، ولكِنَّهُ ازدَادَ هَمّاً وغَمّا، فَقُلْنَا: إنّهُ أَمْرُ اللهِ الوَاقِع، ولَنْ تَجِدَ لَهُ مِنْ دَافِع، فأجَابَ وقَدْ غَالَبَتْهُ الكَآبة: لا يُكْرِبُنِي مَا بَيْنِي وبَيْنَهُ مِنْ أَوَاطِرِ القَرَابة ، بَلْ مَا أصَابَنا من الهوَان، إذْ إنّه هَلَكَ مِنْ خَوَاء الخِوان ، وَحِصَارِ الأعدَاءِ والإِخْوَان.
    ثمَّ إنَّا شَرِبْنَا القَهْوَة المُرَّةَ، وقُمْنَا نُرِيدُ البَاب، فمَنَعَنَا مِنَ الذِّهَاب، قائِلاً: لا تخرُجُونَ حَتّى تَسْمَعُوا مَا جِئْتُم لأجْلِهِ، قُلْنا: مَا جِئْنَا إلا للعَزَاء، وليسَ الوقْتُ مُوَاتِياً للأَخْذِ والعَطَاء. قَالَ: بَلْ تَجْلسُون، لأنَّ وَفَاةَ قَرِيبي في حِصَارِ غَزَّةِ هَاشِم، والنَّاسُ بينَ مُحَاصِرٍ ومُرَاقِبٍ ولائِم، وَجْهٌ من أوجُهِ الحِكَاية، وفَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الرِّوَاية. فَسَألنَاهُ، وقَدْ أصَابَنَا فَرَحٌ دَفِين: أَتُحَدِّثُنَا عَن الحَقِّ المُبين في عَودَةِ اللَّاجِئين؟ قَالَ: نَعَم.
    فجَلَسْنا وجَلِس، وما نَبَسْنا، وما نَبَس، حَتَّى هَدَأَتْ نَفْسُه، فَقَالَ:
    كَانَتْ قَدْ حَنَجَتْ لي حَاجَةٌ في بِلادٍ بَعِيدَة، فغوّرتُ وتجبّلتُ، وأنجدْتُ وأسهَلْتُ، وأنهرْتُ وأبحَرْتُ، حَتَّى ضَلَلْتُ الطَّرِيق، وافتقَدْتُ الرَّفِيق، وَوَصَلْتُ إلى جَزِيرةٍ مَليئةٍ بالطَّيْرِ والشَّجَر، وليسَ فِيهَا أَثَرٌ لبَنِي البَشَر، فأذَخْتُ في مختَلفِ أرجَائِها، ثمَّ جَلَسْتُ في أفيَائِهَا، بَعْدَ أنْ أَخْفَقْتُ في الحُصُولِ عَلَى حَبَّةِ بَنْدُورَةٍ أو خِيَار، فَتَلَعْلَعْتُ من الخِنْتَار ، وتَوَهَّمْتُ أمَامِي ملُوخِيّةً وشَرَائِحَ لَيْمُون، ورَغِيفَيْن مِنْ خُبْزِ الطَّابُون. وإذْ غَابَ ضوءُ الحَجَاج ، أسَرَعْتُ بَاحِثاً عَنْ مَحْجَأٍ لنَوْمٍ قَرِير، وكِدْتُ أنَامُ وأنَا أَسِير، لولا أنَّنِي آنَسْتُ نَاراً تُضِيْءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد، فَدَبَّت القُوَّةُ في أَطْرَافي وسِرْتُ نحْوَهَا بخَطْوٍ مَدِيد، فَرَأَيْتُ شَابّاً جُثَّ مِنْ وُجُودِي وَسْطَ الظَّلَام، ولَكِنَّه اِطْمَأَنَّ إِذْ أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، وسَألَنِي في دهَشٍ وابتِسَام:
    - مَنْ أنتَ؟
    قلت: رَجُلٌ حَنَّكَتْهُ التَّجَارِب، وأحنَقَتْهُ المَتَاعِب، وطَرَدَهُ الزَّمَانُ مِنْ طُمَأنينَتِهِ الوَادِعة، إلى بِلادِ اللهِ الوَاسِعَة، وأبدَلَهُ الدّهرُ بالسَّهْل والبُحَيرَة، مَهانةً وغُرْبةً وحَيْرَة.
    قَالَ: فَأَنْتَ واللهِ طَرِيدُ الزّمَان..
    قُلْتُ: هُوَ ذَاك.. وَمَا أَدْرَاك؟
    قَالَ: أعرِفُكَ.. وأعرِفُ أبَاك. فَقَدْ سَبِحْتُ مَرَّةً في طَبَريّة، ونَعِمْتُ بحَمَّامَاتِهَا المَعْدِنيَّة، وسمِعْتُ مِن أهلِها أنهُم يَعِيشُونَ في صَفَاء، فلا يُعَانُونَ حُنْذَةَ الصَّيفِ ولا قَرَّ الشِّتَاء، وأَكَلْتُ مِن سَمَكِها شهيّا، وشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا هَنِيَّا، قَبْلَ أنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا بَنُو صَهْيُون، فيَتَشَرَّدَ الآبَاءُ والبَنُون.
    قُلْتُ: عَرَفْتَني ولم أَعْرِفْكَ.
    قَالَ: أنَا شَابٌّ حَمَلَتهُ التِّجارَة، ومحبّةُ السِّفَارَة، من بَيْتِهِ في بَغْدَاد، ليَتَجَوَّلَ في مختَلفِ البِلَاد.
    قُلْتُ: فَأنْتَ السِّنْدِبَاد.
    ثمَّ إِنَّ السِّنْدِبَاد أجْلَسَني، وقَامَ مِنْ غَيْرِ انتِظَار، إلى طيرٍ اصْطَادَهَا، فَحَنَذَهَا فَوْقَ النَّار، ثمَّ قَدَّمَها لي فَأَكَلْتُ حَتَّى حَمِدْتُ الوَاحِدَ القَهَّار، فَقَامَ إلى بِرْكةٍ فعَظَر السِّقَاءَ مِنْ مَائِها، وقَدَّمَهُ لي كَيْ أَشْرَبَ، ثمَّ قَال:
    دفَعَني حُبِّي المُغَامرةَ إلى مفارَقَةِ الأهلِ والخلّان، وانتَقَلْتُ عَبر البِحَارِ والخُلْجَان، حَتَّى انتَهَيْتُ إلى هَذَا المَكَان. وقَدْ سَمِعْتُ عنكَ بَعْضَ القَالِ والقِيل، فَهَلّا حَدَّثْتَني عِنْ سِفَارِكَ بالتَّفْصِيل؟
    قُلْتُ: أمَّا أنَا فَإني أُشْبِهُكَ ولا أُشْبِهُك.
    قَالَ السِّنْدِبَادُ: ليسَ لَنَا إلا الكَلامُ في هَذِهِ الأمسِيَة، فَحُلَّ لي الأُحْجِيَة.
    قُلْتُ: طوّفْتُ مِثلَكَ في البُلْدَان، غَيْرَ أني لم أخْتَر الوُجْهَةَ ولا الزَّمَان، فَقَد بدأ طَرْدِي مَعَ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي قَوْمِي في عَامِ النَّكْبَةِ خَارِجَ البِلَاد، واستَمَرَّ ذَلِكَ في عَامِ النَّكْسَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد، وتَوَاصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، عَبْرَ التّرحيلِ الجَمَاعِيِّ والإِبْعَاد، وَعَبْرَ إِصْدَارِ القَوَانِينِ الَّتي تُسَهِّلُ الخُرُوجَ وتُصَعِّبُ المَعَاد. وَقَدْ مَهَكَتْنا الغُرْبةُ عَلَى مَدَى سِتِّينَ عَاماً، فَمَا بَلَدْنا بمكانٍ نَأنَسُ فيه حَتَّى حَنْظَلَتْ في نُفُوسِنَا شَجَرَةُ الغِيَاب، وأَخَذَنَا الشَّوقُ إلى المَرَابِعِ والأَحْبَاب.
    أمّا الغَريبُ العَجيبُ فَإِنَّ قَانُونَ الغاصِبِ المُعَادِي، يَسْمَحُ لكلِّ يَهُودِ العَالمِ "أنْ يَعُودُوا" إلى بِلادِي!!، وَيُعْطِيهِم كُلَّ الإغرَاءَات، مِن أَجْلِ أنْ يُغَادِرُوا أَوْطَانَهم ويُهَاجِرُوا إلى فِلَسْطِين الَّتي لم يحلُمُوا بِمُدُنِهَا وقِلاعِهَا وأَسْوَارِهَا، ولم يَتَفَيَّؤوا يَوْماً بِظِلالِ أشْجَارِهَا.
    قَالَ السِّنْدِبَاد:
    لَقَدْ جُبْتُ الآفَاق، وقابَلْتُ المَارِدَ العِمْلاق، وزَعِيْمَ الجِنِّ الأَزْرَق في المَغَارَة، ورأيْتُ كَيْفَ حَوَّلَ النَّاسَ حِجَارَة، ورأيْتُ طَائِرَ العَنْقَاء، وسَمِعْتُ أغربَ القِصَصِ عن الهَرَاجِيْلِ الأشِدَّاء، ولَكِنَّنِي لم أسْمَعْ عَنْ قَوْمٍ يَقْتُلونَ شَعْباً أو يَطْرُدُونَهُ مِنْ أَرْضِ جُدُودِه، ويَلْقُونَ به بلا حِنْثٍ خَارِجَ حُدُودِه، ثمَّ يَسْتَوْرِدُونَ الأشْتَاتَ مِنْ كُلِّ الأَرْجَاء، لِيَبْنُوا وَطَناً فَوْقَ الضُّلُوعِ والأَشْلاء.
    ولَكِن: أَلا يَضْمَنُ لَكُم هَذَا الَّذِي تُسَمُّونه "المُجْتَمَع الدَّوْلي" حَقَّ العُوْدَة؟
    قُلْتُ: بَلَى، ورَبِّ البَرِيَّة، إنَّهُ يَضْمَنُ لَنَا هَذَا الحَقَّ وغَيْرَهُ مِنَ النَّاحِيَةِ النَّظَرِيَّة، وَلَكِنَّهُ لا يَسْعَى أَبَداً إلى إِحْقَاقِه، بَلْ يُمْعِنُ في إِزْهَاقِه، ممَّا يَكْشِفُ مَدَى نِفَاقِه، فَهُوَ الَّذِي سَنَّ الإِعْلان، الَّذِي يَضْمَنُ حُقُوقَ الإِنْسَان، فيَتمتّعُ بِمَا يَشَاءُ مِنْها، دُونَ أَنْ يَمْلِكَ حَقَّ التَّنَازُلِ عَنْهَا.
    فِإِذَا أَنْعَمْنَا النَّظَرَ في القَرَارَاتِ الدَّوْلِيَّة، الصَّادِرَةَ عَن الجَمْعِيَّةِ العُمُومِيَّة، الَّتي تَضْمَنُ حَقَّ العَوْدَةِ للاجِئِينَ الفِلَسْطِينيّينَ وَجَدْنَاهَا كَثِيْرَة. عَلَى أنَّ مَجْلسَ الأَمْنِ استقنَّتْ بِأَمْرِهِ قُوَى الضَّلال، فَضَجِمَ فِيْهِ الميزانُ وَمَال، وصَارَ تحقيقُ السُّوَى مِنَ المُحَال، إذْ اكتَفَى المَجْلسُ بإِشَارَةٍ سَرِيعَةٍ إلى "تَحْقِيقِ حَلٍّ عَادِلٍ لمُشْكِلَةِ اللَّاجِئِين" ، وصَمَتَ عَنْ حَقِّ العَوْدَةِ المُبِين، وَكَانَ الشَّاعِرُ الكُوَيتيُّ عَبْدُ المُحْسِنِ رَشِيد، قَدْ عَبَّر عَنْ ذَلِكَ بِرَأْيٍ سَدِيد، إِذْ قَالَ:
    في مَجْلسِ الأَمْنِ أوْ في هَيْئَةِ الأُمَمِ ضَـاعَتْ حُقُوقَـكُمُ فَالقَوْمُ في صَمَمِ
    لا يَنْهَضُ الحَقُّ إلا حِـيْنَ تُسْمِعُهُ صَوْتَ الرَّصَاصِ يُدَوّي لا صَدَى الكَلِمِ
    شَرِيعَةُ الغَابِ مَا انْفَكَّتْ مُسَيْطِرَةً الحَـقُّ للذِّئْـبِ، لَيْـسَ الحَـقُّ للغَنَمِ
    ومِنَ المُؤْسِفِ أنَّ أبنَاءَ جِلْدَتِنَا مِمَّن اِجْثَألَّوا كالطَّاوُوس، وحَنَطَتْ مِنْهم الرُّؤُوس ، وحَانَ قِطَافُها،لم يَلْجَؤُوا إلى مِئْمَرِ أو مَشُورَة، بل استأمّوا المَضْرُوبَ عَلَى وَجْهِهِ بالحِذَاء ، دُونَ خَجَلٍ أَوْ حَيَاء، فَإِذَا أدَّى امتَدَحُوا حُسْنَ أدَائِه، وإذَا دَعَا أمَّنُوا عَلَى دُعَائِه. وإِذْ جَاءَت المُفَاوَضَاتُ خَضَعُوا لرُؤْيَةِ العَدُوِّ الَّذِي تَكبَّر، وطَغَى وتجَبَّر، قَائِلاً: إنَّ أَفْضَلَ طَرِيقَةٍ للتَعَامُلِ مَعَ القَرَارَاتِ الدَّوْلِيَّةِ طَمْسُها، و"إِنَّ مَرْجِعِيَّةَ المُفَاوَضَاتِ هِيَ المُفَاوَضَاتُ نَفْسُهَا"، وَقَدْ اِسْتَمَرَّ في خِلالِ ذَلِكَ ببِنَاءِ الحِجَارِ العَازِل، دُونَ مُعْتَرِضٍ أَوْ سَائِل، وَهُوَ يَتَبَاكَى عَلَى المحرَقَة، مُهَدِّداً مَنْ أَنْكَرَهَا بِالوَيْلِ والثُّبُور، وَعَظَائِمِ الأُمُور، فحَصَلَ عَلَى القِنْعَ والعِتَاد، وبَلَصَ المالَ مِنْ كُلِّ البِلاد.
    قَالَ السِّنْدِبَادُ: لا بُدَّ أنْ نَعُود.
    قُلْتُ: نَعُود؟؟
    قَالَ: أنتَ إلى أَرْضِ البُرَاق، وأَنَا إلى رُبُوعِ العِرَاق، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ طُيُورَ العَنْقَاءِ القَبِيحَةَ تَمْلأُ سَمَاءَ بَغْدَاد، وَتَقْتُلُ الشُّيُوخَ والنَّسَاءَ والبَنَاتَ والأَوْلاد.
    قُلْتُ: وَكَيْفَ نَعُود؟؟ وَقَدْ حَلَّ الشِّقَاق بَيْنَ الإِخْوَةِ مَحَلَّ الاِتِّفَاق، ولا قِبَلَ لي بِمُوَاجَهَةِ العَدُوِّ وطَائِرَاتِه، وقَنَابِلِه العُنْقُودِيَّةِ وَدَبَّابَاتِه، فَمَاذَا أَفْعَلُ إذَا لم أُقَاتِلْ أوْ أُفَاوِضْ؟ أَأَجْلِسُ إلى جَانِبِ دَجَاجَتي؟؟
    قَالَ: لا أَظُنُّ الأمُورُ بَلَغَتْ حَدَّ العَجْزِ العَقِيم، وَلَكِنْ اِسْمَعْ مِنِّي أُمْحُوضَةً خَالِصةً لِوَجْهِ الكَرِيم: إِذَا كُنْتَ عَاجِزاً عَنْ أيِّ فِعْلٍ، فَلا أَقَلَّ مِنْ أنْ تَذْهَبَ إلى دَجَاجَتِكَ، مِنْ أَجْلِ أنْ تُنْجِبَا أَفْرَاخاً، فَتَحْكِيَا لهُمْ حِكَايَاتٍ جَمِيْلةً عَنْ أَرْضِ الزَّيْتُون، الَّتي أَخَذَهَا بَنُو صهيُون، وَتَذْكُرَا للفِرَاخِ أولئِكَ الَّذِينَ أبْلَطُوا بأَرْضِهم مِثْلُ البُلاخ وَتَطْلُبَا مِنْهُم أَنْ يَضَعُوا حُنْدَرَةَ عُيُونِهِم أَنَّهَا تَمْتَدُّ مِنَ البَحْرِ إلى النَّهْر.
