بَلاغــة الخِطاب الحِجَاجِيّ

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

قراءة نقدية للشَّخصية الحِجَاجيّة في رواية "نيويورك 80" ليوسف إدريس
يتأسس الخطاب الحجاجي على توافر وجهتي نظر ـ في موقف مواجهة أيديولوجية ـ تدخلان معًا في إطار علاقة نقدية محضة تتغيا ترسيخ وجهة النظر المتبناة وإقناع الآخر ـ ومن ثم المتلقي ـ بها، وتعرية الوجهة المضادة وإعادة تفسيرها لصالح الوجهة المقابلة، ولابد أن ينتهي الأمر بإنقضاء إحدى الوجهتين لصالح الأخرى، وهو ما يطلق عليه في بعض الأحيان "الميتانص" الذي يُقصد به التفاعل بين نصين ـ داخل البنية الحكائية ـ مُتجاوِرين يتبادلان التأثير في إطار علاقة نقدية، فالميتانص ـ ونحدّده هنا بالنَّص الذي يعارض بنيةَ نص آخر مُعَبِّر عن أيديولوجيا مُضادة له داخل النَّص السَّرْديّ ـ يتفاعل مع النَّص من خلال موقفه منه وانتقاده له، فهو "البنية النَّصيّة التي تأتي لتقدِّم وجهةَ نظرها في النص، ولا يمكن أن تكون وجهةُ النَّظر هنا إلاّ نقديّة" .
وبالطبع فإن الوجهتين تتأطران بخطابين لغويين غير منسجمين أو متوائمين، فهما بنيتان نصيتان متعارضتان تتفاعلان معًا وتبني كل منهما الآخرى، ولكن على أساس نقدي محض، فكما يقول يقطين " الميتانص هو نوع من المناصة * ، ولكنها تأخذ بُعدًا نقديًا محضًا في علاقة بنية نصية طارئة مع بنية نصية أصل. لذلك فإننا في مرحلة قد نحدّد المُتفاعل النصيّ أولاً على أنه مناص، وبعد تحديدنا لنوعه وعلاقته بالنص، ننتقل إلى اعتباره ميتانص ثانيًا" فالحجة التي يسوقها صاحب إحدى الوجهتين يتراتب عليها استمرارية الآخر في بناء خطابه ردًا عليها ونقضًا لها وتدعيمًا لرؤيته المضادة ومن ثم يصير التعارض الأيديولوجي المشفر لغويًا ضروريًا لتطوّير كل طرف لخطابه النقدي المرفود بخبرة أيديولوجية حاكمة تواصل ضغطها عليه وتحدد له المسارات الحجاجية التي يقوم بتوظيفها.
لذلك فالحجاج يرتكزعلى المواجهة المتعارضة التي تستدعي فعلي الترسيخ/الدعم، والنقض/الهدم؛ أي محاولة الشخصية تدعيم وجهة نظرها أمام المتلقين بشتى الوسائل الحجاجية المتاحة، في الوقت ذاته الذي تسعى فيه إلى نقض وجهة النظر المضادة وإبراز ثلمها والنفاد من نواقصها. فالحجاج خطابٌ "تَبني فيه جهودُ الأفراد دعامةَ مواقفهم الخاصة، في الوقت نفسه الذي ينقضون فيه دعامةَ موقف خصومهم" .
ويمثِّل الحوارُ الخارجيّ/الديالوج Dialogue أكثر الأشكال انسجامًا مع الطبيعة الخاصة للميتانص، إذ إن الميتانص يستلزم تفعيلُه القرنَ بين فعلين رئيسين هما "التَّدْعيم" و"النَّقض"؛ أي تدعيم "الأنا" اللافظة لموقفها وتعضيد وجهة نظرها بالأدلة والحُجج، وفي الوقت نفسه وبصورة مُتزامنة نقض وجهة النظر المُخالفة/المقابلة وإبراز ضعفها وهشاشة مرتكزاتها وزحزحة المتلقي عنها تجاه الأولى، فالميتانص ـ مثله مثل الخطاب الحِجَاجيّ ـ خطابٌ "تَبني فيه جهودُ الأفراد دعامةَ مواقفهم الخاصة، في الوقت نفسه الذي ينقضون فيه دعامةَ موقف خصومهم" ، وهو ما يجعل الحوار الخارجي/ Dialogue الذي يستدعي دائمًا الصوتَ ونقيضه بيئةً مثالية لكي يمارس كلا الطرفين دوريهما في التَّدعيم والنَّقض تبعًا للنسق الجدلي الذي يستهدف أولاً وأخيرًا إقناع المتلقي بصحة موقف "الأنا" في مقابل خطأ وجهة نظر "الآخر".
فالعلاقة بين الميتانص والإقناع علاقة لازبة، يستهدف الأولُ الثاني ويؤسّس الثاني للأول، فكما يقول كينيث أندرسن Keneth Andresen "إن كل نص حِجَاجيّ نص إقناعي" ، فالإقناع وإن كان ضروريًا في أشكال الحضور الأدبي كافة ـ باعتبار المتلقي الطرفَ الغائبَ الحاضرَ في مختلف الخطابات اللغوية المُستهدَفَ من قِبل المبدع إبلاغًا وإقناعًا ـ فأهميته تزداد هنا بفضل الطبيعة الخلافية التي ينطوي عليها الحوار هنا وفي إطار البنية السردية يكون الحجاج بين صوتين أشبه بمناظرة تقوم على أساس درامي تمثيلي فتضفي على الخطاب السردي المهجن بالخطاب الحجاجي قوة ذهنية، ولكنها تأخذ الخطاب الحجاجي الوافد إلى عالم حيوي سقدم للمتلقي أسلوبًا يحتذي للحياة، وبالتالي فإن السرد لا يخلو من الإقناع المتستر بالدراما وهذه الدراما نفسها تخاطب الاختيار الإنساني ليمارس حياته طبقًا لمعطياتها..
فكل ملفوظ يتأطر بالديالوج يمثل بنية نصية تدخل في علاقة نقدية مع بنية نصية أخرى وهو تداخل متزامن تبعًا للنسق الجدلي الذي يستهدف أولاً وأخيرًا إقناع المتلقي بصحة موقف "الأنا" في مقابل خطأ وجهة نظر "الآخر " ويخلق هذا التداخل نوعًا من التفاعل بين البنيتين المتجاورتين فتتبادلان التأثير، البنائي في جوهره المستند إلى هدم الوجهة المضادة، وإبراز هشاشة مرتكزاتها، فالذات تتفاعل مع ملفوظ الآخر لتنتهكه وتؤسس ملفوظًا فاره البناء ناجز الحضور يستقطب اهتمام المتلقي ويرضي أفق توقعاته الذهنية الذي يتمدد بشكل طبعي بفضل الطبيعة الخلافية التي ينطوي عليها الحوار.
