مصطفى إنشاصي
لقد بدأ الغرب بعد تحقيق تفوقه على الوطن الإسلامي يعيد إنتاج دوره السياسي الدولي ليحتل مكان الإسلام الذي شكل وما زال يشكل النقيض الحضاري لحضوره الدولي، فبدأ يتقدم لتطويق الوطن الإسلامي من الخارج واحتلال أطرافه تمهيداً لاختراق في القلب! وجاءت الهجمة الغربية الحديثة على الوطن الإسلامي لتشكل مرحلة جديدة ومختلفة من مراحل الصراع الحضاري بين الغرب والإسلام أشد صعوبة وأكثر مأساوية، فالغرب كان قد حقق إنجازات هامة بعد ثورته الصناعية وبناء نهضته الحضارية المادية وأصبح قوياً وفتياً بما فيه الكفاية، فيما الدفعة القرآنية تضمحل داخل الجسد الإسلامي وتركته يضعف قابلاً لجرح. فقد "تقدمت جحافل الغرب الاستعماري باتجاه الوطن الإسلامي وثورة الغرب الصناعية تحق نتائج علمية مادية باهرة تصعد إلى أوجها والحقد الصليبي القديم لم يبرح صدر الغرب ولم يغادر دمه، وهكذا تقدم الغرب في ظل العنف المسلح الذي كان ضرورياً وأساسياً لتحقيق أهدافه، ولكنه لم يكن كل شيء في عملية اقتحام الغرب للبيت الإسلامي، لم تكن السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية بقادرة على حسم المعركة، فقد بقي للأبعاد الحضارية والثقافية الدور الحاسم والكلمة النهائية لأن خلاص هذه الأبعاد وتحررها من تأثير المستعمر يجعلهما قادرين على النهوض وإفشال كل أشكال السيطرة الأخرى، سواء العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، لذلك عمد الغرب إلى شن حربه الشاملة ضد الوطن الإسلامي، وتكريس القابلية للاستعمار، في نفوسنا، وتدمير منابع القدرة الداخلية، وذلك بتحطيم المكونات العقدية والفكرية والحضارية للمجتمع الإسلامي، وتغير أنماط العيش والإنتاج فهو بما يخدم ومصالحه وتحقيق التبعية له".


الحملة الفرنسية على الشرق الإسلامي
وكما شكل الفرنسيون طليعة الحرب الصليبية على المسلمين فإنهم شكلوا طليعة الهجمة الغربية الحديثة على الوطن الإسلامي بكل شراستها وشموليتها، التي تمثلت في الحملة الفرنسية على الشرق الإسلامي (مصر وبلاد الشام) 1798. وإن لم تكن الحملة الفرنسية أول محاولات الغرب لاختراق الوطن الإسلامي من الداخل، فقد سبق الحملة الفرنسية محاولات لاختراق داخلي وتحدي لسلطة الدولة العثمانية بدعم من القوى الصليبية الغربية أشهرها تمرد الأمير فخر الدين المعني الثاني الملقب بالكبير، (1604-1635) والمحاولة الشهابية في جبل لبنان (1790-1832)، وقد فتحت المحاولة المعنية الباب أمام الدول الأجنبية للتدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية.
ومع أنها فشلت عسكرياً إلا أنها شكلت أول اختراق جدي من الغرب لوطننا الإسلامي حديثاً. فقد سيرت فرنسا حملتها تلك بعد عشر سنوات من انتصار ثورتها التي تعتبر أعظم ثورات التاريخ الحديث لتدشين أول نظام علماني بحسب الفهم الغرب تحت شعار (حرية، مساواة، إخاء)!
وقد درِسنا في مدارسنا وجامعتنا وفي كتب الثقافة والتاريخ .. أن هدف الحملة الفرنسية كان قطع طريق التجارة بين بريطانيا و(مستعمراتها) في الهند التي كانت دُرة التاج البريطاني، وعندما ذكروا العدد الهائل للعلماء في جميع التخصصات والمطبعة التي أحضرها نابليون ذكروهم كدليل على حجم التقدم العلمي الذي حدث في الغرب بعد فصل الدين عن السياسة وشئون الحياة. أما الدستور الجديد الذي وضع أُسسه نابليون ومحاولاته علمنة الأزهر فتذكر على أساس أنها أول عمليات التحديث والحداثة في مصر والتحرر من المناهج الدينية الجامدة التي كانت تحكم عقلية المعممين آنذاك. ودرسونا أن دعوته اليهود للعودة إلى ما يزعمون أنه (أرض الميعاد) – فلسطين - أول محاولة في العصر الحديث لاستغلال اليهود كمشروع (استعماري) ضد الأمة والوطن ...
لكن إذا ما بحثنا عن حقيقة كل تلك المآثر العظيمة للحملة الفرنسية وغيرها فسنرى العجب العجاب، فلم يكن هدف الحملة الفرنسية الرئيس قطع طريق التجارة بين بريطانيا والهند لأن التنافس بين الدول الغربية على توسيع مناطق نفوذها أمر طبيعي، ولكن كان الهدف الرئيس لها محاولة القضاء على الإسلام والعودة إلى بيت المقدس. فقد كانت الحملة الفرنسية أول المحاولات الغربية الجادة لتحقيق اختراق حقيقي في قلب الوطن بدل الأطراف، ومحاولة لإعادة إنتاج دور الغرب السياسي الدولي ليحتل مكان الإسلام الذي شكل وما زال يشكل النقيض الحضاري لحضوره الدولي.
لقد جاء الغرب وهو يدرك أن صراعه مع هذه الأمة ليس صراعاً عسكرياً فقط لكنه أعمق وأخطر من ذلك، إنه صراع بين دينين وحضارتين، بين الحضارة الإسلامية العريقة ذات الطابع العالمي المؤثر في الحضارة الإنسانية والمشاركة في بناءها والمتميزة بقيمها الأخلاقية الإنسانية العالمية، وبين الغرب بدينه الخليط من اليهودية والنصرانية والأفكار الفلسفية العلمانية الإغريقية والحديثة وحضارته العنصرية الاستعلائية يقيمها المادية وأخلاقها المنحلة. جاء وهو يعلم أن تقدمه لم يكن بفضل فصله للدين عن السياسة وشئون الحياة، كما أنه يعلم أن فصل الدين عن شئون الحياة في الإسلام لا يعني اللحاق بركب التقدم العلمي الذي حدث في الغرب ولكنه يعني التخلف والتفكك وبداية تراجع قوة الإسلام وتفكك المسلمين.
لذلك جمعت الحملة كل ما وضعه علم الاستشراق من مخططات لتدمير الإسلام والقضاء عليه لتضعه موضع التنفيذ، فاللافت للنظر أن الحملة لم تكن حملة عسكرية فقط لكنها كانت حملة شاملة ضد الأمة والوطن بدليل ذلك العدد الهائل من العلماء الذين رافقوها والذي "بلغ 122 عالماً في مختلف الاختصاصات". وذلك دليل على أهمية ما حققته تلك الصرخة التي أطلقها القديس الصليبي لويس التاسع ملك فرنسا بعد هزيمة حملته الصليبية على دمياط "علينا أن نبدأ حرب الكلمة…" قبل خمسة قرون. ولنبدأ مع الحملة الفرنسية من مرحلة الإعداد لها:
... يًتبع