    قُلْتُ: سَنَفْعَلُ مَا نَسْتَطِيعُ حَتَّى نُزِيْلَ هَذَا الجَاثُوم ، وَنَعُودَ إلى أَرْضِ الكُرُوم، فّإِذَا بَلَغَت الحُلقُوم، وانتهينا إلى الجَحْجَحَة في سَبِيْلِ أَرْضِنَا الطَّاهِرَة، نَعِمَ الأولادُ بالسُّمْعَةِ البَاهِرَة، وسُرَّ الحفَدَةُ بالعَوْدَةِ الظافِرَة، إلى القُدْسِ وَيَافَا والنَّاصِرَة. وَقَدْ قَالَ شَاعِرُنَا الحَيْفَاوِي :
    فإمَّا تَوَلَّى رَبِيْـعُ الشّـبابِ وصُوِّحَ منهُ نَدِيُّ الزّهَـرْ
    وحُمَّ الرَّدَى أَجَلاً في كِتَابٍ بِهِ مِن مَنَايا البَّرَايَا سُـوَرْ
    فلا تَيْئسي مِن رِجُوعِي إلَيكِ وَلَوْ غَيَّبَتْني طَـوَايَا الحُفَرْ
    فإنّي وَلَوْ حَفْنَةٌ مِـن تُرَابٍ سَأَرْجعُ في قَبَضَاتِ القَدَرْ
    فَقَالَ: أَحْسَنَ شاعرُكُم وأَفَاد، وأَبْدَعَ وأَجَاد، فالشَّريفُ يجتنبُ الذّام، وإن أدْرَكَهُ السَّام.
    ثمّ إنَّا أتْمَمْنا لَيْلَتَنَا في أَمَان، تَحْتَ ضَوْءِ الزِّبرِقَان ، يُحَدِّثُني فِيْهَا أغْرَبَ الحَدِيثِ عَن مُلُوكِ الجَان حَتَّى سَرَقَنَا المَنَام، مِن قَبْل أن يَنْتَهِيَ الكَلام.
    وإذْ انتَهَى طَرِيدُ الزَّمَان، مَدَّ أَبْنَاؤُه الخِوَان، وَوَضَعُوا الزَّاد، فَقُلْنَا وَقَدْ مَدَدْنَا إِلَيْهِ الأَيْدِي: مَا بالُكَ لا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُنْتَظِرِ الزَّيِْدِي؟ فَقَالَ: لا تُنْحُوْا عَلَيّ باللائِمَة، فَإِنِّي مُحَدّثُكم عَنْهُ في المَرَّةِ القَادِمَة. أمَّا الآنَ فَلا تَنْتَظِرُوا مَلِّيَا، بَلْ كُلُوا هَنِيَّاًً مَرِيّا، ثمّ قُومُوا إلى دَجَاجَاتِكُم، يَرْحَمْكُمُ الله. 25/12/2008


    See Translation
    ‎مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبرانيّ(6)
    المَقَامَةُ السَّادِسَة: الحَقُّ المُبِين فِي عَوْدَةِ اللاجِئِين
    د. يوسف حطيني
    إلى "أبو عرب": مغنّي فلسطين
    بَعْدَ أنْ جَمَعْنا الخِلّان، دخَلْنا مَجْلِسَ طَريدِ الزَّمَان، نعزّيه بوَفَاةِ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ دَيْرِ البَلَح، فَأَشْبَعْنَاهُ تَقْبيلاً وضَمَّا، ولكِنَّهُ ازدَادَ هَمّاً وغَمّا، فَقُلْنَا: إنّهُ أَمْرُ اللهِ الوَاقِع، ولَنْ تَجِدَ لَهُ مِنْ دَافِع، فأجَابَ وقَدْ غَالَبَتْهُ الكَآبة: لا يُكْرِبُنِي مَا بَيْنِي وبَيْنَهُ مِنْ أَوَاطِرِ القَرَابة ، بَلْ مَا أصَابَنا من الهوَان، إذْ إنّه هَلَكَ مِنْ خَوَاء الخِوان ، وَحِصَارِ الأعدَاءِ والإِخْوَان.
    ثمَّ إنَّا شَرِبْنَا القَهْوَة المُرَّةَ، وقُمْنَا نُرِيدُ البَاب، فمَنَعَنَا مِنَ الذِّهَاب، قائِلاً: لا تخرُجُونَ حَتّى تَسْمَعُوا مَا جِئْتُم لأجْلِهِ، قُلْنا: مَا جِئْنَا إلا للعَزَاء، وليسَ الوقْتُ مُوَاتِياً للأَخْذِ والعَطَاء. قَالَ: بَلْ تَجْلسُون، لأنَّ وَفَاةَ قَرِيبي في حِصَارِ غَزَّةِ هَاشِم، والنَّاسُ بينَ مُحَاصِرٍ ومُرَاقِبٍ ولائِم، وَجْهٌ من أوجُهِ الحِكَاية، وفَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الرِّوَاية. فَسَألنَاهُ، وقَدْ أصَابَنَا فَرَحٌ دَفِين: أَتُحَدِّثُنَا عَن الحَقِّ المُبين في عَودَةِ اللَّاجِئين؟ قَالَ: نَعَم.
    فجَلَسْنا وجَلِس، وما نَبَسْنا، وما نَبَس، حَتَّى هَدَأَتْ نَفْسُه، فَقَالَ:
    كَانَتْ قَدْ حَنَجَتْ لي حَاجَةٌ في بِلادٍ بَعِيدَة، فغوّرتُ وتجبّلتُ، وأنجدْتُ وأسهَلْتُ، وأنهرْتُ وأبحَرْتُ، حَتَّى ضَلَلْتُ الطَّرِيق، وافتقَدْتُ الرَّفِيق، وَوَصَلْتُ إلى جَزِيرةٍ مَليئةٍ بالطَّيْرِ والشَّجَر، وليسَ فِيهَا أَثَرٌ لبَنِي البَشَر، فأذَخْتُ في مختَلفِ أرجَائِها، ثمَّ جَلَسْتُ في أفيَائِهَا، بَعْدَ أنْ أَخْفَقْتُ في الحُصُولِ عَلَى حَبَّةِ بَنْدُورَةٍ أو خِيَار، فَتَلَعْلَعْتُ من الخِنْتَار ، وتَوَهَّمْتُ أمَامِي ملُوخِيّةً وشَرَائِحَ لَيْمُون، ورَغِيفَيْن مِنْ خُبْزِ الطَّابُون. وإذْ غَابَ ضوءُ الحَجَاج ، أسَرَعْتُ بَاحِثاً عَنْ مَحْجَأٍ لنَوْمٍ قَرِير، وكِدْتُ أنَامُ وأنَا أَسِير، لولا أنَّنِي آنَسْتُ نَاراً تُضِيْءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد، فَدَبَّت القُوَّةُ في أَطْرَافي وسِرْتُ نحْوَهَا بخَطْوٍ مَدِيد، فَرَأَيْتُ شَابّاً جُثَّ مِنْ وُجُودِي وَسْطَ الظَّلَام، ولَكِنَّه اِطْمَأَنَّ إِذْ أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، وسَألَنِي في دهَشٍ وابتِسَام:
    - مَنْ أنتَ؟
    قلت: رَجُلٌ حَنَّكَتْهُ التَّجَارِب، وأحنَقَتْهُ المَتَاعِب، وطَرَدَهُ الزَّمَانُ مِنْ طُمَأنينَتِهِ الوَادِعة، إلى بِلادِ اللهِ الوَاسِعَة، وأبدَلَهُ الدّهرُ بالسَّهْل والبُحَيرَة، مَهانةً وغُرْبةً وحَيْرَة.
    قَالَ: فَأَنْتَ واللهِ طَرِيدُ الزّمَان..
    قُلْتُ: هُوَ ذَاك.. وَمَا أَدْرَاك؟
    قَالَ: أعرِفُكَ.. وأعرِفُ أبَاك. فَقَدْ سَبِحْتُ مَرَّةً في طَبَريّة، ونَعِمْتُ بحَمَّامَاتِهَا المَعْدِنيَّة، وسمِعْتُ مِن أهلِها أنهُم يَعِيشُونَ في صَفَاء، فلا يُعَانُونَ حُنْذَةَ الصَّيفِ ولا قَرَّ الشِّتَاء، وأَكَلْتُ مِن سَمَكِها شهيّا، وشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا هَنِيَّا، قَبْلَ أنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا بَنُو صَهْيُون، فيَتَشَرَّدَ الآبَاءُ والبَنُون.
    قُلْتُ: عَرَفْتَني ولم أَعْرِفْكَ.
    قَالَ: أنَا شَابٌّ حَمَلَتهُ التِّجارَة، ومحبّةُ السِّفَارَة، من بَيْتِهِ في بَغْدَاد، ليَتَجَوَّلَ في مختَلفِ البِلَاد.
    قُلْتُ: فَأنْتَ السِّنْدِبَاد.
    ثمَّ إِنَّ السِّنْدِبَاد أجْلَسَني، وقَامَ مِنْ غَيْرِ انتِظَار، إلى طيرٍ اصْطَادَهَا، فَحَنَذَهَا فَوْقَ النَّار، ثمَّ قَدَّمَها لي فَأَكَلْتُ حَتَّى حَمِدْتُ الوَاحِدَ القَهَّار، فَقَامَ إلى بِرْكةٍ فعَظَر السِّقَاءَ مِنْ مَائِها، وقَدَّمَهُ لي كَيْ أَشْرَبَ، ثمَّ قَال:
    دفَعَني حُبِّي المُغَامرةَ إلى مفارَقَةِ الأهلِ والخلّان، وانتَقَلْتُ عَبر البِحَارِ والخُلْجَان، حَتَّى انتَهَيْتُ إلى هَذَا المَكَان. وقَدْ سَمِعْتُ عنكَ بَعْضَ القَالِ والقِيل، فَهَلّا حَدَّثْتَني عِنْ سِفَارِكَ بالتَّفْصِيل؟
    قُلْتُ: أمَّا أنَا فَإني أُشْبِهُكَ ولا أُشْبِهُك.
    قَالَ السِّنْدِبَادُ: ليسَ لَنَا إلا الكَلامُ في هَذِهِ الأمسِيَة، فَحُلَّ لي الأُحْجِيَة.
    قُلْتُ: طوّفْتُ مِثلَكَ في البُلْدَان، غَيْرَ أني لم أخْتَر الوُجْهَةَ ولا الزَّمَان، فَقَد بدأ طَرْدِي مَعَ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي قَوْمِي في عَامِ النَّكْبَةِ خَارِجَ البِلَاد، واستَمَرَّ ذَلِكَ في عَامِ النَّكْسَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد، وتَوَاصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، عَبْرَ التّرحيلِ الجَمَاعِيِّ والإِبْعَاد، وَعَبْرَ إِصْدَارِ القَوَانِينِ الَّتي تُسَهِّلُ الخُرُوجَ وتُصَعِّبُ المَعَاد. وَقَدْ مَهَكَتْنا الغُرْبةُ عَلَى مَدَى سِتِّينَ عَاماً، فَمَا بَلَدْنا بمكانٍ نَأنَسُ فيه حَتَّى حَنْظَلَتْ في نُفُوسِنَا شَجَرَةُ الغِيَاب، وأَخَذَنَا الشَّوقُ إلى المَرَابِعِ والأَحْبَاب.
    أمّا الغَريبُ العَجيبُ فَإِنَّ قَانُونَ الغاصِبِ المُعَادِي، يَسْمَحُ لكلِّ يَهُودِ العَالمِ "أنْ يَعُودُوا" إلى بِلادِي!!، وَيُعْطِيهِم كُلَّ الإغرَاءَات، مِن أَجْلِ أنْ يُغَادِرُوا أَوْطَانَهم ويُهَاجِرُوا إلى فِلَسْطِين الَّتي لم يحلُمُوا بِمُدُنِهَا وقِلاعِهَا وأَسْوَارِهَا، ولم يَتَفَيَّؤوا يَوْماً بِظِلالِ أشْجَارِهَا.
    قَالَ السِّنْدِبَاد:
    لَقَدْ جُبْتُ الآفَاق، وقابَلْتُ المَارِدَ العِمْلاق، وزَعِيْمَ الجِنِّ الأَزْرَق في المَغَارَة، ورأيْتُ كَيْفَ حَوَّلَ النَّاسَ حِجَارَة، ورأيْتُ طَائِرَ العَنْقَاء، وسَمِعْتُ أغربَ القِصَصِ عن الهَرَاجِيْلِ الأشِدَّاء، ولَكِنَّنِي لم أسْمَعْ عَنْ قَوْمٍ يَقْتُلونَ شَعْباً أو يَطْرُدُونَهُ مِنْ أَرْضِ جُدُودِه، ويَلْقُونَ به بلا حِنْثٍ خَارِجَ حُدُودِه، ثمَّ يَسْتَوْرِدُونَ الأشْتَاتَ مِنْ كُلِّ الأَرْجَاء، لِيَبْنُوا وَطَناً فَوْقَ الضُّلُوعِ والأَشْلاء.
    ولَكِن: أَلا يَضْمَنُ لَكُم هَذَا الَّذِي تُسَمُّونه "المُجْتَمَع الدَّوْلي" حَقَّ العُوْدَة؟
    قُلْتُ: بَلَى، ورَبِّ البَرِيَّة، إنَّهُ يَضْمَنُ لَنَا هَذَا الحَقَّ وغَيْرَهُ مِنَ النَّاحِيَةِ النَّظَرِيَّة، وَلَكِنَّهُ لا يَسْعَى أَبَداً إلى إِحْقَاقِه، بَلْ يُمْعِنُ في إِزْهَاقِه، ممَّا يَكْشِفُ مَدَى نِفَاقِه، فَهُوَ الَّذِي سَنَّ الإِعْلان، الَّذِي يَضْمَنُ حُقُوقَ الإِنْسَان، فيَتمتّعُ بِمَا يَشَاءُ مِنْها، دُونَ أَنْ يَمْلِكَ حَقَّ التَّنَازُلِ عَنْهَا.
    فِإِذَا أَنْعَمْنَا النَّظَرَ في القَرَارَاتِ الدَّوْلِيَّة، الصَّادِرَةَ عَن الجَمْعِيَّةِ العُمُومِيَّة، الَّتي تَضْمَنُ حَقَّ العَوْدَةِ للاجِئِينَ الفِلَسْطِينيّينَ وَجَدْنَاهَا كَثِيْرَة. عَلَى أنَّ مَجْلسَ الأَمْنِ استقنَّتْ بِأَمْرِهِ قُوَى الضَّلال، فَضَجِمَ فِيْهِ الميزانُ وَمَال، وصَارَ تحقيقُ السُّوَى مِنَ المُحَال، إذْ اكتَفَى المَجْلسُ بإِشَارَةٍ سَرِيعَةٍ إلى "تَحْقِيقِ حَلٍّ عَادِلٍ لمُشْكِلَةِ اللَّاجِئِين" ، وصَمَتَ عَنْ حَقِّ العَوْدَةِ المُبِين، وَكَانَ الشَّاعِرُ الكُوَيتيُّ عَبْدُ المُحْسِنِ رَشِيد، قَدْ عَبَّر عَنْ ذَلِكَ بِرَأْيٍ سَدِيد، إِذْ قَالَ:
    في مَجْلسِ الأَمْنِ أوْ في هَيْئَةِ الأُمَمِ ضَـاعَتْ حُقُوقَـكُمُ فَالقَوْمُ في صَمَمِ
    لا يَنْهَضُ الحَقُّ إلا حِـيْنَ تُسْمِعُهُ صَوْتَ الرَّصَاصِ يُدَوّي لا صَدَى الكَلِمِ
    شَرِيعَةُ الغَابِ مَا انْفَكَّتْ مُسَيْطِرَةً الحَـقُّ للذِّئْـبِ، لَيْـسَ الحَـقُّ للغَنَمِ
    ومِنَ المُؤْسِفِ أنَّ أبنَاءَ جِلْدَتِنَا مِمَّن اِجْثَألَّوا كالطَّاوُوس، وحَنَطَتْ مِنْهم الرُّؤُوس ، وحَانَ قِطَافُها،لم يَلْجَؤُوا إلى مِئْمَرِ أو مَشُورَة، بل استأمّوا المَضْرُوبَ عَلَى وَجْهِهِ بالحِذَاء ، دُونَ خَجَلٍ أَوْ حَيَاء، فَإِذَا أدَّى امتَدَحُوا حُسْنَ أدَائِه، وإذَا دَعَا أمَّنُوا عَلَى دُعَائِه. وإِذْ جَاءَت المُفَاوَضَاتُ خَضَعُوا لرُؤْيَةِ العَدُوِّ الَّذِي تَكبَّر، وطَغَى وتجَبَّر، قَائِلاً: إنَّ أَفْضَلَ طَرِيقَةٍ للتَعَامُلِ مَعَ القَرَارَاتِ الدَّوْلِيَّةِ طَمْسُها، و"إِنَّ مَرْجِعِيَّةَ المُفَاوَضَاتِ هِيَ المُفَاوَضَاتُ نَفْسُهَا"، وَقَدْ اِسْتَمَرَّ في خِلالِ ذَلِكَ ببِنَاءِ الحِجَارِ العَازِل، دُونَ مُعْتَرِضٍ أَوْ سَائِل، وَهُوَ يَتَبَاكَى عَلَى المحرَقَة، مُهَدِّداً مَنْ أَنْكَرَهَا بِالوَيْلِ والثُّبُور، وَعَظَائِمِ الأُمُور، فحَصَلَ عَلَى القِنْعَ والعِتَاد، وبَلَصَ المالَ مِنْ كُلِّ البِلاد.