ويمثل إقناع الطرف الآخر ـ ومن ثم المتلقي ـ بوجهة نظر الذات وتصدير أيديولوجيتها الخاصة لها الهدف الرئيس لأي خطاب حجاجي، وهو يعد الحد الفاصل بين الخطاب الحجاجي وما يطلق عليه الخطاب السوفسطائي · الذي يتخذ من الجدل العقيم المنهك هدفًا ومنهجًا، فكما يقول كينيث أندرسن "إن كل نص حجاجي نص إقناعي" .
وتبدو رواية "نيويورك "80 ليوسف إدريس واحدة من أهم الروايات العربية التي تتأسس على مفهوم الحجاج، فالراوية تنبني على أساس مساجلة حوارية بين طرفين يلتقيان في مدينة نيويورك، رجل مصري عربي يعمل كاتبًا أدبيًا، وفتاة أمريكية تعمل غانية، وبقدر اختلاف الثقافتين ومنطلقاتها الفلسفية والأيديولوجية تكون مساحة التباين على مستوى اللعبة الحوارية التي تجنح إلى التلون بمعطيات البلاغة الإقناعية المغازلة لطموح المتلقي في مفاتشة مرتكزات الرؤية الحجاجية لكل طرف بغية ممارس دوره القرائي الأليف في الانحياز لإحدى الوجهتين المتعارضتين على حساب الوجهة الأخرى.
ويتوسل كل طرف يشترك في البنية الحوارية ـ في إطار المساجلة الحجاجية ـ بعدد من الطرائق الممثلة لآليات الجدل المنهجية التي يمارس عبرها فعلي التدعيم والنقض، وصولاً إلى الهدف الإقناعي، وهي آليات ينتظمها خيط تعضيد وجهة نظر الشخصية المستهدفة ـ شخصية الكاتب العربي ـ وترسيخ أيديولوجيته في مقابل انتهاك فكر الآخر الذي ينتمي إلى المنظومة الاقتصادية والاجتماعيه للمجتمع الأمريكي، بخطابه الرافض للرؤية العربية الممتاحة من رؤى فكرية متباينة، وهو خطاب قائم على امتلاك الموارد التي تكفل للمالك المحافظة على مكتسباته، ومن أهم هذه الوسائل.
توظيف الآليات المنطقية
يسهم تذرع شخصية الكاتب العربي بالآليات المنطقية في تحقيق رغبته الملحة في إقناع الطرف المقابل بوجهة نظره، فيقول أرسطو محددًا الشروط التي يجب توافرها فيمن يتصدى لفكرة يسعى إلى إقناع الآخرين بها، "يجب أن يكون قادرًا على التفكير المنطقي، وعلى فهم الخلق الإنساني..وأن يفهم الانفعالات" .
فهذه الآليات تخاطب العقل مباشرة مستهدفة الشخصية الأخرى التي تعادل ـ في إطار مركزية الوعي المهيمن على بنية الحوار ـ شخصية المتلقي الخارجي، فتسعى إلى استمالته واستقطابه، باعتبار المتلقي الطرف الغائبَ الحاضرَ في مختلف الخطابات اللغوية المُستهدَفَ من قِبل المبدع إبلاغًا وإقناعًا .
ويفضي توظيف الآليات المنطقية إلى تحقيق ما يطلق عليه الانسجام الداخلي "وهو يتسع ليشمل جميع صور الاستقراء والاستنتاج القائمة على الاحتمالات/القطع، قد يضيق ليدل على القياس الذي تصير نتيجته أو إحدى مقدمتيه" .
يُعد القياسُ المنطقي واحدًا من أهم الآليات التي يوظّفها السارد لتحقيق هدفه الإقناعي في إطار خطابه الحجاجي، إذ يتميّز القياس المنطقي بكونه يعمل من خلال ذهنية المتلقي التي يحترمها ويجعلها شريكًا أساسيًا في توليد النتائج، فالقياس المنطقي يعتمد بشكل رئيس على المتلقي، حيث ينطلق القياس من مُسلّمة أو قضية يؤمن بها المتلقي ثم يبدأ دور المتلقي في وضع القضيتين (الصغرى والكبرى) في مواجهة بعضهما مُستنبِطًا/ مُولِّدًا النتيجة، فالقياس ينتقل بالمتلقي من قضية مشهورة (مُسلّمة) إلى النتيجة المُراد ترسيخها أو إثباتها، مؤسِّسًا بذلك رابطة قوية بين النتيجة وإحدى المُقدمتين (الصغرى أو الكبرى) المُكتسِبة لسمة المُسلّمة من قِبل المتلقي، وذلك عن طريق المُقدمة الثانية (الصغرى أو الكبرى)، وقد تتحوّل النتيجة ـ في مرحلة تالية في ذهن المتلقي ـ تتابعيًا إلى مُسلّمة جديدة تظل قابلة لأن تنبني عليها نتائجُ جديدة وهكذا دواليك في إطار مُمارسة المتلقي لفعل القياس والاستنباط "فالقياس المنطقي Syllogism وسيلة منطقية من وسائل التعليق بين الأقوال Statemented .في القياس المنطقي يصبح أحد القولين مرتبطًا بآخر عن طريق تعليقهما بقول ثالث يمثل طبقة من الموضوعات أو المفاهيم أعلى من القولين الآخرين. وما ينتج عن ذلك هو المُعادل الحجاجي لما يُسمى بالاستدلال Argumentive Equipment عند المناطقة"
وطبعيّ ألا نتوقع حضور القياس المنطق في النص الأدبي ـ أيًا كان جنسه ـ بالصورة ذاتها التي يتحقّق بها في المنطق، إذ تحدث عدةُ انزيحات/عدولات بين الصورتين، فيظل القياس في النص الأدبي مُتسمًا بسمة اختزالية تتسرّب في ثنايا النص دون مواجهة مباشرة مع المتلقي، وإن كانت تحقّق الهدف ذاته الذي يتحقّق في حالة المنطق المباشر.
"هي: أنت معقد يا عزيزي عقدة خطيرة، أتعرف لماذا تكره تمامًا أن تزاول الحب مع إمرأة محترفة؟
هو: لأني أقدس الجسم البشري وبالتالي روح الإنسان.
