تربية الابناء في الاسلام
بسم الله الرحمن الرحيم

جمع وإعداد : عبدالله محمدي أبوزيد

إشراف : الوليد صديق أبوبكر

المقدمـــة*
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادى له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير, ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله, أرسله الله رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأذكى التسليم.
إن مشكلة الجيل تتفاعل وتتفاقم يوماً بعد يوم وتنذر بأوخم العواقب وأسوأ النتائج, لأنهم الأمة مستقبلاً, بكل ما فى معنى الكلمة من معنى, وهم المسؤولون عن جيل يأتى بعدهم. فإذا ما استمر التدهور ممهوراً بطابع العصر وهو السرعة, خشينا أن نفقد أمل الإصلاح والتقويم إلى الأبد.
ومشكلة أولادنا هى التمزق النفسى والتذبذب الحضارى والانحراف الخلقى المدمر, ونعنى بالتمزق النفسى: الانشطار القائم بين الأسرة والمدرسة والمجتمع, أما التذبذب الحضارى فهو التردد بين المؤثرات النظرية المجردة الإسلامية وبين المؤثرات الواقعية المادية شرقية كانت أم غربية, وهو فى نظرى أخطر من الانحراف الكلى فى التيار المادى. لأنه الضياع بعينه, وأما الانحراف الخلقى المدمر فهو الهبوط بالمستوى الشعورى من أفاق المثل والفضائل إلى الجنونية البحتة, وهى التى تتحكم اليوم فى أولادنا, ومقاييسها هى التى تسيرهم وتوجههم.
ولا أعتقد – جازما- بأننى سوف أقدم من خلال هذا البحث الحل الجذرى والدواء الناجح للمشكلة, إلا بمقدار ما تتجاوب مع المنهج الإسلامى الذى سوف نبسط قواعده وأسسه ومراحله وذلك إسهاما منا مع من سبق من الكتّاب والباحثين المختصين والمهتمين بهذا الشأن. سائلا الله تعالى, أن ينفع به وأن يجعله مقبولاّ عنده. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ملاحظة: هذا البحث حاصل على المركز الثانى على مستوى الدولة فى مسابقة بحوث الفكر الإسلامى التى نظمتها وزارة التربية والتعليم والشباب بدولة الإمارات العربية المتحدة للعام الدراسى 1997 – 1998.
وكذلك حاصل على المركز الأول على مستوى إمارة الشارقة فى نفس المسابقة.

الباب الأول: الحقوق والواجبات
الفصل الأول: أركان الحياة الزوجية()
لقد أرشد الله الناس فى محكم كتابه إلى أن للحياة الزوجية ثلاثة أركان:
الأول: السكون النفسى, وهذا الركن خاص بالزوجين.
الثانى: المودة, أى المحبة التى يظهر أثرها فى التعامل والتعاون وهو مشترك بين الزوجين وأسرة منهما.
الثالث: الرحمة, التى لا تكمل للإنسان إلا بعواطف الأمومة والأبوة, ورحمتهما لأولادهما.
وهذه الأركان الثلاثة عليها مدار سعادة الحياة الزوجية التى يترتب عليها سعادة الإنسانية لذلك: قال تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"()

الفصل الثانى: حق الآباء على الأبناء()
الإحسان إلى الوالدين: لقوله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً"()
طاعتهما المطلقة ما لم يكن فى معصية: لقول الله تعالى: " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.... الآيه". الأحقاف: 15
وقوله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" لقمان: 15,14
وهنا: ضعفاً فصاله: فطامه أناب: تاب ورجع
رعايتهما عند الكبر: لقوله تعالى كما تقدم معنا: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً" . الإسراء 24,23

الفصل الثالث: حق الأبناء على الآباء*
1- حقوق الأولاد قبل الولادة:
اختيار الأم: جعل الإسلام أساس اختيار الزوجة الدين والخلق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا فى الحجز الصالح فإن العرق دساس" أى أن للوراثة أصلاً رواه بن عدى (الجامع الصغير: جـ1 صـ223)
الحجز (بفتح الحاء وسكون الجيم: أى المنبت)
حقهم فى الحياة*: فلا يجوز إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه إلا لضرورة بالغة مثل الخوف على حياة الأم.
2- حقوقهم بعد الولادة: (* 1)
الأذان والإقامة فى أذن المولود:
لما رواه البيهقى فى شعب الإمكان من حديث الحسن بن على عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من ولد له مولود فأذن فى أذنه اليمنى وأقام الصلاة فى أذنه اليسرى رفعت عنه أم الصبيان"
أم الصبيان: هى المتابعة من الجن (الإقناع فى حل ألفاظ أبى الشجاع)
تسمية المولود باسم حسن:
والحكمة من اختيار اسم حسن له ليكون ذلك مثار إيحاء للمعانى الخيرة التى يحملها هذا الاسم كلما هتف به هاتف أو دعاه داع, فتنطبع فيه آثار هذه المعانى الطيبة, حتى تصبح خلقا يتخلق بها.
ثبوت النسب():
لقد وضع الإسلام القوانين الواضحة التى تلزم الوالد بالاعتراف بالأولاد الذين يولدون والزوجية قائمة لقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" رواه الشيخان. ومن أحكام ثبوت النسب:
أقل مدة للحمل ستة أشهر.
المعتدة إذا أقرت بانقضاء عدتها وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار ثبت نسبه.
الرضاعة():
الرضاع هو وصول لبن امرأة لجوف صغير يتغذى باللبن.
واقرأ الآية الكريمة: " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " (سورة البقرة).
ولا تستحق الزوجة أجرة على إرضاع ولدها مادامت الزوجية قائمة لأن نفقتها على زوجها فإذا طلقت كان لها أجرة الإرضاع.
الحضانة():
الحضانة هى حفظ الولد والقيام بمصالحة فى تأديبه وتربيته وطعامه ولباسه وتنظيف جسمه. وحكمها الوجوب لأن فى تركها تضييع للصغير. وإن وقع فراق بين الزوجين تكون الحضانة للأم.
لما روى عن عبد الله عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابنى هذا كان بطنى له وعاء وحجرى له حواء وثديى له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه منى قال: "أنت أحق به ما لم تنكحى". رواه أحمد.
الولاية():
تكون الولاية على الصغير والسفيه والمجنون للأب, فإن لم يوجد أو كان ليس أهلا للولاية (كأن يكون مجنوناً أو سفيهاً) انتقلت الولاية إلى الوصى الذى يحدده الأقارب أو الحاكم. ويشترط فى الوصى أن يكون ذا دين وعدالة ورشد.
النفقة():
شكت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شح زوجها وبخله فقال: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف"
وتستمر نفقة الذكر إلى سن البلوغ إذا كان قادراً على الكسب وللأنثى حتى زواجها وتشتمل النفقة على الغذاء والكسوة والدواء, كما تشتمل الإنفاق على تعليمهم.
التربية الحسنة والتعليم():
من حق الأبناء على الآباء تربيتهم تربية حسنة وتعليمهم القرآن وعليهم إبعاد الأبناء عن الصحبة الفاسدة وعدم التمييز بينهم فى النفقة أو فى العطية لأن ذلك يوغر الصدور ويولد العداوة.
الإرث():
قال تعالى: " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ". (الآية 11. النساء). فأوجبت الآية الميراث للأولاد ذكوراً وإناثاً بعد موت الأبويين وجعلت نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة لتحمل الرجل نفقات المرأة والأولاد وتكاليف الزواج ولا تكلف المرأة بأى شئ من ذلك.
إضافة إلى ما سبق فإن تحنك المولود بالتمر وحلق شعره والتصدق بوزنه ذهبا أو فضة وذبح العقيقة له وما إلى ذلك مما يوسع عقله وينمى جسمه كتوجيه دينى إسلامى, وتربيته جسمياً وعقلياً وخلقياً, وما هذا كله إلا تصميمات دينية جاء بها الإسلام لتطبع فى نفسه وقلبه الطابع الإلهى ليكون ذلك الإنسان المتميز. بالخير عن إنسان الشر الذى دمغه الشيطان بدمغته ووسمه بميسمه().