    قَالَ السِّنْدِبَادُ: لا بُدَّ أنْ نَعُود.
    قُلْتُ: نَعُود؟؟
    قَالَ: أنتَ إلى أَرْضِ البُرَاق، وأَنَا إلى رُبُوعِ العِرَاق، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ طُيُورَ العَنْقَاءِ القَبِيحَةَ تَمْلأُ سَمَاءَ بَغْدَاد، وَتَقْتُلُ الشُّيُوخَ والنَّسَاءَ والبَنَاتَ والأَوْلاد.
    قُلْتُ: وَكَيْفَ نَعُود؟؟ وَقَدْ حَلَّ الشِّقَاق بَيْنَ الإِخْوَةِ مَحَلَّ الاِتِّفَاق، ولا قِبَلَ لي بِمُوَاجَهَةِ العَدُوِّ وطَائِرَاتِه، وقَنَابِلِه العُنْقُودِيَّةِ وَدَبَّابَاتِه، فَمَاذَا أَفْعَلُ إذَا لم أُقَاتِلْ أوْ أُفَاوِضْ؟ أَأَجْلِسُ إلى جَانِبِ دَجَاجَتي؟؟
    قَالَ: لا أَظُنُّ الأمُورُ بَلَغَتْ حَدَّ العَجْزِ العَقِيم، وَلَكِنْ اِسْمَعْ مِنِّي أُمْحُوضَةً خَالِصةً لِوَجْهِ الكَرِيم: إِذَا كُنْتَ عَاجِزاً عَنْ أيِّ فِعْلٍ، فَلا أَقَلَّ مِنْ أنْ تَذْهَبَ إلى دَجَاجَتِكَ، مِنْ أَجْلِ أنْ تُنْجِبَا أَفْرَاخاً، فَتَحْكِيَا لهُمْ حِكَايَاتٍ جَمِيْلةً عَنْ أَرْضِ الزَّيْتُون، الَّتي أَخَذَهَا بَنُو صهيُون، وَتَذْكُرَا للفِرَاخِ أولئِكَ الَّذِينَ أبْلَطُوا بأَرْضِهم مِثْلُ البُلاخ وَتَطْلُبَا مِنْهُم أَنْ يَضَعُوا حُنْدَرَةَ عُيُونِهِم أَنَّهَا تَمْتَدُّ مِنَ البَحْرِ إلى النَّهْر.
    قُلْتُ: سَنَفْعَلُ مَا نَسْتَطِيعُ حَتَّى نُزِيْلَ هَذَا الجَاثُوم ، وَنَعُودَ إلى أَرْضِ الكُرُوم، فّإِذَا بَلَغَت الحُلقُوم، وانتهينا إلى الجَحْجَحَة في سَبِيْلِ أَرْضِنَا الطَّاهِرَة، نَعِمَ الأولادُ بالسُّمْعَةِ البَاهِرَة، وسُرَّ الحفَدَةُ بالعَوْدَةِ الظافِرَة، إلى القُدْسِ وَيَافَا والنَّاصِرَة. وَقَدْ قَالَ شَاعِرُنَا الحَيْفَاوِي :
    فإمَّا تَوَلَّى رَبِيْـعُ الشّـبابِ وصُوِّحَ منهُ نَدِيُّ الزّهَـرْ
    وحُمَّ الرَّدَى أَجَلاً في كِتَابٍ بِهِ مِن مَنَايا البَّرَايَا سُـوَرْ
    فلا تَيْئسي مِن رِجُوعِي إلَيكِ وَلَوْ غَيَّبَتْني طَـوَايَا الحُفَرْ
    فإنّي وَلَوْ حَفْنَةٌ مِـن تُرَابٍ سَأَرْجعُ في قَبَضَاتِ القَدَرْ
    فَقَالَ: أَحْسَنَ شاعرُكُم وأَفَاد، وأَبْدَعَ وأَجَاد، فالشَّريفُ يجتنبُ الذّام، وإن أدْرَكَهُ السَّام.
    ثمّ إنَّا أتْمَمْنا لَيْلَتَنَا في أَمَان، تَحْتَ ضَوْءِ الزِّبرِقَان ، يُحَدِّثُني فِيْهَا أغْرَبَ الحَدِيثِ عَن مُلُوكِ الجَان حَتَّى سَرَقَنَا المَنَام، مِن قَبْل أن يَنْتَهِيَ الكَلام.
    وإذْ انتَهَى طَرِيدُ الزَّمَان، مَدَّ أَبْنَاؤُه الخِوَان، وَوَضَعُوا الزَّاد، فَقُلْنَا وَقَدْ مَدَدْنَا إِلَيْهِ الأَيْدِي: مَا بالُكَ لا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُنْتَظِرِ الزَّيِْدِي؟ فَقَالَ: لا تُنْحُوْا عَلَيّ باللائِمَة، فَإِنِّي مُحَدّثُكم عَنْهُ في المَرَّةِ القَادِمَة. أمَّا الآنَ فَلا تَنْتَظِرُوا مَلِّيَا، بَلْ كُلُوا هَنِيَّاًً مَرِيّا، ثمّ قُومُوا إلى دَجَاجَاتِكُم، يَرْحَمْكُمُ الله. 25/12/2008

  3. #3
    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبرَانيّ(7)
    أَبُو القَاسِم الطُّنْبُورِيّ يُفَكّر في اقتِحَامِ القَصْرِ الجُمْهُوريّ
    د. يوسف حطيني
    إلى منتظر الزيدي
    الذي رقص الكثيرون على إيقاع معاناته
    حِينَ آبَ طَرِيدُ الزَّمَانِ مِنْ زِيَارَةٍ مُفَاجِئَةٍ للعِرَاق، جَمَعْنا الأَهْلَ والرِّفَاق، لِنُعَبِّرَ لَهُ عَنْ فَرْحَتِنَا بِلِقَائِهِ بَعْدَ الفِرَاق. وَإِذْ هَنَّأنَاه بسَلامَةِ السِّفَارَة، سَألْنَاهُ دُونَ إِبْطَاءٍ عَنْ سَبَبِ تِلْكَ الزِّيَارة؛ فَقَالَ: أمَا قَبَّلْتُم الأَيْدِي، لِكَي أُحَدِّثَكُم عَنْ مُنْتَظَر الزَّيْدِي؟ قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: مَا سَافَرْتُ إلا لهَذهِ الغَايَة، بَاحِثاً عَنْ أَصْلِ الحِكَايَة، بَعْدَ أَنْ جَهّزْتُ سُفْرَتي، واِسْتَنْفَرْتُ همَِّتي.
    قُلْنَا: هلا صَحْصَحْتَ لَنَا مُرَادَ الكَلام، ولجَأتَ إلى التَّوْضِيحِ بَدَلَ الإِبهَام.
    قَالَ: إنّ مَا كُنْتُ أُعَوِّل عَلَيْه، هُوَ أَنْ أََجْلِسَ إِلَيْه، فَأَسْأَلَهُ عَنْ مُسَوِّغِ فِعْلَتِه، وغَايَةِ طلبَتِه، ولَكِنّني لم أَسْتَطِعْ تحدِيدَ وُجْهَتِه، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ اكتِرَائي حِصَاناً أبْلَق، واستِعَانَتِي بِالذّبَابِ الأَزْرَق، لِذَلِكَ لم أَرَ بُدّاً مِنْ تَغْيِيرِ هَذَا السَّبِيلِ الأخرَق، والابتِعَادِ عَنْ لَسْعِ عَقَاربِه، فجَعَلْتُ وُجْهَتي بُيُوتَ أهلِهِ وأقَارِبِه، وإذْ تَرَاءَدَ الضُّحى مع انبساطِ شمسِه وارتفاعِ نهارِه، وَصَلتُ إلى بَيتٍ فِيهِ نَفَرٌ غَيرُ قَلِيلٍ مِنْ زُوَّارِه، يَقُومُ عَلَى حُسْنِ وِفَادَتهم شَبَابٌ وبَنَات، استَغْلقَتْ عَلَيَّ كَثْرَتُهُم، فَقِيلَ لي: هَذَا بَيتُ مُنْتَظَر، وَهَؤُلاءِ إِخوَتُهُ وأَخَوَاتُه، ثمَّ كانَ لِقاءٌ غَرِيب، قَادَني إلى رَجُلٍ في البُخْلِ عَجِيب."
    قُلْنَا: هَلّا دخَلْتَ أَتُونَ الحِكَايَة، لنَأْخُذَ مِنْها عِظَةً وآيَة.
    قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
    "حِينَ دَخَلْتُ الدَّارَ رَأَيْتُ مَزِيجَاً مِنَ الحُزنِ والفَخَار ، إذْ تَأَلَّقَ في العُيُونِ تمَرُّدٌ غَاضِب، وعَلا الوُجُوه هَمٌّ نَاصِب. وسَرْعَانَ مَا تَقَدَّمَ نَحْوِي أَحَدُ إِخْوَتِهِ قَائِلاً: أَنَا شَقِيقُ مُنْتَظِر الزَّيْدِي، فهَمَمْتُ أن أُخبرَه بِمَا عِنْدِي، فَبَادَرَني: لا نَسْأَلُكَ شَيْئاً حَتَّى تختبرَ إِدَامَنا، وتَأْكُلَ طَعَامَنا، وتَتَذَوَّقَ حِسَاءَنا، وتَشْرَبَ إنَاءَنا، فحَلَفْتُ لَهُ أَنّي هقِفْتُ وضَعُفَتْ شَهْوَتي للطَّعَام، فَجَاءَني بِبَعْضِ الرُّطَبِ الَّذِي تَنْدَى طَلاوَتُه، فَوَجَدْتُهُ قَدْ مَسُخَ وَقلَّت حَلاوَتُه، فَخَمَّنْتُ في نَفْسِي حُزْنَ النَّخِيل، عَلَى مَا أَصَابَ العِرَاقَ القَتِيل. وَعِنْدَهَا سَألَني عَن هُوِيَّتي ومَكَاني، فَقُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
    فَقَامَ مِن فَورِه، وضَمَّني إلى صَدْرِه، قَائَلاً: أَهْلاً بِكَ أيّها العَمّ.. يَا شَرِيكِي في الهَمِّ والغَمّ.
    فَقُلْتُ لَهُ: أتَغْتَمُّ وقَدْ اجتَمَعَ غُمَارُ النّاسِ في حَفْلٍ بهيج، ورَاحُوا يَرْقُصُونَ بينَ المحيطِ والخَلِيج، احتِفَاءً بِذَلِك الحِذَاء المَيْمُون، الَّذِي رَمَاه مُنْتَظَر في وَجْه الطَّاغِيَةِ المَأفُون، فَكَانَ أَبْلَغَ وَدَاع، لأُسِّ اللُّؤْمِ والخِدَاع؟.
    وَعِنْدَهَا تَبَلْسَمَ وَجْهُ الشَّقِيقِ مِنَ الغَضَب، ونَسِيَ مَا بَيْنَنَا مِنْ رُطَب، فَكَأنَّما تَلَبَّسَهُ إبلِيس، أو حَلَّتْ بِهِ دَاهِيَةٌ عَنْتَريس، وَقَالَ وَقَدْ أخَذَ مِنْه الهيَجَان: لَقَدْ قَامَ أَخِي بِوَاجِبِه دونَ نُقْصَان، وَرَفَضَ أنْ يَمُدَّ جَسَدَ شَعْبِهِ المضرَّجَ بالدّمَاء، عَلَى هَيْئةِ سَجَّادةٍ حَمْرَاء، يَدُوسُها زُعَمَاءُ الإِرْهَاب، فَاجْتنَبَ بِذَلِكَ النَّقِيصَةَ والذَّاب . لَقَدْ قَامَ أَخِي بخُطْوَةٍ رَمْزِيَّة، تُشْعِلُ في النُّفُوسِ الحَمِيَّة، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لا يُحَرِّرُ وَطَناً ولا يَحْسِمُ قَضِيَّة.. أَرَادَ أنْ يَكُونَ ضَرْبُ الحِذَاءِ رِسَالة، للصَّفْوَةِ والحُثَالَة، حَتَّى يَرْفَعَ المَظْلُومُونَ السِّلاح، لَكِنَّهم حَمَلُوا الحِذَاء في مُظَاهَرَاتٍ حَتَّى بَوْلجَةِ الصَّبَاح .
    قُلْتُ: أَتُرِيْدُ أنْ تُنَغِّصَ عَلَيْنَا فَرْحَتَنَا بِالحِذَاء، وَقَدْ وَصَلَتْ زَغَارِيدُنَا إلى أعْنَانِ السَّمَاء ؟ حَتَّى إِنَّ شَاعِرنَا غَازي القُصَيْبِيُّ قَالَ:
    مُتْ إنْ أَرَدْتَ فَلَنْ يَمُوتَ إِبَـاءُ مَا دَامَ في وَجِـهِ الظَّلُومِ حِذَاءُ
    مَاذَا تُفِيـدُك أُمَّـةٌ مَسْـلُوبةٌ أَفْعَالُـهَا يَـوْمَ الوَغَـى آرَاءُ
    للهِ أنْتَ، أكَـادُ أُقسِـمُ أنَّـهُ لجَـلالِ فِعْلِكَ ثَارَتِ الجَوْزَاءُ
    لو ضُخّ بَعْضُ دِمَاكَ في أوصَالِنا مَا كَانَ فَوقَ عُرُوشِـنا عُمَلاءُ


    ثمَّ إِنَّ الشَّقِيقَ قَالَ دُونَ أنْ يَنْظُرَ إليّ: أَتَعَجَّبُ مِنْ أُمَّةٍ تختَصِرُ الفِعْلَ الثَّورِيَّ في مُظَاهَرَة، وتجعَلُهُ حَدِيثَ مُنَادَمةٍ أو مُسَامَرَة.
    غَيْرَ أنَّني مَا زِلْتُ بِهِ أُبَاسِطُه وألاطِفُهُ حَتَّى ثَأْثَأَ عِنْهُ الغَضَبُ، وَهَدَأَت الطَّوِيّة، وسَأَلَني عَن طَبَريَّة، فقُلْتُ: أَجْلَى العَدُوُّ سُكَّانَهَا ، ودَمَّرَ بُنْيَانَهَا، وَجَعَلَ "جَامِعَ الجِسْرِ" قَاعاً صَفْصَفَا، وَبَنَى عَلَى أَرْضِه مَتْحَفَا.
    ثمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ مُنْتَظَر، وظُرُوفِ اِعْتِقَالِه، فَقَالَ: إنَّي لا أَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ مَآَلِه، فَأَرْدَفْتُ دُونَ تَمْهِيد:
    - أينَ الحِذَاء؟
    قَالَ: مُكبَّلٌ بالحَدِيْد.قلتُ مُبْتَسِماً: فَمِنْ أينَ جَاءَ بهذَا السِّلاح؟
    فقَالَ: يا لَكَ مِنْ مِلظاظٍ مِلحَاح.. ثمَّ أضَافَ: أتحفَظُ السَّرِّ والمِيثَاق؟
    قُلْتُ: في أَعْمَقِ الأَعْمَاق.. (وَكُنْتُ أَعْرِفُ أنَّ حِفْظَهُ لَيْسَ في مَقْدُورِي).
    فَقَالَ: لَقَدْ استَعَرْتُهُ مِنْ عِنْدِ أبي قَاسِمٍ الطُّنْبُورِي.
