البوسنة والهرسك ـ البلاد الخَضِرة الجميلة
بدأ الإسلامُ يدخل في عهد السلطان الشهيد مرادٍ الأول (ت791هـ ـ 1389م) إلى أجزاءٍ مِن بلاد البوسنة، مما جعل مَلِكَ البوسنةِ الصليبيَّ يطلب حمايةَ عساكرِ المسلمين، ويُبرِم مع العثمانيينَ معاهدةً تقتضي الوقوفَ إلى جانبه في حربه وسِلْمه، وذلك مقابلَ خراجٍ سنويٍّ يَدفعه ...
ثم يَنقض مَلِكُ البوسنةِ عهدَه، ويخون اتفاقَه وصُلْحَه، فتدخل عساكرُ المسلمينَ عامَ: (867هـ ـ 1463م) بلادَ البوسةِ، بقيادة السلطانِ محمد الفاتح، ويعيش أهلُها تحتَ حكمِ الإسلامِ نحوًا مِن أربعةِ قرونٍ.
لم يُسجِّل المؤرِّخون النصارى ـ بلْهَ المسلمينَ ـ حادثةً واحدةً فيها إرغامُ مسيحيٍّ على ترك معتقدِه، أو على الدخولِ في شريعةٍ أُخرى، بل عاش نصارى البوسنةِ بحريةٍ تامَّةٍ في كنائسهم ومعابدهم.
إلا أنَّ العالَمَ المتحضِّر في زماننا رأى عَيانًا ما قام به الصِّرْبُ المجرمون سنةَ: (1992م)، حيث قتلوا عشراتِ الألوفِ من أهل البوسنة والهرسك، ونَكَّلوا بهم في مجازرَ وحشيَّة، ثم دَفنوهم في مقابرَ جماعية، وذلك فقط بسببِ إسلامِهم، ويُنظر في ذلك كتابُ: (صفحات من تاريخ جمهورية البوسنة والهرسك)، ففيه ما يَعجر البنانُ عن كتابته، واللسانُ عن نطقه!
وصدق الشاعر في قوله:
مَلَكْنا فكان العدلُ منّا سجيَّةً
فلما ملكتُم سالَ بالدَّمِ أبطَحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأُسارى وطالما
غَدَوْنا على الأَسرى نَمُنُّ ونَصْفَحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوُتُ بيننا
فكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنضَحُ
عُرِف مسلمو البوسنةِ منذ دخولِ الإسلام إليهم بتمسُّكهم بدينهم وحبِّهم له، وهذا ما جعل أطماعُ أعداءِ الإسلام تتَّجِه إليهم، وخاصَّةً أنهم في بقعةٍ أُوربيةٍ مهمَّة، فافتعلوا فيها معاركَ ومذابح، وحاولوا جاهدينَ إبعادَ أهلِها عن الإسلام، أضفْ إلى ذلك قلَّةَ الدُّعاةِ والعلماء في العقود الأخيرة ...
وقد كانت بلادُ البوسنةِ زمنَ العثمانيينَ متقدِّمةً ـ علميًّا وثقافيًّا ـ على كثيرٍ مِن البلاد الأُوربية، وخاصَّةً بما يتعلَّق بالمكتبات ومراكزِ التعليم.
وما تبقى مِن المرافقِ العثمانية شاهدةٌ على حضارةٍ إنسانيةٍ كانت موجودةً، وذلك مِن مساجدَ ومكتباتٍ ومحاكمَ وأوقافٍ، ومستشفياتٍ وخاناتٍ وحمامات، وتكايا ودورٍ لتعليم القرآن والحديث للكبار والصغار، مع كثيرٍ مِن الجسور والقصور وغيرِ ذلك.
وحسبَ الإحصائيةِ التي أعدَّها الرَّحالةُ العثمانيُّ (أوليا چلبي)، فإنَّ سراييفو في عام: (1071هـ ـ 1660م)، كان فيها (177) مسجدًا.
وقد قام العالم البُوسنويُّ محمدُ بنُ محمدٍ الخانجيُّ الأزهريُّ (ت1365هـ) بجمعِ تراجمِ علماءِ البوسنة، وذلك في كتابه: (الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء بُوسنه)، فبلغتْ نحوًا مِن (220) ترجمةٍ.
ومن الأسماء التي لا ينساها أهلُ البوسنة قديمًا وحديثا، هو: الغازي خسرو بك (ت948هـ)؛ إذ ستجد اسمَه الآنَ في كثيرٍ مِن مرافقِ الحياةِ العامَّة في البوسنة.
و(خسرو بك) هذا هو مِن كبار القادة والمجاهدين الفاتحين، وذكروا في ترجمته أنه دخل أكثرَ مِن مائة معركة، وكان والدُه كذلك مجاهدًا وتوفي شهيدًا.
ومن أكبر المعالم التي باسمه: هو مسجد (الغازي خسرو)، الذي يُعد مِن أكبر وأجملِ مساجدِ البوسنة والهرسك، وأَوصى ـ رحمه الله ـ أن يجتمعَ الناسُ كلَّ يومٍ بعدَ العصر لختمِ القرآن والدعاءِ للمسلمين.
وقبالةَ المسجدِ ستجدون: (مكتبة الغازي خسرو بك)، التي كنتُ أحلم منذ زمنٍ بزيارتها والوقوفِ على مخطوطاتها، التي بلغتْ نحوٌ مِن عشرينَ ألفِ مجلد، وقد رُفِع كثيرٌ منها على الشبكة العنكبوتية، ولله الحمدُ والمنة.
وكذلك قام ـ رحمه الله ـ بإنشاءِ مدرسةٍ صدقةً جاريةً على رُوح أُمِّه، وسُمِّيتْ بـ: (المدرسة السلجوقية)، نسبةً لاسمها: (سلجوقة)، وهي ابنةُ السلطان (بايزيد الثاني).
ومن الأواقاف التي أنشأها الغازي خسرو من ماله الخاص: (مكتبة، دار للضيافة، حمام، بيمارستان، خان)، وأوقف نحوًا مِن مائتي دكانٍ ومتجرٍ في سوق سراييفو؛ لتعودَ غلتُها على المنشآت الدينية والخيرية، وشراءِ الكتب ونسخِها.
يقول كاتبه محمد وائل الحنبلي: وهذه الصورة التقطها اليومَ لمدخل حرم جامع (الغازي خسرو)، وقد قرأتُ الشعرَ الذي كُتب فوقَ الباب، وفيه تأريخٌ لبنائه عامَ: (937هـ) على طريقة حسابِ حروفِ الجُمَّل، فإذا هو:
جامع الأبرار خُسْرو بِكْ بنا
حسبةً لله دارُ الساجدين
قاتلُ الأعداءِ مُعينٌ للغزاة
ناشرُ الإحسانِ نصرُ العابدين
ألهـم الله لنا تـاريخَـه
مجمع الأبرار دار الحامدين
153 435 205 144 = (937)
محمد وائل حنبلي