الباب الثانى: من وسائل التربية
أولاً: التربية بالقدوة()
القدوة فى التربية هى أفعل الوسائل جميعاً وأقر بها إلى النجاح. ولقد علم الله سبحانه- وهو يضع ذلك المنهج العلوى المعجز- أنه لابد من ذلك البشر. لابد من قلب إنسان يحمل المنهج ويحوله إلى حقيقة لكى يعرف الناس أنه حق.....ثم يتبعوه.
لابد من قدوة لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة للناس: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ". الأحزاب: 21
ووضع فى شخصه صلى الله عليه وسلم الصورة الكاملة للمنهج الإسلامى الصورة الحية الخالدة على مدار التاريخ. سئلت عائشة رضى الله عنها. عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن.
إجابة دقيقة وعجيبة مختصرة شاملة...كان خلقه القرآن كان الترجمة الحية لروح القرآن وحقائقه وتوجيهاته ومن ثم كان-كالقرآن- قوة كونية عظمى. قوة من صنع الله, يتكامل فيها الناموس., وتتكامل فيها القوى, وتلتقى السماء بالأرض أروع لقاء شهده الكون.... لا عجب إن كان مولده مولد النور وإذ يجعل الإسلام قدوته الدائمة هى شخصية رسوله, فهو يجعلها قدوة متجددة على مر الأجيال... متجددة فى واقع الناس. إنه لا يعرض عليهم هذه القدوة للإعجاب السالب والتأمل التجريدى فى سبحات الخيال.
إنه يعرضها عليهم ليحققوها فى ذوات أنفسهم, كل بقدر ما يستطيع أن يقبس, وكل بقدر ما يصبر على الصعود, ومن ثم تظل حيوتها دافقة شاخصة, ولا تتحول إلى خيال مجرد تهيم فى حبه الأرواح دون تأثر واقعى ولاقتداء.
والإسلام يرى- كما أشرنا فى البداية- أن القدوة أعظم وسائل التربية, فيقيم تربيته الدائمة على هذا الأساس... لابد للطفل من قدوة فى أسرته ووالديه لكى يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية وينهج على نهجها الرفيع. ولابد للناس من قدوة فى مجتمعهم تطبعهم بطابع الإسلام وتقاليده النظيفة لكى يحملوا الأمانة لمن يربونهم من الأجيال. ولابد للمجتمع من قدوة فى قائدهم أو زعيمهم أو حاكمهم, تتحقق فى شخصه المبادئ وينسج على منواله المحكومون. والقدوة للجميع هى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم التى تتمثل فيها كل مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه.
ومن ثم يقيم الإسلام منهجه التربوى على أساس أنه هو الذى يسير دفة المجتمع ودفة الحياة.....
إنه لا يجعل التربية مجهوداً فردياً يخفق أو ينجح... وتذره الرياح والأعاصير بما يجعله منهجاً شاملاً متكاملاً يبدأ بولى الأمر وينتهى بالطفل الرضيع. حكم إسلامى ومجتمع إسلامى... وتربية إسلامية. وتلك مسألة بديهية. فكل نظام يضع منهجه على أساس أنه هو الذى يقوم بتنفيذه. والإسلام أولى النظم بتلك القواعد البديهية لأنه لا يستطيع أن يعمل أدوات غيره. ولابد له أن يستخدم أدواته الخاصة لتحقيق منهجه المتفرد على مدار التاريخ.
وحين يتكون مجتمع إسلامى فإنه يشرب أطفاله مبادئ الإسلام عن طريق القدوة القائمة فى هذا المجتمع, متمثلة فى الأسرة والوالدين. إن الوالد الذى يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق. والولد الذى يرى أمه تغش أباه أو أخاه أو تغشه هو نفسه.. لا يمكن أن يتعلم الأمانة. والولد الذى يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلم الفضيلة.
والولد الذى يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلم الرحمة والتعاون. والأسرة هى المحضن الذى يبذر فى نفس الأطفال أول بذوره, ويكيف بتصرفاته مشاعر الطفل وسلوكه. ومن ثم ينبغى أن تكون أسرة نظيفة, أسرة مسلمة. حتى ينشأ جيل مسلم يحقق فى نفسه مبادئ الإسلام. يأخذها بالقدوة المباشرة.. المنقولة عن قدوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغى أيضا- بالإضافة إلى ذلك- أن تكون سيرة الرسول جزءاً دائماً من منهج التربية, سواء فى المنزل أو المدرسة أو الكتاب أو الصحيفة أو المذياع لتكون القدوة دائمة وحية وشاخصة فى المشاعر وفى الأفكار.