هي: ماذا تعني بتقديس الجسم البشري؟ أم تقصد الجنس البشري؟
هو: (لنفسه) يا بنت الحرام وربيبة الحرام، كفّي عن تدقيق المعاني، فلا أنت براتند راسل ولا رئيس المجمع اللغوي للتعبيرات السكس لغوية، نعم لأني أقدس الجنس البشري، وبالتالي أقدس الجسم نفسه والعقل نفسه والإحساس البشري نفسه فأنا لست ثورًا، والمرأة ليست معزة أو بقرة، ولأني لست كلبًا ضالاً، والمرأة ليست كلبة مصابة بسعار."
تعلن بداية النص عن احتدام الصراع بين الرؤيتين (رؤية الكاتب ورؤية المرأة الغانية) تجاه احترام الجسم البشري. في الوقت ذاته التي تكشف فيه عن البعد التعاطفي المهيمن على علاقة الكاتب بالسارد، ففي النص السابق يتعرّض الكاتب إلى هجوم عنيف من الشخصية المقابلة ومن ثم يضطر إلى الدفاع عن ذاته، (أنت معقد يا عزيزي عقدة خطيرة) فمن الواضح أن انحياز السارد إلى رؤية شخصية الكاتب ومنطقه قد ساهم في حضور بنية القياس بهذا الشكل المبتور؛ فالسارد يسعى إلى التعمية على الاتهام الصريح للكاتب بعدم الاعتراف بحرية المرء في استغلال جسده، في الوقت ذاته الذي يترك العقل الواعي للمتلقي القادر على إعادة تشكيل النص لممارسة دوره الأليف في استنتاج هذا الشكل المضمر من القياس الذي نعيد قراءته في الشكل التالي:
- أنت لا تحترم حرية كل شخص في ممارسة ما يراه صوابًا مقدمة كبرى
- عدم احترام حرية قرارات الآخري عقدة خطيرة مقدمة صغرى
- أنت معقد يا عزيزي عقدة خطيرة النتيجة
نلاحظ أن النص قد سكت عن إبراز المقدمة الصغرى والكبرى، وإن كان المتلقي قادرًا بسهولة على إدراك هاتين المقدمتين والتوصل إليهما من خلال حديث الشخصية.
وعلى الرغم من تعرض شخصية الكاتب لهذا الاتهام الفاجع، فإنه ـ بفضل قدراته العقلية المنتظمة والواعية ـ يتمكن من النجاة من الشرك الذي تنصبه له االشخصية المقابلة، فيقف منه موقف المساءلة ويقوم بتفكيك ملفوظها، وإعادة ترتيب عناصره، ليحوله إلى بنية مهلهلة تحمل عوامل هدمها في ذاتها وتصير دليلاً ناجعًا عل صواب منطق الكاتب العربي وسلامة موقفه، محاولاً بهذا "الحفاظ على صفاء ونقاء الأيديولوجيا في صورتها المثالية كتعبير عن كلية التصور الذي تصدر عنه" .
إن شخصية الأديب المقسة للذات الإنسانية والمؤمنة بقيمة العقل والمدركة لأهمية التذرع بالعنصر المنطقي في أثناء مساجلتها الحجاجية تقوم بتغذية ملفوظها بآلية القياس المنطقي، وإذا قمنا بتفكيك بنية القياس المضمر سيكون لدينا الشكل التالي:
ـ أنا أقدس الجنس البشري مقدمة كبرى
- لأني أقدس الجنس البشري، وبالتالي أقدس الجسم نفسه والعقل نفسه والإحساس البشري مقدمة صغرى
ـ أنا لست معقدًا النتيجة
يسهم السارد وتدخلاته في تهيئة أفق انتظار المتلقي لاستقبال وجهة نظر البطل المتأطرة بالحدود المنطقية؛ فالقياس يأتي هنا كاملاً دون حذوفات ولا يحتاج الأمر من المتلقي أي مجهود لقراءته وفق هذه الصيغة المنطقية، فالاستتار في الاتهام يقابله الصراحة في الدفاع، كل هذا يحدث بفعل ميل السارد الظاهر لأيديولوجية الكاتب الحصيف.
فالكاتب يحول خطابه إلى ما يشبه المرافعات المنطقية، بفضل تمكنه الشديد من أدواته النقدية في ميتناصه مع الشخصية المقابلة، فنراه يتبع استراتيجية استباقية عندما يقوم بتقديم النتيجة ليضعها في بداية الحديث ( لأني أقدس الجسم البشري وبالتالي روح الإنسان ) ثم يقوم بعد ذلك بتفصيل ملابساتها وإثبات معطياتها المنطقية التي تؤدي إليها بسهولة إنه يفضح النتيجة المضمرة في قياس الآخر ويقوم بكشفه وتعريته ليتمكن من نفيه أمام المتلقي، فاالكاتب هنا يتسلح بشجاعة المواجهة التي تزيده قوة وتبرز صلابة موقفه أمام المتلقي، وكلها عوامل تساهم بفاعلية في تعضيد موقفه من الناحية النفسية أمام المتلقي، ويؤدي إظهار السارد لهذه النتيجة بهذا الشكل إلى تحويل هذا الإعلان كأحد أدوات الضغط على عقلية المتلقي، فشخصية الكاتب تصدِّر له النتيجة بوصفها حكمًا قاطعًا ثم يعود ليقدِّم الدليل المنطقي عليه، فالكاتب العربي يسعى إلى استقطاب المتلقي عبر مخاطبته لعقله مباشرة متمسكًا في هذا بالأدوات المنطقية التي تغازل القيم الذهنية للمتلقي، وتثبت صواب وجهة نظره، وترسخ لأيديولوجيته التي تصير هنا مدعومة بمقتضيات منطقية تخضع للاتفاق الجمعي ولا تقبل النقاش أو المجادلة.
وكما تؤطر شخصية الكاتب حديثها بالبعد المنطقي فإنها تبث الحيوية فيه بشدّه إلى البعد الواقعي المعيش، عندما لا تكتفي بالتذرع بالقياس المنطقي، بل تقرنه ببنية التمثيل التي تدعم القياس وتعضد النتيجة، هذه البنية المرسخة لدونية الرؤية المضادة (فأنا لست ثورًا، والمرأة ليست معزة أو بقرة، ولأني لست كلبًا ضالاً، والمرأة ليست كلبة مصابة بسعار) .
