الابتسامة تصنع المعجزات...بقلم آرا سوفاليان
سيارتي السابقة وكانت من طراز فولكس فاكن سيارة الشعب ظلت في خدمتي ربع قرن وخدمتني بإخلاص كما يخدم الألمان صناعتهم ويحافظون على اسمهم وشرفهم، بشيء آخرلا علاقة له بالأعضاء التناسلية...قال لي المكنسيان الوحيد الذي واكبها خلال الربع قرن المتعلق: والله يا سيد آرا لو أن لهذه السيارة أجنحة لكانت قد صعدت الى القمر وعادت مرات كثيرة...وكان جورج المصري يقول الحقيقة فهي لم تقطعني في الطريق ولا مرة واحدة، وعندما تخليت عنها ليتم صهرها في حماة شعرت أنني فقدت جزء مني...وندمت ولا زلت...خاصة وانني درت فيها كل المحافظات وخاصة طرطوس (الرمال الذهبية ـ والروضة وضهر صفرا وبيت لوسيا والمتن ومتن بو ريا ) وشملاً حتى اللاذقية و كسب والصلنفة في الطرقات التي تؤذي أعظم السيارات بسبب المرتفعات.
السيارة التي حلت محلها لم تحظ بربع المجد الذي حظيت به سابقتها...فلقد انحسر مجالها الحيوي يوماً بعد يوم...ليصل الى مجالين الأول من جرمانا حتى ساحة الأمويين، والثاني من جرمانا الى ساحة العباسيين، واليوم خسرت المجال الأول جرمانا ساحة الامويين وبقي الثاني فقط وهو جرمانا العباسيين، ولأن أهلي الذين كانوا في العباسيين قصدوا ساحة عباسيين أخرى هي في كندا، فإن المجال الثاني هذا تم اختزاله الى جرمانا باب توما لا غير، والسيارة تجثم في مكانها حزينة ونخشى عليها من دقة بالهاون خاصة وانه في الآونة الأخيرة يتم اتحافنا بالهاونات، فالبارحة تم اتحافنا بـ 12 مدقة هاون بدون جرن وصاروخين من صناعة محلية وكان هذا الانجاز الباهر في تمام الساعة الثالثة فجراً...وكنت بعد كل تعرض اجمع اسماء الشهداء واسماء الجرحى...اما اليوم فلقد فقدت هذا الحماس وأصابني الملل.
صباح اليوم نزلت لإزالة التراب عن نوافذ السيارة، فلا بد ان أستخدمها اليوم لتوصيل صغيرتي الى الامتحان، وامتحانها يبدأ الساعة 11 ظهراً وعلينا ان ننطلق قبل ساعة وربع للوصول في الموعد لكي نتلافى البهدلة.
نزلت وحدي فوجدت أب ومعه طفلتين وأمهما...وكان قد حمل الطفلة ووضعها واقفة على غطاء محرك سيارتي وأوقف اختها على الارض بجانبها، والصغيرتان تحملان الجلاء المدرسي والمرحى المرافقة لضرورات التصوير والتوثيق...ورجع الأب عدة خطوات الى الوراء والتقط صورة للأولاد بالموبايل، ووقفت لأنتظر ولا بد انه استاء مني ورمقني بنظرة احتقار خاصة وانني في عرفه مجرّد متطفل، ازعجه وازعج زوجته المحجبة وازعج أطفاله، فبادرته بإبتسامة وجرت المحاورة الآتية:
ـ الله يخليلك ياهون وتفرح بشهايدون العالية
ـ الله يسلمك
واستبدل الرجل القناع الاول الذي وضعه على وجهه والذي وضعه بالاصل لأنه ظنّ بأنني متطفل وبأنني أزعجته وازعجت زوجته وأطفاله مخترقاً حميميتهم العائلية، وقد زادت قسمات الكره بعد ان اكتشف بأني صاحب السيارة التي اوقف على غطاء محركها ابنته فبادرني بالعداوة لأنه ادرك انه أخطأ بحقي عندما اوقف ابنته على غطاء محرك سيارتي خاصة وان سيارات اليوم وفي مواجهة شيء مثل هذا فإن غطاء المحرك ينزل في ما يشبه الدائرة تحت القدمين ولا يرجع الى وضعه السابق، واختار الرجل ان يتغدى بي قبل ان اتعشى به فوضع كل قسمات القبح وملامح الغضب في قناعه الأول...وقد استبدل هذا القناع بقناع الود والابتسامة بعد ان اكتشف بأنني لم أقصد ان اتعشى به ابداً فابتسم واقتربت زوجته...وقلت لها: الله يخليلك ياهون انتي أكيد أمهون...قالت لي : ايه والله انا امهون نحنا مو من جرمانا نحنا جيرانكون من هون من بيت سحم اجينا لهون لاجئين واستئجرنا بيت لأنو بيتنا راح وسيارتنا معو... وحطينا لولاد بمدرسة هون قريبة من ساحة الرئيس...واليوم رحنا استلمنا الجلاء والحمد لله ناجحين ومتفوقين وآخدين مرحى.
قلت لها: انا عندي بنتين كانوا صغار متلهون وكانوا يعملوا فيني نفس الأفلام، وعندي الهون صور كتيرة...الله يخليلكون ياهون...وان شاء الله البلد بترجع متل ما كانت واحسن والله بعوضكون.
وودعني الرجل وطفلتيه وزوجته بإبتسامة وذهبوا ومعهم الجلاءات والمرحات والصور في موبايل والدهم...وهكذا فإن الابتسامة تصنع المعجزات ولا تكلف شيء.
ونزلت صغيرتي ومعها حقيبتها المحشوة حشواً...سألتها: ماذا في الحقيبة؟ أجابت: كل الكتب المتعلقة بكل المواد التي تقدمنا فيها للإمتحان لغاية فحص اليوم، قلت لها: وما حاجتك لكل الكتب لغاية فحص اليوم واليوم عندك فحص اجتماعيات فقط؟ قالت: لا علاقة للكتب بفحص اليوم...لقد طلبوا مني تسليم الكتب للموجهة قلت لها: حبيبتي نحن لم نستلم من مدرستك ولا كتاب واحد وقد عانيت الأمرّين في شراء الكتب لك ولأختك كتاب من الشرق وكتاب من الغرب في مستودعات الكتب المدرسية في المزرعة وفي المزة وفي المهاجرين مع الكشكشة والبهدلة والوقوف في طوابير الدور والنهر والرفس والنعر ودفع المصاري...اجابتني جواب مفحم وهو الآتي: لا علاقة بين الامرين هم لم يعطوني الكتب وانت دفعت ثمنهم وهذا صحيح ولكن ايهما أفضل؟ أن ألقيهم في الزبالة أم أن يستفيد منهم طالب فقير...وبالطبع كان الجواب مفحم فصمتت...وخجلت من نفسي وعرفت ان هناك أشياء يتم توريثها.
في السادسة من صباح اليوم اتصل الجيران بخالة ابنتي وطلبوا منها الحضور لمعاينة الاضرار التي سببها القصف بقذيفة هاون أو بصاروخ محلي والتي أو الذي نزلت أو نزل على بعد ثلاثة امتار من محلها في الساعة الثالثة من فجر اليوم، وهو بوتيك صغير يحوي لانجري يعينها في الاستمرار بالحياة هي وابنها بعد أن توفي زوجها، وكانت خالة ابنتي في الجبصين فلقد وقعت البارحة على درج محلها وكسرت قدمها، واتصلت باختها التي اتصلت بي فذهبت مسرعاً الى مشفى البراعم قبل الطبيب ونقلتها بعد التجبير الى بيتها وحملتها انا وابنها الى الطابق الخامس بسبب عدم وجود مصعد، وكنت في كل درجة استنتج مدى وضاعتنا فكيف يعطى اذن لبناء بناية مؤلفة من خمسة طوابق ولا تحوي مصعد؟
وبعد الذي حدث يتصل جيرانها بها لنقل مصيبة أخرى، حاولت الدخول الى الحارة التي فيها المحل، وهي قريبة من بيتي، فلم استطع فلقد وضعوا أحجار وموانع ومنعوا دخول السيارات، فتركت السيارة ونزلت وكان المنظر مرعباً سيارات محترقة وأخرى محطمة ومثقوبة بالشظايا وعجلاتها كلها على الارض، والمحل بدون غلق وبدون باب وبدون واجهة وبدون زجاج اما الشظايا فلقد دخلت كلها الى المحل ولا بد انها أعطبت كل شيء...وهناك منزل متضرر بشدة وأثاث محطم ومحترق وجرافة للبلدية وسيارة شاحنة كبيرة تنقل الاشياء المحطمة وأكوام الزجاج...وفي الأرض صدع في الزفت وثلاثة اشخاص ينصتون الى شخص رابع...فاقتربت لأسمع فكان يقول: قذيفة الهاون لا تحدث هذا الدمار...لا بد انه صاروخ محلي انظروا لقد سقط هنا...لقد تصدّع الزفت وانخلع من مكانه...الهاون لا يفعل هذا ابداً...هذا صاروخ محلي...فسأله احد الاشخاص: من أين فأجاب: كل الهاونات والصواريخ تأتينا من بيت سحم لأنها في مواجهتنا أما الأماكن الاخرى فهي بعيدة نسبياً.
سألت نفسي: ما هذا ومن أجل أي شيء ومن أجل أي هدف، فمن يضرب من وكيف، وأهالي بيت سحم عندنا ونساؤهم كذلك وأولادهم يحملون الجلاءات والمرحات ووالدهم يصورهم بالموبايل.
من اجل اي هدف ومن اجل اي نتيجة يتم هذا الدمار كله...ماذا لو ان هذا الصاروخ نزل حيث نزل في الثالثة ظهراً وليس في الثالثة فجراً فما هي النتيجة، وماذا لو ان الصاروخ نزل الآن في نفس المكان الذي كنا نقف فيه انا والأب صاحب الموبايل وزوجته وابنتيه والجلاءات والمرحات في أيديهن فما هي النتيجة...من أجل أي شيء يقتل ابناء البلد اخوتهم وابناء القرية الواحدة ابناؤهم النازحين الى الجانب الآخرمن بلدتهم...الى أين سيفضي بنا هذا الجنون...غير المقابر.
ووجدت رجال الشرطة يسجلون الأضرار وعدت ادراجي وخسرت عشر دقائق علي أن أجتهد في الطريق لتعويضهم...وكان مخاض مروع وطحش من اليمين وطحش من اليسار ورتل ثاني وثالث ورابع وعرقلة نَوَرْ وندالة بدو، وصفات أرباطية مختزنة لم تظهر من قبل، وشتائم وتف من النوافذ ونزلت أميرتي الى مدرستها وودعتها بنظرة حزينة تختزل العبارة الآتية: (الى أي مستقبل واعد يا حبيبتي...جئنا بك انت واختك...وسنوصلك ونوصلها ونوصل انفسنا إليه)...هذا هو السؤال الوحيد الذي لا أعرف لا أنا ولا غيري أي جواب له.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق الأحد 26 05 2013
arasouvalian@gmail.com