ثانياً: التربية والوعظ():
فى النفس استعداد للتأثر بما يلقى إليها من كلام, وهو استعداد مؤقت فى الغالب. ولذلك يلزمه التكرار. والموعظة المعبرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان. وتهزه هزاً, وتغيركوا منه. لحظة من الوقت. كالسائل الذى تقلب فيه رواسبه فتملأ كيانه, ولكنها إذا تركت تترسب من جديد.
ولذلك لا تكفى الموعظة وحدها فى التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذى يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها. فالقدوة المنظورة الملموسة هى التى تعلق المشاعر, ولا تتركها تهبط إلى القاع وتسكن بلا حراك. وحين توجد القدوة الصحيحة فإن الموعظة تكون ذات أثر بالغ فى النفس وتصبح دافعاً من أعظم الدوافع فى تربية النفوس.
وقد لا يلتقط الإنسان القدوة الصالحة, أو قد لا تكفيه بمفردها.
قد لا يسرق الوالد أو الأم... ولكن الطفل يجنح إلى السرقة بدافع من دوافع الأطفال.
وقد لا يكذب الوالد والأم... ولكن الطفل يكذب ليكمل نواحى النقص التى يحسها فى نفسه أو فى بيته أو فى والديه!
قد لا يقسو الوالد ولا الأم... ولكن الطفل يمسك الطيور فيخنقها, والقطط فيشد ذيولها وينصل آذانها!
لابد حينئذ من الموعظة! موعظة لطيفة خفيفة مؤثرة. ترد الطفل إلى صوابه وتعوده على مكارم الأخلاق.
والإنسان الكبير كالطفل الصغير فى حاجة دائمة إلى المواعظ, فقد لا يلتقط القدوة الصالحة. أو قد لا تكفى وحدها للتقويم.
فقد يعدل الحاكم ويظلم المحكومون. ويستعلى القائد ويسفل الشعب! مدفوعين بما ركب فى طبيعة الإنسان من ضعف وإتباع للشهوات.
لابد حينئذ من الموعظة!
والقرآن ملئ بالمواعظ والتوجيهات:
" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً " (سورة النساء: 58)
" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً " (سورة النساء: 36)
وهذه مجرد نماذج من الوعظ... وإلا فالقرآن كله موعظة للمتقين " هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ " (سورة آل عمران: 138)

ثالثاً: التربية بالعقوبة():
حين لا تفلح القدوة ولا تفلح الموعظة, فلابد إذن من علاج حاسم يضع الأمور فى وضعها الصحيح.
والعلاج الحاسم هو العقوبة.
وبعض اتجاهات التربية الحديثة تنفر من العقوبة وتكره ذكرها على اللسان ولكن الجيل الذى أريد له أن يتربى بلا عقوبة – فى أمريكا – جيل منحل متميع مفكك الكيان.
إن العقوبة ليست ضرورة لكل شخص. فقد يستغنى شخص بالقدوة وبالموعظة فلا يحتاج فى حياته كلها إلى عقاب ولكن الناس كلهم ليسوا كذلك بلا ريب. ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات.
وليست العقوبة أول خاطر يخطر على قلب المربى ولا أقرب سبيل, فالموعظة هى المقدمة, والدعوة إلى عمل الخير, والصبر الطويل على انحراف النفوس لعلها تستجيب. " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " (سورة فصلت: 33 – 34)
" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ " (سورة النحل: 125)
" وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ " (سورة المزمل: 10)
ولكن الواقع المشهود أن هناك أناساً لا يصلح معهم ذلك كله؛ أو يزدادون انحرافاً كلما زيد لهم فى الوعظ والإرشاد!
وليس من الحكمة أن نتجاهل هؤلاء أو نتصنع الرقة الزائدة فنستنكر الشدة عليهم!
إنهم مرضى. نعم. ومنحرفون. و"العيادات السيكولوجية" قد تصلحهم!
إن التربية الرقيقة اللطيفة الحانية كثيراً ما تفلح فى تربية الأطفال على استقامة ونظافة واستواء. ولكن التربية التى تزيد من الرقة واللطف والحنو تضر ضرراً بالغاً لأنها تنشئ كياناً ليس له قوام.
ومن هنا كان لابد من شئ من الحزم فى تربية الأطفال وتربية الكبار لصالحهم هم أنفسهم قبل صالح الآخرين.
ومن الحزم استخدام العقوبة أو التهديد باستخدامها فى بعض الأحيان.
والإسلام يتبع جميع وسائل التربية فلا يترك منفذاً فى النفس لا يصل إليه. إنه يستخدم القدوة والموعظة, والترغيب والثواب... ولكنه كذلك يستخدم التخويف والترهيب بجميع درجاته. من أول التهديد إلى التنفيذ.
فهو مرة يهدد بعدم رضاء الله... وذلك أيسر التهديد وإن كان له فعله الشديد فى نفوس المؤمنين:
" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ " (سورة الحديد: 16)
ومرة يهدد بغضب الله صراحة (كما جاء فى حديث الإفك) وتلك درجة أشد:
" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " (سورة النور: 14 – 17)
ومرة يهدد بحرب الله ورسوله:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " (سورة البقرة: 278 – 279)
ومرة يهدد بعقاب الآخرة:
" وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً " (سورة الفرقان: 68 – 69)
ثم يهدد بالعقاب فى الدنيا: " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا " (سورة التوبة: 55)
ثم يوقع العقاب:
" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " (سورة النور: 2)
" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا " (سورة المائدة: 38)
درجات متفاوتة لدرجات من الناس! فمن الناس من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه, ويعدل عما هو مقدم عليه من انحراف. ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الجاهر الصريح. ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ. ومنهم من لابد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه. ومنهم بعد ذلك فريق لابد أن يحس لذع العقوبة على جسمه لكى يستقيم!

رابعاً: التربية بالقصة():
فى القصة سحر يسحر النفوس!
أى سحر هو وكيف يؤثر على النفوس؟ لا يدرى أحد على وجه التحديد!
أهو انبعاث الخيال يتابع مشاهد القصة ويتعقبها من موقف إلى موقف ومن تصرف إلى شعور؟
أهو "المشاركة الوجدانية" لأشخاص القصة وما تثيره فى النفس من مشاعر تتفجر وتفيض؟
أهو انفعال النفس بالمواقف حين يتخيل الإنسان نفسه فى داخل الحوادث ومع ذلك فهو ناجٍ منها متفرج من بعيد؟
أياً كان الأمر فسحر القصة قديم قدم البشرية, وسيظل معها حياتها كلها على الأرض... ولا يزول!
وأياً كان الأمر فلا شك أن قارئ القصة وسامعها لا يملك أن يقف موقفاً سلبياً من شخوصها وحوادثها. فهو – على وعى منه أو غير وعى – يدس نفسه على مسرح الحوادث. ويتخيل أنه كان فى هذا الموقف أو ذاك, ويروح يوازن بين نفسه وبين أبطال القصة فيوافق, أو يستنكر, أو يملكه الإعجاب.
والإسلام يدرك هذا الميل الفطرى إلى القصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب, فيستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم.
وهو يستخدم كل أنواع القصة: القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها. والقصة الواقعية التى تعرض نموذجاً لحالة بشرية, فيستوى أن تكون بأشخاصها الواقعيين أو بأى شخص يتمثل فى ذلك النموذج.
والقصة التمثيلية التى لا تمثل واقعة بذاتها ولكنها يمكن أن تقع فى أية لحظة من اللحظات أو فى أى عصر من العصور.
ومن النوع الأول كل قصص الأنبياء. وقصص المكذبين بالرسالات وما أصابهم من جراء تكذيبهم. وهى قصص تذكر بأسماء أشخاصها وأماكنها وأحداثها على وجه التحديد والحصر: موسى وفرعون, عيسى وبنى إسرائيل,... إلخ... إلخ.
ومن النوع الثانى قصة ابنى آدم: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ... إلى آخر الآيات " (سورة المائدة: 27 – 30)
ومن النوع الأخير قصة صاحب الجنتين: " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً... إلى آخر الآيات " الكهف: (32 – 43)
والقرآن يستخدم القصة لجميع أنواع التربية والتوجيه التى يشملها منهجه التربوى: تربية الروح, وتربية العقل, وتربية الجسم, والتوقيع على الخطوط المتقابلة فى النفس: والتربية بالقدوة والتربية بالموعظة. فهى سجل حافل لجميع التوجيهات وهى كذلك- على قلة عدد الألفاظ المستخدمة فى أدائها – حافلة بكل أنواع التعبير الفنى ومشخصاته: من حوار إلى سرد إلى تنغيم موسيقى إلى إحياء للشخوص, إلى دقة رسم الملامح, إلى اختيار دقيق للحظة الحاسمة فى القصة لتوجيه القلب للعبرة والتوقيع عليه بالنغم المطلوب.
وهكذا تلتقى مطالب الفن ومطالب التصور الإيمانى دون تعارض أو نزاع. ويستفيد الإسلام بالقصة فى التربية دون أن يخرج عن أهدافه الأصلية أو يجانب الحق, أو يحول الفن إلى خطب وعظية سطحية التأثير.

خامساً: التربية بالعادة (*):
العادة تؤدى مهمة خطيرة فى حياة البشرية. فهى توفر قسطا كبيراً من الجهد البشرى- بتحويله إلى عادة سهلة ميسرة- لينطلق هذا الجهد فى ميادين جديدة من العمل والإنتاج والإبداع. ولولا هذه الموهبة التى أودعها الله فى فطرة البشر لقضّوا حياتهم يتعلمون المشى أو الكلام أو الحساب!
ولكنها على عظم مهمتها فى حياة الإنسان تنقلب إلى عنصر معوق معطّل. إذا فقدت كل ما فيها من "وعى" وأصبحت أداء آليا لا تلتفت إليه النفس ولا ينفعل به القلب.
والإسلام يستخدم العادة وسيلة من وسائل التربية فيحول الخير كله إلى عادة تقوم بها النفس بغير جهد, وبغير كد, وبغير مقاومة.
وفى الوقت ذاته يحول دون الآلية الجامدة فى الأداء, بالتذكير الدائم بالهدف المقصود من العادة والربط الحى بين القلب البشرى وبين الله, ربطاً تسرى فيه الإشعاعة المنيرة إلى القلب فلا ترين عليه الظلمات.
أما كل عادة جاهلية تتصل بأصول التصور والعقيدة والارتباط المباشر بالله, فقد قطعها قطعا حاسما من أول لحظة. فهى كالأورام الخبيثة فى الجسم ينبغى أن تستأصل من جذورها, وإلا فلا حياة.
والله سبحانه وتعالى فى تشريعه الإسلامى قد استخدم أسلوبين فى تربية العادة وترويضها.
الأول: الأسلوب القطعى حيث قطع العادات العقائدية الجاهلية منذ اللحظة الأولى كالشرك بكل عاداته وتصوراته وعادة وأد البنات وكذلك العادات النفسية من كذب وغيبة وغمز وكبر وعنجهية.....الخ.
الثانى: أسلوب التدرج كتحريم الخمر مثلاً أو الزنا والربا والرق حيث لم تكن هذه العادات فردية وجدانية بقدر ما كانت عملة سارية فى المجتمع.
أما بذر العادات الصالحة فله كذلك عدة طرق وعدة مراحل.
فأما الإيمان بعد الكفر فقد كان يستخدم له الهزة الوجدانية المحيية والموحية, التى تنقل النفس فجأة من تصور إلى تصور ومن شعور إلى شعور. ثم لا يدعها تبرد! ففى الحال يحولها إلى عادة! عادة مشتبكة بزمان ومكان وأشخاص. فيصلى مع المسلمين وتصبح الصلاة عادة. ويستمع معهم القرآن, ويصبح استماع القرآن عادة. ويتواد معهم وتصبح المودة عادة. ويحتمل معهم الكروب ويصبح احتمال الكروب فى سبيل العقيدة عادة! ثم يجاهد معهم الكفار ويصبح الجهاد عادة!
وكذلك كل عادة من عادات الإسلام, تبدأ باستحياء الرغبة ثم تتحول إلى عمل حى لا يكلف أداؤه شيئا من الجهد وهو مع ذلك رغبة واعية لا أداء آلى مجرد من الشعور.

سادساً: تفريغ الطاقة
من وسائل الإسلام فى تربية الإنسان وفى علاجه كذلك, تفريغ الشحنات المتجمعة فى نفسه وجسمه أولاً بأول, وعدم اختزانها إلاً ريثما تتجمع للانطلاق.
إنه يملأ النفس والجسد بشحنات مختلفة هى إفرازهما الطبيعى الفطرى الذى يتكون على الدوام مادامت الفطرة السليمة لم يصبها عطب ثم يطلق هذه الشحنات فى عمل إيجابى إنشائى. لتعمل فى سبيل البناء والتعمير والخير.
إن هذه الطاقة التى يفرزها الكيان الإنسانى من تلقائه- ويجمعها الإسلام- هى طاقة حيوية "محايدة" تصلح للخير والشر, تصلح للبناء وتصلح للهدم كما يمكن أن تنفق بدداً بلا غاية ولا اتجاه. والإسلام يوجهها وجهتها الصحيحة. فى سبيل الخير.
والمهم كذلك أنه لا يختزنها أكثر مما ينبغى. فالاختزان الطويل بلا غاية عملية مضرة بكيان الإنسان.
لذلك لا يخزن الإسلام هذه الطاقة. وبذلك يقى النفس من كثير من أنواع الانحراف المعروفة فى علم النفس. فلا تنشأ فيها تلك العقدة المدمرة والاضطرابات التى تبدد طاقتها. ويعالجها كذلك بنفس الطريقة إذا حدث- لسبب من الأسباب- أن أصيبت بالانحراف. ولا شئ يعالج النفس أكثر من إطلاق شحنتها فى عمل ايجابى يحقق كيان الإنسان, ويحقق إحساسه بذاتيته. ويفرغ كذلك الإفرازات المختزنة التى تسبب المرض والاضطراب.