إن البطل الكاتب يعيد تشكيل وعي الشخصية التي تعترف له بقوة الحجة، وصواب البرهان عبر إذعانها له، ، بحيث لا تتدخل في الحوار إلا بهدف مواصلة الضغط المنطقي على المتلقي للاقتناع بمبادئ شخصية الكاتب، بما يحيلها إلى شخصية متواطئة بشكل لا واع مع شخصية البطل، بحيث تعاون شخصية الكاتب وتساعدها على تصدير رؤيتها للمتلقي وإن ارتدت قناع الشخصية المتبنية لرؤية مضادة لرؤية الكاتب، فتدخلها الشكلي في الحوار يكون بهدف "الاستزادة المعرفية"؛ أي خلق مساحة ـ مبررة نصيًا ـ للكاتب للإسهاب في التفصيل والتعليل، الذي يؤيد وجهة نظره ويدحض الوجهة المضادة، من خلال أداتي الاستفهام لماذا وماذا (أتعرف لماذا تكره تمامًا أن تزاول الحب مع إمرأة محترفة؟/ ماذا تعني بتقديس الجسم البشري؟) وما تستدعيانه من رغبة في المعرفة والفهم، وتعد أداة الاستفهام هنا علامة تؤشر إلى تشكك الذات السائلة في قوة موقفها وإدراكها أنها تواجه شخصية قوية تملك من المعرفة ما يغري الآخر بطلب المزيد من الخبرات منها، فالاستفهام عن الكيفية يأتي متعالقًا بتفتح لحظات الدهشة الأولى، هذا التفتح الضروري كبداية مهمة لاقتناع الشخصية ومن ثم المتلقي الذي تدفعة منطقية القياس وصلابته إلى إعادة قراءة القيم المجتمعية المهيمنة بحيث تغدو المسلمات المجتمعية والقيم الثقافية للمجتمع الأمريكي الغربي بنفعيته الشرسة وماديته المقززة قابلة للنقد بفضل منطقية الوجهة الرافضة لها خاصة عندما تتبدى هشاشة تلك القيم المنطقية في مقابل القيم الجديد المرسخة من خلال وعي شخصية الكاتب.
إن قدرة شخصية الكاتب الناجعة على الإفادة من الآليات المنطقية لإقناع الطرف الآخر ومن ثم المتلقي برسالته وصواب منطقه، يعكس النمط المنظم للشخصية التي تتعاطى المنطق وتستغل إمكاناته بصورة متميزة.
العون السردي (المنظور الموجِّه)
تتجلى القيمة الوظيفية الكبرى للسارد في كونه وسيطًا تقنيًا بين المؤلف والمتلقي، فهو أداة الاتصال الحية التي يمكن للمؤلف عبرها أن يصدر رؤاه لمتلقيه دون أن يجترأ على معطيات الخطاب السردي وقوانينه التي يدركها المتلقي ولا يسمح بمجاوزتها "فالراوي عندما يدخل في نسيج العمل الأدبي يتحول إلى عنصر دال، أي أن الكاتب يحمله جزء من الرسالة الفكرية والعاطفية والجمالية التي يبغي توصيلها للقارئ من خلال النص..مما يحملنا على النظر إلى الراوي على أنه عنصر من عناصر الدلالة، إلى جانب كونه عنصرًا من عناصر البناء" ولما كان الأمر كذلك أصبح من البدهي أن يحاول السارد إيهام المتلقي بنزاهته الفنية عبر التذرع بالطرائق التي تثبت حيدته، هذه الحيدة التي تشتغل كعامل يحفز المتلقي إلى متابعة النص دون أن يتخذ موقفًا أوليًّا منه كرد فعل طبعي لتشككه في النقاء الأيديولوجي لقناة الاتصال، وعندما ننتقل من التعميم إلى التخصيص ندرك بسهولة أن طبيعة المتن المشتغل عليه تقدم مؤشرًا أوليًا لسعي السارد الحثيث لمظهرة نفسه كسارد حيادي؛ ففي رواية "نيو يورك 80" يلفي المتلقي ذاته في مواجهة أيديولوجيتين متصارعتين؛ "أيديولوجيا البطل" "وأيديولوجيا الآخر" أو بالأحرى الأخرى المواجة له، وعندما نقترب أكثر من النص يتبين لنا نزوع السارد إلى الانحياز إلى أيديولوجيا شخصية البطل الكاتب، الأمر الذي يصل إلى حد التوحد بين شخصيتي البطل والسارد، هذا النزوع الذي يمثل أداة حافزة للسارد للتذرع بالعديد من الوسائل التي تنفي عنه ـ أمام متلقيه ـ تهمة التورط التعاطفي مع أحد الأصوات السردية ذات الحمولة الأيديولوجية، في الوقت ذاته التي تؤكد ـ هذه الوسائل ـ مصداقية مرويه وأسانيد حياديته للمتلقي ـ الذي تعمل الطبيعة الخلافية للموضوع المعالج نصيًا كوسيلة مساعدة لحفزه إلى التشكك في السارد الطارح ـ غير أن وسائل السارد الداخلي في مظهرة ذاته كسارد حيادي مثالي تصير هي ذاتها علامات عدم حياديته، وهو ما يتضح عندما نخضع هذه الوسائل للقراءة النقدية المتأملة التي تجاوز الشكل وتبحث في الجوهر، أي تبحث في البنية الأيديولوجية التي تستند إليها الصورة النصية للسارد، تلك البنية التي مارست توجيهًا معينًا على المسرود حتى غدا مسرودًا موجَّهًا ومُرشحًَّا ومُحمَّلاً برؤى السارد وقيمه وفلسفته، تلك الرؤى التي يسعى السارد إلى تصديرها لمتلقيه عبره منظوره الموجِّه له "فالسارد هو شخصية موجودة في عالم الرواية تأخذ بزمام الحكي، وتوجه الأحداث والمواقف لصالح أيديولوجيا محددة، هي ما يعبر عنها بموقفه الخاص" ، ويعد التوجيه الممارس من قبل السارد على المسرود علامةً مهمة على التكامل بين الوظيفتين السردية والأيديولوجية للسارد "فالوظيفة الأيديولوجية للراوي في العمل هي الوجه الآخر لعملة واحدة، وجهها الأول هو الوظيفة السردية أو الإخراجية للنص، والحق أن الوظيفتين متداخلتان متوالدتان، بحيث يمكن الوعي بانبثاق أحداهما من الأخرى، والعكس صحيح، فالوظيفة السردية تنظِّم ميكانزمات العلاقات في العمل من أجل تحقيق هذا المُتغيَّا الأيديولوجي بمفهومه الواسع، كما أن الغاية الأيديولوجية هي الروح الهادية التي تسري في أواصل العمل لتقوده إلى مصبها" .
ويمكننا توزيع الممارسات التوجيهية للسارد على محورين رئيسين هما؛ دعم صورة شخصية الكاتب، وتشويه صورة شخصية الغانية.
دعم صورة شخصية الكاتب البطل
يصير من السذاجة المفهومية تصور تحرك السارد الداخلي ـ صاحب السلطة النصية المتعاظمة والمستندة إلى قدرته الخاصة على التحكم في مفردات العالم الحكائي ـ لا يتحرك في تيه مقفر غير محدد الملامح على مستوى الأهداف والاستراتيجيات، هذه الأهداف التي تبدو ممتاحة من شغف دائم بتشويش النص، ولا يقصد بالتشويش هنا العشوائية، بل التنظيم الدقيق المؤسس على العزف على فاعلية المفارقة بين صورة الشخصية على المستويين الواقعي والفني، إذ نلفي السارد معنيًا بدرجة كبيرة بإحداث عدول مفهومي لصورة الكاتب الواعظ التقليدية، هذا العدول الذي ينحو باتجاه تنقيتها من شوائب الرؤية السلبية المهيمنة على طبيعة استقبالها مرجعيًا وفنيًا، وترشيحها من رواسب الصورة الاعتيادية المرسخة في عقلية المتلقي بفضل سلطة الوعي الجمعي المتعامل مع الدور الإصلاحي للمبدع بسلبية واستهانة، وإعادة رسم هذه الصورة وفق شفرة جمالية تتباين بشكل حاد مع وضعيتها النمطية، ويمكننا استبيان هذا التوجيه الذي يمارسه السارد الداخلي عندما نتصدى بشكل خاص للبنية الحوارية للرواية، هذه البنية التي تفترض بداية تأطُّرها بالسمة الحيادية التي تبرز تعادلية موقف المتحاوريْن على مستوى الملفوظ والأيديولوجيا، فالحوار الخارجي/الديال وج Dialogue يستقطب دائمًا صوتين ـ أو أكثر ـ تجمعهما ـ في الأغلب ـ علاقةٌ ذات حس نقدي صراعي تكشف مساحة التباين بين الأيديولوجيات واللاتجانس بين الأصوات المرفودة بهذه الخبرات الفكرية ، فبقدر ما يكشف الحوار مستويات التمايز بين الأصوات بقدر ما يعلن عن حدود الهوة الفكرية والمسافة العقلية الفاصلة بين الملفوظين. ونستدعي هنا أحد النصوص لنعيد قراءته من هذا الجانب.
"هي: وهل تجد فرقًا كبيرًا بين عملي الآن الذي تسميه مومس وبين ما كنت أقوم به في العيادة النفسية؟
هو: طبعًا، ذلك كان علمًا وعلاجًا
هي: وماذا أفعل الآن، أليس ما أقوم به في أحيان كثيرة، بل في معظم الأحيان علمصا وعلاجًا؟ معك حق، هناك فرق واحد بين العملين، ذلك الفرق الذي دفعني لتفضيل عملي الحالي.
هو: أي فرق؟
هي: كان أجري في العيادة يعادل خمسة دولارات في الساعة، الآن الساعة عندي بمائة دولار وربما أكثر
......
هو : (مواصلاً كلامه الذي لم يعد مجرد كلام ولكنه فعلاً ما يؤمن به في الحياة) الأنثى التي كفلت الحياة ملايين السنين من الايغار في التعديل والتبديل حتى أصبحت قمة الكون النامية، الأنثوية الإنسانية أرقى إبداع للخالق..بقرار كهذا تلغي ملايين السنين من التطور وتقذف نفسها ساقطة هاوية إلى حيث توقف التطور بالقطط والكلاب والفئران، بل حتى هذه الحيوانات تحظى بالجسم بالبطولة، بمعركة تدور بين الذكرين حول القطة وهي الهدية، هي الوسام، والفائز هو من فعلاً يستحقها، إنها أبدًا لا تطلب مقدمًا أو مؤخرًا، إنها بكل الدلال والسخاء تمنح، تعطي ما نقيسه بالثمن وبالساعة نحن، لا تتحول إلى بضاعة ذات سعر، وتفخرين أنت بهذا باعتبارها مهنة كسب أكبر قدر من النقود في أقصر وقت، تكسبين الدولارات صحيحًا، ولكن الحسبة مغلوظة تمامًا، فأنت ـ حتى لو أوغلنا في التشبيه ـ رأس مال، تكسبين مائة عاجلة وتخسرين مئات وآلافًا من رأسمالك، وطريقة سهلة جدًا لكسب النقود، ولكنها كمهنة من امتهن احتساء وجرع ماء النار، في دقيقة يأخذ مائة دولار، ولكن الكارثة هي كم ما يحدثه الداخل في أحشائه من تهرؤ وتآكل في صميم روحه وذاته، بل وفي جسده...
بل لا أقول أنك تخسرين كميات من نفسك رأسمالك، أنت تخسرين ل شيء تمامً كل شيء، تخسرين نوعك نفسه
هي: أصبح حيوانة تريد أن تقول؟
هو: ولكن هذا الحيوان لا يفعل ما تفعلين، لا شيء في الحياة يخلق ليكون معروضًا للبيع، إننا نخلق لأن من صفاتنا كحياة أن نتطور دائمًا وباستمرار للأسمى والأرقى "
إن كل شخصية هنا تختزل فى ذهنها وعيًا بذاتها وبالمحيطين بها وبالموقف الذي يؤطر حضورها، وقد تم ترجمة هذا التباين في الوعي إلى تباين على مستوى الأصوات السردية الحاملة له ما يجعل من التباين الأيديولوجي سبيلاً لتولد البنية الحوارية التي تزداد بزيادة حدود هذا التباين، فتعددية "المواقف والرؤى الأيديولوجية المُتعادلة النفوذ، المُختلفة اتجاهاتها ستكون هي المولِّدة للحوار؛ لأن وجهة النظر للصوت الروائي لا تتحدّد من خلال موقف حواري مُنغلق...وإنما تتحدّد من خلال انفعال الصوت بالقوى الإدراكية من حوله" ، ففي النص السابق نجد أنفسنا في مواجهة شخصيتين تتعاملان مع موضوع التعامل مع الجسد البشري في إطار رؤية خلافية، حيث ترى الشخصية الأولى أن استغلال الذات الإنسانية للجسد ـ ولو كان جسدها ـ بصورة نفعية استهلاكية تجرد هذه الذات من سمتها الإنسانية، في حين ترى السخصية المواجهة أن الجسد ملك للذات اإنسانية هذه الملكية التي تخول لها التعامل معه بالآلية التي تراها وتقتنع بها في سبيل تحقيق أهدافها المتعددة، هذا التباين الفكري ينتج عنه تباين على مستوى الملفوظين بحيث يقف كل من الملفوظين في مواجهة الآخر، وهو ما يؤشر ـ من الوهلة الأولى ـ إلى تحلي السارد بالطابع الحيادي الذي يدفعه لوضع الملفوظين في مواجهة بعضهما البعض.
غير أن النص يعود ليكشف زيف هذه الرؤية الأولية الناظرة للسارد كذات حيادية؛ إذ يبدو النص مكرِّسًا لوجهة نظر شخصية البطل بوصفها الشخصية التي ينحاز لها السارد فيؤمِّن لها سُبل التفوق النصي أمام المتلقي، فعلى الرغم من الحضور المتزامن لملفوظ الشخصيتين وما يفترض أن ينتجه هذا من حالة توازن بين الوجهتين المتباينتين، فإن النص يجاوز هذا التوازن المُفترض ويقوم بانتهاكه وتقويضه عندما يجعل شخصية البطل هي المتحكمة بمسارات البنية الحوارية والمهيمنة على توزيع الأدوار والمساحات بداخلها، وهو ما يحوّل الحوار من تداخل حيوي بين وجهات نظر مختلفة تتلاقح عبره الأفكار وتخصب كل منها الآخرى، إلى تنويعات شكلية لفظية يتم موضعتها نصيًا بشكل موجَّه من قبل السارد لدعم إحدى الأيديولوجيتين المتصارعتين، وهو ما يجعل التعارض بين الملفوظين تعارضًا وهميًا يرسخ للرؤية الفردية التي يتبناها السارد ـ وهي رؤية البطل ـ والتي يتقن اللعبة السردية ويدرك قوانينها ومنها العدمية المنطقية والفنية الذي يمكن أن يحدثها الحضور الفردي للصوت السردي ـ المعبر عن الأيديولوجيا المتبناة ـ داخل النص، مما قد يساهم في تحوُّل النص إلى خطاب دعائي مباشر يدفع المتلقي للتشكك في جدوى متابعته، وهنا يجد السارد نفسه مضطرًا إلى استدعاء صوت آخر يخالف صوت البطل على المستوى اللفظي ويسهم في منطقة ملفوظه كخطوة أولى لتحقيق هدفه الإقناعي، وذلك باعتبار أن وجهة النظر الأحادية لا يمكن "أن تمظهر نفسها إلا من خلال إحضار زوايا النظر المخالفة إلى جانبها" فهو استدعاء ضروري فرضته المقتضيات السردية ورغبة السارد في الظهور بمظهر الذات الحيادية أمام المتلقي.
فاستحضار الصوت الآخر المقابل لصوت البطل لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع الثراء الشكلي الذي يطعم به السارد نصه، موهمًا متلقيه بتقمصه دور العارض النزيه، الذي يضع الوجهتين المتعارضتين في مقابل بعضهما دون تدخل منه تاركًا للمتلقي مهمة الاختيار بينهما والاقتناع بإحديهما، فالآخر بالنسبة لنا يكاد يكون وجودًا غير مادي، تم اختصاره في صوت لغوي مهمته الرئيسة طرح الأسئلة التي تعمل كحوافز نصية لذات البطل لمواصلة حديثها، وهو ما يمثل عدولاً مفهوميًا لطبيعة البنية الحوار التي تفترض أن "نستطيع بها اكتشاف حجم التباين واللاتجانس بين الأصوات الروائية؛ لأنه يكشف عن مستويات التفكير المختلفة، ويكشف عن مستويات التمايز بين الأصوات الروائية" .
فالسارد يستحضر الصوت المقابل ليقوم بعملية تفريغ تدريجي لما يمكن أن تختزله عقلية المتلقي، إنه الاستدعاء الواعي لما يمكن أن يتوارد على ذهن المتلقي من وجهات نظر معارضة للوجهة المراد تصديرها إليه، بما يجعل البنية الحوارية ذات البعد الثنائي حيلةً يلجأ إليها السارد لإشراك القارئ الضمني في إنتاج دلالة النص "فالقارئ الضمني: ليس له وجود في الواقع، وإنما هو قارئ ضمني، يخلق ساعة قراءة العمل الفني الخيالي، ومن ثم، فهو قارئ له قدرات خيالية شأنه شأن النص، وهو لا يرتبط مثله بشكل من أشكال الواقع المحدد، بل يوجه قدراته الخيالية للتحرك مع النص باحثا عن بنائه، ومركز القوى فيه، وتوازنه، وواضعًا يده على الفراغات الجدلية فيه فيملؤها باستجابات الإثارة الجمالية التي تحدث له" ، وهو إنتاج موجَّه عبر الكشف عن المسكوت عنه في الخلفية الذهنية للمتلقي واستنطاق الصمت الشكلي له في أثناء المقاربة النصية الممارسة عبر فعل القراءة التأملي، ووضع الملفوظ المستتر، تحت بؤرة الضوء النقدي التشريحي لكي يتمكَّن البطل من نقده وتفنيده وإثبات هشاشة مرتكزاته الأيديولوجية ، وذلك بدلاً من أن يظل هذا الملفوظ مستترًا في ذهن المتلقي، وما قد يتراتب على هذا من استمرارية ضغطه على المتلقي، وممارسته لسلطته الموجهة إلى رفض رؤى البطل وممارساته السلوكية، فالسارد بهذا يسعى إلى تهيئة البيئة العقلية للمتلقي للاقتناع بفكر البطل بتجنّبه ـ أي السارد ـ الوقوع في مواجهة مع المتلقي عندما لا يجد الأخير إجابات مقنعة لما يطرحه ذهنه الواعي من تساؤلات، والسارد بهذا يحاول أن يضمن فاعلية القطب الجمالي للنص الأدبي الذي يحقق علاقات متعددة الأقطاب، متفاعلة بين عناصر أساسية في انبنائه وتأكيد خصائصه التي تتحول إلى سلطة تضمر متعة تخيلية جاذبة، مؤطرة بقطبين متفاعلين هما "القطب الفني والقطب الجمالي؛ فالقطب الفني يكمن في النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي ويملأه بالدلالات والتيمات الضمنية قصد تبليغ القارئ بحمولات النص المعرفية والأيديولوجية، أي أن القطب الفني يحمل معنى ودلالة وبناء شكليًا. أما القطب الجمالي، فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة، أي يتحقق بصريًا وذهنيًا عبر استيعاب النص وفهمه وتأويله. ويقوم التأويل بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيل عبر النص واستقراء دلالاته والبحث عن المعاني الخفية والواضحة عبر ملأ البيضات والفراغات للحصول على مقصود النص وتأويله انطلاقًا من تجربة القارئ الخيالية والواقعية. ويجعل التأويل من القراءة فعلاً حدثيًا نسبيًا لا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة" . فاستحضار الصوت الآخر يصير استحضارًا ضروريًا لتجنب ما قد يتحقق من تعاطف بين المتلقي والوجهة المضادة لوجهة نظر السارد ـ التي هي وجهة نظر البطل ـ بحيث تغدو عقلية المتلقي مهيَّأة لاستقبال ملفوظ البطل وما يختزله من وعي خاص.
