درب الحب .. درب الجهير
بقلم ( محمد فتحي المقداد )
يقال بأن مصر هي هبة النيل , وأقول بأن بصرى هي هبة الجهير , هذا النبع الجوفي الذي يتموضع عند الخاصرة الشمالية الغربية لبصرى قديماً . وقد كانت تنهل منه بصرى وما حولها من القرى والعربان التي تفد لري ماشيتها
وإذا أردت أن تصل لمياه الجهير , فلا بد لك أن تنزل ما يقرب العشرين درجة , تفيض الحياة في الجهير في الربيع
بعد ذوبان الثلوج على جبل العرب , وتفيض معه العيون التي تقرب منه لأنها مثل الجهير منطقتها أخفض المناطق في بصرى . ويبقى النبع يفيض حياة وحباً , لكنه في منتصف الصيف وأواخره تقل مياهه النابعة , حتى كان يضطر الكثير من النساء للدخول إلى المغارة التي تمتد عدة أمتار في جوف صخري تحت الأرض لملء تنكات الماء ( سطل ) والنساء كان يطلق عليهن ( ملآّيات) أي يملأن الماء للبيوت على رؤوسهن أو بواسطة الحمير . وذلك العمل يبدأ من الصباح الباكر عند طلوع الشمس عدة نقلات, وفي المساء ( طبعاً – هذا قبل دخول صنابير المياه للبيوت ) كذلك دورة أخرى من جلب المياه , وهنا يكون الشباب قد أنهوا أعمالهم ولبسوا أحلى الثياب عندهم ورشّوا على أنفسهم كالونيا ( ريف دور-أو درال أم البنت) وتزينوا , ويخرجون زرافات ووحدانا , ومنهم من يكون يبحث عن عروس , ومنهم من يذهب ليرى ويغازل من يحبها , بالطبع يكون اللقاء مع الزحمة , بالعيون و بالإشارات أو بطرف العيون , أو بالابتسامات , بالطبع يحدث كثيراً من المضايقات للنساء من بعض الشباب , مما يستدعي حالات من المشاجرات , وذلك انتصاراً للأعراض وصونها , وأحياًنا أخرى من المتنافسين على حب فتاة صبوحة وكان درب الجهير هو المتنفس الوحيد في بصرى , حيث لم يكن هناك الحدائق أو أماكن للنزهات , و كل الناس يعملون بالفلاحة والزراعة , وإمكانيات الناس متقاربة في طريقة معاشهم اليومي ,وفي المأكل والملبس , حتى يروى أن هناك ثلاثة شبان في عائلة واحدة , وليس عندهم ملابس خاصة للطلعة , إلا قميص وبنطلون ( طقم واحد فقط) يتداورون على لبس البنطلون والقميص كل واحد ساعة يخرج إلى طريق الجهير مشوار ويعود للبيت , ويخلعهم ليلبسها الأخ الثاني وهكذا .. تلك أيام عاشها الآباء والأجداد بصعوبتها ,وانتزاع لقمة الخبز بالقوة والجهد والتعب والكد
وامتزجت مياه الجهير بقلوبهم بتربة بصرى الحمراء التي رووها بدمائهم وأرواحهم دفاعاً عن حياضها .
ولكن اليوم تغيرت الحال لرغد العيش وهناءته , حيث لم يعد هناك فرق يذكر بين ابن الريف الفلاح ,وابن المدينة التاجر والموظف , وما عدت ترى في الريف إلا مظاهر المدينة وبريقها .. وأسمع أمي عندما تتذكر أيام الماضي فتقول:
( سقى الله تلك الأيام ) .
بصرى الشام