    قُلْتُ: فَهَلُمَّ بِنَا إِلَيْهِ.
    فأبى أنْ يُرَافِقَني، لأنَّ الطُّنْبُورِي يَأْتِيْهِم صَبَاحَ مَسَاء، طَالِباً ذَلِكَ الحِذَاء، فَتَعَجَّبْتُ أَشَدَّ العَجَب مِنْ سُؤَالِهِ عَنْ حِذَائِه، وهُوَ الَّذِي طَالما أرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ بَلائِه. غَيْرَ أنَّي سَعَيْتُ إَلَيْهِ وَقْتَ الظَّهِيرَة، فَوَجَدْتُهُ عَلَى حَصِيرَة، يَأكُلُ مِنْ بَقَايَا طَعَام، فَأَسْرَعَ إلى مَا تَبَقَّى مِنْ لُقَيْمَاتٍ وزَلْقَمَها ، واسْتَفَطَ مَا في الإدَاوةِ مِنْ مَاء. ثمَّ قَال: حَيَّاكَ وبَيَّاك، وَلَوْ كَانَ لَدَيْنَا طعامٌ أو شَرابٌ لاستَضَفْنَاك، قُلْتُ: لا أَرْغَبُ في طَعَامِكَ أو شَرَابِك، وأنَا لِغَيْرِ هَذَا وَاقِفٌ عَلَى أعتَابِك. فَأَشَّ وَبَشَّ إذْ غَادَرَتْهُ البَأْسَاء، فَأَجْلَسَني على أَرْضٍ حَثْوَاء ، وَسَأَلَني عَنْ اسمِي وحَاجَتي، فَقُلْتُ: أَنَا طَرِيدُ الزَّمَان الَّذِي حَكَم عَليَّ بالشَّقَاء، وَقَدْ جِئْتُكَ سَائِلاً عَن الحِذَاء.
    قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي، فَقَدْ أَخَذَهُ مُنْتَظَر الزَّيْدِي.
    - إذاً فَقَدْ أَعَرْْتَهُ إيّاه؟
    قَالَ: نَعَم، فَعَلْتُ ذَلِكَ. وَقَد سَبَقَ أنْ استَعَارَهُ مِنّي خرُوتْشُوف فَأَجْفَلَ الدُّوَلَ المُرْتَعِدَة، إذْ ضَرَبَ بِهِ مِنَصّةَ الأُمَمِ المتَّحِدَة، ثمّ أعَادَه إليّ فَعَادَتْ مَعَهُ المَشَاكِل، وَحَاوَلْتُ التَّخَلُّصَ مِنْهُ بِشَتَّى الوَسَائِل، إذْ اتُهِمْتُ بِسَبَبِهِ أنَّني قَاتِل، وَكَانَ السَّبَبَ في إِجْهَاضِ امرَأةٍ حَامِل، وَمَا زِلْتُ أَفَكّرُ في حِيْلةٍ تُخَلِّصُني مِنْ نَحْسِِه، بَعْدَ أنْ عَانَيْتُ سَطْوَةِ بَأسِه، حَتَّى جَاءَني مُنْتَظَر، فَأَخَذَهُ مِنِّي، وانقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ عَنّي، إلى أنْ رَأَيْتُهُ طَائِراً في الهَوَاء، نَحْوَ مَنْ حَمَلَ إلَيْنَا البَلاء، فَشَعَرْتُ بِفَرَحٍ غَامِر، إذْ كَانَ حِذَائِي سِلاحَ النَّصْرِ البَاهِر. لِذَلِكَ فَأَنَا مُصِرٌّ أنْ أستَعِيدَهُ، وإنْ كَانَ أُولُو الأَمْرِ يَتَحَفَّظُونَ عَلَيْه.
    قُلْتُ: وُمَا حَاجَتُكَ إِلَيْه؟ وَقَدْ عَمِلْتَ زمناً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ شَرِّه المُسْتَطِير، حَتَّى إِنّكَ رَمَيْتَهُ في المَجَارِير.
    قَالَ: سَمِعْتُ أنّ أُمَرَاءَ النِّضَالِ في بِلادِ الرَّشِيد يَلْبَسُون الجَدِيد، وَيَعِيشُونَ في المنطقَةِ الخَضْرَاء، بَعِيداً عَنِ السُّوقَةِ والدَّهْمَاء، وَيَضَعُونَ حَوْلَهُم الحُرَّاس، بَعْدَ أنْ وَلِغُوا في دِمَاءِ النَّاس.
    قلتُ: وَمَاذَا أَنْتَ فَاعِلٌ بِهِ أَيُّهَا الطُّنْبورِي؟
    قَالَ: أُفَكِّر في اقتِحَام القَصْرِ الجُمْهُورِي.
    ثمَّ نَكَتَ الأرضَ حَوْلَهُ بِعُودٍ كَانَ في يَدِهِ، وَأَضَاف: وَلَكِنَّني يَا طَرِيدَ الزَّمَان مُتَرَدّد حَيْرَان.
    قُلْتُ: فَفِيمَ التَّرَدُّدُ، وَقَدْ رَأَيْتَ مِنْ هَؤلاءِ الجُبَنَاء كُلَّ مَظَاهِرِ الضَّعْفِ والاستِخْذَاء.
    قَالَ: رَأَيْتُ مَا حَدَثَ في قِطَاعِ غَزّةَ، مِنْ قَتْلٍ طَالَ البَشَر، وتَدْميرٍ طَالَ الشَّجَرَ والحَجَر، وَقَنَابِلَ فُوسفُورِيَّةٍ نَزَلَتْ عَلَى رُؤُوسِ النَّاس كانهِمَارِ المَطَر، وآَلافِ الأِطْنَانِ مِنْ قَذَائِفِ الأعْدَاء الَّتي هَدَمَتْ المَسَاجِدَ والمَدَارِسَ ومَقَابِرَ الشُّهَدَاء، وَبَعْدَمَا رَأَيْتُ المُعْتَقَلِين الَّذِينَ جَعَلَهُم العَدُوُّ دُرُوعاً بَشَرِيَّة، لاقْتِحَامِ المنَاطِقِ السَّكَنِيَّة، وَبَعْدَمَا رَأَيْتُ الجَرْحَى الَّذِين شَوَتْهُم القَنَابِل، ثمَّ شَهِدْتُ بَعْدَهَا السَّعْيَ إلى تَبْرِئَةِ القَاتِل، وَجَدْتُ مِنْ وَاجِبي أنْ أُغيّرَ وُجْهَةَ الحِذَاء نَحْو مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الأعدَاء والأصدِقَاء.
    قُلْتُ: وَمَنْ سَتَضْرِبُ بِهِ؟
    قَالَ عُدَّ عَلَى أَصَابِعِكَ:
    سَأَضْرِبُ به الصَّامِتِينَ مِنْ دُعَاةِ التَّحَضُّر والمَدَنِيَّة، والشَّامِتين مِمَّن يَدَّعُونَ الاِنْتِمَاءَ للأُمَّةِ العَرَبيَِّة، وَمَنْ قَابَلُوا العُدْوَانَ بالصَّمْتِ المُرِيع، وَمَنْ يَسْتَمِرُّونَ حَتَّى الآنَ بالتَّطْبِيع، وأَضْرِبُ المُتَخَاذِلِين الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ التَّشْوِيشَ عَلَى النَّصْرِ المُبِين الَّذِي حَقَقَتْهُ العُنُقُ عَلَى حَدِّ السِّكين، ومَن يُشَارِكُوَن في الحِصَار، مِنْ عَبَدَةِ الطَّاغُوتِ والدُّولار، لِيَفْرِضُوا عَلَى غَزّةَ الَّتي انتَصَرَتْ عَلَى شُرُوطِ الهَزِيمَةِ والعَار، بَعْدَ أنْ دَافَعَ المُقَاوِمُونَ عَنِ الدَّار، وحَمَوا الذِّمار.
    قُلْتُ: أَرَى أنَّ أمَامَ حِذَائِكَ مَعَارِكَ كَثِيرَة، أَكْثَرُهَا ضَرَاوَة مَعَ الأهْلِ والعَشِيرَة، فَتَمَثَّل بِقَوْلِ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ:
    وظُلْمُ ذوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَام المُهَنَّدِ
    ثمَّ إنَّ أبَا قَاسمٍ الطُّنْبُوري سَأَلَني: ألا تَسْتَعِيرُ الحِذَاء، لِتَضرِبَ بِهِ رُؤُوسَ الأعْدَاء؟
    قُلْتُ: لا، فالأعْدَاء يَسْتَحِقُّون الرَّصَاص، وهذا عَدْلُ القِصَاص، إلا أَنْ يَتْرُكوا أَرْضَ أَجْدَادِي المَارِعة، ويَبْحَثُوا عَن أجدَادِهِم في بِلادِ اللهِ الوَاسِعة.
    ثمَّ أضَفْتُ مُبْتَسِماً: بُورِك لَكَ في الحِذَاء، تَضْرِب بِهِ مَنْ تَشَاء، هَذَا إِذَا أفرَجَتْ عَنْهُ الوَكَالةُ الذَّرِّيَّة للطَّاقَةِ النَّوَوِيَّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّهُ عُدَّ مِنَ الأَسْلِحَةِ غَيْرِ التَّقْلِيدِيَّة".
    ثمَّ إنَّ طَرِيْدَ الزّمَانِ وَاعَدَنا في يَوْمٍ قَرِيب، ليُحَدِّثَنا بحَدِيثِ الأَرِيب، عَمَّا تَجْنِيهِ الأُمَّة.. مِنْ مُؤتَمَرَات القِمَّة، وَحِينَ هَمَمْنا بالمُغَادَرَة أشَارَ عَلَيْنا أنْ نَبْقَى للمُسَامَرة، فَبَقِينَا نَتَجَاذَبُ الكَلام، حَتَّى غَلَبَهُ المَنَام، أو لَعَلَّهُ تَظَاهَر بالنَّومِ حَتّى يَحْرِمَنا الشَّايَ بالميرميَّة، بَعْدَ أنْ أَصَابَتْهُ العَدْوَى الطُّنْبُورِيَّة، لِذَلِكَ غَادَرْنَا مَجْلِسَهُ بِهُدُوءٍٍ مُغَادَرَةَ الشَّفِيق، وتَشَأْشَأْنا كُلٌّ في طَرِيق.
    26/1/2009

    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(8)
    دُرَيْدُ بنُ الصِّمَة يُشَارِكُ في مُؤْتَمَرِ القِمَّة
    د. يوسف حطيني
    دخَلْنا هَذَا المسَاءَ عَلَى الطَّرِيد، فَوَجَدْنَاهُ مُسَرْبَلاً بالحَدِيد، يلبَس لِبَاسَ الكَمِيِّ الهُمَام، ويَرِيشُ السِّهَام، وإذْ رَآنا هَبَّ قَائِلاً: أَهْلاً بالفُرْسَان، وَقَامَ يَرْقُصُ بالرُّمْحِ والسِّنَان، ثُمَّ بَدَأَ يَلْعَبُ بالسَّيْفِ اليَمَاني، حَتَّى قُلْنا: لَقَدْ جُنَّ الطَّبراني، وإذْ تَرَكْناه مِنَ الدَّقَائِقِ خَمْسا، تَعِبَ وأشْبَعَنا لُهَاثاً وسُعَالاً وعَطْسا، وصَارَ يَنْتَفِضُ كَدِيكٍ مَذْبُوح، فَانْتَظَرْنَا لِتَهْدَأَ مِنْهُ الأَنْفَاس، لنسْأَلَهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ اللِّبَاس.
    ثمّ إنَّ رَجُلاً مِنّا قَامَ نَحْوَه سَاعِياً، وقَالَ: "ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكُنْتُ نَاسِيَا"، فَقَالَ طَرِيْدُ الزَّمَان: هَذا جُزْءٌ مِنَ الحِكَايَة، وانتظرْنَا سَاعةً زًمَنِيّة، حَتَّى بَدَأَ يَحُلُّ لنا تلكَ الأُحْجِيَّة، التي حَوّلَتْ هَذا "الخِتْيَار" .. فَارِسَاً لا يُشَقُّ لَهُ غُبَار.
    قَالَ طَريدُ الزَّمَان: كُنْتُ أَقْضِي سَاعَاتٍ مَرِيرة، أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيْرَة، أَتَسَقَّطُ بُشْرَى تُثْلِجُ الصُّدُور، وتُبْرِدُ غُلَّةَ القَلْبِ المَحْرور، وإذا بالقَنَاةِ تَعْرِضُ جَانِباً مِنْ مُؤْتمرِ القِمّة، فَاسْتَبْشَرْتُ بزَوَالِ الغُمَّة، وأَذْهَلَني أنّي رأيْتُ بينَ الحَاضِرينَ دُرَيْداً بنَ الصِّمَة ، وقَدْ أَدْرَكَهُ الكِبَر، وَعَلاه القَتَر، وتَيَبَّسْت مِنْهُ الشَِفَاه، فَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى أنْ أبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى أَلْقَاه، فَأَسْأَلَه عَنْ غَزِيَّة، وأناقِشَه فِيمَا طَرَأَ عَلَى القَضِيَّة.
    ثُمَّ إنّي اِسْتَأْجَرْتُ رَكُوباً ويَمَمْتُ شَطْرَ هَوَازِن، في أيَامٍ عانيتُ خِلالهَا الحَرَّ والقرّ، إذْ أَقْبَل عَليَّ شُبَاط، الَّذِي لَيْسَ عَلى كَلامِهِ رِبَاط، وعانَيْتُ الجُوعَ والخَصَاصَة، وتَعاوَرَتْ عَليّ أرْضُونَ خَصبةٌ طَرِيَّة، وأُخْرَى رَصْرَاصَة ، ودَعَوْتُ الحَكِيمَ العَزِيز، أنْ يَقِيَنِي شَرَّ مَا يَحْمِلُهُ مَاءُ النَّاهُورِ وهَزيمُ الإِرْزِيز ، وأن يُلْهِمَني الصَّبْرَ عَلَى مَا عَزَمْتُ عَلَيْه، حَتَّى أوصَلَني عَزْمي إِلَيْه، فنَزَلْتُ عَنْ رَكُوبي وأَمْسَكتُ لِجَامَه، وكَانَ دريدٌ يَبْرِي سِهَاماً أَمَامَه، فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا طَريدُ الزَّمَان الطَّبراني، وإذ ذاكَ قَامَ على كِبَره وحَيَّاني، وبادَرَني بابتسامَةٍ نَدِيّة، قائلاً: أَهْلاً بابنِ طَبَرِيَّة، تلك المدينةِ التي حَفِظَ النّاسُ في صُدورِهِم مَواويلَها، وذَكَرُوا في قَصَائِدِهم قَنَاديلَها ..
    ثُمَّ إنّ الشَّاعِرَ الفارِسَ أكْرَمَني، فصَرَفَ عَنِّي شَبَحَ الجُوع، وجَاءَني بِحَشِيّةٍ، ولكنَّني رفَضْتُ الهُجُوع، فَقَالَ: تَتَحَدَّى الكَرَى وَقَدْ خَارَتْ مِنْكَ القُوَى وفَتَرَتْ الهِمّة، قُلْتُ: مَا جِئْتُ إلا لتُحَدّثَني عَمّا جاءَ بِكَ إلى مُؤْتَمَرِ القِمَّة، قَالَ: دَبَّرْتُ رَأْسِي في أَحَدِ الوُفُود، بَعْدَ أنْ حَلَفْتُ لهم بالتزامِ العُهُود، وَحِينَ اشتَرَطُوا عَليَّ أَنْ أكْتَفِيَ بِصِفَةِ المُرَاقِب، لم أستَطِعْ أنْ أُغَالِب. قُلْتُ: فَحَدّثْني عَن إِحْدَى الجَلَسَات، فَقَال:
    تبادَلْنا القُبَلَ مَع أَصْحَاب الجَلالةِ والسَّعادةِ والنّيافة، وشَكَرْنا صَاحِبَ الدَّارِ عَلَى حُسْن الضِّيَافَة، وشَدَّدْنا على مَلاحقةَ الجَماعَاتِ المارِقَة، وأكّدْنا قَرَاراتِ القِمَمِ السَّابقة، وطالبْنا بِعَمَلِ جَميعِ اللِّجَان فورَ تشكيلِها، ودَعَوْنا إلى ضَرورةِ تَفْعيلِها..