فالسارد يؤسس لهذه المساجلة الحجاجية الحوارية الشكلية ليحمي مسروده من الوقوع في شرك الدعائية الخطابية، وليحقق نوعًا من التناغم بين السردي والحواري داخل الرواية، ولنا "أن نراه نوعًا من الانتقال من وظيفة الراوي الحصيف إلى وظيفة المُتكلِّم العادي الذي يلغي المسافة بينه و قارئه بعفوية وتلقائية" بما يسهم في إغراء المتلقي بتقبل الوجهة المُراد ترسيخها عبر البنية الحوارية بطبيعتها الشفهية المؤسَّسة على الحضور المُتزامِن للمُتشافِهيْنِ/المُتحاوِريْنِ دون أن تحقق توازنًا طبعيًا بين ملفوظي الشخصيتين، فهي "مجرد تقاطع للنصوص يمثل فيها نص واحد مركز الصدارة، بينما يترك التناص الحقيقي جميع الملفوظات تؤدي دورها الكامل في حلبة صراع متكافئ" .
تشويه صورة البطلة الغانية
وتكتمل الحلقة الدائرية للدور التوجهي للسارد ـ في إطار دعم البعد الحجاجي لشخصية البطل ـ عندما يعود ليشوش النص عبر إحداث مفارقة جديدة بين صورتي الشخصية على المستوين النصي والواقعي، ولكنها هنا صورة المرأة المواجهة للبطل، التي تتجلى في الوعي الخاص للمتلقي قبل المتابعة النصية في موضع الذات الضحية المدفوعة من قبل السياق إلى ممارسة هذا السلوك رغمًا عنها، وهي صور لا يمكن أن تتحقق أهداف السارد في ظل تجذرها في وعي المتلقي مما يستلزم زعزعتها والتشويش عليها واستبدالها بصوره جديدة تتأطر بالبعد السلبي الخالص، وكأن السارد هنا يرسخ حالة من التنافر الناجع بين الطرفين (البطل الكاتب والبطلة الغانية) على المستويات كافة، عبر ممارسة عملية التضخيم للصورة الإيجابية للبطل في مقابل تعظيم الصورة السلبية للشخصية التي تقف موقف المناوئ لشخصية البطل، هذه المبالغة المتعمدة التي تدفع المتلقي المستهدف إلى إعادة قراءة كل شخصية في ضوء ممارسات الشخصية المقابلة وصورتها الشكلية والأخلاقية التي حددها النص.
وتعتمد هذه الآلية على العزف على المقومات الأخلاقية للمتلقي المنتمي إلى سياق أنتج النص وفق شفرة خاصة تتخذ موقفًا إيجابيًا أو سلبيًا من معطيات هذا السياق ومقوماته المادية والعقلية والروحية، فالرواية تتعمد أن تظهر شخصية المرأة بوصفها الشخصية الخارجة عن التقاليد الأخلاقية المتواضع عليها والمترسخة في الوعي الجمعي للذات المتلقية للخبر ـ بعكس صورتها في غادة الكاملية مثلاً، أو في رواية حافية على جسر الذهب على سبيل المثال ـ هذا الخروج الذي يؤدي بدهيًا إلى إحداث حالة من حالات الانفصال التعاطفي بين هذه الشخصية والمتلقي، نتيجة الانفصال على مستوى المقومات القيمية المؤسسة لهما، ويخدم هذا الانفصال بصورة مباشرة هدف السارد في تعظيم الحضور المعنوي الإيجابي للبطل في عقلية المتلقي، يوصفه الشخصية التي تعارض هذا الانحراف الأخلاقي والقبح السلوكي، وتحقق نوعًا من الانتقام الأخلاقي الجمعي ـ الذي لا يدين صاحبه أو ممارساته ـ الذي تقوم به ذات ـ هي هنا ذات البطل ـ بالإنابة عن السياق.
وتعد نهاية الرواية علامة الغة التأثير في قدرة السارد على تشوية صورة المرأة الغانية بآلية تقنية شديدة التأثير في المتلقي، ونقصد به هنا الاعتراف الفاجع
""هو: لا يا سيدتي..لا تخدعي نفسك فأنت تفخرين أنك الوحيدة التي لا تخدعين نفسك، قولي أن مومس، وأن بيع الجسد أحقر شيء يرتكبه البشر، ولكني لا أعرف لماذا أنا أفعله، ولا تهربي خلف رداء العموميات، قولي لنفسك أنك ستخبرين نفسك وأنك بحاجة إلى من يعالجك أو يأخذ بيدك.
هي (محذرة) أنا نظيفة..نظيفة. (صوتها العالي يجذب الانتباه، وبالذاات انتباه المتر، يقبل بقامته الفارعة ووجهه المكتئب الصارم، يبطئ لبخط حين يقترب من منضدتها ثم فجاءة يبتسم ابتسامة تبدو بلاء تمامًا ولا علاقة لها بصرامةملامحة)
الميتر: يبدو يا دكتورة أنك اليوم عصبية.
هي: أنا نظيفة (بصوت لا يزال عاليًا جدًا)
الميتر: أعرف تمامًا أن أبخس أجور هي تلك التي يدفعونها في العيادات والمستشفيات الجامعية، لماذا لا تتفرغين للعمل كل الوقت هنا نثلاً ـو حسبما تشائين؟ إن مزاولة عملين في وقت واحد أمر دائمًَا مزعج..ألست معي يا سيدي؟
هو: ــنت ؟ (سائلاً إياها)
هي: أنا سأتفرغ فعلاً..سأتفرغ للنظافة، فأنا نظيفة ..أنظف منكم جميعًا.