سابعاً: ملء الفراغ
كما يفرع الإسلام طاقة الجسد والنفس كلما تجمعت, ولا يختزنها دون ضرورة فإنه فى الوقت ذاته يكره الفراغ.
إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزنة بلا ضرورة, وأول مفاسد الفراغ هو تبديد الطاقة الحيوية...لملء الفراغ ثم التعود على العادات الضارة التى يقوم بها الإنسان لملء هذا الفراغ.
والإسلام حريص على شغل الإنسان شغلاً كاملاً منذ يقظته إلى منامه, بحيث لا يجد الفراغ الذى يشكو منه. ويحتاج فى ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف بها عن منهجه الأصيل.
وليس معنى ذلك هو استنفاد المخلوق البشرى واستهلاكه... فليس ذلك قط من أهداف الإسلام الذى يدعو إلى استمتاع الإنسان بالطيبات وتذكر نصيبه من الحياة الدنيا.
وليست المشغلة كلها إجهاداً واستنفاداً للطاقة, فإن منها تهويمة العبادة ومنها ذكر الله فى القلب, ومنها غفوة الظهيرة فى الهاجرة, ومنها السمر البرئ مع الأهل والأصحاب, ومنها التزاور ومنها الدعاية اللطيفة النظيفة... إلى آخر أنواع الترويح. وهكذا لم يعد فى نفوس المؤمنين فراغ.
وتلك من انجح الوسائل فى تربية النفس, خاصة تمنع النفس- لتقويمها- من شئ من رغائبها. فالوسيلة الصحيحة لملء فراغ هذه الرغبة, هى إيجاد نشاط جديد لهذه الرغبة ذاتها, أو لرغبة سواها, فالنفس من الداخل كلها وثيقة الإتصال.

ثامناً: التربية بالأحداث:
الحياة الدنيا كد وكدح ونصب.... وتفاعل دائم مع الأحداث. ومادام الناس أحياء فهم عرضة على الدوام للأحداث... تقع بسبب تصرفاتهم الخاصة أو لأسباب خارجة عن تقديرهم وخارجة عن إرادتهم. والمربى البارع لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه, وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها. فلا يكون أثرها موقوتاً لا يلبث أن يضيع.
ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تحدث فى النفس حالة خاصة. هى أقرب للانصهار. إن الحادثة تثير النفى بكاملها, وترسل فيه قدراً من حرارة التفاعل والانفعال يكفى لصهرها أحياناً, أو الوصول بها إلى قرب الانصهار. وتلك حالة خاصة لا تحدث كل يوم فى النفس, وليس من اليسير الوصول إليها والنفس فى راحتها وأمنها وطمأنينتها مسترخية أو منطلقة فى تأمل رخى.
والمثل يقول: "اضرب الحديد ساخنا" لأن الضرب حينئذ يسهل الطرق والتشكيل. أما إذا تركته يبرد فهيهات أن تشكل منه شيئاً ولو بذلت أكبر الجهود.
والهدف هو ربط القلوب دائما بالله, فى كل حادثة وفى كل شعور. والمجال مفتوح أمام كل مرب له عين مفتوحة وقلب واع وإدراك بصير. إنه يستطيع أن يدرك اللحظة المناسبة للتوجيه. اللحظة التى تبلغ فيها حرارة الانفعال درجة الانصهار. وعندئذ يعقد العقدة الوثيقة التى لا تدخل ويطبع الطابع العميق الذى لا يزول.

الباب الثالث: مراحل التربية
الفصل الأول: الطفولة وأهميتها *
الطفولة عند الإنسان هى المرحلة الأولى من مراحل عمره, تبدأ حين الولادة وتنتهى إلى حين بلوغه سن الرشد.
قال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ). (النور- 59)
وقال تعالى: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) (الحج- 5)
فهاتان الآيتان تشيران إلى أن سن الطفولة يمتد من الميلاد إلى حين البلوغ وفى هذا السن يكمل عقل الإنسان ويقوى جسمه ويكتمل تمييزه. ويصبح مخاطباً بالتكاليف الشرعية كلها على سبيل الوجوب.
ومرحلة الطفولة هذه من أهم المراحل فى حياة الإنسان وأكثرها خطورة, فهى تتميز عن غيرها بصفات وخصائص واستعدادات, فهى أساس لمراحل الحياة التالية, وجذور لمنابت التفتح الإنسانى, ففيها تتفتق مواهب الإنسان, وتبرز مؤهلاته, وتنمو مداركه, وتظهر مشاعره وتتبين إحساساته, وتقوى استعداداته, وتتجاوب قابليته مع الحياة سلباً أو إيجاباً وتتحدد ميوله واتجاهاته نحو الخير أو الشر. وفيها تأخذ شخصيته بالبناء والتكوين لتصبح مميزة عن غيرها مكن الشخصيات الأخرى
فعلى الوالدين فى هذه المرحلة واجب من اكبر الواجبات الدينية والأدبية وهو تربية جسمياً وعقلياً وتدريبه فكرياًُ وعلمياً وتثقيفه أدبياً واجتماعياً ليكتسب منها العادات الفاضلة. وتنغرس فيه جذور الأخلاق الكاملة سواء عن طريق القدوة الصالحة فلا يربيانه أو يسمعانه إلاّ كل ما فيه الخير وحب الفضيلة وإلاّ كل ما يبعده عن الشر والعادات الرذيلة.
فإن قاما بواجبهما نحوه, بنيا فيه الرجولة وحب البطولة.
وإن أهملاه وقصرا فى حقه وتهاونا فى تربيته أسلماه إلى الفشل فى الحياة وألقيا به بين أنياب الضياع والحرمان.

الفصل الثانى: مشكلة المسؤولية التربوية*
بينما نادى (روسو) وأتباعه بترك الطفل وشأنه يتربى فى الطبيعة بناء على تجاربه واحتكاكه بالأشياء المحيطة به....كان علماء الإسلام يرون ضرورة مراقبة الطفل وتعليمه مبادئ الإسلام المناسبة لفطرته عملاً بعموم بعض الآيات والأحاديث التى وضعت فى عنق الوالدين المسؤولية التربوية كقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " (التحريم- 6). أى أدبوهم حتى يلزموا شريعة الله وبذلك تحفظونهم من عذاب الله يوم الحساب وقوله صلى الله عليه وسلم: "مانحل والد ولداً أفضل من أدب حسن". (تحفة المودود لابن القيم الجوزيه)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير راع ومسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وامرأة الرجل راعية على بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم" رواه البخارى.
وهكذا وفق الإسلام بين مبدأ (فطرة الطفل الخيرة) ومبدأ (مسؤولية الأبويين فى تربية الطفل) فجعل هذه المسؤولية حامية لتلك الفطرة وناهضة بها.

الفصل الثالث: مشكلات احترام طبيعة الطفولة وحاجاتها *
معاملة الأطفال حسب طبيعتهم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرفق فى الأمور كلها وهو القائل: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على سواه". رواه مسلم (ص 229 رياض الصالحين) وقد أكد هذا المعنى بقوله "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" (ص 230 رياض الصالحين) والأطفال أحق من غيرهم بالرفق والرحمة لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقاً بهم رحيماً بصغيرهم يداعب الصغار.
توجيه الأطفال وتأديبهم:
ولكن الرفق لا يمنع من التوجيه والتعليم فقد كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يوجه الأطفال الواعين ويعلمهم- بطريقة لطيفة- آداب الطعام والتيامن والاستئذان ونحو ذلك من الآداب العملية فى حينها وفى مناسباتها ليطبقوا ذلك على عمليا ويتدربوا على الأخلاق الفاضلة حتى تصبح عندهم عادات سلوكية فردية أو اجتماعية.
فعن عمر بن أبى سلمة رضى الله عنها قال: كنت غلاما فى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدى تطيش فى الصحفة فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا غلام, سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" متفق عليه.
تقويم أخطاء الأطفال:
ما كانت شدة المحبة لتمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من زجر أو عتاب شديد يوجهه إلى بعض من كان يربيهم عندما يرتكب خطأ يتعلق بتطبيق حدود الله وأحكام شريعته. وهذا حديث المرأة المخزومية يبين لنا الموقف التربوى الذى وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد:
"عن عائشة رضى الله عنها أن قريشاً أهمتهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قالوا: من يجترئ عليه إلاّ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
فكلمه أسامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة: أتشفع فى حد من حدود الله تعالى؟!".
ثم قام فخطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه. وكان أسامة يومئذ ما يزال غلاماً أو فتى فى دور التربية والتوجيه.
إضافة إلى ما سبق فللطفولة حاجات منها الحاجة إلى الأمن والسلامة والحاجة إلى الاحترام والتقدير والمحبة والحاجة إلى الانتماء واللعب.

الفصل الرابع: تربية الطفل*
والتربية الصالحة الناجحة هى التى تؤثر تأثيراً كبيراً فى تقويم الطفل. وتعده إعداداً تاماً كاملاً ليكون الرجل الذى يوثق به ويعتمد عليه فى إقامة صرح الوطن الاقتصادى والعمرانى, وتشييد بناء الأمة الدينى والأخلاقى والسياسى والثقافى والاجتماعى وسبباً فى سعادتها ورسم معالم تقدمها ورقيها هذه التربية هى:
أولاً: تغذية روح الطفل بالإيمان بالله, وتغذية عقله وفكره بالنظر والتأمل فى مصنوعات الله وتلقينه الألفاظ التى تحببه بالله وتقربه من الله منذ أول نشأته وتكوين استعداداته.
ثانياً: تعهد الطفل منذ نشأته الأولى ومن حين تكوين استعداداته وتدريبه على القيام بواجباته الدينية وتأكيد ذلك فى المرحلة التى يكون فيها مستعداً لذلك جسمياً وعقلياً ليعتاد عليها فلا يتخلى عنها فيما بعد. كالصلاة مثلاً.
ثالثاً: تدريبه على الصدق والاستقامة. وعلى أداء الأمانة وحفظ الكرامة وتحذيره من كل قول أو فعل أو تصرف يخل بالعقل والخلق والمروءة من غضب وألجاج وخفة وطيش. وحدة وجشع, وحقد وحسد, فهذه أخلاق إذا اعتاد عليها ورسخت فى نفسه صعب عليه فى الكبر تجنبها.
ثم للنظر إلى بعض الأخطاء فى تربية الأطفال.
أولاً: سوء فهم نية الطفل وتجاهل عواطفه. فإن أساء التصرف- وكثيرا ما يسئ- قسونا فى عقابه بالضرب تارة وبالازدراء والتحقير تارة أخرى. فإن بال على فراشه زجر ونهر وضرب من قبل الأم وإن تكرر منه ذلك جلد بالعصا وإن كسر الزجاج أثناء لعبه, أو لوث الأثاث بالحبر أو نحوه, أنب من جميعه أفراد أسرته ووبخ على فعلته تلك. وإن خرج يلهو مع أقرانه ويلعب مع أقرانه هدد بالعقاب وطلب منه عدم الخروج, فيكون نتيجة هذا التأنيب والعقاب هروب الطفل وتشرده أو تأخر رجوعه للبيت خوفاً على نفسه من العقاب وسوء المعاملة.
ونحن نجهل أو نتجاهل أن للأطفال عالماً غير عالم الكبار. ولهم تصرفات غير تصرفات الكبار, فنسئ فهمهم ولا نحسن تربيتهم.
ثانيا: من مساوئ تربية الطفل وتخويفه لينام ويرقد أو ليجلس ساكناً هادئاً نخوفه بالغول والضبع والبعبع والجن والعفاريت.
ومن أسوأ التخويف تخويفه بالأستاذ والمعلم والذهاب إلى المدرسة والطبيب أو بضرب الإبرة فينشأ الطفل جباناً عنيداً يخشى المدرسة ويخاف المعلم ويمتنع عن الذهاب إلى الطبيب. أو يأبى تناول العلاج.
ثالثاً: من أبشع فساد التربية فى بلادنا تشجيع الأبناء على الاختلاط بالنوع الآخر أو إقامة الحفلات الماجنة وعرض الأفلام الخليعة على شاشة السينما أو التلفزيون وعرض التمثيليات التى تحوى الرقص العارى أو شبه العارى, وشرب الخمر ولعب الميسر. أو التى تعرض أفلام القتل والإجرام أو السرقات والاعتداء على الأعراض.

الفصل الخامس: من السبع إلى العشر*
من الشائع على الألسنة أن هذه الفترة- من الثلاث إلى السبع- هى عمر السماجة و(الرخامة) والدلع....., عند الأطفال.
وهى معادلة خاطئة, لأن القاعدة التربوية تقول: "ليس هناك أطفال سيئون بل هناك أهل سيئون".
فبعد أن مر الطفل بمرحلة الغرس والنبت فى السنوات الثلاث الأولى ومرحلة التهذيب والتشذيب (تخليقاً وتعليماً) ما بين الرابعة إلى السابعة حيث بداية مرحلة الاستواء والدخول فى جو الإحساس بالغريزة الجنسية والبلوغ و..المسئولية.. كان لابد من عملية (ضغط) و (شد) وهنا نركز على إتباع أسلوب الترغيب والترهيب, بالأمر أولاً وبالضرب غير المبرح عند العاشرة ثانياً.
وقليلاً ما نضطر إلى ذلك إذا ما سلكنا مع الطفل فى المرحلتين الأوليتين (حتى السابعة) الأسلوب التربوى السليم الذى ألمحنا إليه. وعرضنا له من قبل. وقد تكون سن العاشرة بداية مرحلة البلوغ أو قد تكون البلوغ بعينه كما تدل على ذلك الدراسات الإحصائية للمناطق ذات المناخات الحارة.
بين البيت والمدرسة:
إن الطفل (التلميذ) فى سعيه إلى المدرسة طلباً للعلم وتزوداً بالمعرفة قد انطلق من أفق البيت الضيق إلى أفق الحياة الواسع واحتك بأنماط جديدة وكثيرة من الناس. فكانت هذه أولى خطواته نحو البيئة والمجتمع.
وكما أن البيت والمربى عاملان أساسيان فى تكوين شخصيته, كذلك البيئة فإن لها آثارها وعواملها الكسبية والتأثيرية على النفس والمفاهيم.
ومن البديهى أن بيئة الطفل (التلميذ) فى المراحل الأولى تكون ضيقة محدودة بالنسبة إلى من هو أكبر منه أو من تتطلب ظروف حياته سعة رقعة الاتصال.
فبيئته فى تلك المرحلة لا تتعدى الأهل والأقارب وصداقات المدرسة وأهمها- فى نظرنا- الصداقات. إذ أن الصديق الأثر الأول والأكبر فالإعجاب به والتآلف معه يولدان متابعته وتقليده, حتى أكثر من أهله ومربيه لأن التقارب فى السن والتوافق فى الأمزجة والاحتياجات والرغبات يوحد الطريق لكليهما.
والمطلوب من الأبوين هو امتصاص تلك الحاجة وليس سد المنافذ عليها وإيصاد الأبواب فى وجهها, لأن العزلة سوف تؤدى بالطفل إلى سبيلين لا ثالث لهما إما أن ينكمش وإما أن يفلت, وكلاهما مؤكد الخطر على مستقبله. فكيف يكون الامتصاص؟؟
يكون الامتصاص بمصادقة صديق الطفل, والترحيب به فى البيت ومصاحبته فى الرحلات والنزهات, وزيارة أهله والتعرف عليهم واستضافتهم والتعاون بين الأسرتين أو أكثر. فى العمل على حسن التنشئة, مراقبة وتوجيه ورعاية".
ولا أرى أبلغ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا المجال: "لينظر أحدكم إلى من يخالل" وهو قاعدة مطلقة لا تنحصر فى سن معينة فإذا كان الطفل فى مرحلة لا يستطيع معها- لسبب من الأسباب- التمييز التام, فأولى وأجدر بالأبويين أن يساعداه على ذلك, فينظرا هما إلى خليل ولدهما وصديقه ورفيقه.

الفصل السادس: سن المراهقة*
وهى من أخطر وأهم المراحل فى حياة الإنسان فعلى نتائجها تتحدد معالم شخصيته المستقبلية ولئن كنا قد أولينا فى الفصول السابقة اهتمامنا المتشعب بالطفل فإننا هنا نستفرغ الجهد والتوسع والتوعية والتركيز.
وليس من الصعب على الأبويين معرفة ذلك وإدراكه وملاحظته, إذ أن الطفل البالغ ينزع إلى تصرفات نفسية وبيئية واجتماعية تنم عما يتفاعل فى ذاتيته ويضطرم بين جوارحه.
وعلى الأبويين أن لا يتكلا أبداً على ما غرساه فى وجدانه وعقله من آراء وسلوك- رغم فائدتها وحسنها- لأن طور المراهقة مفصل من مفاصل العمر, ومفرق من مفارق مسيرة الحياة, خصوصاً وأن الطفل قد خرج إلى مباشرة المجتمع, وقد يقع تحت تأثيره كلية فينحو فى تصرفاته منحنى يغيبه تماماً عن مذخورات النفس والعقل مما أودعه الأبوان, وهنا تتعاظم المسئولية. فكيف السبيل؟؟
يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
إنه من سطحية التفكير أن نطلب من الأهل تزويج الطفل المراهق!! وهذا من مضادات سنن الحياة ونظم العيش إذا ما الغرض من الاستشهاد بالحديث الشريف؟.
إن الجرعة الدينية التعبدية هى من الدواء والعلاج, لأنها تقوى الصلة الدائمة بالله تعالى وتنمى المراقبة الذاتية, والحديث الشريف وإن كان موجها إلى الشباب:
"يا معشر الشباب". إلا أنه فى عمومه يعطينا الفكرة الأساسية عن العلاج لكل طور.
وتتنوع الجرعة الدينية وتتوزع, وتتكيف أيضا.. حسب المقتضيات بين البيت والمدرسة والمسجد, ولئن كنا قد أعطينا- فيما سبق- البيت والمدرسة حقهما من المسئولية فإننا لا نغفل دور المسجد هنا لأن الجمعة والجماعات ودروس الوعظ تؤتى ثمارها فى تأليف القلوب واجتذاب العقول, والاستحواذ على النفوس.
وما من شك فى أن الواعظ الواعى الذى يحسن مهمته (يفرز) الأطفال عن غيرهم من الشباب والكبار فى وعظ مميز وتوجيه محدد ويستطيع أن يرسم لهم منهجا إسلامياً للنشاطات العقلية والروحية, ويترقى بهم.