    فقُلْتُ مِن فَوري: وَدَعَوْتم لتَفْعِيل المبَادرةِ العَرَبيّة التي أقَرَّتها قِمَّةُ بيروت ، وقُلْتُم: "لا يَفْنى الغَنَمُ ولا الذّئْبُ يَمُوت"، واستَنْكَرْتُم الإِرْهَابَ الَّذِي يَسْتَهْدِفُ المَدَنِيّين، وأدَنْتُم الحَرْبَ الإسرَائِيليَّةَ عَلَى لُبْنَانَ وغَزَّةَ وجِنين، وَمَا انْفَرَطَ عِقْدُ المجْلِس حَتَّى أوْصَى.. بشَجْبِ الاعتِدَاءَاتِ عَلَى حُرْمَةِ المَسْجِدِ الأقْصَى، وتَوْجِيهِ تحيّةِ الاِعْتِزَازِ والإِكْبَارِ إِلَى الشَّعْبِ العَرَبيّ في فِلَسْطِيْنَ ولُبْنَان، وفي هَضْبةِ الجُولان، مُشِيدِينَ بتَمَسُّكُهِ بالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّة، دَاعِينَ إلى تَعزيزِ التّضامُنِ بينَ البِلادِ العَرَبيَّة.
    ثم تابَعْتُ في اضْطِراب، وهَوَ يَنْظُرُ إليَّ في دهَشٍ واسْتِغْرَاب:
    كَمَا عَالجتُم قَضَايَا الخِلافَ مُعَالجةً لُغَويَّة، تَفَادِياً لأيّةِ تَوَتُّراتٍ قَدْ تُهَدِّدُ الوَحدةَ القَوميَّة، ولجَأتم فِيْهَا إلى المَهَادَنَة، واكتَفَيْتُم بعِبَارَاتِ المُدَاهَنة، ودبَّجْتُم عِبَارَاتٍ مُلْتَبسةً لا تُزْعِجُ العَدُوَّ ولا الصَّدِيق، واتخَذْتُم قَرَارَاتٍ لا تَجِدُ طَرِيقَهَا إلى التَّطْبِيق.
    قَالَ دُرَيد: كَأنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا، فَفِيمَ إِلحَافُك في السُّؤَال، وأَنْتَ أعلَمُ منّي بالحَالِ والمَآَل؟
    قُلْتُ: "هَذَا مَا شَابَتْ لَهُ سُودُ النَّوَاصِي، وعَرَفَهُ الدَّاني والقَاصِي، ولَكِنَّنِي سَألتُكَ عَن الجَلَساتِ المُغْلَقَةِ حَيْثُ يَحْمَى الوَطِيس، وَرَاءَ الكَوَاليس، فَهَلّا حَدّثْتَني عَنْ جَلسةٍ شَهِدَتْ حِوَاراً عَاصِفاً، هَذَا إذَا لم تَكَنْ خَائِفاً!!. وإذْ ذَاكَ انتَفَضَ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ السُّبة، وَكَأنَّما ضَرَبْتُهُ عَلَى رَأسِهِ بالإِرْزَبّة :
    "لَقَدْ غَزَوْتُ مِائَةَ غَزَاةٍ أو يَزِيد، فَمَا كُنْتُ بهيّابٍ ولا رِعْديد، وكُنْتُ أَشُلُّ القَوْمَ بالسَّيفِ فيَذْهَبُونَ شِلالا، ولا يُطِيقُونَ نِضَالا، فَكَيْفَ أَخْشَى الأَثَام، بِسَبَبِ مَا أَقُولُهُ مِنَ الكَلام؟"
    ثُمَّ إِنَّه استَنْفَرَ للقِيَام، فَتَمَسَّكْتُ بِهِ مُعْتَذِرا، فَهُوَ أطولُ الفُرْسَانِ غَزْواً، وأَبْعَدُهُم أثَرا، وهُوَ أيمنُهُم نَقِيبةً وأكثَرُهُم ظَفَرا، وإذْ عَادَ إليهِ هُدُوءُ الحَال، نَظَرَ إليّ في ابتِسَامٍ، وَقَال:
    لَوْ لم تَكُن ابنَ طَبَرِيّة الَّتي قَالَ فِيهَا عِمَادُ الدِّينِ الأصْفَهَاني :
    وقَدْ طَابَ ريّاناً عَلَى طَبَرِيَّةٍ فَيَا طِيبَها رِيّاً وَيَا حُسْنَها مَرْسى
    لأوْكَلْتُ أمْرَكَ إلى غَيْرِي، وقُمْتُ مِنْ فَوْرِي، فَقُلْتُ: وهَلْ زُرْتَها فَأَعْجَبتْكَ مَغَانيها؟ وَهَلْ رَأَيْتَ بُحَيْرَتَها لَيْلاً، وَنَظَرْتَ فَرَأيْتَ النُّجُومَ في نَوَاحِيها، حَتَّى حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبتْ فِيْها؟ ، قال: لم أَشْرُفْ بِزِيَارَةِ تِلْكَ المَغَاني، فَحَدِّثْني عَنْها أيُّها الطَّبَرَاني. وَمَا زِلْتُ أُحَدِّثُه عَنْهَا بِقَلْبٍ مُشْتاق، للأرْضِ والمَاءِ والرِّفَاق، حَتَّى أطَلْتُ المَقَال، ثمَّ ألحَفْتُ عَلَيْه مِنْ جَديدٍ بالسُّؤال، فَحَدِّثْني عَمّا يَجْرِي في الجَلَسَاتِ المُغْلَقة، في اِجْتِمَاعَاتِ أصحَابِ السُّلطةِ المُطْلَقة، فَقَالَ دُرَيدٌ:
    طَلَبْتُ في إِحْدَى الجَلَسَاتِ أنْ أقرَأَ لهم قَصِيدة، فَحَدَجَني أَحَدُهُم صَارِخاً: إنها مَكِيدة، وَمَا أنتَ إلا عضوٌ مُراقِب، مِنْ حَقِّكَ أنْ تَغْدُوَ وَتَرُوح، وتَضْحَكَ وتَنُوح، ولَكِنَّ الاِشْتِرَاكَ بالشِّعْرِ غيرُ مَسْمُوح، ثمّ إنَّ وَقْتَنَا مِنْ ذَهَب، فهل نهدُرُهُ في سَمَاعِ الشِّعْرِ والأدَب؟
    وبَعْدَ صِيَاحٍ وهِيَاج، وصَرَخَاتِ احتِجَاج، قَالَ أَحَدُهُم: هَاتِ مَا عِنْدَكَ بِاخْتِصَار، وَلا تَلْجَأْ للَّمْزِ مَكَانَ الإبانَة، حَتَّى لا نُعِيدَكَ إلى بَطْنِ رَيْحَانة ، فَغَفَرْتُ لَهُ بَذَاءَةَ اللّسَان، حَتَّى لا يُشَقَّ صَفُّ غَسّان وعَدْنَان، ولَوْلا ذَلِكَ لبَعَجْتُ بَطْنَهُ بالسِّنَان، ثم إني قَرَأتُ أبياتاً شِعْرِيّة، مِنْ قَصِيدةٍ دَاليَّة، كُنْتُ قَدْ قُلْتُها في الرِّثاء، بَعْدَمَا رَافَقْتُ أخِي في الضَّرَّاء، ومَطْلَعُهَا:
    "أَرَثَّ جَديدُ الحَبْـلِ مِـنْ أُمِّ مَعْبَـدِ؟"
    فَقُلْتُ، وقَد تدفَّقَتْ عَلَى خَاطِري قَوَافِيها: أهي الفَريدةُ التي تَقُولُ فيها:
    وَهَلْ أنا إلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَـوَتْ غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَـزِيَّةُ أَرْشُـدِ
    دَعَاني أَخِي، والخَيْلُ بَيْنِي وَبَيْنَـهُ فَلَمَّا دَعَاني لَـمْ يجدْنـي بِقُعْـدَدِ
    تَنَادَوْا فَقَالُوا: أردَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْتُ: أَعَبْدُ الله ذَلِكُـمُ الـرَّدِي؟؟
    نَظَرْتُ إِلَيْـهِ.. والرِّمَاحُ تَنُوشُـهُ كَوَقْعِ الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَـدَّدِ
    فَطَاعَنْتُ عَنْهُ الخَيْلَ، حَتَّى تَنَهْنَهَتْ وَحَتّى عَلاني حَالِكُ اللَّـوْنِ أسْوَدِي
    فَقَالَ: هِيَ بعيْنِهَا، وَقَدْ اِسْتَقْبَلَ أَحَدُهُم القَصِيدَةَ بالبُكَاء، وُجُوبهتْ بِاسْتِياءِ عَشْرةِ أعْضَاء، ولاقَتْ استِحْسَانَ أربعةٍ بِتَصْفيقٍ حَارّ، فَهِيَ تحُضُّ عَلَى حِمَايَةِ الذِّمَار، بَيْنَمَا امتَنَعَ الآخَرُونَ عَن الاستِهْجَانِ أو التَّصْفِيق، حَتَّى لا يُحْسَبوا عَلَى أَيِّ فَرِيق، وَكَانَ أَشَدَّ مَا أثَارَ الاستِهْجَان، وضَاعَفَ الهيَجَان، إصْرَاري عَلى دَعْم غَزِيّة، بمقَوِّماتِ الصُّمُودِ المَاديَّة والعَسْكَريّة، حَتَّى قَالَ مِنْ بينِهِم قَائِل: أيّها السَّافل! ما أدخَلَكَ في هَذَا المُعْتَرَك، فَقُلْتُ: أعبِّرُ عَنْ إعْجَابي باتّفاقيَّة الدِّفَاعِ العَرَبيّ المُشْتَرَك. فَقَالَ:هَذا خِطَابٌ تحريضيٌّ مُتَطَرِّف، وأَنْتَ تهرِفُ بما لا تَعْرِف، قُلتُ: بَلْ قَرَأتُ تِلْكَ الاِتِّفَاقِيَةَ بتَفَاصِيلِها، وعُنيتُ بحِفْظِها وفَهمِهَا وتأصيلِهَا، فَوَقَرَتْ مَعَانِيْها في قَلبي، وَمَا أحضَرْتُ شيئاً من جيبي
    ثمَّ استَمَرَّ الصُّراخُ وتَرَاشُقُ الآرَاء، حَتَّى سَقَعَ ديكُهُم لِطَعَامِ العَشَاء، فَنَسِيَ الجَمِيعُ مسائِلَ الخِلاف، وانْطَلَقُوا لمَلْءِ الصِّحَاف، بِكُلِّ ما يُبْهِجُ العُيون، ويملأُ البُطُون.
    قُلْتُ، وَقَدْ استَنْفرَتْ مَعِدَتي رَائِحَةُ الكَلِمَات، وهَلْ تَرَى أيَّ أمَلٍ فِيمَا يَلِي مِن مُؤْتمَرَات؟
    فهَرْمَسَ وعَبَس، وصَمَتَ ومَا نَبَس، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّ مَنِيَّتَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، غَيْرَ أنّهُ استَأنَفَ كَلامَهُ مِن جَدِيد:
    لعلّ مِنَ المفارقَاتِ الّتِي تُدْمِي القَلْبَ الكَسِير، أنْ تَنْجَحَ في زَمَنٍ قَصِير، جَمَاعَاتٌ أورُوبِيَّة، وَأَمْرِيكِيَّةٌ لاتِينيَّة، في تَحْسِيْنِ ظُرُوفِهَا، وَرَصِّ صُفُوفِها، نَحْوَ التَّكَامُل التِّجَارِي والسِّيَاسِي، فِيمَا تُفَكِّر جمَاعَاتُنا بالكَرَاسِي، عَلَى الرُّغمِ مِن أنَّ الآخَرِيْنَ لم يَتَقَاسَمُوا مِثْلَنَا التَّارِيخَ والثَّقافَةَ وهُمُومَ الإنسَان، ولم تجمَعْ بينَهُم لُغَةُ الأدَبِ والبَيَان.
    قُلْتُ: فَحَدِّثني إذاً عَمّا تَجْنِيْهِ الأُمّة مِنْ مُؤتَمَرَاتِ القِمّة. فَقَالَ دُرَيْدٌ:
    لم تستَطِعْ هَذِهِ المُؤْتَمَرَاتُ الَّتي رَبَتْ عَلَى الثَّلاثين، أنْ تُقَرِّبَ المصَالحَ بينَ الأقْرَبين، وأَنْ تُقْنِعَ مُلُوكَ الطَّوَائِف، بتَوْحِيدِ المَوَاقِف، ولم تَقْدِرْ عَلَى إنهَاءِ لَوَاعِجِ الرِّيبةِ بَيْنَ الأشِقَّاء، وَلا أَنْ تُزَحْزِحَ مَشَاعِرَ الثِّقَةِ بالأعْدَاء، وإذَا اِسْتَمَرَّت الأَحْوَال، عَلَى هَذا المِنْوَال، فَلَنْ تَسْتَطيعَ الاجتِمَاعَاتُ أن ترفَعَ شَأْنَ العَرَب، إذْ إِنَّكَ "لا تَجْنِي مِنَ الشَّوِْك العِنَب".
    ثُمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان صَام، ولم يَجُدْ عَلَيْنا بمَزِيدٍ مِنَ الكَلام، حَتَّى سَأَلْنَاهُ عَن المقَامةِ القَادِمَة، فَقَالَ: تَأْتُونَ أيُّهَا الرِّفَاق، فَأُحَدِّثُكم عَنْ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق".
    21/2/2009
    See Translation
    ‎مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(8)
    دُرَيْدُ بنُ الصِّمَة يُشَارِكُ في مُؤْتَمَرِ القِمَّة
    د. يوسف حطيني
    دخَلْنا هَذَا المسَاءَ عَلَى الطَّرِيد، فَوَجَدْنَاهُ مُسَرْبَلاً بالحَدِيد، يلبَس لِبَاسَ الكَمِيِّ الهُمَام، ويَرِيشُ السِّهَام، وإذْ رَآنا هَبَّ قَائِلاً: أَهْلاً بالفُرْسَان، وَقَامَ يَرْقُصُ بالرُّمْحِ والسِّنَان، ثُمَّ بَدَأَ يَلْعَبُ بالسَّيْفِ اليَمَاني، حَتَّى قُلْنا: لَقَدْ جُنَّ الطَّبراني، وإذْ تَرَكْناه مِنَ الدَّقَائِقِ خَمْسا، تَعِبَ وأشْبَعَنا لُهَاثاً وسُعَالاً وعَطْسا، وصَارَ يَنْتَفِضُ كَدِيكٍ مَذْبُوح، فَانْتَظَرْنَا لِتَهْدَأَ مِنْهُ الأَنْفَاس، لنسْأَلَهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ اللِّبَاس.
    ثمّ إنَّ رَجُلاً مِنّا قَامَ نَحْوَه سَاعِياً، وقَالَ: "ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكُنْتُ نَاسِيَا"، فَقَالَ طَرِيْدُ الزَّمَان: هَذا جُزْءٌ مِنَ الحِكَايَة، وانتظرْنَا سَاعةً زًمَنِيّة، حَتَّى بَدَأَ يَحُلُّ لنا تلكَ الأُحْجِيَّة، التي حَوّلَتْ هَذا "الخِتْيَار" .. فَارِسَاً لا يُشَقُّ لَهُ غُبَار.
    قَالَ طَريدُ الزَّمَان: كُنْتُ أَقْضِي سَاعَاتٍ مَرِيرة، أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيْرَة، أَتَسَقَّطُ بُشْرَى تُثْلِجُ الصُّدُور، وتُبْرِدُ غُلَّةَ القَلْبِ المَحْرور، وإذا بالقَنَاةِ تَعْرِضُ جَانِباً مِنْ مُؤْتمرِ القِمّة، فَاسْتَبْشَرْتُ بزَوَالِ الغُمَّة، وأَذْهَلَني أنّي رأيْتُ بينَ الحَاضِرينَ دُرَيْداً بنَ الصِّمَة ، وقَدْ أَدْرَكَهُ الكِبَر، وَعَلاه القَتَر، وتَيَبَّسْت مِنْهُ الشَِفَاه، فَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى أنْ أبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى أَلْقَاه، فَأَسْأَلَه عَنْ غَزِيَّة، وأناقِشَه فِيمَا طَرَأَ عَلَى القَضِيَّة.
