قصة قصيرة: (22) لغـــــــــة الجيــــــــــــاع.....!
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
المشهد الآن، ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تميزت كل وسائط النقل البرية والبحرية والجوية، في كافة أرجاء المعمورة، بالبساطة والبدائية واليدوية غير الماهرة. ولم تكن شمس التكنولوجيا قد طلعت بعد، فيما غابت اللمسات الفنية المتقنة. وطغت عليها، غالبا، نظرية المحاولة والخطأ قبل ولوجها ميدان العمل، كما لفها طابع التواضع الخجول وكاّن لسان حالها يقول :
"هذا كل ما في جعبتي من ابتكار وإبداع !"
تحديدا في ذلك الوقت، ازدهرت تجارة البغال السلطانية بين مدينة اسطنبول التركية ومدينة كالكتا الهندية عبر الأراضي العراقية وميناء البصرة. حينها شمر تجار عراقيون مرموقون عن سواعدهم وأفلحوا بصفقتين تجاريتين نادرتين، تعلقتا بتصدير البغال السلطانية، وعادت عليهم بمردودات مادية وفيرة آنذاك، لدرجة سال لعابهم. لذا خططوا القيام برحلة ثالثة ورابعة وخامسة وهكذا ......
ولعل الاستحضارات التفصيلية المعمقة قد طبقت على الرحلة الثالثة بكل حذافيرهــا، حسب زعم السائس، كي تكون أكثر نموذجية من سابقتيها، لاسيما وأن عدد البغال بلغ الرقم تسعة لتلك الوجبة، ذي النوعية السلطانية حصرا، إذ أن سوق ذلك الصنف من البغال كان رائجا ومرغوبا في كل الأسواق خصوصا الهندية .
كانت بغالا مدربة جيدا، مطيعة للنظام، تأكل في الوقت المحدد على وقع بوق حفظت نوتته عن ظهر قلب. وكانت تتمتع بصحة تامة، وحيوية ملفتة للنظر، إذ كان علفها من الدرجة الأولى، مفعما بالمواد المغذية الأخرى كالجت والحشيش والتبن والشعير، فيما كانت تخضع للفحوصات البيطرية الدورية بانتظام. هذا ناهيك عن أنها مخلوقات ذات بنية قوية، وتتمتع بصبر لا حدود له، تتحمل ضنك العيش دون تبرم، وتعمل أقصى ما بوسعها لخدمة أولي أمرها في ظروف جد قاسية من حيث المكان أو الزمان أو الحال.
كما انفردت البغال بخاصية الحساسية المفرطة. ولأنها تعمل في المناطق الجبلية أغلب الأوقات، تقوم بعملية انتحار من أعلى مكان تصله، قاذفة أنفسها من هناك نحو أعماق الوديان، إن هي أهينت أو أسيئت معاملتها. إنها تؤدي دورها الوظيفي على أحسن ما يرام منذ أول لحظة دخولها في سلك الخدمة، خصوصا القطعات العسكرية الجبلية التي تحملها المدافع والذخيرة الثقيلة.
إلا أن نواميس العمر الصارمة تخضع لمعادلة واحدة لا غير، تتلخص بما يلي:
(((انتهى دوركم وحان وقت بيعكم !)))
أخذ تسعة بغال في رحلة بحرية إلى الهند، على متن مركب خشبي بدائي، أشبه (بالدوبة)، لا تتوفر فيه أدنى درجات السلامة، أطلق عليها في حينها: (رحلة البغال السلطانية الثالثة إلى كالكتا)، صاحبها سائس ماهر يجيد لغة البغال، وهو متأقلم مع طباعها.
تم جرد البغال وفحصها، ومن ثم نقلها بكل حذر وأنات، وانطلق المركب في رحلته بأمان ويسر عصر ذلك اليوم متجها عبر الخليج نحو الهند. شق طريقه عبر المياه الهادئة، قاطعا مسافة لا بأس بها، وأرخى الليل سدوله، وحان وقت علف البغال. بدأت تشبع أرضية المركب الهزيل بحوافرها الصلبة ركلا ورفسا بلا رحمة، محدثة خللا فيه، واهتزازا ينذر بشؤم غرقه، دون إدراك منها أن المركب لم يصمم لمثل هذا العدد الكبير من الحيوانات القوية !
البغال جائعة، وهي معذورة عندما تمارس طقوسها المعتادة في تلك الحركة الرتيبة، إذا تأخرت الوجبة عليها !
جن جنون الربان وبدأ يصرخ بهستيرية محمومة طالبا ضبط سلوك البغال الجامحة وإلا فالمركب غارق لا محالة. طرق الخبر سمع السائس، فهرول مذعورا وبيده البوق. نفخ فيه إيذانا بالاستعداد لتناول العشاء . وبقدرة قادر، عم المكان صمت مطبق وكأنهم عسكر حضر آمرهم، واصطفت البغال وكأنها في ساحة عرضات عسكرية مهيبة، مما حدا بالربان استطلاع رأي السائس عن كيفية حل ذلك اللغز المحير، الصمت المفاجئ للبغال!
مضت الساعات والدقائق بلمح البصر دون وصول العلف، فتجدد هياج البغال، واستفحل تمردهم، وشرعوا بإحداث الفوضى الصاخبة وهم في عرض الخليج، حيث أقض الجوع مضجعهم، فما كان من السائس إلا النفخ في البوق المرة تلو الأخرى موهمهم بأن العلف قادم، صارخا بوجه الربان، وقد اكفهر وجهه قائلا :
- "ماذا تنتظرون ؟ لم لا تطعموا البغال الجائعة ؟"
رد عليه الربان ببرود قاتل :
- " نسينا تحميل العلف عندما كنا في ميناء البصرة !!!"