الفصل السابع: الزواج المبكر*
إن التجربة التاريخية الحياتية أصدق وأحق بالإتباع من كل نظرية مستحدثة أو رأى يطلع علينا من هنا أو هناك تحت شعار (العلم) أو دعوى (العلمية) وهذا ينأى بنا نحن المسلمين- عن الأخذ بآراء القائلين بأن الزواج المبكر عرضه للهزات والانفعالات, ثم الانهيار... فى أغلبيته النسبية, وهم يرجعون الأسباب إلى عوامل كثيرة متعددة أهمها عندهم انعدام التجربة لدى الطرفين الفتى والفتاة !!.
يقول نبينا (عليه أفضل الصلاة والسلام) عن الزواج المبكر أنه "أغض للبصر وأحصن للفرج"
ولو توفر للشباب كل عناصر التربية السليمة منذ أن كان وليداً إلى المرحلة التى هو عليها الآن- سن التكامل- فلا نأمن عليه من الانحراف, إذا لم نوفر له أسباب الاستمرارية على الصراط السوى. فمن ذا الذى يهدهد من غلواء جذوة الشهوة عنده؟ وما الذى يكبح جماح نظره ويجعله عسيراً؟.
إنه الزواج المبكر لا ريب........
لكن الزواج المبكر الذى حث عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والذى هو أغض للبصر وأحصن للفرج معلق على الباءة وهى القدرة والاستطاعة, من ناحية الكسب والإنفاق ومئونة وتكاليف الحياة الأسرية, ويدخل فيها أيضاً ظروف الشاب الاجتماعية, لذا يرى كثير من المهتمين والباحثين فى العصر الحاضر أن سبيل الزواج المبكر غير متيسر بسبب نوعية الحياة الاقتصادية والمعيشية وعسر الضرورات والتكاليف....الخ. ولكنهم لا يذهبون إلى الشق الثانى من الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليه بالصوم فإنه له وجاء". فهم فى هذا يجترئون المعانى ويقطعون أوصالها, ويخربون القواعد المنطقية ويباعدون: بين المقدمات والنتائج.
إن مفهوم العبادة يتحدد بالقدرة على الكسب, بدنياً وذهنياً وليس الإنفاق وهذا مفهوم متغاير.
وأيضاً... حتى الصوم الذى هو الوجاء والذى عول عليه الرسول الكريم فى العلاج ينبئك بمفهوم الضرورة الحياتية التى تقدر بقدرها وليست حلاً أبدياً سرمدياً.
والمسؤولية فى هذا الشأن لا تنحصر فى التوعية الاجتماعية فقط لأن الواقع يشهد بقلة جدواها وضعف تأثيرها, ولابد من موقف للسلطة الحاكمة...
هل أتاكم نبأ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتماً من حديد..."
وقوله الشريف: "زوجتكها بما معك من القرآن".
والأثر الكريم: "أعظم الزواج بركة أقله مئونة"
وما من شك أبداً فى أن الرسول الأعظم إلى جانب النبوة والرسالة, كان يمثل رأس السلطة وقمة الحكم والقضاء.
وإلا- فبالله عليكم- كيف نحمى أجيالنا وشبابنا وبالتالى أمتنا من سوء المصير, أو من الواقع المرير.

الفصل الثامن: من الفرد الصالح إلى الأسرة الصالحة*
تلك غاية الغايات وأقصى الأمانى.
لأن الأسرة هى وحدة المجتمع الصغرى فإذا ما تهيأت لها عناصر التكوين السليمة من زوج وزوجة تأصلت فى كليهما أسس الشخصية الإسلامية خلقاً ومسلكاً وبناءاً عقلياً ووجدانياً, برزت هذه الوحدة لبنة صالحة فى البناء المنشود.
والفرد الصالح- فتى أو فتاة- منذ الولادة إلى الطفولة واليفاعة إلى الشباب والرجولة, يدرج من دور إلى دور وفق المعطيات والضروريات ووفق القواعد والأساليب الإسلامية السامية التى تتعهده ولا تهدده, تنمية ولا تكبته, تحدب عليه ولا تقسو, تراعيه فى إطار كل دور كى يتسلمه الدور الآخر مهيئاً متناسقاً..
هذا الفرد..., هو الذى نركز عليه فى التغيير الجذرى الذى نسعى إليه ونتوخاه, التغيير الذى ينقلنا من جاهلية التبعية والضياع والتخلف إلى آفاق الهداية واستقلال الشخصية والتقدم, إلى مفهوم وحقيقة الأمة الإسلامية فى وحدتها وازدهارها, وتبوئها مركزها القيادى فى دنيا الناس والبشرية قاطبة.
ونحب أن نلاحظ فى عملية البناء (دورية) الحلقة, واتصال السلسلة وتعاقب المسؤولية.
فحين ننتهى إلى تكوين الأسرة الصالحة فإن الزوجين المقيمين سيعيدان عملية البناء نفسها من القاعدة وهكذا دواليك.
نحن بحاجة قصوى إلى تكوين جيل جديد تتوفر فيه كل النظريات التطبيقية التى أسلفنا الحديث عنها.
وإلاّ...., فإن ديمومة التخلف والانهزامية ستكون ضربة لازب فوق رؤوسنا.

الفصل التاسع: وصية من والد لولده*
كتب على بن أبى طالب رضى اله عنه إلى ولده الحسين: "من عبد الله على أمير المؤمنين الوالد الفانى الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى على الولد المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك عرضه الأسقام ورهينة الأيام وأسير المنايا وقرين الرزايا وصريع الشهوات ونصب الآفات وخليفة الأموات.
يا بنى إن بقيت أو فنيت فإنى أوصيك بتقوى الله عز وجل وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله فإن الله يقول " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ....." الآية. واى سبب يا بنى أوثق من سبب بينك وبين الله عز وجل.

أرجوزة فى مدح الأدب*
إذا تبتغ الكرامة وتطلب السلامة
فاسلك مع الناس الأدب ترمن الدهر عجب
لن لهم الخطاب واستعمل الآداب
ولا تطاول بنسب ولا تفخر بحسب
فالمرء ابن اليوم والعقل زين القوم
إن شئت تلقا محسناً فلا تقل قط أنا
وإن أردت لا تهن إذا ائتمنت لا تخن
والعز فى الأمانة والفخر فى القطانة
القصد باب البركة والخرق داعى الهلكة
لا تغضب الجليس ولا توحش الأنيس
لا تصحب الخسيس لا تسخط الرئيس
لا تكثر العتاب فتنفر الأصحاب
واقصد رضا الجماعة وكن غلام الطاعة
ودارهم باللطف واحذر وبال السخف
واترك كلام السفلة و (النكت) المبتذلة
وقل من الكلام ما لاق بالمقام
كرائق الأشعار وطيب الأخبار
ولا تكن ملحاحاً واجتنب المزاحا
فكثرة المجون نوع من الجنون
وآخر الأمر الرضا وكل مفعول مضى

(ابن مكانس)

الخاتمة*
أخى القارئ المسلم:
إن ضرورة الإصلاح تنبع من الإحساس بسوء الواقع وخطورة المستقبل, فإذا ما أدركنا ذلك فملك علينا مشاعرنا فى أعماق وجداناتنا عولنا على العمل..., أما أن نمضى- كما هو الواقع- مجروفين بالتيار, فإن الطامة بالانتظار.
وبعد....
فإننى قد استعرضت معك كثيرا من الوقائع والأساليب, وربطتها- قدر جهدى- بإطارها الإسلامى النظيف, لتكون أداة فعالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأحب أن ألفت نظرى ونظرك إلى أنها جميعا تبقى فى حدود الكلمات والحروف, جميلة منمقة, مزخرفة موشاةً, ولكنها خالية من الروح والإحساس, ولا قيمة لها إن لم تترجم عملياً إلى حياة....
فلابد من العمل, ولابد من جيل إسلامى جديد...,
فلتتضافر الجهود, ولتخلص النوايا, ولنشمر عن ساعد الجد, ولنمض فى الطريق.
والله يتولى الصالحين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


المصدر
http://sindirilla.jeeran.com/archive/2009/3/839034.html