    ثُمَّ إنّي اِسْتَأْجَرْتُ رَكُوباً ويَمَمْتُ شَطْرَ هَوَازِن، في أيَامٍ عانيتُ خِلالهَا الحَرَّ والقرّ، إذْ أَقْبَل عَليَّ شُبَاط، الَّذِي لَيْسَ عَلى كَلامِهِ رِبَاط، وعانَيْتُ الجُوعَ والخَصَاصَة، وتَعاوَرَتْ عَليّ أرْضُونَ خَصبةٌ طَرِيَّة، وأُخْرَى رَصْرَاصَة ، ودَعَوْتُ الحَكِيمَ العَزِيز، أنْ يَقِيَنِي شَرَّ مَا يَحْمِلُهُ مَاءُ النَّاهُورِ وهَزيمُ الإِرْزِيز ، وأن يُلْهِمَني الصَّبْرَ عَلَى مَا عَزَمْتُ عَلَيْه، حَتَّى أوصَلَني عَزْمي إِلَيْه، فنَزَلْتُ عَنْ رَكُوبي وأَمْسَكتُ لِجَامَه، وكَانَ دريدٌ يَبْرِي سِهَاماً أَمَامَه، فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا طَريدُ الزَّمَان الطَّبراني، وإذ ذاكَ قَامَ على كِبَره وحَيَّاني، وبادَرَني بابتسامَةٍ نَدِيّة، قائلاً: أَهْلاً بابنِ طَبَرِيَّة، تلك المدينةِ التي حَفِظَ النّاسُ في صُدورِهِم مَواويلَها، وذَكَرُوا في قَصَائِدِهم قَنَاديلَها ..
    ثُمَّ إنّ الشَّاعِرَ الفارِسَ أكْرَمَني، فصَرَفَ عَنِّي شَبَحَ الجُوع، وجَاءَني بِحَشِيّةٍ، ولكنَّني رفَضْتُ الهُجُوع، فَقَالَ: تَتَحَدَّى الكَرَى وَقَدْ خَارَتْ مِنْكَ القُوَى وفَتَرَتْ الهِمّة، قُلْتُ: مَا جِئْتُ إلا لتُحَدّثَني عَمّا جاءَ بِكَ إلى مُؤْتَمَرِ القِمَّة، قَالَ: دَبَّرْتُ رَأْسِي في أَحَدِ الوُفُود، بَعْدَ أنْ حَلَفْتُ لهم بالتزامِ العُهُود، وَحِينَ اشتَرَطُوا عَليَّ أَنْ أكْتَفِيَ بِصِفَةِ المُرَاقِب، لم أستَطِعْ أنْ أُغَالِب. قُلْتُ: فَحَدّثْني عَن إِحْدَى الجَلَسَات، فَقَال:
    تبادَلْنا القُبَلَ مَع أَصْحَاب الجَلالةِ والسَّعادةِ والنّيافة، وشَكَرْنا صَاحِبَ الدَّارِ عَلَى حُسْن الضِّيَافَة، وشَدَّدْنا على مَلاحقةَ الجَماعَاتِ المارِقَة، وأكّدْنا قَرَاراتِ القِمَمِ السَّابقة، وطالبْنا بِعَمَلِ جَميعِ اللِّجَان فورَ تشكيلِها، ودَعَوْنا إلى ضَرورةِ تَفْعيلِها..
    فقُلْتُ مِن فَوري: وَدَعَوْتم لتَفْعِيل المبَادرةِ العَرَبيّة التي أقَرَّتها قِمَّةُ بيروت ، وقُلْتُم: "لا يَفْنى الغَنَمُ ولا الذّئْبُ يَمُوت"، واستَنْكَرْتُم الإِرْهَابَ الَّذِي يَسْتَهْدِفُ المَدَنِيّين، وأدَنْتُم الحَرْبَ الإسرَائِيليَّةَ عَلَى لُبْنَانَ وغَزَّةَ وجِنين، وَمَا انْفَرَطَ عِقْدُ المجْلِس حَتَّى أوْصَى.. بشَجْبِ الاعتِدَاءَاتِ عَلَى حُرْمَةِ المَسْجِدِ الأقْصَى، وتَوْجِيهِ تحيّةِ الاِعْتِزَازِ والإِكْبَارِ إِلَى الشَّعْبِ العَرَبيّ في فِلَسْطِيْنَ ولُبْنَان، وفي هَضْبةِ الجُولان، مُشِيدِينَ بتَمَسُّكُهِ بالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّة، دَاعِينَ إلى تَعزيزِ التّضامُنِ بينَ البِلادِ العَرَبيَّة.
    ثم تابَعْتُ في اضْطِراب، وهَوَ يَنْظُرُ إليَّ في دهَشٍ واسْتِغْرَاب:
    كَمَا عَالجتُم قَضَايَا الخِلافَ مُعَالجةً لُغَويَّة، تَفَادِياً لأيّةِ تَوَتُّراتٍ قَدْ تُهَدِّدُ الوَحدةَ القَوميَّة، ولجَأتم فِيْهَا إلى المَهَادَنَة، واكتَفَيْتُم بعِبَارَاتِ المُدَاهَنة، ودبَّجْتُم عِبَارَاتٍ مُلْتَبسةً لا تُزْعِجُ العَدُوَّ ولا الصَّدِيق، واتخَذْتُم قَرَارَاتٍ لا تَجِدُ طَرِيقَهَا إلى التَّطْبِيق.
    قَالَ دُرَيد: كَأنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا، فَفِيمَ إِلحَافُك في السُّؤَال، وأَنْتَ أعلَمُ منّي بالحَالِ والمَآَل؟
    قُلْتُ: "هَذَا مَا شَابَتْ لَهُ سُودُ النَّوَاصِي، وعَرَفَهُ الدَّاني والقَاصِي، ولَكِنَّنِي سَألتُكَ عَن الجَلَساتِ المُغْلَقَةِ حَيْثُ يَحْمَى الوَطِيس، وَرَاءَ الكَوَاليس، فَهَلّا حَدّثْتَني عَنْ جَلسةٍ شَهِدَتْ حِوَاراً عَاصِفاً، هَذَا إذَا لم تَكَنْ خَائِفاً!!. وإذْ ذَاكَ انتَفَضَ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ السُّبة، وَكَأنَّما ضَرَبْتُهُ عَلَى رَأسِهِ بالإِرْزَبّة :
    "لَقَدْ غَزَوْتُ مِائَةَ غَزَاةٍ أو يَزِيد، فَمَا كُنْتُ بهيّابٍ ولا رِعْديد، وكُنْتُ أَشُلُّ القَوْمَ بالسَّيفِ فيَذْهَبُونَ شِلالا، ولا يُطِيقُونَ نِضَالا، فَكَيْفَ أَخْشَى الأَثَام، بِسَبَبِ مَا أَقُولُهُ مِنَ الكَلام؟"
    ثُمَّ إِنَّه استَنْفَرَ للقِيَام، فَتَمَسَّكْتُ بِهِ مُعْتَذِرا، فَهُوَ أطولُ الفُرْسَانِ غَزْواً، وأَبْعَدُهُم أثَرا، وهُوَ أيمنُهُم نَقِيبةً وأكثَرُهُم ظَفَرا، وإذْ عَادَ إليهِ هُدُوءُ الحَال، نَظَرَ إليّ في ابتِسَامٍ، وَقَال:
    لَوْ لم تَكُن ابنَ طَبَرِيّة الَّتي قَالَ فِيهَا عِمَادُ الدِّينِ الأصْفَهَاني :
    وقَدْ طَابَ ريّاناً عَلَى طَبَرِيَّةٍ فَيَا طِيبَها رِيّاً وَيَا حُسْنَها مَرْسى
    لأوْكَلْتُ أمْرَكَ إلى غَيْرِي، وقُمْتُ مِنْ فَوْرِي، فَقُلْتُ: وهَلْ زُرْتَها فَأَعْجَبتْكَ مَغَانيها؟ وَهَلْ رَأَيْتَ بُحَيْرَتَها لَيْلاً، وَنَظَرْتَ فَرَأيْتَ النُّجُومَ في نَوَاحِيها، حَتَّى حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبتْ فِيْها؟ ، قال: لم أَشْرُفْ بِزِيَارَةِ تِلْكَ المَغَاني، فَحَدِّثْني عَنْها أيُّها الطَّبَرَاني. وَمَا زِلْتُ أُحَدِّثُه عَنْهَا بِقَلْبٍ مُشْتاق، للأرْضِ والمَاءِ والرِّفَاق، حَتَّى أطَلْتُ المَقَال، ثمَّ ألحَفْتُ عَلَيْه مِنْ جَديدٍ بالسُّؤال، فَحَدِّثْني عَمّا يَجْرِي في الجَلَسَاتِ المُغْلَقة، في اِجْتِمَاعَاتِ أصحَابِ السُّلطةِ المُطْلَقة، فَقَالَ دُرَيدٌ:
    طَلَبْتُ في إِحْدَى الجَلَسَاتِ أنْ أقرَأَ لهم قَصِيدة، فَحَدَجَني أَحَدُهُم صَارِخاً: إنها مَكِيدة، وَمَا أنتَ إلا عضوٌ مُراقِب، مِنْ حَقِّكَ أنْ تَغْدُوَ وَتَرُوح، وتَضْحَكَ وتَنُوح، ولَكِنَّ الاِشْتِرَاكَ بالشِّعْرِ غيرُ مَسْمُوح، ثمّ إنَّ وَقْتَنَا مِنْ ذَهَب، فهل نهدُرُهُ في سَمَاعِ الشِّعْرِ والأدَب؟
    وبَعْدَ صِيَاحٍ وهِيَاج، وصَرَخَاتِ احتِجَاج، قَالَ أَحَدُهُم: هَاتِ مَا عِنْدَكَ بِاخْتِصَار، وَلا تَلْجَأْ للَّمْزِ مَكَانَ الإبانَة، حَتَّى لا نُعِيدَكَ إلى بَطْنِ رَيْحَانة ، فَغَفَرْتُ لَهُ بَذَاءَةَ اللّسَان، حَتَّى لا يُشَقَّ صَفُّ غَسّان وعَدْنَان، ولَوْلا ذَلِكَ لبَعَجْتُ بَطْنَهُ بالسِّنَان، ثم إني قَرَأتُ أبياتاً شِعْرِيّة، مِنْ قَصِيدةٍ دَاليَّة، كُنْتُ قَدْ قُلْتُها في الرِّثاء، بَعْدَمَا رَافَقْتُ أخِي في الضَّرَّاء، ومَطْلَعُهَا:
    "أَرَثَّ جَديدُ الحَبْـلِ مِـنْ أُمِّ مَعْبَـدِ؟"
    فَقُلْتُ، وقَد تدفَّقَتْ عَلَى خَاطِري قَوَافِيها: أهي الفَريدةُ التي تَقُولُ فيها:
    وَهَلْ أنا إلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَـوَتْ غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَـزِيَّةُ أَرْشُـدِ
    دَعَاني أَخِي، والخَيْلُ بَيْنِي وَبَيْنَـهُ فَلَمَّا دَعَاني لَـمْ يجدْنـي بِقُعْـدَدِ
    تَنَادَوْا فَقَالُوا: أردَتِ الخَيْلُ فَارِساً فَقُلْتُ: أَعَبْدُ الله ذَلِكُـمُ الـرَّدِي؟؟
    نَظَرْتُ إِلَيْـهِ.. والرِّمَاحُ تَنُوشُـهُ كَوَقْعِ الصَّياصِي في النَّسيجِ المُمَـدَّدِ
    فَطَاعَنْتُ عَنْهُ الخَيْلَ، حَتَّى تَنَهْنَهَتْ وَحَتّى عَلاني حَالِكُ اللَّـوْنِ أسْوَدِي
    فَقَالَ: هِيَ بعيْنِهَا، وَقَدْ اِسْتَقْبَلَ أَحَدُهُم القَصِيدَةَ بالبُكَاء، وُجُوبهتْ بِاسْتِياءِ عَشْرةِ أعْضَاء، ولاقَتْ استِحْسَانَ أربعةٍ بِتَصْفيقٍ حَارّ، فَهِيَ تحُضُّ عَلَى حِمَايَةِ الذِّمَار، بَيْنَمَا امتَنَعَ الآخَرُونَ عَن الاستِهْجَانِ أو التَّصْفِيق، حَتَّى لا يُحْسَبوا عَلَى أَيِّ فَرِيق، وَكَانَ أَشَدَّ مَا أثَارَ الاستِهْجَان، وضَاعَفَ الهيَجَان، إصْرَاري عَلى دَعْم غَزِيّة، بمقَوِّماتِ الصُّمُودِ المَاديَّة والعَسْكَريّة، حَتَّى قَالَ مِنْ بينِهِم قَائِل: أيّها السَّافل! ما أدخَلَكَ في هَذَا المُعْتَرَك، فَقُلْتُ: أعبِّرُ عَنْ إعْجَابي باتّفاقيَّة الدِّفَاعِ العَرَبيّ المُشْتَرَك. فَقَالَ:هَذا خِطَابٌ تحريضيٌّ مُتَطَرِّف، وأَنْتَ تهرِفُ بما لا تَعْرِف، قُلتُ: بَلْ قَرَأتُ تِلْكَ الاِتِّفَاقِيَةَ بتَفَاصِيلِها، وعُنيتُ بحِفْظِها وفَهمِهَا وتأصيلِهَا، فَوَقَرَتْ مَعَانِيْها في قَلبي، وَمَا أحضَرْتُ شيئاً من جيبي
    ثمَّ استَمَرَّ الصُّراخُ وتَرَاشُقُ الآرَاء، حَتَّى سَقَعَ ديكُهُم لِطَعَامِ العَشَاء، فَنَسِيَ الجَمِيعُ مسائِلَ الخِلاف، وانْطَلَقُوا لمَلْءِ الصِّحَاف، بِكُلِّ ما يُبْهِجُ العُيون، ويملأُ البُطُون.
    قُلْتُ، وَقَدْ استَنْفرَتْ مَعِدَتي رَائِحَةُ الكَلِمَات، وهَلْ تَرَى أيَّ أمَلٍ فِيمَا يَلِي مِن مُؤْتمَرَات؟
    فهَرْمَسَ وعَبَس، وصَمَتَ ومَا نَبَس، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّ مَنِيَّتَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، غَيْرَ أنّهُ استَأنَفَ كَلامَهُ مِن جَدِيد:
    لعلّ مِنَ المفارقَاتِ الّتِي تُدْمِي القَلْبَ الكَسِير، أنْ تَنْجَحَ في زَمَنٍ قَصِير، جَمَاعَاتٌ أورُوبِيَّة، وَأَمْرِيكِيَّةٌ لاتِينيَّة، في تَحْسِيْنِ ظُرُوفِهَا، وَرَصِّ صُفُوفِها، نَحْوَ التَّكَامُل التِّجَارِي والسِّيَاسِي، فِيمَا تُفَكِّر جمَاعَاتُنا بالكَرَاسِي، عَلَى الرُّغمِ مِن أنَّ الآخَرِيْنَ لم يَتَقَاسَمُوا مِثْلَنَا التَّارِيخَ والثَّقافَةَ وهُمُومَ الإنسَان، ولم تجمَعْ بينَهُم لُغَةُ الأدَبِ والبَيَان.
    قُلْتُ: فَحَدِّثني إذاً عَمّا تَجْنِيْهِ الأُمّة مِنْ مُؤتَمَرَاتِ القِمّة. فَقَالَ دُرَيْدٌ:
    لم تستَطِعْ هَذِهِ المُؤْتَمَرَاتُ الَّتي رَبَتْ عَلَى الثَّلاثين، أنْ تُقَرِّبَ المصَالحَ بينَ الأقْرَبين، وأَنْ تُقْنِعَ مُلُوكَ الطَّوَائِف، بتَوْحِيدِ المَوَاقِف، ولم تَقْدِرْ عَلَى إنهَاءِ لَوَاعِجِ الرِّيبةِ بَيْنَ الأشِقَّاء، وَلا أَنْ تُزَحْزِحَ مَشَاعِرَ الثِّقَةِ بالأعْدَاء، وإذَا اِسْتَمَرَّت الأَحْوَال، عَلَى هَذا المِنْوَال، فَلَنْ تَسْتَطيعَ الاجتِمَاعَاتُ أن ترفَعَ شَأْنَ العَرَب، إذْ إِنَّكَ "لا تَجْنِي مِنَ الشَّوِْك العِنَب".
    ثُمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان صَام، ولم يَجُدْ عَلَيْنا بمَزِيدٍ مِنَ الكَلام، حَتَّى سَأَلْنَاهُ عَن المقَامةِ القَادِمَة، فَقَالَ: تَأْتُونَ أيُّهَا الرِّفَاق، فَأُحَدِّثُكم عَنْ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق".