( والميتر مشدوه تمامًا ومشلول، هو أيضًا بدأ يضطرب، صوتها تحول إلى صرخ، تقف فجأة وبعصبية شديدة تلم حقيبتها وكتابها وأوراقها وتصرخ بأعلى صوتها)
هي: أنا نظيفة..نظيفة..بل أن قذرة ..قذرة جدصا..ولكنني أقولها .زهأنذا أصرخ بها..أنا نظيفة جدًا لأني قذرة جدًا جدًا ، أنا أنظف قذرة..أنظف منكم كلكم.
(القاعة يخيم عليها سكون مشلول تام..الذهول لبرهة طويلة على الوجوه، دبدبة خطواتها المسرعة إلى الخارج هي وحدها المسموعة، بخفوت شديد يبدأ شيء وكأنه الهمس، يظل يرتفع ويرتفع وتنفك دهشته الشديدة، وتعود الوجوه تبتسم بل وتضحك، وتمتليء القاعة بنفس الضجة التي كانت عليها، وكأن شيئًا ما كان)
يصنع من كفيه كأسًا يملؤها بذقنه ويحدق إلى أبعد نقطة في الكون ويقول:
هو: متى يا إلهي تعطي بعض الرجال شجاعة بعض البغايا"
إن الأعتراف هنا يأتي من لدن الذات مما يزيد من بلاغته الإقناعية، فجوهر اللعبة السردية يتمثل في انطلاق الاعتراف من لدن البطلة نفسها التي تدين نفسها، بفعل الممارسة القرائية الاسترجاعية للتاريخ، وإعادة التقيم بعد فترة من تجلي الحقيقة عبر صوت الآخر الكاشف عن المسكوتعنه، والمستنطق للفراغات الإقناعية الحاضرة في ذهنية البطلة، وهو ما يشحن الاعتراف بمزيد من الفاعلية، والمصداقية في الآن ذاته، فالسارد يقدم هذا المشهد الختامي بوصفه نوعًا من التطهير عن الخطأ الذي ارتكبته البطلة في حق نفسها ، وفي الوقت نفسه يحقق غرضه الرئيس في إثبات انتصار منطق شخصية الكاتب البطل وزعاقة بلاغته الإقناعية التي خولت له النجاح في جعل الشخصية المواجهة له تعترف بفداحة خطئها ، هذه البلاغة التي تحمل في طياتها توجيهًا للمتلقي ليعيد قراءة كل ما قالته المرأة في إطار مساجلتها الحجاجة الروائية السابقة، ولكنها القراءة المسترشدة باعتراف الذات بخطئها ومن ثم باهتراء منطقها السابق، وتفكك مرتكزاتها الحجاجية، وخواء منطقها العقلي.


الإحالات والهوامش
- الرواية والتراث السرديّ ـ من أجل وعي جديد بالتُّراث ـ: سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1992م.، ص74.

- انفتاح النصّ الروائيّ ـ النصّ والسياق ـ: سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1989م.، ص99. * - يستخدم يقطين "المناصة" بمعنى التَّفاعل النَّصيّ المُباشر عندنا
- النص الحجاجي العربي ـ دراسة في وسائل الإقناع ـ د/محمد العبد ، مجلة فصول، ع 60 ،القاهرة ، صيف –خريف 2002م، ص44.
- السابق ص44.
- السابق ص45.
· الخطاب السوفسطائي هو "ما يسمى القياس المغالطي أو السوفسطائي نسبة إلى السوفوسطائيين في التراث اليوناني، وقد بذل أفلاطون وأرسطو جهودًا كبيرة لمقاومة تيار هذا الحجاج السوفسطائي في البيئة اليونانية، فهو يمثل بالنسبة إلى أرسطو الوجه السالب والخطير في ممارسة الحجاج؛ حيث يستعمله في تسليط أعتى أنواع العنف على غيره، فهو لايقصد بحجاجه في الجدل إلى القول بل يقصد إلى شخص المقول إليه" بلاغة الحجاج في الشعر العربي،د/إبراهيم عبد المنعم، مكتبة الآداب ، الطبعة الأولى، ، القاهرة 2007م، ص62-63. ضرورة العودة إلى معجم فلسفي أصيل في التعريفات أو كتاب متخصص في المنطق والفلسفة
- النص الحجاجي العربي ص245.
- الخطابة ، أرسطو، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص29-30.
- بلاغة الخطاب الإقناعي ص71
- النص الحجاجي العربي ص56.
- نيويورك 80، يوسف إدريس، الأعمال الكاملة، دار الشروق، الطبعة الأولىـ، القاهرة، 1987م، ص20
- سيميولجيا الشخصية ص114.
- الراوي والنص القصصي: د/عبد الرحيم الكردي، دار النشر للجامعات، الطبعة الثانية، 1996م، ص77.
- التناص وإنتاجية المعاني، حميد لحمداني، مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي الثقافي، جدة، مجلد10، جزء40، 2001م ص89
- السرد الشعري، وشعرية ما بعد الحداثة، د/عبد الرحمن عبد السلام محمود، مركز الحضارة العربي، الطبعة الأولى، القاهرة، 2008، ص178.
- نيويورك 80 ص47-49.
- وجهة النظر ـ في رواية الأصوات العربية في مصر ـ: د/محمد نجيب التلاوي، مطبعة إكسبريس، المنيا، الطبعة الأولى، 1996م ص 59.
- التناص وإنتاجية المعاني ص97.
-وجهة النظر في رواية الأصوات العربية ص 60.
- ، القارئ في النص: نظرية التأثير والاتصال د/نبيلة إبراهيم ، مجلة فصول المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،المجلد5، العدد1، 1984، صـ103.
- ، فعل القراءة- نظرية الوقع الجمالي، فولفغانغ إيزر، ترجمة أحمد المديني، مجلة آفاق المغربية، الدار البيضاء، العدد6، 1987، ص28-29.

- اللغة المكتوبة واللغة المنطوقةـ بحث في النظرية ـ د/محمد العبد، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة،ط1، 1990، ص95.
- التناص وإنتاجية المعاني ص96.
- نيويورك80، ص57-59.
المصدر
http://www.arrafid.ae/naqd.html