    21/2/2009‎

  4. #4
    مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبرَانيّ(9)
    نُزْهَةُ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق
    د. يوسف حطيني
    ما إنْ دَخَلْنَا عَلَى طَريد الزَّمَان بَعْدَ العِشَاء، حَتَّى قَامَ يُصَلِّي خَلْفَ سَجَّادة حَمْرَاء، فَجَلَسْنَا في مَجْلِسِهِ بخُشُوع، نَنْتَظِرُ انتِهَاءَهُ مِنَ السُّجُودِ والرُّكُوع، وإذْ أَطَالَ عَلَيْنَا الأَمْر، ظَنَنَّا أنَّا في لَيْلَةِ القَدْر، فلَمَّا أنْهَى صَلاتَهُ وَسَلَّم، دَعَوْنَا أنْ يَتَقَبّلَ اللهُ مِنْه النَّافِلَةَ والمَفْرُوضَة، فَقَالَ: اسمَعُوا مِنّي هَذِهِ الأُمْحُوضَة: دَعُوا ثُلثَ لَيْلِكُم لعِبَادَة رَبِّ العِبَاد، وثُلُثَهُ للرُّقَاد، وثُلُثَهُ للمُذَاكَرَة ، فَقُلْنَا: وأَيْنَ وَقْتُ المُسَامَرة؟ ومَتَى ستَلْتَقي الرِّفَاق؟ وَقَدْ واعَدْتَهُم بِـ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق "؟ قَالَ: سَأَعُدُّ وَقْتَ المُسَامَرة مِنَ المُذَاكَرة، قُلْنَا وَقَدْ أََصَابَنا الذُّهُول: عَهِدْنَاَك تَكْتَفي بالفَرْض، وتَقْطَعُ الدّنْيَا بالطُّولِ والعَرْض، فَقَالَ: مَنَّ اللهُ عَليَّ بنُورِ اليَقِين، وَهُو يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لصِرَاطِهِ المُبِين، فقُلْنا ضَاحِكِين: دَعْنَا نَجْلِسْ بِحِذَائِك، ونَتَمَسَّحْ بِرِدائِك.
    غَيْرَ أنَّ طَريدَ الزَّمَان، لم تَضْحَك مِنْهُ الأسْنَان، بَل راحَ يقُولُ في وَقَار: حِينَ انتَصَرَت المُقَاوَمَةُ عَلَى جَحَافِلِ العَدُوِّ الغَدّار، في كِلِّ شِبْرٍ مِنْ قِطَاعِ غَزَّة، مَلأني شُعُورُ العِزّة، إذْ لم تَسْتَطِعْ مَنَاظِيرُ الأَعْدَاء، أَنْ تَرْصُدَ رايةً بَيْضَاء، لذلِكَ انصَرَفُوا يَجُرّون ذُيُولَ الهَزِيمة، بَعْدَ أن ارتكَبُوا الجريمةَ إثرَ الجريمة، مُسْتَخْدِمِينَ الدَّبَابةَ والطَّائِرَة، والسَّفِينَةَ الحَرْبِيَّةَ المَاخِرَة. وخطَرَ لي أن أزورَ القِطَاع، فأَبُوسَ تُرابَه الثَّمين، وأطْبَع قُبْلةً عَلَى خدِّ شَارِعِ صَلاحِ الدّين.
    لِذَلِكَ عَقَدْتُ النِّيَّة، وَانطَلَقْتُ إلى رَفَحٍ المِصْرِيَّة، وَإِذْ وَصَلْتُ رَأَيْتُ رَجُلاً أرْبَى عَلَى الخَمْسِين، يُنْشِدُ بِصَوْتٍ حَزِيْن:
    وَإِنّي لَمُشْـتَاقٌ إِلَى أَرْضِ غَـزَّةٍ وَإِنْ خَـانَنِي بَعْدَ التَّفَـرُّقِ كِتْمَاني
    سَقَـى اللهُ أَرْضاً لَوْ ظَفِرْتُ بِتُرْبِها كَحَلْتُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ أَجْفَانِي
    فاغرَوْرَقَت لحزْنِهِ مَدَامِعي، وتَذَكَّرْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ الشَّافِعيّ ، وخمّنْتُ أنْ أَكُونَ في حَضْرَةِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّة، فَشَكَرْتُ اللهَ عَلَى هَذه المِنّة، ثمَّ اقترَبْتُ مِنْهُ، وأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ عَلَيَّ في ابتِسَام، فَسَأَلتُه في وُدٍّ وإينَاس: أأنتَ مُحَمَّد بنُ إدرِيسَ بنِ العَبَّاس، فَأوْمَأَ بالإيجَاب، ثمَّ أضَافَ في اقتِضَاب: هَلْ دَلَّكَ عَليَّ العَسَس؟ فَقُلْتُ: أُقْسِمُ بِمَنْ جَمَعَني بِكَ هَذِهِ الحَزّة ، أنِّي عَرَفْتُكَ مِنْ شَوْقِكَ إلى غَزّة.
    فَقَالَ الشَّافِعِيّ: في غَزَّةَ وُلِدْتُ، وإلى مَكَّةَ والمَدِينَةِ رَحَلْتُ، وتَبَغْدَدْتُ وأيمَنْتُ وأَمْصَرْتُ، ولَكِنَّنِي لم أَنْسَ غَزّةَ الَّتِي تَزُورُني في المَنَام، بَعْدَ أنْ أَضْنَاني الشّعَفُ ودَلَّهَني الهُيَام.
    - أتَنْوِي زِيَارَتَهَا في هَذِهِ الأَيَّام؟
    - مَا وُجُودِي هُنَا إلا لهَذَا المَرَام، وَقَدْ قِيلَ لي: إنَّهُم يُغْلِقُونَ الحُدُودَ والبِحَارَ والآفَاق، ولا بُدَّ مِنْ دُخُولِهَا عَبْرَ الأَنْفَاق. ثمَّ استَطْرَدَ قَائِلاً:
    - عَرَفْتُ مَنْ يَرْكَبُ الشِّمْلالَ والنَّاجِيَة ، ومَنْ يَجُوزُ البِحَارَ في الجَارية، وسَمِعْتُ عَمَّن يَجْتَازُونَ الآفَاق، أمَّا أنْ يُسَافِرَ النّاسُ عَبْرَ الأنفَاق، فَهَذِهِ إِحْدَى الكُبَر، الَّتي لم يَأْتِهَا أحَدٌ مِنَ البَشَر. فَكَيْفَ استَغْنَى أَبْنَاءُ كَنْعَان، عَنِ الطّائِرَةِ والدَّسْراءِ والحِصَان؟
    فَقُلْتُ: لَقَدْ حَاصَرَ بَنُو قَيْنُقَاع، كُلَّ شِبْرٍ مِنْ أرَاضِي القِطَاع، وَمَا زَادَ الطِّينَ بِِلّة، أنَّ بَعْضَ شُرَكَائِنَا في اللّسَانِ والملِّة، لم يَحْفَظُوا عَهْداً ولا إلّة ، فَأَغْلَقُوا مَعْبَرَ رَفَحٍ في وُجُوهِ المَرْضَى والجِيَاع؛ وَلأنَّ الحَاجةَ أمُّ الاِخْتِرَاع، فَقَدْ لَجَأَ أهَالي غَزّةَ إلى حَفْرِ الأنفَاق، وَجَاؤُوا عَبْرَها بالسِّلاحِ والغِذاءِ والتِّرْيَاق، لِيَحْفَظُوا حَيَاةَ الإِخْوةِ والأَهْلِ والرِّفَاق، فَهِيَ إجَابةُ الفِلَسْطِينيِّين الشَّافِيَة، عَلَى مَنْ يَدْفَعُهُمْ إلى الهَاوِيَة.
    فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لعَمْري إنّه حِصَارٌ غَاشِم، يطحَنُ الأهْلَ في غَزَّةِ هَاشِم ، وَلَنْ أهْنَأَ سَاعَةً فَوْقَ الثَّرَى، حَتَّى أُقَاِبَِلَ فِيهَا آسَادَ الشَّرَى، الّذِينَ يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ اللَّئِيم، في سَبِيلِ الحُرّيّةِ والعَيْشِ الكَرِيم.
    فَأَخْبَرْتُهُ أنَّنِي إليهَا ذَاهِب، وأنَّه لَنِعْمَ المُصَاحِب، فَقَالَ: ألا أَعْرِفُ الرَّفِيق؟ قَبْلَ أنْ أبْدَأَ الطَّرِيق؟
    قُلْتُ: أنَا مِنْ مَدينةٍ سَارَ فَوْقَ بُحَيْرَتِهَا المَسِِيْح، ليُهَدِّئَ عَصْفَ الرِّيح، وَقَدْ طَرَدَني مِنْهَا زَمَانٌ أَغْبَر، طَغَى عَلَى قَومِي وتَجَبَّر.. فَقَالَ: إنَّه لَمِنْ أَعْذَبِ الأمَاني، أنْ أُصَاحِبَ طَرِيدَ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
    ثمَّ اتّكَلْنَا عَلَى مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، وذَهَبْنا إلى أَحَدِ المُهَرِّبِين، فطَلَبَ مِنّا أَجْرَ رِحْلَةٍ إلى الصِّين، وحِينَ استَثْقَلْنا كَثْرَةَ المِئين، قَالَ: آخُذُكُم عَبْرَ نَفَقٍ أَمِين، ونبّهَنَا عَلَى ضَرُورَةِ الامْتِثَال، ثمَّ تَحَدَّثَ في هَاتِفِهِ الجَوَّال، وَقَال: تَتَحَرَّوْنَ بالمَكَان ، حَتَّى يَأتِيَكُم البَيَان، فَتَمَكَّثْنَا سَاعَتين، حَتَّى غَابَتِ العَين ، وإذ غَسَا ليلُ الديجُور ، أَدْخَلَنا إلى بَيْتٍ مَهْجُور، ورفَعَ غِطَاءً أسفَرَ عَنْ ضَوْءٍ سَاطِع، ثم خَرَجَ إِلَيْنَا مِنْهُ غُلامٌ يَافِع، فَأَسْلَمَنَا الرَّجُلُ إِلَيْه، وَقَالَ لَنَا: اعتَمِدَا عَلَيْهِ. ولمّا أَنْزَلََنَا الفَتى وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا في مَمَرٍّ غَيْرِ مَأْلُوف، وأزعَجَنَا أنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ فِيْهِ الوُقُوف، فخَلصْتُ إلى الشَّافِعِيِّ نَجِيَّا : "لَعَلَّنَا سَنُتَابِعُ الرِّحْلةَ جِثِيّا". غَيْرَ أنَّ الأحْوَالَ تَبَدَّلَتْ بَعْدَ آن، إِذْ اِنْفَتَحَ المَمَرُّ عَلَى مَا لم يَكُنْ بالحُسْبَان، فَتَعَجَّبْنَا ممَّا نَرَى: عَالَمٌ آخَرُ تَحْتَ الثَّرَى: عَرَبَاتٌ تحمِلُ السَّجائِرَ والشَّمْعَ وزَيْتَ الزَّيْتُون، والجُبْنَ والأَدْوِيَةَ والصَّابُون، والهَوَاتِفَ الجَوَّالةَ والحَوَاسِيبَ والأجهزَةَ الكَهْرَبِيّة، ومُحَرّكَاتِ السَّيَّاراتِ والدرّاجَاتِ الهَوَائِيَّة. وإِذْ لمَحَ الفَتَى دَهَشَنَا قَالَ: هُنَا يَتِمُّ تَهْرِيْبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ المِلْحِ والفُلْفُلِ والبَهْرَمَان ، إلى الإِنْسَانِ والحَيَوَان ، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أنَّ الأنفَاق، حَمَلَتْ عَرُوساً إلى عريسِهَا المُشْتَاق ، فانتصَرَتْ بِذَلِكَ قُوَّةُ الحَيَاة، عَلَى حِصَارِ الطُّغَاة.
    ثمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ لِلْفَتَى: مَا زِلْتَ صَغيراً عَلَى الشَّقَاء، وَكَانَ الأَجْدَرُ بِكَ أن تجلِسَ إلى العُلَمَاء، فَتَأْخُذَ عَنْهُم العِلْمَ النَّافِع، فَقَالَ الفَتَى: أنَا في الصَّفِّ التَّاسِع، أشتَغِلُ حَتّى مُنْتَصَف اللَّيْل،وأستَيْقِظُ مَهْدُودَ الحَيْل، فَأَنطَلِقُ إلى المدرَسَةِ في الصَّبَاح، وَلَيْسَ لَهَذَا الدَّيْدَنِ مِنْ بَرَاح، فَأَخِي أثخَنَتْهُ الجِرَاح، وأبي استُشْهِدَ وهُوَ يُعَانِقُ السِّلاح، أمَّا وَالدَتي فَقَدْ لَصِبَ جِلْدُهَا بِلَحْمِهَا مِنْ شِدَّةِ الهُزَال، وباتَتْ عَاجِزَةً عَن الاحتِمَال.
    وَهُنَا سَأَلْتُه: ألا يُشَكِّلُ العَمَلُ في الأنفَاقِ خَطَراً عَلَى حَيَاةِ العُمَّال؟
    فوجَمَ لَحْظَةً ثُمَّ قَال: طَالمَا قَصَفَها اليَهُود، وسَدَّهَا أُولُو القُرْبَى عَبْرَ الحُدُود، وغَيْدَقَ المطَرُ فَانْهَارَتْ نَوَاحِيهَا، وبثَقَ المَاءُ فقَضَى عَلَى مَنْ فِيْهَا، وَرُبَّمَا بُثَّ في أرجَائِهَا الغَازُ السَّام، فَأهْلَكَ مَنْ فِيْهَا مِنَ الأنَام. غَيْرَ أنَّ العَيْشَ فَوْقَ الأرضِ لَيْسَ أقلَّ خَطَراً، فَرُبَّمَا تَنَامُ في العِلِّيَّة، فتَحْرِقُكَ قُنْبُلَةٌ فُوسْفُورِيَّة، وَقَدْ تَأتِيْكَ صَوَاريخُ الأَعْدَاء، وأَنْتَ قَائِمٌ لصَلاةِ العِشَاء.
    ثُمَّ تَنَهَّدَ الفَتَى مِنْ صَدْرٍ مَجْرُوح، وَقَالَ بِصَوْتٍ مَبْحُوح: العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ أَنْفَاقَنَا، ويُرِيْدُ إِزْهَاقَنَا، وَيُشَارِكُ البَاغِي في قَتْل العِبَاد، حَتَّى يَحْرِمَ المُجَاهِدِينَ مِن تَهْرِيبِ السِّلاحِ والعَتَاد.
    فَقَالَ الشَّافعيّ مُتَعَجِِّباً: أَيَمْنَعُونَ السِّلاحَ عَن الشَّعْبِ المقْهُور، ويُزَوِّدُونَ بهِ المُعْتَدِي المَغْرُور، ليُرْهِبَ المَقْهُورِينَ بِالنَّارِ والحَدِيد؟ قُلْتُ: إِنَّهَا شِرعَةُ الشَّرقِ الأَوْسَطِ الجَدِيد: يَمْنَعُونَنَا مِنْ حَفْرِ الأَنْفَاق، مِنْ أَجْلِ الغِذَاءِ والتِّريَاق، وَيَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَن الأَنْفَاقِ الَّتي يَحْفِرُهَا الأَوْغَادُ، عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد.
    - ولماذَا يَحْفرُون؟ وَهُم يَحْصُلُونَ عَلَى مَا يَطْلُبُونَ، وَمَا لا يَطْلُبُون.
    - يُخَلْخِلُونَ البُنيَانَ تَحْتَ القُدْسِ الشَّريفِ المَكْلُوم، ليُبْنى عَلَى أنْقَاضِ الأقْصَى هَيْكلٌ مَزْعُوم، لا يهمُّهُم في ذَلِكَ انهِيَارُ المَكَان، عَلَى رُؤُوسِ السُّكَّان، وربَّما سَمِعْتَ عَن انهيَارِ صَفٍّ في إِحْدَى مَدَارِسِ المَدِينَةِ المُقَدَّسَة، أدَّى إلى إِصَابَةِ العَشَرَاتِ مِن تَلامِيذِ المَدْرَسة.
    وإذْ اِطْمَأنَّ الفَتَى إلَيْنا، أَخَذَنَا الحَدِيثُ في دُرُوبٍ ودُرُوب، فَشَكَا إلَيْنا تُجَّارَ الحُرُوب، وَمَا زَالَ يُحَدّثُنا عَنْ غَزَّة، وَعَن اسمِهَا المُشْتَقِّ مِنَ المنعَةِ والعِزَّة، حَتَّى انتَهَتْ لَحَظَاتُ القَلَق، ووَصَلْنا إلى نهَايَةِ النَّفَق، فَمَا خَرَجْنا مِنْهُ حتّى أَخَذَ الشّافعيُّ حَفنةً مِنَ التُّرَاب، وَرَاحَ يُكَحِّل الجُفُونُ والأُهْدَاب.
    وسَكَتَ طَرِيدُ الزَّمانِ عَنِ الكَلام، فاستعدَّ الجَمْعُ للقِيَام، وَقَبْلَ أنْ نَخْرُجَ مِنَ البَاب، قُلْنا في لهجَةِ عِتَاب: ألا تَدْعُونا إلى جَلْسَةٍ عَامِرَة، تَرْوِي لَنَا فِيهَا المَقَامَةَ العَاشِرَة، فقَال: لَكُم مَا تُريدُونَ أيُّهَا الضِّيفَان، قُلْنا: فما العنْوان؟ قَال: "فَصْلُ البَيَان في اِخْتِلالِ المِيْزَان".
    7/3/2009
    آَخِرُ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانِيّ(10)
    فَصْلُ البَيَانِ في اِخْتِلالِ المِيْزَانِ
    د. يوسف حطيني
    جاءَنا شَرِيدُ الزَّمَان، ابنُ طَرِيدِ الزَّمَان، فأخْبَرَنَا أنَّ والِدَه مَحْمُوم، فهوَ لا يجلِسُ ولا يَقُوم، وأنّه يطلُبُنَا في العَجَل، فقُلْنا في وَجَل: أجارَهُ الله من حَرَضِه، وأَبَلَّهُ مِنْ مَرَضه. ولمّا وصَلنا إلى بيتِهِ وجدناه طَرِيحَ الفِرَاش، فصَافَحَنا في ارتِعَاش، ثم قال في سُخْرِيَة: أراكُم تَأَخَّرْتُم في التَّلْبِيَة، كأنَّكُم نَسِيتُم مَا كَان، أوْ أَضْرَبْتُم عَن سَمَاعِ "فَصْلِ البَيَان"، فَقُلْنا: ما جِئْنَا إلا للزِّيَارَة، ولا نَنْتَظِرُ مِنْكَ سَجْعَةً في عِبَارَة، قالَ: بَلْ تَسْمَعُون مما أَجِدُ وأُلاقي، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ التَّراقي، فأَنَا رَجُلٌ تَخْنُقُهُ الحِكَايَات، ولا يجِدُ شِفَاءَهُ إلا في حَدِيثِ المَقَامَات.
    قُلْنا: تَحَدَّثْ وَئِيدا، ولا تُرْهِقْ نَفْسَكَ مَزِيْدا، فَقَالَ طَريدُ الزَّمَان:
    قَضَّيْتُ لَيْلَتَيْن، لم تُغْمَضْ فيهما لي عَيْن، أُقَلّبُ فِكْري فيما تسمّى ازدواجِيَّةَ المَعَايير، التي تمارِسُها "بِلادُ التَّنْوير"، حتّى كَادَ عَقْلِي يَطِير.. فَبَيْنَما أَنَا نِصْفُ يَقْظَان، رَأَيْتُ شَبَحاً يَطْلُعُ وَسْطَ المَكَان، ثم يَسْأَلُني عَن صِحَّتي، مُسْتَفْسِراً عن عِلَّّتي، وإذ سَألته عن شَخْصِهِ قَال:
    أنا الطّبراني، فَخَمّنْتُ دُنُوَّ سَاعَتي، وَتَذَكَّرْتُ فَرَاغَ زَوَّادتي، وارتَعَبْتُ في سِرّي، ونَدِمْتُ عَلَى ما فَرّطْتُ من أمري، وقُلْتُ: كَيْفَ أكُونُ وَاقِفاً أمَامي، وأنَا في الفِرَاش قَدْ هَدَّني سَقَامي؟ ثمَّ ثَبَّتُّ جَنَاني، وأشْعَلْتُ حَطَبَ لِسَاني، وسَأَلْته: أحقّاً أنّكَ الطَّبراني؟ فَقَالَ: نَعَم، يا بنَ بلدي المحبوب، أنا سُلَيْمَان بنُ أَحْمَد بنِ أيُّوب ، فَأَدْرَكْتُ مَا جَرَى عَلَى وَجْهِ التَّقْريب، ثمّ حَاوَلْتُ القِيَامَ للتَّرْحيب، فَخَانَتني قُوَّتي، وخَذَلتني هِمَّتي، غَيْرَ أنَّ جَزَعي زَال، وَحَلَّ محلَّهُ شُعُورُ الإِجْلال، فَسَألتُهُ مُؤَكّداً في احْتِرَام: أأنتَ مُحَدِّثُ الإِسْلام، الحَافِظُ الثِّقَةُ الإِمَام؟ أيّّةُ رِيْحٍ طَيِّبَة جَاءَتْ بِكَ إلى هَذَا المَكَان، عَلَى اتّسَاعِ المَسَافَةِ وبُعْدِ الزَّمَان، فقالَ: إنما سَعَيْتُ إليَك، مُطْمَئِناً عَلَيْك.
    وإِذْ سَأَلَني عَنْ كَرْبي، أَشَرْتُ إلى قَلْبي، فَقَال:
    أتَشْكُو العِشْقَ أيُّهَا الوَلهَان، بعد أن احدَوْدَبَ الظَّهْرُ ولحَبَ الجَنْبَان؟
    قلتُ: بَلْ أشْكُو ظُلْم النَّاس، الذينَ خَاوَذُونا إلى مَنْ طَرَدَنَا مِنْ قُدْسِ الأَقْدَاس، ومما بارَكَ اللهُ حولهَا مِنَ الأَرْضِين، وجَعَلُوا الشَّرْعِيَّة الدَّوْلِيَّةَ عِضِين ، ونَاصَرُوا لَيْلَ المُدْلِجِين، عَلَى الحَقِّ المُبِين.
    فَجَلَسَ سُلَيْمَانُ إلى سَرِيري، وَقَالَ: أوضِحْ، فَقُلْتُ:
    مُنْذُ زَعَبَ غُرَابُ الهِجْرَة اليَّهُودِيَّة نحْوَ أَرْضِنَا الفِلَسْطِينيَّة رَاحَ الغَرْبُ يُطَوِّعُ كُلَّ قَانُون، ويُشَرِّعُ وُجُودَ الكِيَان المَلْعُون، وعَلَى الرّغْمِ مِنْ أنَّ مَا وَضَعَهُ مِنَ القَوَانين، يَرْفُضُ نُشُوءَ الدَّوْلَة عَلَى أَسَاسِ الدّين، فَقَد ارتَضَى أن يَكَونَ خَادِماً لخُشَارَةِ البَشَر، الذينَ رَكِبُوا عَلَى ظَهْرِ الدّينِ اليَهُودِي، ليَغْتَصِبُوا أرضَ جُدُودِي.
    قال سُلَيْمَان بنُ أحمدَ بنِ أيُّوب: وَهَلْ ثمّةَ وجوهٌ أُخْرَى لمُخَاوَذَة الغَرْب إلى هؤلاءِ الأَوْغَاد، قُلْتُ: وُجوهٌ كَثيرةٌ تَعْجِزُ عن إحْصَائِهَا الأَعْدَاد، ومِنْ ذلك أنّهم طَالما تَشَدَّقُوا بالديمقراطِيَّة، ثُمَّ انقَلَبُوا عَلَيها بينَ صُبْحٍ وعَشِيَّة، لأنها أفرزَتْ حُكُومَةً تَرْفُضُ الانصِياعَ للدَّوْلَةِ اليَّهُودِيَّة، فعندما فازت حَمَاس، شَعَرَ الغَرْبُ أنّ الفَاس قَدْ وَقَعَتْ في الرَّاس، فحَاصَرَ الحُكُومَةَ والشَّعْب، وحَرَمَ المواطِنينَ الأكْلَ والشُّرب، وإمْعَاناً مِنْهُ في تجَاهُلِ حُقُوقي، جَرَى خَلْفَ العَدُوِّ فِعْلةَ الكَلْبِ السُّلُوقِي، فَاشْتَرَطَ عَلَى الحُكُومَةِ الفِلَسطينيّة، قَبُولَ شُرُوطِ اللَّجْنَةِ الرُّبَاعِيَّة ، وعِنْدَهُ أنَّ الحُكُومَة التي لا تَعْتَرِفُ بكِيَانِ أولئِكَ الطَُّغَاة، لا يَسْتَحِقُّ مُوُاطِنُوهَا الحَيَاة.
    وإذْ شَعَرَ سُلَيْمَانُ باضْطِرَابي، حَمَلَ تَأْمُورَةَ شَرَابي، وَصَبَّ لي كَأسَ مَاء، وَقَالَ: إنَّ المُرَاوِغِينَ أشدُّ مِنَ الأَعْدَاء، وَبَاسَطَني في الحَدِيثِ عَنْ مُعْجَمَاتِهِ التي جَرَى ذِكْرُهَا عَلَى كُلِّ لِسَان، وإِذْ ذاكَ دَخَلَ عَلَينا شَريدُ الزَّمَان، ومدَّ الخِوَان، فَقُلْتُ لَهُ: يَا بُنَيّ ألا تَضَعُ طَعَاماً لضَيْفِنَا الجَلِيل؟ فَنَظَرَ حَوَالَيه، وقَدْ تَسَرّبَ القَلَقُ إلَيْه، ثمَّ قَالَ مُبْتَعِدا: إني لا أَرَى أَحَدا، فاعتَذَرْتُ إلى سُلَيْمان عَمَّا يَفْعَلُه الأبْنَاءُ بالآبَاء، مُتَعَلِّلاً بأنَّهُ يَنْتَظِرُ مَوْلُوداً هَذَا المَسَاء، فقَالَ: لعلَّ ابنَكَ لا يُحِبُّ النَّظَرَ إلى الوَرَاء، ودَعَوْتُه أنْ يُشَارِكَني نَصِيبي مِنَ المُلُوخِيَّة والدَّجَاج، مُعْتَذِراً لِعَجْزِي عَنْ إطعَامِه السُّكْبَاج والدُّوغْبَاج، وعَنْ تَحْلِيَتِه باللَّوْزَينَج والجَوْزَينَج، فضَحِكَ مِنّي، وخفّفَ عَنّي، وإذ انتهينا من الطعام حَمِدْنا الله، الذي لا يُحْمَدُ عَلَى مَكْرُوهٍ سِوَاه، فَقَد عَادَ إليَّ الإرهَاقُ والرَّجَفَان، إذ تَذَكَّرتُ اخْتِلالَ الميزَان، فَقُلْتُ مُتَابِعا:
    وأمَّا مُصِيبَةُ المُصِيبَات التي نَكَاد نَغَصُّ لأجْلِهَا بالمَاءِ الفُرَات، فَهِيَ أنّ الغَرْبَ المُخَاتِل، يَلْبِسُ الحقّ بالباطل، فيَغُضُّ النَّظَر عَن مجَازرِ العَدُوِّ الدَّمَوِيَّة، ويُعَاوِنُهُ عَلَى احْتِكَارِ دَوْرِ الضَّحيّة، فَإِذَا اعترضَ شرقيٌّ أو غربيٌّ على سِيَاسَةِ هَؤلاء، أُحيلَ إلى القَضَاء، حَتّى وَلَوْ كانَ يَهُودِياً، فهُوَ عِنْدَهُم مُتَّهَمٌ بِكَرَاهِيَةِ الذَّات، ولا يَقْتَصِرُ المَوْقِفُ عَلَى الحُكُومَات، بل يَشْمُلُ الهَيْئَاتِ والمُنَظَّمَات، فَقَد تَعَهَّد اثنانِ مِنْ اتّحَادَاتِ الكَنَائِسِ الأوروبيَّة، بمُحَارَبَةِ كلِّ أنْوَاعِ العَدَاءِ للسامية .
    فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أليسَ في عَالم اليَوْمِ هَيْئَةٌ فيها ضَمِيْر، تُحَاكِمُ الكَبيرَ قَبْل الصَّغِير، وتُنْصِفُ المَظْلُومَ وَتَنْتَصِفُ مِنَ الظَّالم؟ فَقُلْتُ: يا أبَا القَاسِم، لَدَيْنا عَدَالَةٌ عَرْجَاء، تَسْتَطِيعُ أن تجُوبَ أربَعَةَ الأَرْجَاء، ولكنَّ بحثَهَا عَن اليَّقِين، لا يَسْتَطِيعُ الوُصُولَ إلى مجْزَرَةِ جنين . وهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى اجْتِيَازِ الآفَاق، إلا أَنْ تحَاسِبَ بُوش عَلَى تَدْمِيرِ العِرَاق، بَعْدَ أنْ اعتَرَفَتْ جمَيعَ إدَارَاتِه، بإخْفَاقِ استِخْبَارَاتِه، وهيَ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصِلَ إلى السُّودَان، وتجْمَعَ ضِدَّ رَئيسِهَا دَلائِلَ البُهْتَان، ولكنّهَا لا تستطيع التَّحْقِيْقَ في حَرْبِ الصَّهَايِنَةِ عَلَى غَزَّةَ وَلُبنَان، عَلَى الرّغمِ مِنْ أنَّ الأَرْضَ هُنَاكَ زُلْزِلَتْ زِلْزَالهَا، وأَخْرَجَتْ أثقَالَها.
    ثمَّ دَارَتْ عَينَايَ الكَليلتَان، تَبْحَثَانِ في الغُرْفَةِ عَنْ سُلَيْمَانَ، فَلَمْ تَجِدَا لَهُ أثَراً، وحَزِنْتُ أنَّهُ تَرَكَني في السَّرِير، أُحدِّثُ نَفْسي عَنْ عالَمٍ حَقير، مشغولٍ بجُنْدِيٍّ إسْرَائيليٍّ أَسِير، أمَّا أسْرَانَا الذينَ جَاوَزُوا عَشْرة الآلاف، فَهُم عِنْدَ الغَرْب مَوضُوعٌ لا يَسْتَحِقُّ الخِلاف، لِذَلِك لا يَلْتَفِتُ إليهِم، ويُعَامِلُ الإسْرائيليينَ كَأَنْ لا جُنَاحَ عَلَيْهم، عَلَى الرّغْمِ مِنْ أنَّ في أَسْرَانَا أطْفَالاً ونِسَاء، وسِيَاسيينَ ووُزَرَاء.
    وهَكَذَا بقيتُ حَزِيناً حتَّى دَخَلَ عَلَيَّ ابني، فَبَدَّدَ حُزْني، إذْ بَشَّرَني بأنَّ اللهَ قَدْ رَزَقَهُ بِغُلام، كأنّه بَدْرُ التّمَام، فَقُلْتُ لَه: ستُسَمّيه عَلَى اسمي، فالوَلَدُ يُسَمِّي عَلَى اسْمِ الوَالِد، فَقَالَ كَأنّهُ يَلُومُني: سَأُسَمّيه "العائد".. فأنَا لا أُرِيدُهُ طَرِيداً، ولا أَرَتَضِيهِ شَرِيداً..
    ثمَّ إنَّ طَريدَ الزَّمان خَاوَذَتْهُ الحُمَّى، فَصَارَ يَهْذي بكَلِمَاتٍ مُبْهَمَات، مُغَرْغِراً بذِكْرِ طَبَريَّةَ عِدَّةَ مَرّات، فَبقِينَا عِنْدَه حتى اسْتَغْرَقَ في نَوْمٍ عَمِيق، وخَرَجْنا مِنْ دَارِهِ بينَ مُهتَمٍّ ومُغْتَمٍ وشَفِيق، ولم يَكَدْ يَطلُعُ الصَّبَاح، حتَّى جَاءَنا مِنْ جَانِبِ بيتِهِ عَوِيلٌ ونُوَاح.
    20/3/2009

المواضيع المتشابهه

  1. { ضَجِيجٌ مِنْ شُجُونْ }
    بواسطة ظميان غدير في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 07-19-2011, 02:41 PM
  2. مَا تَيَسَّرَ مِنْ بُكَاءْ
    بواسطة محمود قحطان في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-19-2009, 03:01 PM
  3. أكثرُ مِنْ جَسَدْ
    بواسطة المحامي منير العباس في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-11-2009, 08:59 PM
  4. مَا مِنْ غَرَامٍ
    بواسطة د.هزاع في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-29-2007, 09:00 AM
  5. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
    بواسطة القبطان في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-05-2006, 01:07 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •