منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3

العرض المتطور

  1. #1

    الكتاب الفضيحة: مقدمة فى فقه اللغة العربية أم فى الحقد والجهل والبهلوانية؟

    عالكتاب الفضيحة!
    "مقدمة فى فقه اللغة العربية"؟
    أم فى الجهل والحقد والبهلوانية؟


    د. إبراهيم عوض



    فى أحد المواقع التبشيرية فوجئتُ، وأنا أقوم بجولة فى المِشْباك بحثًا عن شىءٍ يتعلق بكتاب الدكتور لويس عوض: "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، أن أصحاب هذا الموقع يعرضون الكتاب عندهم ويُغْرُون القارئ بتحميله ويسهّلونه له فى طبعة ثانية منه صادرة عن دار "رؤية" للنشر والتوزيع عام 2006م. ولم أكن قد قرأت الكتاب من قبل رغم الضجة التى أثارها وقت صدوره فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى، إذ كنت بالخارج حينذاك، ولما عدت كان الكتاب قد صودر، فظلت معرفتى به مجرد أقوال سماعية متناثرة لا تَشْفِى الغليل. ومن ثم حمدت الله أن أتاح لى هذه الفرصة فقمت بتحميل الكتاب وحفظته عندى على الكاتوب إلى أن يتاح لى الوقت لقراءته. ثم انتهزت أول سانحة لمعرفة ما يحويه من أفكار فشرعت أقرؤه وأسجل ملاحظاتى فى ملف بالجهاز على ما أقرأ أولا بأول، وقد أقوم بالبحث بين الحين والحين عن شىء يتصل بما أكتبه وأحفظه عندى كذلك، ثم تركت الأمر برُمّته انتظارا لفرصة أخرى، إذ كنت مشغولا بأمور أكثر إلحاحا، مما عطلنى عن استئناف المسألة عدة أسابيع. وأعترف للقارئ أن قراءتى للكتاب لم تكن قراءة مستغرقة، كما كنت أكتفى أحيانًا ببعض الفقرات والأمثلة عن متابعة الباقى الذى لا يضيف جديدا.
    وقد تنبهت أوانها أن الرجل قد جشّم نفسه عملا هو غير مؤهل له على الإطلاق، إلا أن الأمر رغم ذلك لم يبد لى ساعتها على فداحته التى تبدت لى حين عكفت على الكتابة عنه ومناقشة ما ورد فيه، إذ كانت عوراته الفكرية والعلمية والدينية تتكشف كالحة رهيبة تبعث على الاشمئزاز والقرف. ترى ما الذى أدخل الرجل فى هذه المضايق وهو غير مستعد لها؟ ترى من أين للرجل بتلك الآراء الفطيرة علميا والمسيئة للمسلمين ودينهم؟ وتنبهتُ إلى أنى قد حصلت على الكتاب من موقع تبشيرى قبطى يكره العروبة ويهاجم الإسلام ويشتم الله والرسول والصحابة. إذن فقد انجلى السر، وظهر أن الذين دافعوا عن الكتاب واتهموا ناقديه بالتعصب لم يقولوا الحقيقة، وإلا فلماذا يحرص مثل هذا الموقع على عرض ذلك الكتاب والتصايح بالإعلان عنه إذا كان مجرد كتاب يبحث فى اللغة العربية ولا يريد بالعروبة والإسلام شرا؟ وكنت كلما مضيت فى الكتابة ومراجعة النصوص التى سجلتُ عنها ملاحظاتى الأولى أزداد استغرابًا وشُدْهًا ويتحقق لدىّ أن لويس عوض لم يكتب كتابه لوجه العلم، فقد كان واضحا أن كل ما فيه لا يمت إلى العلم بصلة، كما أنه لا يعرف عن موضوعه شيئا يؤهله لامتشاق القلم والكتابة عنه. إنها روح صليبية فعلا كما جاء فى بعض ما كُتِب عن الكتاب، وليس دفاعُ من دافعوا عنه وأعادوا نشره ووضعوه على المشباك إلا تضليلا فى تضليل.
    على أنى أحب أن أنبه منذ البداية إلى أننى لم أكن أعرف الدكتور لويس عوض شخصيا ولا كانت لى به صلة على الإطلاق ولم أره على الطبيعة قط، بل كانت كل علاقتى به هى علاقة القارئ بأى صاحب قلم. وقد قرأتُ له كثيرا من كتبه، وكنت فى وقت من الأوقات من المستطرفين لبعض ما يكتب، ثم قرأت متأخرا عن إبّانه ما كتبه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله ينبّه إلى ما فى كتاباته من سموم وكراهية للإسلام والمسلمين، وذلك فى معركة "هامش الغفران"، التى كسحه فيها شاكر كسحا وحطمه تحطيما، وإن لم يَعْدُ الأمر عندى حدود المعركة التى دارت بن الطرفين آنذاك.
    وكنت، حين بدأت أقرأ الكتاب، قد استخرجت من مكتبتى الخاصة كتاب الأستاذ رجاء النقاش: "الانعزاليون فى مصر"، الذى رد فيه على لويس عوض عندما كتب مقالاته فى السبعينات من القرن الفائت يهاجم العروبة وينكر أن تكون مصر عربية رغم لغتها العربية وأدبها العربى وتاريخها العربى وفكرها العربى ودينها العالمى الذى حمله إليها صحابة الرسول العربى محمد صلى الله عليه وسلم (والبند الأخير هو مربط الفرس فى "ذلك كله"، وما "ذلك كله" إلا توطئة له وذر للرماد فى العيون كيلا ترى العيون هذا البند الأخير)، فألفيت الأستاذ النقاش قد أحسن الرد على لويس عوض إلى حد كبير. إلا أن... نعم إلا أن...! وهاكم توضيحا للأمر: فلرجاء النقاش فى بعض الأحيان مواقف فكرية نبيلة وجريئة يأخذ فيها جانب الحق والعدل فيدفع الشرفاء إلى الإعجاب به وبما يكتب، لكنه فى بعض الأحيان الأخرى للأسف يتخذ من المواقف ما لا ينسجم أو يتسق مع حق أو عدل.
    ومن المواقف الأخيرة ما كتبه قبل عدة سنوات دفاعا عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" محاولا أن يجعل من فسيخ تلك الرواية شربات، ومن خرائها عطرا فوّاحًا تَلَذّه الأنوف وتنتشى منه النفوس، إذ ادعى أن الرواية المنتنة التى يدعو صاحبها الفتاة العربية المسلمة، بكل ما يملكه من خبثٍ إبليسى وشرٍّ شيوعىٍّ مَرِيدٍ، إلى التمرد على تقاليد العفة ومكارم الأخلاق الإسلامية والرمى بنفسها وجسدها فى مستنقع الرذيلة والخنا، ويجعلها تمارس الزنا مع شيوعى كافر سافل أنانى ساقط يستغل براءتها وغرارتها وغياب أسرتها عن البيت ويظل طول الليل يجامعها فى منزل أسرتها الخالى، ادعى أن هذه الرواية تدور حول قصة حب رقيقة مرفرفة! الله أكبر! ولا أدرى كيف استطاع أن يجد فى نفسه تلك الجرأة التى تقلب الباطل حقا، والحق باطلا دون أية مبالاة بالقراء الذين اطلعوا على الرواية وأدركوا حقيقة العفن بل القىء الخلقى والفنى الذى يلوث كل صفحاتها، وكذلك دون أى اعتبار لقيم الإسلام الكريمة التى ينافح عنها فى بعض الأحايين ويقف حائلا دون ما يريد أهل القلوب المريضة أن يلطخوا به وجهها. ألا إن هذا لأمر غريب! ومثل ذلك مدحه بل تمجيده لرواية "العار" لتسليمة نسرين البنت البنجالية المفعوصة التى هاجمت الإسلام والمسلمين فى روايتها وزعمت بشأنهما الأكاذيب الحاقدة ولم تدع شيئا يلطخهما إلا انتهجته ببجاحة وكذب ما بعدهما بجاحة أو كذب، وانحازت تماما إلى الهندوس المتعصبين وصوّرتهم ملائكة أطهارا ينكِّل بهم ويغتصب فتياتهم المسلمون المتوحشون، فجاء رجاء النقاش وأطرى الرواية وصاحبتها أيما إطراء زاعما أنها إنما تدافع عن قيم الإسلام الحقيقية!
    ومن مواقف الأستاذ النقاش الكريمة تلك المقالات التى كتبها ردا على لويس عوض وأشباهه ممن ظنوا أن بمستطاعهم اجتيال المصريين عن نسبهم الثقافى العربى الذى خلعه عليهم الإسلام العظيم وشاركهم فيه إخوان الوطن من الأقباط الشرفاء الذين لم يجدوا فى دين محمد ما يؤذيهم فى كرامتهم أو يحرمهم من حرية المعتقد والتدين فدخلوا فيما دخل فيه إخوانهم المصريون المسلمون من اللسان العربى والأدب العربى والفكر العربى، ولم يجدوا فى شىء من ذلك ما يتعارض مع تمسكهم بدينهم وعباداتهم وشرائعهم. ذلك أن لويس عوض قد هبّ فى السبعينات من القرن المنصرم لظنه أن الوقت قد حان كى يتقايأ ما فى بطنه من سخائم ضد العرب والعروبة والإسلام زاعما أن مصر لا علاقة لها بالعروبة وأن المصريين ليسوا عربا، وأنه ليست هناك عروبة بأى معنى من المعانى، بل هى أوهام لا ترتبط بالواقع أى ارتباط. ومعروف أن هذا أسلوب من الكتابة يعتمد على التقدم خطوة خطوة، حتى إذا تمت الخطوة الأولى تبعتها مقدمات الخطوة التالية ثم الخطوة التالية ذاتها... وهكذا دواليك حتى يتم المراد النهائى، وهو قطع الوشائج تماما ما بين مصر والإسلام. هذه هى الغاية الأخيرة للويس عوض وأشباهه.
    ويجد القارئ تلك المقالات الممتعة التى رد بها رجاء النقاش على لويس عوض فى كتابه: "الانعزاليون فى مصر"، وكان قد كتبها فى السبعينات فى مجلة "المصور" المصرية، ثم جمعها فيما بَعْد فى الكتاب السابق. وهى مقالات ممتعة أسلوبا ومنهجا وقوة حجة ومقدرة على تعرية السفاهات والتفاهات والضحالات الفكرية التى انتحاها لويس عوض فى الهجوم على العروبة تطرُّقًا للهجوم بعدها على الإسلام ذاته حين يؤون الأوان، وكل وقت وله أذان!
    ولا يكاد الإنسان يختلف مع مقالات الأستاذ النقاش فى شىء، اللهم إلا فى إبرازه للعروبة وتأخيره الإسلام إلى الصف الثانى مع أن العروبة لا معنى لها بل ما كان ليكون لها وجود أصلا فى مصر وخارج الجزيرة العربية بوجه عام لولا الإسلام، وإلا تكرُّر وصفه للويس عوض بالكاتب الكبير، وإن كنت أرى أنه قد يكون لجأ إلى هذا كى يمرر كلامه دون أن يحدث ضجة أو يستفز أحدا من الموالين للويس. فإن كان الأمر كذلك فلا بأس، وإلا فليس لويس عوض عندنا ولا عند أحد من المحققين بالكاتب الكبير، وإلا فعلى اللغة العفاء! ورحم الله الأستاذ محمود شاكر، الذى مسح بما كتبه لويس عوض الأرض ذهوبا وجيئة، وجيئة وذهوبا حتى اتسخت ملابسه وضاعت معالم وجهه من السحل والتمريغ على الأرض وأصبحت بلون التراب، بل أصبحت هى التراب ذاته، وتكأكأ المارة يستطلعون طِلْعَ الأمر، ووقتها كان الذى لا يشترى يتفرج! وصح أن يُضْرَب به المثل فيقال: "بهدلة ولا بهدلة شاكر للويس"!
    أما ما كان الدكتور لويس يعتقده فى نفسه من أنه لا أحد يمكن أن يرتفع إلى قامته السامقة بحيث يكون نِدًّا له سبحانه (انظر نسيم مجلى/ لويس عوض ومعاركه الأدبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 19/ هــ 2)، فكل إنسان حر فى أن يرى فى نفسه ما يحلو له، فالكلام (كما يقول العوام) ليس عليه جمرك! وكذلك ليس على يوسف إدريس من حرج فى أن يقول فى مقال له بجريدة "الأهرام" بتاريخ 20 نوفمبر 1989م: "إن الدكتور لويس عوض واحد من أعظم مفكرينا العرب فى كل التاريخ العربى"، إذ ما علاقة يوسف إدريس بالفكر؟ ومن فوّضه للحكم على المفكرين؟ وإنما هو كاتب قصة قصيرة بأسلوب فيه ركاكة ملحوظة يُحْسِن حينا ويسىء أحيانا، ولا على الأستاذ نسيم مجلى أن يقول عنه بدوره إنه "معلم من طراز نادر"، وإن صيته قد ذاع حتى تعدى المنطقة العربية "إلى آفاق عالمية فى الشرق والغرب" (المرجع السابق/ 15)، لأن العبرة بالحقائق لا بالأوهام كما سوف يرى القارئ بنفسه من خلال هذه الدراسة التى يطالعها الآن، وإلا فكما هو معروف ليس هناك قانون يمنع أى إنسان من أن يقول ما يشاء فيمن يشاء لمن يشاء، وفى أى وقت يشاء، وبالطريقة التى يشاء.
    لكن الأستاذ النقاش، كما عودنا على اتخاذ مثل تلك المواقف والآراء النبيلة الكريمة والمنافحة عنها، عودنا أيضا بين الحين والحين على اتخاذ أوضاع أخرى. فمثلا حين هبّ بعض الأساتذة للرد على ما فى كتاب لويس عوض الذى بين يدينا عن العرب ولغتهم من أباطيل وترهات وأحقاد خبيثة، وقف فى وجههم طالبا منهم أن يجادلوه بهدوء، وكأنهم كانوا يمسكون بخناقه ويمزقون ملابسه ويضربونه بالنبابيت ويصيحون فى الجو صيحات منكرة، مع أن كلام لويس عوض لا يصلح معه إلا الفضح والتعرية والتنبيه إلى ما لجأ إليه فى كتابه هذا الضحل من بهلوانيات لا تليق بالعلم ولا بأهله وكذلك إلى ما يستكن فى قلبه من تعصب ممقوت ضد الإسلام والقرآن على ما سوف يأتى بيانه. وكان أحرى بالأستاذ رجاء، بدلا من ذلك، أن يرد هو أيضا على هذه الزُّيُوف السمجة التى صدع بها لويس عوض أدمغتنا وفلق بها هامة البحث العلمى وهام بها فى بيداء الأوهام العجيبة التى يتبرأ منها كل منطق وكل منهج من مناهج الفكر والكتابة. صحيح أنه، فى الكتاب الذى كنا بصدد الحديث عنه قبل قليل، قد سبق أن رد عليه كلامه الفِجّ عن العروبة، بَيْدَ أن ما قاله لويس فى ذلك الحين عن العروبة لا يعد شيئا بإزاء ما ورد فى كتابه الجديد عن العربية وأهلها وعن كتاب الله المجيد. إنه فى هذا الكتاب قد طلق العقل والمنطق والعلم والتفكير المنهجى السليم بالثلاثة واستبله غاية الاستبلاه، أو كما نقول فى اللغة العامية: "ساق الهبل على الشيطنة" وتدهدى فى البحث العلمى وبالبحث العلمى إلى هوة سحيقة القرار!
    ويتلخص كتاب الدكتور لويس عوض فى أن العرب أمة حديثة عهد بالوجود على صفحة التاريخ، وأنهم لا ينتمون إلى هذه المنطقة، بل هم مجرد قبائل رُحَّل انتقلت من بلاد القوقاز فى الزمان القديم إلى ما يسمَّى بــ"الجزيرة العربية"، وأن لغتهم لغةٌ بزرميط لا شخصية لها، فضلا عن أن يكون لها أية ميزة على غيرها من اللغات، وأن العامية المصرية هى لغة مستقلة عن العربية الفصحى لا تربطها بها صلة إلا كما ترتبط أى لغتين مستقلتين تأخذان من مصدر واحد فى بعض الأحيان، فضلا عن عبثه الشيطانى بلغة القرآن المجيد، وكذلك المزاعم الجاهلة الحاقدة بشأنه... إلخ.
    *****
    وكنت، أثناء قراءتى ما خطته يد لويس عوض فى كتابه الذى بين يدىّ، أجد كلاما لا وشيجة تَشِجه بالعقل ولا بالمنطق ولا بمنهج العلم، كلاما لو أن إنسانا توخى توخيًا أن يكون كلامه فى الغاية من التهافت والتنافر ومدابرة الفهم والفقه ما استطاع أن يصل إلى ذلك القرار السحيق! هذا ليس بكلام البشر، إنما هو كلام الشياطين! والعجيب، كما سمعت، أن ينبرى بعض من لا لهم فى العير ولا فى النفير فيمدحوا لويس عوض ويلقبوه بـ"ابن منظور القبطى"، وكأن ابن منظور كان عَيِّلاً يلعب فى الشارع حتى يشبَّه به كل من هب ودب! وكأن المسالة مناقرة، فإذا كان هناك ابنُ منظورٍ مسلمٌ فلا بد أن يكون هناك بإزائه ابنُ منظورٍ قبطىٌّ، ولا أحد أحسن من أحد. كذلك لم يكن ابن منظور يعدو قدره ولا يتدخل فيما لا يحسن ولا يطجّن فى كتاباته، بل يلتزم بما يعلم أنه يصلح له، ويحترم عقل نفسه وعقل القارئ معه. أما لويس عوض فهو ليس عالما لغويا ولا علاقة له بلسان العرب سوى أنه يكتب به، وإن لم يكن من المبرّزين فيه، بل أسلوبه مما يحسنه أى أحد، أما أن يكون قد درس لغة القرآن وعرف تاريخها وعلومها فلا. إنما هو متخصص فى جانب من جوانب الأدب الإنجليزى، فدراسته إذن لا تؤهله للخوض فى ذلك الموضوع، كما أن قراءاته فى الموضوع ضحلة ويتبين منها بكل وضوح أنها قراءات سطحية وأنه لم ينتفع بشىء منها، فضلا عن أن الأسلوب الذى اتبعه فى تأليف كتابه ذاك هو أسلوب مضحك غاية الإضحاك، إذ ما على الإنسان الذى يريد أن يكتب بنفس الطريقة إلا أن يخلّف عقله خارج الغرفة التى يكتب فيها ويغلق الباب بينه وبين ذلك العقل بالضبة والمفتاح ثم يقيم عليه حرّاسا شدادا غلاظا حتى لا يُقِلّ "عَقْلَه" ويعود فيقتحم الغرفة عليه!
    ثم إن ابن منظور كان عالما يعرف كيف يحترم العلم وكيف يزن كلامه بميزان العقل، ولم يكن يقول كلاما متفلتا آتيا من وراء أسوار الفهم. كما أن ابن منظور قد خدم العربية وبذل فى تلك الخدمة غاية ما فى وسعه، وكان يغار على القرآن وعلى لغة القرآن وينافح عنهما بكل قواه، أما لويس عوض فقد شمر منذ البداية وفى نيته، كما يتوهم، أن يضرب لغة القرآن ضربة قاضية لا تبقى على شىء فيها ولا تذر! وهو بهذا إنما ينفذ مخططا كان قد بدأه فى الأربعينات حين وضع ما يسمى: "ديوان بلوتولاند" العامى السخيف بغية كسر بلاغة اللغة العربية (كسر الله رقبة كل من يفكر فى كسر رقبة بلاغتها!) والاستعاضة عنها بالعامية اليومية كى يأتى اليوم الذى نستيقظ فيه فنجد أن ثمة سورا ضخما عاليا يقوم بيننا وبين تراثنا وكتاب ربنا! فما لابن منظور إذن وما لا بن عوض؟ أما قول هؤلاء البعض عن لويس عوض: "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فليس أمامى إلا أن أقول وكلى أسف وحزن: "عليه العوض، ومنه العوض!". إنه لا يعرف شيئا عن التمر هندى كما تقول العامية التى يريد أن يزيح اللغة الفصحى (لغة القرآن الكريم) ليُحِلّها محلها كخطوة أولى نحو إعادة عقارب الساعة مئات السنين إلى "الخَلْف دُرْ" وإحياء القبطية والقضاء على الإسلام! فأل الله ولا فألكم يا بُعَداء!
    كذلك لا يعرف لويس عوض تلك اللغات الكثيرة التى يكرر ذكرها فى كتابه العجيب الخالى من كل علم ومن أى منهج سوى طريقة البهلوانات، إن صح تسمية ما يأتيه البهلوانات: "منهجا"، وذلك على عكس (بل على رغم) ما يزعمه بعض من يتحمسون له، إذ يحاول هؤلاء أن يلقوا فى رُوع القارئ المسكين أن الدكتور لويس كان يعرف كل اللغات التى وردت فى كتابه من سريانية وحبشية وآرامية وعبرية وأكادية ونبطية وسنسكريتية وفارسية ومصرية قديمة وأرمنية وإيطالية وألمانية ويونانية وإسبانية وهولندية وسويدية ودانماركية وقوطية وأنجلوسكسونية وغيرها من اللغات التى تكررت الإشارة إليها عنده قائلين إن معرفته بلغات كثيرة قد أفادت بحثه ذاك، مع أن الرجل لم يكن يعرف سوى الإنجليزية، وهى تخصصه، والفرنسية فيما أظن، وربما اللاتينية إلى حد ما على أساس أنه درسها على هامش تخصصه فى اللغة الإنجليزية. أما الإيطالية، التى أذكر أنه أشار إلى إقباله على تعلمها فلا أحسبه أتقنها، وإلا لظهر أثر ذلك فى كتاباته ومراجعه.
    وإذا كان الأستاذ شاكر قد هتك عواره فى الإنجليزية ذاتها، فما بالنا بالفرنسية، التى لا أستطيع أن أتذكر أنه ترجم منها شيئا إلى العربية؟ ودعنا من اللاتينية التى لا أظنه كان يعرف منها إلا ما كنا نعرفه نحن من الفارسية أو العبرية حين كنا ندرسها كلغة شرقية فى الجامعة. وكثير منا نحن المهتمين بتعلم اللغات الأجنبية قد يتعلم منها لغة أو أكثر غير تلك اللغات التى يتقنها، لكنه لأمر أو لآخر لا يواصل تعلمها إلى المدى الذى يتقنها فيه كما حدث لى حين تعلمت الألمانية والفارسية فى أوائل ثمانينات القرن الماضى وقطعت فيهما شوطا لا بأس به، وبخاصة فى الألمانية التى كنت أقرأ بعض ترجمات القرآن بها، ثم لم تساعدنى ظروفى على المضى فيهما إلى آخر الشوط فنسيت ما كنت تعلمته منهما للأسف الشديد.
    ولعل سائلا يسأل: فكيف كان الدكتور لويس يفتى فى أمر كل تلك اللغات المشار إليها؟ والجواب من أبسط وأسهل ما يمكن، فقد وضع الرجل أمامه كتابين أو ثلاثة لبعض علماء اللغة الأوربيين وأخذ ينقل منها بطريقة تُوهِم من ليست عنده خبرة فى التعامل مع لويس عوض وأمثاله أنه كان يتقن كل تلك اللغات، على حين أنه لم يكن يدرى عنها شيئا البتة! وعلى أية حال فلا يوجد فى مراجعه التى قلما يذكرها إلا بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية. فهذه المبالغة إذن لا تستحق الالتفات، ذلك أن المقارنات التى يجريها فى الجذور وما إليها هى، كما أوضحنا، من عمل بعض اللغويين الأوربيين (مثل كونى وهرمان مولر وبوزواك) لا من عمله، وإن حاول أن يضيف هنا أو ها هنا من لدنه شيئا سخيفا ضحلا كالعادة. وأرجو من القراء أن يرجعوا إلى ص 168، 171- 175، 192- 197، 232 مثلا. وعلى هذا لا ينبغى أن نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه.
    هذا، ولعله من الضرورى هنا أن أكرر ما قلته آنفا من أن للويس عوض بعض الإضافات الماسخة إلى ما ينقله "بالويبة" عن كُونِى فى المقام الأول وعن مُولَر فى المقام الثانى، ألا وهى تعليقاته الجاهلة عن اشتقاق هذه اللفظة العربية أو تلك، من تلك اللفظة الأجنبية أو هذه، مما لا يجرى فيه على منطق أو منهج أو علم، إذ هو أقرب إلى الهلاوس التى لا يُلْتَفَت إليها فى ميدان العلم إلا على سبيل التندر والسخرية والترفيه عن النفس وإضحاك القراء! وأيا ما يكن الأمر فليست العبرة فى معرفة اللغات وحدها، بل العبرة كل العبرة فى العلم الواسع والعميق بالموضوع المراد درسه، وبسلامة المنهج، والإخلاص فى العمل، والاجتهاد الذكى، والدُّؤُوب فى السعى وراء الحق، وتوخِّى أكبر قدر ممكن من الموضوعية، وهو ما لم يستطع لويس عوض الوفاء ولو بواحد على الألف منه! وعلى هذا فتشبيه لويس عوض بكبار الباحثين اللغويين العرب، فضلا عن الزعم بأن ما كتبه هؤلاء العلماء الأعلام إنْ هو إلا تمهيد لكتاب لويس عوض السطحى الذى بين أيدينا كما فعل حامد الظالمي فى مقاله: "لويس عوض ومنجزه في فقه اللغة العربية" بموقع "läs på arabiska"، لا يمكن أن يأخذ به باحث جاد، فليست الأمور بالمزاعم والأمنيات، بل بالحقائق والإنجازات، وإلا لصدقنا العبارة التالية، وهيهات، إذ لا أحسب الأمور قد فسدت فى الوسط العلمى إلى الحد الذى يقبل عاقل أن يسمع، فضلا عن أن يوافق على قول من يقول إن "الكتب المؤلفة في فقه اللغة كثيرة جدا ولكنها غير مثيرة، فهي باعتقادي مقدمات لكتاب لويس عوض، فهي كتب تتناول تعريف فقه اللغة وكيفية دراسته ولم تدخل في صلب هذا العلم الذي دخله الدكتور لويس عوض في كتابه ذاك على الرغم من عدة ملاحظات عليه. فكُتُب فقه اللغة العربية تُعَدّ بالعشرات بدأها في الأربعينات الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه: "فقه اللغة"، وبعده كتاب الدكتور صبحي الصالح: "دراسات في فقه اللغة" وكاصد الزيدي وحاتم الضامن، فضلا على الدكتور تمام حسان والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور إبراهيم أنيس والدكتور رمضان عبد التواب والدكتور عبده الراجحي والدكتور إبراهيم السامرائي وغيرهم، وكذلك دراسات المستشرقين في هذا العلم ككتاب "فقه اللغة" للمستشرق كارل بروكلمان وإسرائيل ولفنسون ونولدكه ورابين وغيرهم، ولكن كتاب"مقدمة في فقه اللغة العربية" يُعَدّ دراسة متعمقة في موضوع الأصول اللغوية والتاريخية والأنثربولوجية للشعوب العربية وما جاورها، وان كان الخلاف فيه كبيرا".
    ولسوف يتبين للقارئ فى خلال هذا البحث أن ما كتبه الدكتور لويس عوض لا يدخل فى باب العلم إلا على سبيل الهزل والمعابثة، إن لم نقل: على سبيل المكايدة! بيد أن لسبيل العلم وجهتها، ولسبيل المعابثة والمكايدة وجهتها، وهما وجهتان لا تلتقيان أبدا ولا تتسقان! الحق أن هذه أضغاث أحلام، وما نحن عن أضغاث الأحلام ولا عن أصحاب أضغاث الأحلام بمسؤولين! ولقد كان لويس عوض يعيش فى الأوهام بالنسبة إلى ما يصنع، إذ كان يتوهم أنه رائد فى كل شىء ويحب أن يعيش فى هذا الوهم لا يفارقه. فمثلا نراه يؤكد فى حديث له مع نبيل فرج فى مجلة "الثقافة" فى يونيه 1990م تحت عنوان "غيبة العقل عطلت فكرنا وجمدت نهضتنا" أنه هو الذى أرسى قواعد المنهج التاريخى فى النقد، أى دراسة الأعمال الأدبية بوصفها نتاجا للبيئة التى أفرزته، مع أن النقاد عندنا يعرفون هذا المنهج منذ زمن طويل. فطه حسين مثلا، حين كتب رسالته الأولى فى الجامعة المصرية عن أبى العلاء، قد اصطنع هذا المنهج، وكان ذلك فى أوائل القرن، وكان موقفه منه وفهمه له فى منتهى الوضوح، ولا يقاس العَكّ الأزلى الذى صنعه لويس عوض بما فعله طه حسين، فضلا عن أسلوب طه الجميل العذب الذى لا يستطيع لويس منه ولا عشر معشاره! ولم يكتف عالمنا العلامة الفهامة بالريادة المضروبة فى مجال النقد التاريخى أو الاجتماعى، بل عطف على الشعر التفعيلى، وكذلك الالتزام فى الأدب، ولا أدرى ماذا أيضا، وأبى إلا أن يكون رائدا فى كل ذلك أيضا، متصورا أننا بلهاء بحيث نصدق ذلك السُّحْت ونعد السُّخْف التى حبر بها كتابه: "بلوتولاند" شعرا. ولم لا، والأمر لا يستلزم إلا أن يزعم هو ذلك، والمزاعم بحمد الله لا تنقصه ولا الجراءة فى الباطل، فضلاً عن أنه عريض الصوت طويل الكلام عالى الصياح؟ وكله كوم، وحواريوه كوم آخر، فكل منهم يقول عنه: "أستاذى"، بل سماه أحدهم، فيما قرأت، بـ"ابن منظور القبطى"، مع أن الرجل جاهل بلسان ابن منظور جهلا فاحشا مخجلا. فإذا كان هذا هو حال الأستاذ، فكيف يا ترى يكون حال التلامذة النجباء؟
    إن لويس عوض يتفاخر بأنه لا يهتم بدراسة النحو والصرف وأنه استقى معرفته بالأسلوب من قراءة النصوص الراقية. والسؤال هو: أَوَيُمْكِن أن يقدم رجل مثله لم يتقن المعرفة بقواعد اللغة العربية على التعرض لأصول هذه اللغة وتاريخها على مدى آلاف السنين بالفتيا والتشخيص وكأنه طبيبٌ نِطَاسىّ؟ إن هذه، والحق يقال، لجرأة لم يقابلنى فى حياتى مثيل لها! لقد كتب الشيخ حسين المرصفى مثلا أن الشاعر محمود سامى البارودى قد بلغ ما بلغ من إتقان لتراكيب الكلام العربى دون أن يدرس الآجرومية، فاستغربت ذلك القول منه أشد الاستغراب، وعلّقت بأن الأمر لا يمكن أن يكون على ما قاله الشيخ الجليل رغم توضيحه، رحمه الله، لذلك بقوله إن البارودى كان ينصت إلى العالمِين بالشعر واللغة وهم يقرأون ما يقرأون من قصائد، أو يقرأ هو عليهم ما يعجبه من شعر فيصححونه له، وظل الأمر على هذا النحو حتى اكتسب سليقة اللغة. ومضيت فى استغرابى ودهشتى غير مصدق لما قاله للأسباب التى بسطتها فى الفصل الأول من كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" رغم أخذ معظم من ترجموا للبارودى به... إلى أن اطلعت على ترجمة الدكتور على الحديدى للشاعر فى سلسلة "أعلام العرب" فإذا بربّ السيف والقلم قد درس النحو والصرف دراسة رسمية لا مرة واحدة بل مرتين: مرة فى المدرسة وهو صبى صغير قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية ليكون ضابطا فيعيد دراسة النحو والصرف فيها مرة أخرى، فحمدت الله أن شكوكى كانت فى مكانها ولم تَطِشْ لأنها من مقتضيات العقل والمنطق. ثم إن البارودى قد عكف على الشعر العربى فى عصوره المزدهرة وأخذه مشافهة على يد كبار العلماء بذلك الشعر وحفظ كثيرا من نماذجه الرفيعة، ولم يتقممه من هنا وههنا ولم يقل فى بيت المعرى المشهور عن حلب (مثلما قال بعضهم لأنهم لا يقرأون ولأنهم يعتمدون منهج البهلوانات فى الفكر والأدب): "الصُّلْبَان" بدل "الصِّلِّيَان" كى يثبتوا لدين طائفتهم دورا لم يكن له، فى الوقت الذى يتظاهرون فيه مَيْنًا وزُورًا بأنهم علمانيون لا يعنيهم الدين فى قليل ولا كثير! فهذا ما يجعلنى أستغرب أشد الاستغراب اقتحام لويس عوض ميدان فقه اللغة العربية بغُشْمٍ منه وخُرْق لا يليقان بأهل العلم!
    لقد سأله نبيل فرج، فى حديث له معه فى جريدة "الصياد" اللبنانية فى 31 ديسمبر 1982م عنوانه: "تطوير اللغة العربية"، عن كتابه هذا قائلا: "ألا ترى أنه قد يثير الدهشة أن تضرب بسهم قوى فى اللغة العربية، بينما دراستك العلمية المتخصصة هى الإنجليزية؟"، فكان جوابه أنه ما دام يكتب بالعربية ويقرأ بالعربية ويتكلم بالعربية ويدرس التراث العربى فمن حقه أن يدرس الشعراء العرب ويكتب عنهم ويخوض فى فقه اللغة العربية! وهو جواب عجيب، وإلا فالذين يقرأون ويتكلمون ويكتبون بالعربية أكثر من الهم على القلب، وليس هذا مسوغا لهم أن يصنعوا ما يصنع لويس عوض. وهو يقول إنه قرأ التراث العربى، فهل هذا صحيح؟ ربما قرأ فيه شذرات، لكنه لم يفهم هذه الشذرات الفهم اللائق، ولا هو مخلص كى نطمئن إلى حسن تأتيه لما يتناوله. ودَعْكَ من أنه لا يحسن استعمال المنهج العلمى فى هذا الميدان كما سوف نرى. وبمناسبة "السهم القوى" الذى ضرب به فى اللغة العربية حسب تعبير نبيل فرج، فإنى لا أفهمه على أن المراد به المساهمة بنصيب فى دراسة تلك اللغة، بل على أن المراد هو تصويب سهم سامٍّ إليها، لكن دون أن يوفقه الله طبعا إلى تحقيق ما فى نيته، إذ قيض الله له من يفضح زيفه وخبطه.
    *****
    والآن إلى استعراض ما جاء فى كتاب عبقريّنا، ونبدأ بشبهته التى يقول فيها إن أول ظهور للعرب على مسرح التاريخ في الشرق الاوسط قد ورد في نص لشالمانصر الثالث ملك آشور (859- 824 قبل الميلاد) محفوظ فى مكتبة آشور بانيبال ملك الآشوريين (669- 630 قبل الميلاد) يتضمن إشارة الى ملكات العرب (Queens of Aribi). وفى هذا السياق نراه يؤمّن على ما قرأه من أن المرأة في المراحل المبكرة من تاريخ العرب كانت هي رأس القبيلة بدلالة هذا النص، بالإضافة إلى أن أشهر القبائل العربية تحمل أسماء مؤنثة مثل أُمَيّة وربيعة وكِنْدة ومُرّة (ص 30). هذا ما كتبه لويس عوض، لكن من أين نقل هذا الكلام؟ للأسف لم يذكر لنا شيئا عن مصدره، وإن كانت الإشارة إلى شالمنصر ونَصّه موجودة فى الفصل الأول من كتاب الدكتور جواد على: "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" بعنوان: "تحديد لفظة عرب"، وهو ما يجعلنى أرجح أن الدكتور لويس قد أخذها من العالم العراقى الكبير، إلا أن جواد على لم يتطرق إلى ذكر ملكات العرب ولا إلى النظام الأموى الذى ذكر لويس عوض أن العلماء يقولون بمعرفة العرب له فى فترة من فترات تاريخهم.
    وإلى القارئ ما ورد عند الدكتور جواد: "أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تاريخ الكلمة (يقصد كلمة "عرب")، وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا أن أقدم نصّ وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني؟" ملك آشور. وقد تبين لهم أن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعًا للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب"، وكانت صلاته سيئة بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع صَعُبَ على العلماء ضبط الكلمة فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و"Arubu" و"Aribu" و"Arub" و"Arai" و"Urbi" و"Arbi" إلى غير ذلك من قراءات. والظاهر أن صيغة "Urabi" كانت من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن أنها استعملت في زمن متأخر، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يُقْصَد من كلمي "عُربي" و "أعربي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزًا لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية".
    إلا أن ثمة كلاما آخر فى ذات الكتاب (فى الفصل الرابع عشر منه) عن نص آخر أكادى ورد فيه ذكر العرب قبل الميلاد بأكثر من ألفين من السنين لم يتنبه له الدكتور لويس (أو لعل الأَوْلَى أن نقول إنه تجاهله)، وفيه يقول العالم العراقى: "ولعل خبر نرام- سن/ نرام – سين (Naram-sin) الأكادي (2270-2223 ق.م) عن استيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب (Aribu/ Arabu) هو أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق. وهو خبر ينبئك بأن عرب أيام نرام- سن كانوا في تلك المنازل قبل أيامه بالطبع، وهي منازل كوّنوا فيها "مشيخات" و"إمارات" مثل إمارة الحيرة الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد". وهناك عدة أسئلة نضعها إزاء ما هرف به "أستاذنا الدكتور لويس عوض" عن أصل العرب القوقازى فنقول: أليس غريبا أنه لا العرب ولا القوقازيون يعترفون بشىء من هذا الذى يقوله لويس عوض أو يذكرونه؟ ولقد فتح العرب بلاد القوقاز ودخل أهلها الإسلام، ولو كان هناك نسب مشترك لكانت فرصة لاستعادة الروابط القديمة. لكننا ننظر فلا نجد شيئا من ذلك البتة. بل أين فى تاريخ بلاد القوقاز ما يدل على أن هجرات قوقازية قد انطلقت فى ذلك التاريخ ووصلت لجزيرة العرب؟ (ص 126 مثلا). ولماذا لم يحتفظ القوقازيون بذكريات الأجداد الذين هاجروا إلى بلاد العرب؟ وأين فى تراث العرب ما يدل على أصلهم القوقازى سواء فى الروايات التاريخية أو الأساطير أو الدين أو الجغرافيا أو العادات والتقاليد أو حتى الأسماء: أسماء الأشخاص أو أسماء المواضع؟ ولماذا أخفى العرب أصلهم القوقازى ولم يفتخروا به كما تفعل الأمم؟ ثم أين ذهب سكان جزيرة العرب الذين حل محلهم القوقازيون إذا كانوا قد أزاحوهم وأجلوهم عن ديارهم؟ أو لماذا سكتوا إذا كانوا لم يجلوهم بل شاركوهم تلك البلاد؟ هل يمكن أن يكونوا قد تقبلوهم برحابة صدر وأريحية وكرم نفس فلم تثر بين القادمين وأصحاب البلاد الأصلاء أية منازعات أو خلافات؟ لكن هل هذا مما يقع فى حياة البشر؟
    كذلك أين ملامح العرب من ملامح القوقازيين؟ أين فى الملامح العربية العيون الضيقة المسحوبة والبشرة الصفراء والشعر الناعم الغزير الفاحم والوجود الناتئة العظام التى تشبه المجانّ المطرَّقة كما جاء فى حديث رسول الله، وبخاصة أن العرب فى جزيرتهم كانوا شبه منعزلين عن الدنيا بحيث لا يختلطون بأحد إلا لماما وبحيث كان كل منهم يعرف نسبه إلى أبعد جد، أو على الأقل: يحرص على ذلك، بما يدل على أنهم كانوا من أنقى شعوب الأرض دما وبما كان جديرا أن يجعلهم يحتفظون بملامحهم القوقازية لو كانوا فعلا قوقازيين كما يزعم لويس عوض؟ لقد وصف كاتب مادة "Arabs" فى "Encyclopaedia of the Orient" ملامح وجوه العرب قائلا إنهم فى الغالب ذوو شعر داكن وعينين بنيتين وبشرة لا فاتحة ولا غامقة بل بين بين، وإن لم يمنع هذا أن يكون من بينهم ذو شعر أسود أو أشقر نظرا لما حدث من اختلاط بغيرهم من الشعوب: "Ethnically, Arabs are mostly dark haired with brown eyes, and medium light skin. But there are Arabs that are black, and Arabs that are quite blond. These differences are regional, and a result of the process described above."، فأين هذه الملامح من ملامح أهل القوقاز؟
    ثم لماذا سكت الشعوبيون، وبالذات الفرس الذين مرت عبر بلادهم الحشود القوقازية إلى بلاد العرب، وهم الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة مما يمكن أن يعيبوهم به إلا ولوّحوا بها فى وجوههم وشهروا بهم بسببها فى العالمين؟ ومن أين أتاهم اسم العرب؟ ولقد تكلم العهد القديم عن العرب منذ وقت طويل قبل التاريخ الذى حدده لويس عوض، وإن كان سماهم: "الإسماعيليين" بما يدل على أن العرب ينتمون فعلا إلى إسماعيل وإبراهيم، على الأقل فى قسم كبير منهم؟ ومن هنا فزعم لويس عوض بأن العرب لم يُعْرَفوا فى التاريخ باسم "العرب" إلا قبل الميلاد بألف عام على أبعد تقدير (ص 45) ليس معناه أنهم لم يكونوا موجودين قبل هذا بل قد يكون معناه، إن صح كلامه، وهو غير صحيح، أنهم كانوا يُسَمَّوْن شيئا آخر قبل ذلك. وهو نفسه قد قال إن الهجرات إما أن تذوب فى سكان البلاد الأصليين أو تزيحهم وتحل محلهم (ص 300)، فأين هذا أو ذاك فى حالة العرب والجزيرة العربية؟ لقد كانت مصر مثلا تُعْرَف قديما بــ"خيمى"، ثم بعد ذلك بـــ"إيجبتوس"، ثم عُرِفَتْ على عهد عبد الناصر بالإقليم الجنوبى من الجمهورية العربية المتحدة، لكن الجميع يتكلمون عنها الآن على أساس أنها كانت طوال تاريخها "مصر" منذ أن كانت حتى وقتنا هذا. وبالمثل كان هناك الشام، ثم أصبحت هناك سوريا والأردن وفلسطين بدلا منه. كما اختفت أسماء النبط والكنعانيين والأشوريين والكلدانيين والفينيقيين، وظهر بدلا من ذلك الأردنيون والسوريون واللبنانيون والعراقيون. ومثلهم فى هذا السبئيون والمعينيون والقتبانيون، الذين ظهر بدلا من أسمائهم القديمة أسماء العمانيين والحضرميين واليمنيين. وكذلك هناك الآن أسماء الإماراتيين والقطريين والبحرينيين والكويتيين، ولم تكن موجودة من قبل، ولم يقل أحد إنه قد جدت على تلك المناطق شعوب أخرى وبادت الشعوب السابقة. وهذا كله لو كان كلام الدكتور لويس عوض صحيحا، فما بالنا لو كان غير صحيح؟
    كذلك فكلامه عن العماليق معناه أن الجزيرة كان يسكنها ناس قبل القوقازيين وأن هؤلاء هم العرب أو أصل العرب. وفى الأحاديث النبوية إشارات متعددة إلى أن أبا العرب هو إبراهيم، وفى القرآن إشارة إلى ذلك فى سورة "الحج". وكان العرب يؤمنون بأن أباهم خليل الله، فلماذا يتنكرون لأصلهم القوقازى وينتسبون إلى جد اليهود ذاك، وهم لم يكونوا يحترمون اليهود ولا يرضَوْن أخلاقهم؟ ولماذا وافقهم اليهود على ذلك وجعلوهم أبناء إسماعيل وسَمَّوْهم: "الإسماعيليين" وسجلوا كل هذا فى كتابهم المقدس؟ هل نكذّب هذا كله؟
    ثم أين فى تراث البلاد التى مر بها القوقازيون حتى استقروا فى جزيرة العرب ما يدل على أن عشرات الآلاف قد مرت ببلادهم عابرة إلى الجزيرة؟ وكيف ترك أصحابُ تلك البلاد القوقازيين يعبرون بلادهم بهذه البساطة وكأنها باب بلا بواب؟ إن هذا لا يحدث إلا إذا كان العابرون من القوة بحيث يكون لهم جيش ودولة. وفى هذه الحالة فإنهم لا يخترقون بلدا مجاورا أو قريبا منهم كى يتركوه إلى بلد آخر، بل ليحتلوه ويستولوا على خيراته أو على الأقل يشاركون فيها، ثم قد ينطلقون ليضموا مزيدا من الأرض لسلطانهم. لكننا ننظر فى كلام لويس عوض فإذا به سخيف يدابر العقل والمنطق وقوانين التاريخ. وحتى لو لم يكن القوقازيون أهل قوة وجيوش وفتك، فكيف يا ترى لم تجذبهم تلك البلاد الخصبة المجاورة لبلادهم فيحطوا رحالهم فيها بدلا من أن يواصلوا الرحلة إلى المجهول ثم يستقروا فى نهاية المطاف فى الصحارى القاحلة المهلكة؟ ثم ما الذى كان فى دماغهم حين قاموا بتلك الرحلة المزعومة، وهم لم يكونوا بطبيعة الحال يعرفون شيئا عن بلاد العرب؟ أكانوا يتبعون مبدأ "بختك يا بو بخيت" ويتركون أنفسهم للظروف تسيّرهم كما تصنع الرياح بريشة من الريش؟ والله إن هذا أمر قد بلغ الغاية فى السخف والتفاهة؟ ثم ما الذى حببهم فى بلاد العرب وأبقاهم فيها بعد أن أخذوا خازوقا كبيرا حين لم يجدوا فيها ما يبحث عنه أمثالهم ممن يتركون بلادهم بحثا عن بلاد أرغد وأوسع رزقا؟
    لقد كان أهل القوقاز يعيشون فى منطقة رعوية كما يقول (ص 126)، فكيف تركوها وانتقلوا إلى البادية القليلة الخضرة والأعشاب؟ وكيف مروا بكل تلك البلاد التى تفصلهم عن الجزيرة؟ أكانوا جيوشا اخترقت تلك البلاد؟ فأين ذلك فى كتابات مؤرخى تلك الدول؟ أم كانت مجرد هجرات صغيرة متتابعة؟ فلم اختارت الجزيرة بالذات دون بقية تلك البلاد؟ يقول إنهم آثروا حياة البداوة على حياة الاستقرار لأنهم آتون من مناطق رعوية (ص 52، وانظر أيضا ص 126). لكنه يقولها تخمينا ويعترف بأنه من الناحية التاريخية لا يوجد ما يكشف سر هذه الهجرة المفترضة. كذلك كيف عبرت هذ الهجرات كل تلك الدول دون أن توقفها السلطات هناك؟ ولماذا بعد أن رأت جفاف الجزيرة لم تفكر فى تركها والعدول عنها إلى بلاد أخرى خضراء؟ إننا لا نعرف أنه كانت هناك هجرات كبيرة ومنظمة للجزيرة العربية، إذ إن ظروف المناخ والأوضاع الاقتصادية فيها من العوامل الطاردة لا الجاذبة، أما بعد تغير الظروف الاقتصادية فى العقود الأخيرة جَرّاء اكتشاف البترول فقد كثرت الهجرة إلى دول الخليج لرفع مستوى المعيشة، وهو ما لم يحدث من قبل. ذلك أن الهجرات إنما تتم من المناطق الفقيرة إلى المناطق الميسورة لا العكس، اللهم إلا إذا كان هناك سبب قهرى يخص مجموعة صغيرة وجدت نفسها فى مأزق يستلزم أن تغادر ديارها تجنبا لمصيبة أكبر. وعلى كل حال فهو يقول بعد كل هذا إنه ليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الهجرات القوقازية إلى الهلال الخصيب قد استمرت فى طريقها إلى جزيرة العرب (ص 55). أى أن المسألة مجرد احتمال. لكن هل من المعقول أن يترك هؤلاء الخصوبة فى بلاد الرافدين ويُؤْثِروا عليها جفاف الجزيرة وبداوة العيش وخشونته فيها؟ ومع هذا نراه يعود فيقول جازما إن العرب قد هاجروا من القوقاز إلى جزيرة العرب (ص60)، ناسيا أنه قد جعل الهجرة قبل قليل مجرد احتمال كما رأينا! كذلك ما السبب فى أن بلاد العرب لم تحمل اسم أى بلد أو مكان قوقازى كما هو المتوقع والمتبع فى هذه الحالة؟ ورغم قوله إن سكان شبه الجزيرة هم خليط من السكان الأصليين والقوقازيين الوافدين (ص 61)، فإنه يأبى إلا أن يعود فيجعلهم قوقازا أنقياء. ومن هذا كله نلمس بأيدينا لمسًا تهافت نظريته المسروقة من العلماء الأوربيين وسخف منطقه وتفاهة تفكيره ورداءة كيده!
    والمفهوم أن كل مكان على وجه الأرض كان ولا يزال مسكونا من قِبَل شعبٍ ما، ومنه الجزيرة العربية. ومعنى هذا أن العرب كانوا هناك دائما، إلا إذا ثبت أن الشعب الذى كان هناك قبل القوقازيين (بفرض صحة تلك النظرية المتهافتة تماما) قد أُبِيد أو أُجْبِر على ترك البلاد وحلوا هم محله كما هو الحال مثلا مع الهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين والفلسطينيين فى العصر الحديث، فهل هناك دليل على هذا أو ذاك؟ وعلى أية حال فمن المعروف، كما سبق القول، أن الشعب يمكن أن يكون موجودا على الدوام لكن بأسماء مختلفة كما هو الحال فى أسماء بعض الدول الأوربية فى العصر الحديث حيث تغيرت التسميات مثلا بالنسبة لروسيا التى سميت لعشرات السنين بدءا بعام 1917م بــ"الاتحاد السوفييتى" ثم عادت إلى اسم "روسيا" مرة أخرى بعد تفكك الاتحاد المذكور، وبروسيا التى أصبحت ألمانيا، ويوغوسلافيا التى تمزقت قبل فترة صغيرة من الآن وتحولت إلى عدة دول: البحر الأسود والبوسنة والهرسك وصربيا... إلخ. والعجيب الغريب أنه يحدد تاريخ الهجرات القوقازية منذ 20000 سنة (ص 128)، فلماذا يتأخر بظهور العرب إذن دون سائر نتاج الهجرات القوقازية؟ وهو نفسه يقول إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغيرت لغته (ص 158)، ونحن نقول بدورنا إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغير اسمه أو خالطته بعض الدماء الأجنبية، أى أن العرب كانوا هناك فى شبه الجزيرة منذ قديم الزمان. وإذا كان قد توافد عليهم ناس من خارجها، وهو قليل، فذلك لا يغير من الأمر شيئا.
    وهناك كاتب يهودى يحاول، على طريقة لويس عوض، أن ينكر قِدَم العرب فى التاريخ فيقول إن اسم "بلاد العرب" لا يرجع إلى أبعد من ألف سنة قبل الميلاد، بيد أنه سرعان ما يخونه لسانه فيضيف أنه إذا كنا لا نستطيع الحديث عن العرب فى العصور القديمة، فمن الممكن مع ذلك الحديثُ عن أسلافهم. وهذا ما نقصده بالضبط، إذ ليس المعوَّل على التسميات، بل على حقائق الأشياء، أما الأسماء فمعروف أنها تتغير من وقت إلى آخر. وقد ورد هذا الكلام فى مقال بعنوان: "Origin and Identity of the Arabs" يستطيع القارئ أن يجده فى موقع "www.imninalu.net". وهذا نص ما قال: "It seems that the name "Arabia" was applied to the whole peninsula only around the first century b.c.e., as defined by Diodorus of Sicily in his "Bibliotheca Historica" and by Strabo in his "Geography", yet it is rather a geographic definition, not closely related with the actual ethnicity of the inhabitants, whom they declare to be of several kinds and call them by their own tribal names. Arabs are the most recent of all Semitic peoples according to their appearance in history. In fact, it is not possible to speak about Arabs in ancient times, but only about their ancestors".
    وعلى كل فالنظرية القوقازية الخاصة بأصل العرب مأخوذة من عالم أوربى هو آرثر كيت (مقدمة فى لغة العرب/ 128، وانظر ص 156 أيضا)، وليست من بُنَيّات عقل لويس عوض كما يزعم. كما أن قوله إن أبحاثه دلته على أن اللغات البشرية ترجع فى الأصل إلى 3 لغات فقط (ص 48) هو كلام مأخوذ من العلماء الأوربيين جاهزا دون أن يكون له فضل فيه (انظر ص 118). وبالمناسبة فكل كلام أولئك العلماء هو مجرد تخمينات ينقض بعضها بعضا كما يجد القارئ بنفسه فى الفصل الثالث من الكتاب الذى بين أيدينا بدءا من ص 116، وكما نرى أيضا فى الفصل السادس من المجلد الأول من كتاب الدكتور جواد على: "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، وعنوانه: "صلات العرب بالساميين"، حيث لم يترك العلماء أى احتمال فى المكان الذى خرج منه الساميون وانتشروا فى منطقة الشرق الأوسط إلا وذكروه: كالجزيرة العربية نفسها، والحبشة، والصومال، والهند، وأوربا، وآسيا الصغرى، وبلاد الأفغان، وأرمينيا، والقوقاز، وبابل، ومنطقة جبال الأطلس فى شمال شرق إفريقيا. وهو ما يدل على ان الأمر كله ليس أكثر من تخمينات، إذ ما من نظرية من هذه النظريات إلا وتجد من يرد عليها ويفندها ولا يترك فيها شيئا قائما على قدم وساق، ومنها النظرية القوقازية. والدكتور لويس نفسه يقول إن بنفنيست (Benveniste) لا يربط بين اللغة والجنس، فبرغم سيادة اللغة القوقازية فى مناطق خارج القوقاز فإن الشعوب التى سادتها تلك اللغة كانت مختلفة الجنس عن القوقازيين (ص 130). وأخيرا نراه يقول إن عمله هو تحويل ما خمنه العلماء من قبل على أنه احتمال إلى نظرية مبنية على أسس متينة (ص 162). وهذا كله خبص ولبص لا طعم له وليس ثمة أساس ينهض عليه. إنه عبث يلبس لَبُوس العلم، لكنه ليس من العلم فى قليل أو كثير حسبما سيرى القارئ فيما هو آت من هذه الدراسة.
    واللغة القوقازية أين هى من لسان يعرب وقحطان؟ هل هناك من وجوه شبه تسوّغ ولو بعض التسويغ هذه النظرية المتهالكة التى لا أدرى كيف طقَّت سرقتها من العلماء الغربيين فى رأس الدكتور لويس؟ هل درس المفردات والاشتقاقات ونُظُم التركيب والصور فوجد أنها متقاربة بين اللغتين؟ إن كل ما قاله بعبقريته التى لم يُرْزَقها بشر من قبل، ولا أظن بشرا من بعد يمكن أن يُرْزَقها، هو أنه لا يُوجَد منها فى العربية الحالية إلا الحاء فى مثل قولنا: "حايعمل، حايضرب"، وهى الحاء التى يقول إنها بديل من السين على اعتبار أن الحاء حامية، والسين سامية (ص 133)، فتأمل تلك العبقرية! مع أن الحاء هنا إنما هى فى الواقع اختصار لــ"(رايــ)ـح يعمل، (رايــ)ــح يضرب"، فضلا عن أنه لم يستطع أن يدلنا على أى مثال آخر غير هذا المثال الذى لا علاقة به بالقوقازية ولا القوقازيين! ومعروف أن حرف السين أحد حروف الألفباء العربية، كما أن الألفاظ التى يوجد فيها حرف السين فى لغة الضاد أكثر من الهم على القلب، ولم نسمع يوما أنّ نطق هذا الحرف يشكل أية صعوبة بالنسبة لجهاز النطق العربى! ثم أين الدليل على أن قلب السين فى هذا التركيب هو ثمرة التأثر بلغة القوقازيين؟ وهذا لو صدقنا أصلا ما يقوله عن انقلاب السين هنا حاء، وهو ما فنّدناه وسخّفناه وتفّهناه آنفا! وهذا الاختصار يشبه قولنا: "أَيْوَهْ"، بدلا من "أىْ والله"، و"عَبْعَال"، بدلا من "عبد العال"، و"صَالْخِير" اختصارا لــ"مساء الخير"، و"يالَهْ" اختصارا لــ"يا ولد"، و"لِسَّه"، أى "للساعة (الحالية)"، وقول السودانيين فى نفس هذا المعنى: "حَسِّى"، أى "حتى الساعة"، وقول القطريين: "مُبْ طيّب" عوضا عن "ما هو بطيّب"... وهكذا.
    أما ادعاؤه بأن كلمة "راح" فى قولنا: "راح يشرب، راح يأكل" تفيد الماضى لا المستقبل، وأن المقصود هو أنه شرب وأكل فى الماضى وانتهى الأمر، فكلام لا يصح. ذلك أن قولنا: "راح يأكل" يعنى أنه راح فعلا، لكن لا يعنى أنه أكل، فالماضى إنما يتعلق بالرواح لا بالأكل. ولقد قلت إن أصل الكلام هو "رايح يلعب/ رايح يشرب" (كقول سكينة الخنّاقة السكندرية المشهورة أخت رَيّا عند إعدامها فى ديسمبر 1921م: "هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي؟" كما ورد فى تحقيق جريدة "الأهرام" فى اليوم التالى)، حيث يُسْتَخْدَم اسم الفاعل من "راح" لا الفعل الماضى نفسه الذى يتخذه لويس عوض دون أى حقٍّ تكأة للمداورة والمحاورة. ثم إن اللغة لا تؤخذ بهذه النظرة الساذجة التى تبرهن على أن صاحبها ما زال خامًا غُفْلاً لم يُصْقَل بعد، وربما لن يصقل أبدا، وإلا فهل يعنى قولنا: "أودّ لو قام فلان" أننى كنت أتمنى أن يكون قد قام فى الماضى، أو قولنا: "إن استذكر نجح" أنه لم يستذكر، ومن ثم لم ينجح؟ إن المعنى فى الجملتين على التوالى هو أننى أود أن يقوم الآن، وأنه حين يستذكر فسوف ينجح. وبالمثل يستعمل الإنجليز الزمن الماضى فى بعض التراكيب للدلالة على الاستقبال كما هو معروف. ومعنى ذلك أن اعتراض لويس عوض هو اعتراض يبعث على القهقهة! كذلك يقول لويس عوض، فى تفسير وجود كثير من الكلمات فى عدد كبير من اللغات المختلفة، إن كل تلك اللغات منشؤها واحد هو القوقاز، ثم تفرعت مجموعات اللغات السامية والحامية والطورانية وغيرها (ص 48 – 49). لكن لو كان كلامه صحيحا أفلم يكن الأحرى أن يظهر أثر القوقازية على العربية بدلا من اليونانية واللاتينية اللتين تعد كلتاهما فرع الفرع من الأصل القوقازى الأصيل؟
    والغريب الشاذ أنه فى الوقت الذى يدعى أن أصل العرب يرجع إلى القوقاز وأن لغتهم فى أصلها البعيد هى القوقازية نراه يقول، بما لا يتلاءم مع هذا الزعم، بأن كثيرا جدا جدا من كلمات اللغة العربية مأخوذ من جذور مصرية قديمة (180 وما قبلها وما بعدها)، وإن كان قد حَنَّ عليها فذكر أنها أعارت المصرية القديمة ألفا ومائتين من الكلمات (ص 59). يا سلام على الإحصاءات التى لا تصلح إلا لبَلّها وشرب مائها على الريق! ترى كيف يمكن حساب مثل هذه الاستعارات بالضبط على هذا النحو؟ أوكان فى يد جنابه ساعة كرونومتر تَصْفِر كلما تم أخذٌ أو عطاءٌ بين اللغتين وتسجله فى ذاكرتها الألكترونية؟ ألا إن هذا لأمر مضحك حقا! وأيا ما يكن الأمر فعجيب أن يقول بقوقازية أصل العرب ثم يرجع كثير جدا جدا من ألفاظ لغة العرب إلى المصرية القديمة حتى فى أمور إنسانية عامة لا تختص بقوم دون قوم مثل "خبر" و"طيب" مما لا علاقة له مثلا باختراعات أو حيوانات لا توجد إلا فى بيئة بعينها. ثم لماذا ينبغى أن تكون العربية هى المستعيرة لا المعيرة؟
    وعلى سبيل المثال نراه (ص 180) يقول إن كلمة "خِنْ: hn" المصرية القديمة هى أساس كلمة "حرن" العامية، مع أن كلمة "حرن" فصيحة قديمة جدا فى العربية. ثم إذا قرأنا بعد ذلك ما قاله عن "خن" فى ص 185 وجدناه شيئا مختلفا، إذ تعنى هذه المرة: "أمرا أو نطقا أو حكمة"، كما أنها أساس كلمة "سَنَّ" و"سُنّة" هنا لا أساس "حرن". فأعطونى عقلكم أيها القراء أتصبر به! ولسوف نرى بعد ذلك أمثلة أخرى على هذا التناقض والعبث الذى لا يليق بالعلم ولا بالعلماء! ومثله ظنه المضحك أن كلمة "عَيّل" عامية تحولت فيها العين عن الخاء فى "خِى" المصرية القديمة بمعنى "طفل/ رضيع" (ص 184) رغم أن الكلمة فصيحة كما يعرف الجميع، وأصلها الفعل: "عال يَعُول/ يَعِيل"، ومعناه كل فرد من أهل بيت الرجل الذين يكفلهم، وجمعه: "عِيَال"، وذلك كله دون أن يكون هناك أى منطق فى القول بهذا التحول الغريب، بالإضافة إلى أنه لا علاقة صوتية بين بقية كلتا الكلمتين ونظيرتها من الكلمة الأخرى كما هو واضح حتى لو سلمنا جدلا بتحول الخاء إلى عين، إذ يظل البون واسعًا شاسعًا بينهما. واقرأ ما قاله بعد ذلك وما بعد بعد ذلك وما بعد بعده فسوف يصيبك الدوار والغيظ من هذا التنطع والتشادق والتعسف! إن الرجل يفتى فى ماضى اللغات خبط عشواء ويرمى بما يخطر على باله دون أى أساس بالمرة. والله إن هذا لهو بعينه ما يطلقون عليه فى العامية المصرية: "سمك، لبن، تمر هندى".
    وبمناسبة زعمه تحوُّل السين حاءً فى العامية المصرية ينبغى أن نسوق هنا زعمه الآخر عن صعوبة نطق الأوربيين لهذا الصوت، إذ يقول إن عجز الأوربى عن نطق الحاء دليل على أن تركيب جهازه الصوتى مختلف عن تركيب نظيره عند العربى (انظر كلامه فى هذه القضية بوجه عام بدءا ص 137 فصاعدا). وهو، كما ترى، كلام غير مقنع، فالعبرة بالتربية والممارسة المبكرة فى حياة الشخص. والدليل على هذا أن أولادنا حين يتربَّوْن فى وسط أوربى ولا يتعلمون فى صغرهم العربية فإنهم يشبون عاجزين عن نطق الحاء والعين والغين مثلا، كما أن الأوربى لو تربى فى وسط عربى منذ ولادته لنطق هذه الأصوات بسهولة. أما كلامه عن عجز الإسبان أو بعضهم عن نطق الفاء مثلا فيُرَدّ عليه بأن الإسبان كلهم تقريبا كانوا ينطقون العربية بما فيها الفاء وغيرها من الأصوات التى لا يستطيعون الآن نطقها، ولا أظن جهازهم الصوتى قد تغير تشريحيا بعد ذلك. وقد أراد الدكتور لويس فى هذا الصدد الاتكاء على كلام أحد علماء اللغة الغربيين، متجاهلا أن ذلك العالم لم يزد على أن يقول: "ويبدو" دون أن يؤكد ما يقول، فضلا عن أن يقطع به (ص 136). فكلمة "يبدو"، كما هو معروف، لا تفيد قطعا ولا علما، ولا تزيد عن أن تكون مجرد تخمين.
    ويرتبط بهذا ما قاله (ص 135) من أن الشين صوت مركب من السين والهاء إذا نُطِقا دفعة واحدة. وهو كلام يبعث على القهقهة، إذ كيف بالله يمكن أن ننطق بالصوتين معا؟ أم تراه يقصد أن شخصا ينطق بالسين، وشخصا آخر ينطق فى ذات الوقت بالهاء ثم نقوم بمونتاجٍ للجمع بينهما فينتج عن ذلك صوت "الشين"؟ ألا يوافقنى القارئ العزيز على أن هذا هو ما يسمونه: "كلام وطحينة"؟ إن الدكتور لويس يخلط بين الكتابة والنطق، وما دام الإملاء الإنجليزى إذا أراد أن يكتب ما يدل على صوت "الشين" (الذى لا وجود له فى الأبجدية الإنجليزية كما هو معروف) كتب حرفى الــ"s" والــ"h" متتابعين بنفس هذا الترتيب، فإن الدكتور لويس يظن أن ذلك نفسه هو ما يحدث فى النطق، خالطا بذلك بين الرمز الكتابى والنطق الفعلى. وهذا أمر لا يمكن تصوره إلا إذا تجرد الإنسان من عقله. ثم لقد فاته أن حرف الــ"h" ليس "هاء"، وإنْ نطقه الإنجليز أحيانا "هاء"، وهو ما لا يُعَدّ دليلا، وإلا فإنهم كثيرا ما يتجاهلون نطقه كأنه لا وجود له. أما أن الفرنسية تضع مكان الــ"s" حرف الــ"c"، فينبغى ألا ننسى أن "السِّى" هذه إنما تنطق "كافا" فى العادة لا "سينا" كما يحاول أن يوهمنا عبثا. وقس على ذلك كلامه أيضا عن تكوين كل من صوت الثاء وصوت الذال عند الإنجليز من اجتماع حَرْفَىِ الــ"t" والــ"h" بهذا الترتيب (ص 230).
    والآن نعود لما كنا فيه فنقول: ترى كيف، حين فتح المسلمون بلاد القوقاز، لم يحدث أن أثار أحد الطرفين الأصل المشترك القديم؟ ألم تكن هذه فرصة لاستعادة الذكريات كما هو الحال فى تذكر قسم كبير من العرب أن أباهم هو إبراهيم وأن أمهم هى هاجر؟ بل إن الشعوبيين واليهود والنصارى يعيّرون العرب بأن هاجر أمهم أَمَةٌ على عكس أمهم هم سارة الحُرّة. فكيف يعيرونهم بذلك، بل كيف يقبل العرب هذا التعيير رغم أنهم لا علاقة لهم بهاجر بناءً على فتوى لويس عوض؟ كيف لم ينهض منهم أحد يستعيد ماضيهم القوقازى قائلا: لا علاقة لنا بهاجر الأَمَة، بل نحن أحرارٌ أولادُ حُرّاتٍ؟
    وقد ذكر جواد على فى "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" أن اسم العرب قد ورد فى الكتابات الأكادية قبل الميلاد بأكثر من ألفين من السنين، مؤكدا أنه على الرغم من صعوبة التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وحكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التاريخية المعروفة لما بيننا وبينها من حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب، فإن ثمة خبرا عن نرام - سين (Naram-sin) الملك الأكادي (2270-2223 قبل الميلاد) واستيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب (Aribu, Arabu). وهذا الخبر، كما يقول، ينبئ بأن العرب المعاصرين لنرام- سن كانوا في تلك المناطق قبل أيامه بالطبع، وكانت لهم "مشيخات" و"إمارات" مثل إمارة الحيرة الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد.
    كذلك ورد اسم العرب أيضا فى الكتابات الآشورية، ومنها نص يرجع إلى نحو ألف عام قبل الميلاد في كتابات الملك شلمنصر الثالث ملك آشور، الذى سجل نصرا حربيا أحرزه في السنة السادسة من حكمه على حلف ألّفه ضده ملك دمشق وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي اسمه جندب، وكان ذلك سنة 853 أو 854 قبل الميلاد. وقد قصد شلمنصر بلفظ "عرب": الأعراب، أي البدو حسبما يقول الدكتور جواد على. وإذا كان العالم العراقى، فى الفصل الخامس المسمَّى: "طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها"، قد علق على هذا النص قائلا: "وليست لدينا مع الأسف نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الآشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت أنه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تاريخه إلى سنة 854 ق. م. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الآشورية"، فلا ينبغى أن ننسى قوله فى موضع آخر إن هناك نصا أكاديا سابقا على ذلك بنحو ألف وخمسمائة من السنين جاء فيه ذكر العرب، كما لا ينبغى أيضا أن يفوتنا قوله إنه "لما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية سكنها ملك فلا يعقل أن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى أن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. ولهذا كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت تنتقل في هذه البادية الواسعة لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحلّ الذي يلائم طبعها"، وهو ما كرره فى الفصل الثالث عشر من ذات الكتاب، وعنوانه "تاريخ الجزيرة القديم"، حيث قال: "ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل، فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلأن الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب، وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام".
    هذا عن العرب البادِين، أما الحَضَر منهم فقد كانوا يُدْعَوْن، كما قال، بأسماء الأماكن التى يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها، وذلك لأن لفظ "العرب" لم يكن قد صار علما على ذلك الجنس المكون من البدو ومن الحَضَر بالمعنى الذى نعرفه الآن. ولم يكن هذا اللون من التسمية مقتصرا على الآشوريين، بل كان عاما حتى بين العرب أنفسهم. وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويّات شعوبٍ ذُكِرَتْ في النصوص الآشورية وغيرها وكذلك فى العهد القديم دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور. وبالمناسبة فهذا النص الآشورى هو النص الذى أشار إليه الدكتور لويس عوض وأهمل ما سبقه فى الكتابات الأكادية قبل ذلك بألف وخمسمائة عام تقريبا طبقًا لما ذكره الدكتور جواد على حسبما أشرنا آنفا.
    وفى مادة "Arabs" فى موسوعة "LoveToKnow1911"، القائمة على طبعة "الموسوعة البريطانية" لعام 1911م بعد تطويرها وتحديثها، تلك الطبعة التى تعد فى نظر المعنيين بهذه الموسوعة أفضل طبعاتها، نقرأ ما يلى:
    "The origin of the Arab race can only be a matter of conjecture. From the remotest historic times it has been divided into two branches, which from their geographical position it is simplest to call the North Arabians and the South Arabians. Arabic and Jewish tradition trace the descent of the latter from Joktan (Arabic Kahtan) son of Heber, of the former from Ishmael. The South Arabians- the older branch- were settled in the south-western part of the peninsula centuries before the uprise of the Ishmaelites. These latter include not only Ishmael's direct descendants through the twelve princes (Gen. xxv. 16), but the Edomites, Moabites, Ammonites , Midianites and other tribes. This ancient and undoubted division of the Arab race- roughly represented to-day by the universally adopted classification into Arabs proper and Bedouin Arabs (see Bedouins) - has caused much dispute among ethnologists. All authorities agree in declaring the race to be Semitic in the broadest ethnological signification of that term, but some thought they saw in this division of the race an indication of a dual origin. They asserted that the purer branch of the Arab family was represented by the sedentary Arabs who were of Hamitic (Biblical Cushite), i.e. African ancestry, and that the nomad Arabs were Arabs only by adoption, and were nearer akin to the true Semite as sons of Ishmael. Many arguments were adduced in support of this theory. (I) The unquestioned division in remote historic times of the Arab race, and the immemorial hostility between the two branches. (2) The concurrence of pre-Islamitic literature and records in representing the first settlement of the "pure" Arab as made in the extreme south-western part of the peninsula, near Aden. (3) The use of Himyar, "dusky" or "red" (suggesting African affinities), as the name sometimes for the ruling class, sometimes for the entire people. (4) The African affinities of the Himyaritic language. (5) The resemblance of the grammar of the Arabic now spoken by the "pure" Arabs, where it differs from that of the North, to the Abyssinian grammar. (6) The marked resemblance of the pre-Islamitic institutions of Yemen and its allied provinces - its monarchies, courts, armies and serfs - to the historical Africo-Egyptian type and even to modern Abyssinia. (7) The physique of the "pure" Arab, the shape and size of the head, the slenderness of the lower limbs, all suggesting an African rather than an Asiatic origin. (8) The habits of the people, viz. their sedentary rather than nomad occupations, their fondness for village life, for dancing, music and society, their cultivation of the soil, having more in common with African life than with that of the western Asiatic continent. (9) The extreme facility of marriage which exists in all classes of the southern Arabs with the African races, the fecundity of such unions and the slightness or even total absence of any caste feeling between the dusky "pure" Arab and the still darker African, pointing to a community of origin. And further arguments were found in the characteristics of the Bedouins, their pastoral and nomad tendencies; the peculiarities of their idiom allied to the Hebrew; their strong clan feeling, their continued resistance to anything like regal power or centralized organization. Such, briefly, were the more important arguments; but latterly ethnologists are inclined to agree that there is little really to be said for the African ancestry theory and that the Arab race had its beginning in the deserts of south Arabia, that in short the true Arabs are aborigines."
    وهو ما يدل على أن الأمر ليس بالبساطة التى يتوهمها، أو بالحرى: يريد أن يوهمناها الدكتور لويس، إذ هأنتذا أيها القارئ الكريم ترى بنفسك كيف أن النظريات الخاصة بنشأة الأمة العربية عند العلماء الغربيين متعددة، وليس هناك كلام حاسم لديهم فى ذلك الموضوع، وأن ما يقولونه اليوم ينقضونه غدا، وإن كان هذا غير مقصور على أصل العرب، بل هو عام يشمل كل الأمم القديمة تقريبا، وأن أسخف ما قيل فى هذا الصدد هو النظرية التافهة التى لطشها لويس عوض من أولئك العلماء ثم راح ينتفش وهو يعرضها علينا كأنه ابن بَجْدَتها دون أى شعور بالخجل من هذا التنفج الكاذب!
    وأخطر من ذلك كله أنه، عند تحول الكلمة من لغة إلى لغة وتحول بعض أصواتها أو كلها خلال ذلك، لا توجد عند لويس عوض قاعدة ثابتة تحكم ذلك التحول النطقى: فالتاء تتحول إلى ثاء وإلى دال وإلى ذال وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء وإلى ظاء، والخاء تتحول إلى جيم قاهرية وإلى جيم معطشة وإلى حاء وإلى دال وإلى شين وإلى تشين وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء، وكل من الكاف والقاف والجيم بنوعيها والخاء يمكن أن تتحول إلى تاء وإلى دال وإلى ضاد وإلى ذال وإلى زاى وإلى سين، والسين تتحول إلى حاء وإلى صاد وإلى زين، والجيم إلى حاء وإلى غين وإلى كاف وإلى قاف... وهكذا مع كل الحروف، والعكس فى كل ذلك صحيح (انظر الفصول الخاصة بتبادل الأصوات بدءا من الفصل الخامس ص 165)، وذلك فضلا عن "الميتاتيز"، الذى يسمى فى الصرف العربى: "القلب المكانى"، أى التقديم والتأخير فى حروف اللفظ كــ"جَبَذَ" فى "جَذَبَ" مثلا، ذلك "الميتاتيز" الذى يلجأ إليه لويس عوض مثلما يلجأ الحاوى إلى قبعته أو ردنه عندما يريد إيهام المشاهدين بأنه يأتى بالكتاكيت من الهواء.
    ومعنى ذلك أن كل كلمة يمكن أن تصبح أية كلمة، والبهلوانية جاهزة لتمرير الجمل من سم الخياط وصَرّ الفيل فى المنديل وتعبئة الشمس فى زجاجات ودهن الهواء دوكو باللون الذى يحب كل إنسان. وفوق هذا فإن الصلة بين كثير من اللغات التى يقول لويس عوض بالاتصال بينها معدومة، والكلام فيها أشبه بالكلام فى الغيبيات التى يتشدق هو وأمثاله بالهجوم عليها فى موضعها، على حين يلجأون إليها فى غير موضعها. والحق أن لويس عوض، فى ألاعيبه التى يمارسها فى هذا الكتاب، لا يفترق عن أى فلاح منجعص فوق مصطبة من مصاطب القرية وفى يده جريدة قد أمسكها بالمقلوب فظن من ثم أن الموتوسيكل الذى يركبه صاحبه قد انقلب به وأصبح الرجل تحت، والموتوسيكل فوقه، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة من سياسة واقتصاد ومسائل زراعية ومشاكل اجتماعية وحروب وكرة قدم وقرآن وحديث وفقه وزواج وطلاق وقُعُور مجالس وصفقات مواشٍ وبيع محاصيل وقياس أراضٍ ووصفات شعبية للربو والدودة المعوية وفيروس سى والإيدز الذى حير البرية وجاء بداغ الأطباء كلهم بربطة المعلم الأرض دون جدوى... باختصار: بتاع كلّه!
    وهل بمستطاع أى إنسان كائنا من كان أن يسد حنك مثل ذلك الـمُفْتِى المنجعص، وبخاصة إذا كان عبقريًّا عبقريةَ "أستاذنا الدكتور لويس عوض" حسب قول بعضهم؟ إن الرجل قد بسط أمامه خريطة اللغات الإنسانية على مدار التاريخ كله تقريبا وشرع فى تتبع مسار كل كلمة من لغة إلى أخرى إلى ثالثة إلى رابعة... وعرف ما حدث لها على وجه الدقة واليقين قبل أن يحط بها أخيرا فوق مَدْرَج اللغة العربية بمطار الدراسات اللغوية بسلامة الله، مما جعل الركاب يصفقون له على عادة المصريين كلما نزلت بهم الطائرة سالمة فى القاهرة. وهو، بسلامته، يفعل كل هذا فى بساطة ويسر وثقة وكأنه يعلق على مباراة فى كرة القدم تقع تحت بصره فى التو واللحظة، وليس على أمور تمت قبل الأحقاب المتطاولة، وكان مسرح وقوعها الكرة الأرضية جمعاء، واشتركت فى توجيهها عوامل تجلّ عن الحصر من سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وبيولوجية، غير السهو والكسل والخطإ والالتباس... إلى آخر ما يعتور الألفاظ فى رحلتها الطويلة منذ أن توجد إلى أن تفنى، أو على أقل تقدير: إلى أن تتوارى ولو مؤقتا فى بطون المعاجم!
    ثم إنه هو نفسه، وبعظمة لسانه إن كان للألسن عظام، قد قال إن البحث فى مثل هذه القضايا يحتاج إلى الاستعانة بعدة علوم هى علم اللغة، وسوف نرى مستواه المخزى فيه، ثم علم الأنثروبوليوجيا الطبيعية (علم الأجناس)، ثم الأنثروبولوجيا الاجتماعية المقارنة، ثم الأثنولوجيا المقارنة، ثم الفونوطيقا المقارنة، ثم الأديان المقارنة، ثم الأساطير المقارنة، ثم الآثار بفروعها المختلفة، ثم تاريخ الفنون والآداب، ثم هو بعد ذلك كله يبرز مدى الصعوبة التى تكتنف هذه الدراسة من كل الجوانب (ص 131- 132)، ورغم ذلك كله نراه لا يبالى بعشر معشار ما قاله، فهو ينجعص كما قلت على مصطبة الفكر وهات يا فتاوى فى مسير ومصير اللغات المختلفة وكأنه ساحر من سحرة القرون الخوالى ينظر فى البلورة المسحورة ويرى من خلالها وفيها كل شىء!
    إن عبقرينا يتعامل مع هذه القضية كأنها لا تحتاج إلى أكثر من فرقعة بإصبع من أصابعه، فإذا كل شىء على ما يرام، وإذا كل شىء كما يقول. وهو، كما ترى، غرور ما بعده غرور، وبخاصة إذا علمتَ أنه لم يكن يعرف من كل تلك اللغات التى لا حصر لها إلا الإنجليزية والفرنسية، وكذلك إذا علمت أنه فى كلامه السخيف ذاك إنما كان ينقل فى معظم الأحيان عن بعض العلماء الغربيين الذين أحضر كتبهم ووضعها أمامه وأخذ يفتى بسرعة الصاروخ. ولم لا؟ أليس هو أبو سريع اللميع؟ أليس هو أبو زيد السالك الذى سكته كلها مسالك؟ وهل سمعتم أن أبو سريع اللميع قد خَفِىَ عليه شىء أو استعصى على قدرته شىء؟ خَسِئَ من يقول: نعم! على أن هذا لم يكن يملأ عين أبو زيد زمانه، بل رأسه وألف برطوشة قديمة أن يصدع رؤوسنا بكم مصطلح أوربى لزوم إبهار الدراويش الجاهزين للوقوع فى دباديب أية كلمة أو فكرة تافهة ينطق بها، وكأنه كاهن بين قوم وثنيين، فهم ينظرون إلى كل ما يتلفظ به وكأنه وحى لا يخرّ منه الماء! ولهذا فهو يكثر من "الميتاتيز، والهومونيم، والأوتوموبيا، والتوتولوجى، والمورفولوجى، والإيتمولوجى، والفونوطيقا، والجرمانية العالية، والإنجلوسكسونية (أو السكسوكية: لا أدرى بالضبط، لأن أحاديثه كثيرة على الفاضى، فهى لا تبقى فى الذهن)"، وكله كلام فى الهجايص على ما سوف نتبين معا بعد قليل، فاصبر ولا تستعجل على رزقك أيها القارئ العزيز، فكله بأوانه، ولن تندم بمشيئة الله على صبرك هذه المرة، فما فى كل مرة يحرق الصبر الدكّان!
    ومن الوسائل التى يلجأ إليها لويس عوض أيضا لإرباك عقل القارئ كثرةُ التفصيلات وتتابعُها (دون مراجع فى العادة) كى يصاب القارئ بالرعب والدوار فيتصور أنه أمام عالمٍ نحريرٍ ولا يجرؤ من ثم أن يطالب الكاتب بالدليل. إنه لا يقدم فى العادة مراجع ولا مصادر بل يكثر من الـ"ربمات" والــ"قد يكونات" والــ"ليس ما يمنعات" ثم يسهّينا فيحول الافتراضات التعسفية غير المدعومة بدليل أو منطق أو منهج إلى حقائق يبنى عليها نتائج فى منتهى الخطورة. ذلك أنه لا يقيم أيا من أفكاره على أسس منهجية، إذ إن الافتراضات العلمية إنما تكون حيث يتطلبها كثير من الوقائع مما يجعل الفرضية تفرض نفسها فرضا لا لمجرد أنها طقَّت فى مخّ الباحث دون مؤشرات. ثم إنه عادةً ما يقطع بالنتائج رغم أنه لا يقدم دليلا على صحة ما يقول، أو على الأقل: على معقوليته. كما أنه ينتقى ما يظن أنه موصّله إلى ما يريد تقريره من نتائج، مع إهمال ما يرى أنه لا يوصله إلى تلك الغاية. فعلى سبيل المثال نراه فى باب الأعداد يحاول أن يقنعنا بأن " رقم اثنين" عندنا هو نفسه "تُو" و"دُو" و"تِسْفَاىْ"... الإنجليزية والفرنسية والألمانية على التوالى عن طريق كلمات "صِنْو وسَواء وسِيّان وسوا"، مع أن "الصنو" هو "الشبيه"، و"السواء" هو "المتماثل"، و"سوا" (بالعامية المصرية) تعنى: "معا"، ولا علاقة لشىء من هذا بالأرقام. ولنلاحظ أنه لم يقل: "الزوج" ولا "المكرر" ولا "الـمُعَاد" ولا "الشبيه" ولا "المطابق" ولا "الموازى" ولا "الـمُنَاظِر" وما أشبه، بل اختار ما يظن أنه ينفعه فى ترويج بهلوانيته. وهو ما سوف يتضح أثناء مناقشتنا للكتاب تفصيلا وتمثيلا فيما يلى من صفحات الدراسة.
    ونبدأ بإعطاء القارئ مثالين مما كتبه الدكتور لويس فى كتابه: فأما المثال الأول فهو ما كتبه عن كلمة "بنان" (ص 417- 418)، التى يظن بعبقريته الفذة أن معناها "إصبع" ضربة لازب، مع أنها تعنى "الإصبع" أو "طرف الإصبع"، ومعنى ذلك أن كل ما قاله فى هذا الشأن خطأ فى خطإ لأن ما بُنِىَ على باطل فهو باطل. لكن أبو السريع اللميع ليس عنده وقت لمراعاة مثل هذه الأشياء البسيطة، فينبغى إذن ألا تحبّكها أيها القارئ العزيز أكثر من اللازم، ولا تَكُ حنبليا إرهابيا رجعيا ظلاميا تقف فى وجه المراكب السائرة الأمريكية التى تريد أن تدهس الشرق الأوسط كله وتدمره وتشكله من جديد على هواها وهوى ربيبتها وحبيبة قلبها الجالسة على حجرها إسرائيل! فما الذى خَرَّه علينا عبقرينا فى "بنان"؟
    قال: "فى الإنجليزية والإنجليزية الوسيطة والأنجلوسكسونية كلمة "فنجر: Finger" تعنى "أصبع"، وهى فى السكسونية وفى الجرمانية العالية القديمة "فنجار: Fingar"، وفى النوردية القديمة "فنجر: Fingr"، وهى فى الهولندية "فنجر: Vingr"، وفى الدنماركية والسويدية والألمانية "فنجر: Finger"، وفى القوطية "فيجرس: Figgrs" (من "فنجرس: Fingrs"). وفى "سكيت" أن أصلها التيوتونى الافتراضى هو "فنجروز: Fingroz"، ونموذجها الهندى الأوربى "بنكروس: Penkros"، (تعليق من إبراهيم عوض: الكلام إلى هنا معقول، فاللغات الأوربية متقاربة تقاربا كبيرا فى كثير من الحالات لاستمدادها من نفس المصدر أو لاستعارة بعضها من بعض. ولكن هذا الكلام المعقول ليس للويس عوض، بل نقله نقلا من بعض الباحثين الأوربيين. ولكن انظر كلامه هو من هنا إلى آخر النص، ولسوف تجد البكش كله على أصوله! يقولنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي وهذه يمكن أن تؤدى فونطيقيا إلى "بنسروز: Pensros" التى تصلح أساسا لكلمة "بنصر". وفى "وبستر" اشتباه بأن "Fingr" قد تكون لها علاقة بكلمة "Five" بمعنى "خمسة" باعتبار أن أصابع اليد خمسة. فإذا كان هذا صحيحا عدنا إلى جذر "بنديس: Pend-is" اليونانى بمعنى "خمسة" (قارن "فونف: Fünf" الألمانية) وإلى جذر "كوينكوى: Quinque" اللاتينية بمعنى "خمسة" (فونطيقيا: p = f، وf= q). وهذا يفسر ظهور "بنصر" من "Penzer" افتراضية، و"خنصر" من "Quenzer" (أصلا "بنجر" و"كنجر" بقيمة "ج: dj" وسطى). وبهذا تكون "بنصر" هى "خنصر"، ومعناها إما ببساطة "أصبع" (=Fingr) أو "أحد" الخمسة أو "الخامس" بمعنى "الأصبع" الخامس. ومع ذلك فالخامس فى العربية هو "الخنصر"، أما "البنصر" فهو الرابع، فالتوزيع غير مفهوم. وحتى لو افترضنا أن "خنخ" خنصر (أصلا "ك") جاءت من "Quatrus" بمعنى "أربعة" فى اللاتينية ("تترا" باليونانية) لما طابق هذا الواقع لأن "الخنصر" هو الخامس لا الرابع، وكان ينبغى أن توجد صيغة "تِنْصَر" أو "تِتْصَر" لتدل على الأصبع الرابع. و"بنان" يحتمل أن تكون من نفس جذر "Fingr" (Pendroz>)، ولأنه ليس لها جمع فهى لا تدل على "أصبع" بالمعنى العام، وإنما تدل على أحد الأصابع، وهو السبابة. ومن "بنان" نعرف أن صيغة "بنجن:Pengen " وجدت قبل "Fingr"، ولسقوط "g" خرجت "Penen" بالمد لتحل محل الصوت الساقط. ومع ذلك فيحسن البحث عن جذر آخر أو هومونيم آخر لأن "أنامل" بمعنى "أصابع" (دائما فى حالة الجمع، ونادرا ما نراه مفردا، أى "أنملة") تتواتر سواكنها الأساسية مع كلمة "بنان". ونخرج من هذا المأزق بأن نفترض أن "خنصر" و"بنصر" تعنى باختصار "أحد الخمسة" وأن توزيعها تم بناء على اعتبارات تحتاج إلى مزيد من البحث. ويبدو أن "أصبع" و"سبابة" من جذر واحد. يوحى بذلك كلمة "صباع"، وهى فونطيقيا قريبة من "سبابة"، ولكنى لم أهتد إلى جذر هذه المادة من مجموعة أتيمولوجية أخرى".
    أما المثال الثانى فلن يكون طويلا على هذا النحو، بل سأقلل النقل تقليلا. قال فى الكلام عن أصل اشتقاق كلمتى "نِمْر" و"نِمْس": "أما "نمر" و"نمس" فوحدة جذورهما واضحة، وهو جذر "مينك: Mink" الإنجليزية ("Mynk" فى الإنجليزية الوسيطة). والجذر الافتراضى فى تقديرى هو "مينس: Myns ,Mins" ("نمس" بالميتاتيز)، ويمكن أن نخرج منها "منر: Minr" و"Mynr" ("نمر" بالميتاتيز)، وكذلك حيوان "الليمور"، وهو نوع من "النمس"، و"ليمور" صورة من "نمر". أما "تيجر" فجذرها فى تقديرى هو غالبا جذر "ضرغام" و"ضيغم". أى أن جذرها هو "تيرج- طيرج- ديرج- ضيرج" (ص 450). أرأيت أيها القارئ عبقرية متعبقرة كهذ العبقرية؟ الرجل يجلس إلى مكتبه ويبدأ الفشر فيتناول خط سير كلمات كل هذا العدد الكبير من اللغات على مدار الدهور المتطاولة، وينتهى من ذلك فى لحظات. إنها العبقرية المتعبقرة التى تنجز فى غمضة عين ما لا ينجزه الباحثون الجادون المحترمون من العلماء غير العباقرة فى قرون. وهل أصابعك بعضها مثل بعض؟ بالطبع لا، فكذلك ليس كل الباحثين مثل الدكتور لويس. ونحن بهذ الطريقة يمكننا أن نقول إن كلمات "ليمون" و"أَمّور" و"نور" و"تنّور" و"تنّورة" و"بندورة" و"بيرون" مأخوذة كلها من نفس الجذر، إذ كانت تطلق فى مبتدإ الحال على بعض الحيوانات الوحشية، ثم تطورت دلالتها وأضحت تعنى ما تعنيه اليوم. ستقول لى: كيف؟ ومتى؟ وأين الدليل؟ أقول لك: ولماذا لا تسأل عبقرينا هذه الأسئلة ذاتها؟ إن استطاع أن يجيب فتعال وأنا أجيبك ساعتها، وإلا فاقبل كلامى، وهو ما لا أنصحك به لأنى أعترف وأقرّ أمامك بأنه كله كلام فارغ اخترعته عفو اللحظة، أو فانبذ هذا السخف اللويسعوضى، وهو ما أنصحك به أشد النصح حتى لا تضيع فى أبو نكلة!
    والحق أننى، حين أقرأ هذا الكلام، أشعر وكأننى أستمع لشخص فى يده كأس عرقى وهو يشرب منها حتى ثمل لسانه وثقلت يده ونمل مخه، فكل فكرة يفكرها لا تذهب فى الاتجاه الصحيح أبدا، وكل كلمة ينطقها لا يستطيع لسانه أن ينطقها على النحو الصحيح أبدا، وكل إشارة يأتيها بيده لتوضيح ما يريد أن يقوله لا يعرف كيف يؤديها على النحو الصحيح أبدا. إن الرجل يقيم من نفسه بعد فوات الأوان بأدهار وأدهار قَيِّمًا على اللغات البشرية كلها تقريبا فيقول إن هذا قد حدث على النحو الفلانى، وذاك على النحو العلانى، وذلك على النحو الترتانى، وإن هذا كان ينبغى أن يكون كذا، وذاك كان يجب أن يكون مَذَا ("مذا" هذه هى الإتباع الخاص بــ"كذا" كما كنا نسمعها من أستاذ الكيميا فى السنة الأولى الثانوية بمدرسة الأحمدية بطنطا الأستاذ سيد عمارة، إذ كان يقول دائما: "كذا ومذا"). بل إنه ليبلغ به البكش غاية المدى حين يضع جدولا يؤرخ به للُّغة العربية ويجعلها طبقات بعضها فوق بعض، وكأنه يفحص طبقات قطعة من الأرض قد حفرها الحفارون وبانت أحشاؤها لعينيه، فتراه يتحدث عن هذه الطبقات وطبيعة كل منها بأسلوب الواثق الموقن (ص 70)!
    وتسأل: وكيف عرف بسلامته كل هذا وهو قاعد منجعص فوق المصطبة؟ والجواب هو أنك للأسف لم تتنبه إلى ما كان يصنعه وقد قَلَب كفه وهات يا شّمّ على ظهر يده حتى تهرأ ظهر يده من هذا الشم، وتهرأت أمخاخنا معه أيضا من كثرة الزَّنّ. حضرته يظن أن بمستطاعه إعادة صياغة اللغة واختراع تاريخها حسب عقله الطرير وعلمه الغرير، وهو جالس متسلطنا، وكأس العرقى الرخيص فى يده، وقد سرى التنميل فى كل "كيانه"، لا فى "لسانه" فحسب كما حدث للشاعر على محمود طه فى "جندوله" حيث يقول: "قلتُ والنشوة تسرى فى لسانى:...". قَطْع لسان كل من يريد بلُغَة القرآن شَرًّا! وطبعا لا يمكن من الناحية المادية أن تكذّبه لأن ما مضى قد مضى ولا سبيل لاستعادته ولا استنطاقه بتصديق أو بتكذيب، ومن ثم جاز لمثله أن يتقول ويتوهم ويزعم المزاعم فى غاية الاطمئنان.
    إن معنى ما يفعله لويس عوض هو أنه قادر على معرفة الطريق الذى سلكته كل كلمة بظهر الغيب على مدى مئات الآلاف من السنين بتقديره هو (ص 300). ولكن هل يعرف ذلك إلا الله؟ كما يتجاهل أيضا أن الكلمات بعد كل هاتيك الأحقاب قد دخل عليها من ألوان التحوير والتطوير عن طريق الوهم والخطإ والتغيير العَمْدِىّ والتضييق والتخصيص والتوسع فى الاستعمال والنحت والاشتقاق وتحويل اسم العلم إلى اسم جنس أو العكس أو استخراج أفعال وصفات منه واتخاذ مسارب جديدة لا علاقة لها بأصلها ما يجعل تتبع تاريخها من المستحيلات، اللهم إلا إذا كان الشخص من المنجِّمين أو قارئى الفنجان كــ"أستاذنا الدكتور"، والعياذ بالله، لأن دين النبى العربى الكريم يحرّم ويجرّم قراءة الفنجان، ويتوعد من يصدّقون قُرّاء الفناجين. كما أن عبقرينا المتعبقر يضبط نتيجته مقدما بحيث يصل لما يريد دائما دون تردد أو تلعثم أو توسوس. إنه أبو العُرّيف الجاهز، القافز فوق كل الحواجز! ربنا يحميه، من أعين شانئيه! ومرة أخرى نذكر القراء بأنه هو نفسه قد قال إن البحث فى مثل هذه القضايا يحتاج إلى الاستعانة بعدة علوم هى علم اللغة وعلم الأنثروبوليوجيا الطبيعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية المقارنة والأثنولوجيا المقارنة والفونوطيقا المقارنة والأديان المقارنة والأساطير المقارنة والآثار بفروعها المختلفة وتاريخ الفنون والآداب (ص 131- 132). ولكنه مع ذلك لا يبالى بعشر معشار ما قاله.
    هذا، وقد سبق أن قلنا إن "البنان" هو الإصبع أو طرف الإصبع لا الإصبع فقط، ونضيف هنا أن "بنان" ليست مفردا كما يظن بسلامته "أستاذنا الدكتور"، بل هى جمع، ومفردها "بنانة". وهذا يبين لك أيها القارئ ما أثبتُّه فى هذ الدراسة من هزال محصوله العلمى فى الموضوع الذى يتناوله، ولسوف تقابل فى الدراسة أمثلة أخرى كثيرة من هذا الجهل المخزى باللغة العربية، فاصبر ولا تستعجل يا صديقى القارئ الكريم. وبالمناسبة فكل ما قاله عن تنقل الكلمة بين اللغات الأوربية ليس له فيه إلا ما لى أو لك فى ملكية أرض المريخ، إذ هو منقول نقلا من بعض الكتب الأوربية بعُجَرِه وبُجَرِه. أما حين يتدخل برأيه، إن صح تسمية هذا السخف رأيا، فقل: يا فتاح يا عليم، يا رزاق يا كريم! وأرجو ألا يفوتك إلحاحه المستمر على أن اللهجة المصرية لغة مستقلة برأسها، وليست مستوى من مستويات اللغة العربية، وذلك كى يرسّخ فى عقول المصريين ونفوسهم أن لهم لغة خاصة بهم لا علاقة لها بالعربية إلا كالعلاقة بينها وبين أية لغة أخرى، وذلك تمهيدا لإزاحة لغة القرآن وإحلال العامية محلها، ثم إزاحة هذه بدورها لتحل محلها القبطية، التى يسميها دائما: "المصرية القديمة"، قى مقابل العامية التى هىعنده "المصرية" الحالية، والتى يجعل لها الرجحان على العربية، إذ يقرر فى كثير من الأحيان أنها هى المصدر الذى استقت منه لغة العرب هذه الكلمة أو تلك.
    ومعنى هذا أن العربية لغة لقيطة ولا قيمة لها، بل تعيش على الشحاذة من اللغات الأخرى، ومنها القبطية. يعنى يا عرب أنتم لم تأتونا بشىء، بل لقد ساهمنا فى بناء لغتكم التى تتباهون بها أى مباهاة. ويمكن القارئ أن ينظر فى الفصل التاسع الذى يبدأ من ص 247 على سبيل المثال. ولاحظ ما تعج به بعض المواقع التبشيرية القبطية من قوائم المفردات والتعبيرات القبطية التى يزعمون أن العربية قد أخذتها، واربط ذلك كله بالنشاط الكنسى لتحويل المصريين من الإسلام إلى النصرانية بحجة العودة إلى الجذور والأصول وخلع الثياب المستعارة من العرب، وحرصهم على عرض الكتاب الحالى فى بعض تلك المواقع. وهو نشاط محموم يستند إلى الوهم المجنون بأن ساعة الإسلام قد دنت وأن ما تصنعه الآن أمريكا وإسرائيل والغرب عموما فى المنطقة فرصة لا تعوَّض لإنجاز الأحلام والأمانى التى كانت مستكنة فى ظلام الصدور كالأفاعى والعقارب لا تستطيع الإعلان عن نفسها قبل ذلك حين لم يكن الجوّ مواتيًا كما هو الحال الآن!
    وهو ، كما قلنا وكما سنرى فيما بعد، دائم الزعم بأن العامية المصرية تأخذ من اللغات الأجنبية رأسا كما تفعل الفصحى سواء بسواء، فإذا أخذت الفصحى (على حد زعمه لا على أساس الواقع والحقيقة) كلمة "إصبع" مثلا من إحدى تلك اللغات أخذت العامية كلمة "صُبَاع" من نفس تلك اللغة مباشرة، أى أن كلمة "صباع" ليست تحويرا لكلمة "إصبع" (مثل "صُوبَع" و"صَابِع")، بل هى كلمة أخرى قريبة منها تنتمى مثلها إلى ذات اللغة الأجنبية انتماء مباشرا، بالضبط مثلما تتقارب الألفاظ فى بعض اللغات الأوربية أحيانا دون أن يقضى هذا التقارب على استقلالية أى منها ولا يجعل منها لهجات فى لغة واحدة.
    وانظر كذلك (ص 295) دعواه دون أى دليل أن اللغة العربية كلها تقريبا مأخوذة من غيرها حتى ليؤكد أن كلمات مثل "قميص ومنديل وقربان وكفاءة وهجرة وحج ولغز وبئر وسِدْرة وعَرَار ونرجس وجواد وحصان ومهر وقافلة وملك ولغة وسياسة وقانون وناموس وقائد وجند وعسكر وشرطة، فضلا عن "ألف كلمة وكلمة وردت فى القرآن أو فى الشعر الجاهلى أو فى فصيح كلام العرب وأدبهم ثم نجد أنها ذات وشائج بكلمات يونانية ولاتينية تحمل نفس المعانى. وهنا لا يسعنا (وهذا نص كلامه) إلا أن نطرح هذا السؤال الخطير: متى دخلت كل هذه الألفاظ اليونانية واللاتينية (الهندية الأوربية) اللغة العربية السامية الأصول؟ وكيف دخلت؟". فانظر كيف وضع العربة قبل الحصان وافترض أن العربية هى التى أخذت هذه الألفاظ من غيرها لا العكس. صحيح أنه طرح هذا الاحتمال الأخير ضمن عدة احتمالات أخرى، بيد أنه عند التطبيق كان ينطلق دائما إلا فى النادر من أن العربية هى الآخذة، وأن اللغات الأخرى هى المعطية المتفضلة!
    لقد كان ينبغى أن يبدأ بالتدليل على أن تلك الألفاظ ليست عربية أوّلاً ويتيقن من ذلك بحيث لا تبقى هناك خالجة شك فيه، أما أن يدخل فى الموضوع على أساس أن تلك الألفاظ مستعارة من الخارج، فأىّ استبلاه هذا؟ ثم إنه يأخذ بعدها فى البحث عن العوامل المسؤولة عن ذلك، وكأن الأمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى عناء البرهنة عليه لأنه من الوضوح بمكان مكين، بل من المسلمات التى لا يمكن مناقشتها. وحتى عندما يقول إنها دخلت اللغة العربية فإنه لا يُدْخِلها إلى العربية مباشرة، بل يدخلها لغة سامية أخرى أولاً ثم بعد ذلك يدخلها العربية، أى أن العربية حتى فى الاستعارة تأتى فى الصفوف المتأخرة. ثم إنه لا يترك اللغة السامية الأخرى على حالها بل يجعل حضارتها آرية الطابع والشخصية. أى أن الخير كله والبركة كلها والتحضر كله من الجنس الآرى، أما الساميون فهم من أجل خاطر العرب أولاد ستة وستين.
    كذلك فقد طرح، فى نهاية الاحتمالات التى ذكرها تفسيرا لهذا التشابه المزعوم فى الألفاظ المشار إليها، الاحتمال القاضى بعدم تأثير اللغات السامية والآرية بعضها فى بعض، بل رجوع المجموعتين بالأحرى إلى أصل مشترك، وإن كان قد أخر هذا الفرض من جهة، كما أنه لم يتحمس له من جهة أخرى. بل إن ما سبق أن قاله فى أول الفصل يدل على أنه قد طرحه كـ"بَرْو عَتَب"، وإلا فلماذا لم يأخذ به بل أخذ بنقيضه تماما، ألا وهو التسليم من البداية بأن العرب قد أخذوا ألفاظ لغتهم من غيرهم إلا فى الشاذ النادر كما بينتُ آنفا؟ ليس الألفاظ الحضارية فقط بل كذلك الألفاظ الأولية كالحياة والموت والأب والأم والأخ والأخت، والألفاظ المتعلقة أشد التعلق وأوثقه ببيئتهم كالحصان والـمُهْر والقافلة والبئر والسِّدْرة والعَرَار والحج وغير ذلك. بل إنه (ص 543) لم يترك كلمات مثل "صحراء" و"صخر" و"حجر" و"صقر" دون أن يقول باستعارتها من المصرية القديمة، وكأن العرب، أو القوقازيين الذين انتقلوا إلى ما أصبح يسمى بعد ذلك بــ"الجزيرة العربية" لو سلمنا له بنظريته السخيفة التافهة المتهافتة، ظلوا يسكنون الصحراء ويشاهدون الصخور حولهم، ويرون الصقر يحوم فى الجو فوق رؤوسهم ويستعينون به فى الصيد، ويستعملون الحجر فى كل أمور حياتهم حتى فى نَصْب القدور عليها فى العراء حين يوقدون تحتها النار لأمر أو لآخر، دون أن يعرفوا أن هذا يسمى: حجرا، أو أن ذلك يسمى: صقرا، أو أن تلك تسمى: صحراء!
    وأرجو ألا يفوتك حَشْرُه القرآنَ فى وسط كلامه هنا مع أنه لم لا داعى إلى ذكره، إذ البحث إنما هو فى اللغة العربية كلها لا فى القرآن بالذات، بَيْدَ أن الحقد الذى يأكل القلوب وبهريها يأبى إلا أن يشق هذه القلوب من الداخل ويطل علينا بوجهه القبيح المربدّ وفمه الأدرد المنتن! والغريب أن يكرر صاحبنا هذا مرة أخرى (ص 298) بعد ذكره الاحتمال القائل بأن العرب يمكن أن يكونوا هم المعطين لا الآخذين. ثم هل يمكن أن يكون العرب عالة على الآخرين فى كل شىء حتى فى اللغة؟ الواقع أننا لم نسمع أنهم تركوا لغتهم يوما حتى يقال إنهم صنعوا ما صنعه الأمريكان اللاتين مثلا حين تركوا لغاتهم الأصلية إلى الإسبانية، أو ما فعله الإسبان حين فتح العرب إيبريا وانتشرت العربية، ثم بقى كثير من كلماتها فى الإسبانية حتى بعد خروج الإسلام من هناك. أما العرب فلم يحدث لهم هذا، ومن يزعم سوى ذلك فليأتنا بالدليل، أما البهلوانيات فليس مكانها العلم ولا أهلها العلماء. وبطبيعة الحال لابد أن يكون القارئ قد تنبه إلى الحكمة الشيطانية التى أوجبت على لويس عوض تأخيره ظهور العرب والعربية إلى وقت جد متأخر عن التاريخ الحقيقى لهما، إذ قد وضع نُصْبَ عينيه منذ البداية أن تكون اللغة العربية متأثرة بغيرها من اللغات، اللهم إلا فى كم كلمة لا راحت ولا جاءت!
    قلنا إنه دائم الزعم بأن العامية المصرية تأخذ من اللغات الأجنبية رأسا كما تفعل الفصحى سواء بسواء. أى أن كلمة "صباع" مثلا ليست تحويرا لكلمة "إصبع"، بل هى كلمة أخرى قريبة منها تنتمى مثلها إلى ذات اللغة الأجنبية انتماء مباشرا، بالضبط مثلما تتقارب الألفاظ فى بعض اللغات الأوربية أحيانا دون أن يقضى هذا التقارب على استقلالية أى منها ولا يجعل منها لهجات فى لغة واحدة. أفهمت، أيها القارئ العزيز، أصول اللعبة التى يمارسها لويس عوض ونفضحها نحن ونكشف عن الأساس الهائر التى بُنِيَتْ فوقه وننسفه نسفا؟ ومن هذا الوادى البزرميط أيضا نسبته كلمة "لغة" إلى "لوجوس" اليونانية، وزعمه أن "لغوة" هى صيغة من كلمة "لهجة" المأخوذة من الجذر "لوج"، ومثلها فى ذلك "يرغى" (ص 237)، مع أن "لغوة" هى الصيغة العامية من "لغة" بعد إعادة الواو التى كانت قد حُذِفت من آخرها وحَذْف الهاء التى جاءت تعويضا عن تلك الواو المحذوفة. وهى فى العامية مفتوحة العين كأنها اسم مرة: هكذا بكل بساطة، ودون بهلوانيات متخلفة عقليا!
    ويبدو أن العرب كانوا يستخدمون هذه المادة أولاً فى الكلام غير المقبول أو الذى لا يُعْتَدّ به، ثم توسعوا فى معناها وأصبحت تستعمل لمطلق الكلام كما هو واضح. أما قوله إن "لغوة" مأخوذة من "لهجة" فهو يعرف قبل غيره أنه بكش محض، بيد أنه يريد إشاعة الاضطراب فى اللغة وتمزيقها عِضِين بحيث لا يعرف أحد فيها شيئا عن أى شىء ويتفرق دمها فى اللغات جميعا فلا يخضع أى شىء فيها لقاعدة ولا تكون هناك أية رابطة بين مفرداتها، بل تكون شَذَر مَذَر، ويجرى كل عنصر من عناصرها فى مدار لا تربطه بمدارات العناصر الأخرى أية وشيجة.
    وأما "يرغى" فلا علاقة له البتة بـــ"لوجو" أو "لنجوا" أو حتى بــ"لغا" العربية، بل هو من "أرغى" كما تفعل الإبل عندما تصوّت ويخرج من فمها الرُّغَاء، وهو ما يحدث للشخص إذا تكلم وهو منفعل مهتاج. ولذلك نسمعهم يقولون: "أرغى فلان وأزبد"، والإزباد والإرغاء لهما نفس المعنى تقريبا. والمقصود تأكيد ما يكون عليه الشخص المهتاج من الانفعال الشديد والكلام الكثير! ولويس عوض يعرف ذلك تماما، لكنه يمارس مهمة محددة كررتُ الكلام عنها فى مواضع مختلفة من هذه الدراسة. ذلك أن مثل هذا الأمر ليس بالذى يعلو على مداركه رغم ضعفه فى الموضوع الذى يتصدى له هنا، إذ إن معنى "الإرغاء" هو مما يعرفه كل أحد، ولويس عوض هو "أحد" من هؤلاء "الأحدين" رغم كل شىء، وإلا فإنها لمصيبة بل كارثة إذا كان فعلا يؤمن بهذا الذى يقول، إذ الأمر فى هذه الحالة يخرج عن ميدان العلم واختصاص علماء اللغة إلى شىء آخر وإلى رجال آخرين يعالجونه بطريقتهم.
    وبعد فإنه لا ينقضى منى العجب من قول نجيب محفوظ عن كتاب الدكتور لويس إنه قد بهره منه "منهجه العلمى ودقته الكبرى فى البحث والتقصى" (انظر لويس مجلى/ لويس عوض ومعاركه الأدبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 510)! أى منهج علمى يا ترى؟ وأية دقة كبرى أو حتى صغرى؟ إن نجيب محفوظ يقول قبيل ذلك إنه لا يقارب القراءة فى دراسات فقه اللغة إلا برفق ومن بعيد، فلماذا إذن هذه المبالغة المقيتة فى مدح الكِتَاب؟ أمن المعقول أن يكون هذا هو مستوى نجيب محفوظ فى الفهم بحيث لم يستطع أن يتبين شيئا من السخف والتفاهة فى تلك الأوراق الفضيحة التى تسمى مع ذلك بحثا؟ أم هل من المعقول أن تصل المجاملة إلى ذلك المدى المزعج للحق والحقيقة؟ كيف فاته كل تلك الملاحظات البشعة التى أظهرها منتقدو لويس عوض وكتابه؟ إنها إذن لمحنة أن يتصدى واحد كنجيب محفوظ لكتابٍ مملوء بالثغرات ومكشوف العورات كهذا الكتاب ثم لا يرى رغم ذلك شيئا من هذه العورات ولا تلك الثغرات، بل يرى على العكس من ذلك "منهجه العلمى ودقته الكبرى فى البحث والتقصى". اللهم سترك!
    *****
    هذا، وهناك مصائب أخرى متلتلة تزيد بشاعةً عن نظيرتها اللغوية منها قوله مثلا (ص 30) إن المرأة في المراحل المبكرة من تاريخ القبائل العربية كانت تشغل منصب رأس القبيلة، موردا الأسماء المؤنثة لبعض أشهر تلك القبائل مثل أُمَيّة وربيعة وكِنْدَة ومُرّة دليلا على ذلك وعلى أن المجتمع العربى آنذاك كان مجتمعا أُمَوِيًّا (matriarchal society). وهو دليل متهافت ككل شىء فى الكتاب، لأن هذه الأسماء رغم تأنيثها الظاهرى هى أسماء رجال. ومعروف، إلا للجاهلين المتسرعين أو الخبيثين السيئين، أن اسماء الأعلام عند العرب كثيرا ما تكون مؤنثةً صيغةً، إلا أنها تُطْلَق رغم ذلك على الذكور، ومنها الأسماء التى بين أيدينا والتى ما من واحد منها إلا ويطلق على شخص عربى مشهور، مثل أُمَيّة بن أبى الصَّلْت الشاعر المخضرم المشهور، وأمية جد أبى سفيان بن حرب بن أمية، وربيعة أبى عتبة وشيبة بنى ربيعة، وهما والد هند بنت عتبة (زوجة أبى سفيان) وعمها اللذان قتلهما على وحمزة فى غزوة بدر، وربيعة والد لبيد بن ربيعة الشاعر المخضرم، وربيعة بن مقروم الضبى، وهو شاعر مخضرم أيضا، وربيعة الرأى أحد الفقهاء المشهورين فى عصر بنى أمية وبنى العباس، وكندة أحد أجداد امرئ القيس الملك الضِّلِّيل وصاحب أشهر المعلقات حسبما ورد فى نسبه الموجود فى "الشعر والشعراء" لابن قُتَيْبَة و"الأغانى" للأصفهانى، وكندة بن خالد العجلانى، وهو شاعر ورد ذكره فى كتاب "أشعار النساء" للمرزبانى خلال خبرٍ عنه وعن هند بنت الغطريف العجلانية فى شعر تبادلاه، وقبل ذلك كله كندة زعيم القبيلة التى سميت باسمه والتى يزعم عالمنا العلامة التى لم تلده ولادة أنه كان امرأة، وهذا هو اسمه ونسبه كاملا طبقا لما جاء فى "العقد الفريد" لابن عبد ربه: "كندة بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أدد بن زَيد بن يَشْجُب ابن عَريب بن زَيدبن كَهَلان"، وكذلك كندة بن هذيم الطائى الكوفى الشاعر الإسلامى الذى ترجم له المرزبانى فى "معجم الشعراء"، ومُرَّة البكرى ومُرَّة بن رَوَاع الأسدى، وهما من شعراء الجاهلية، ومُرَّة بن جنادة الشاعر الإسلامى، ومُرَّة بن محكان السعدى الشاعر الأموى. وبالمناسبة فإنى لا أذكر أننى سمعت بامرأة عربية تسمى: أُمَيّة أو رَبِيعة أو كِنْدة أو مُرّة!
    ومن أسماء الأعلام المؤنثة المشهورة التى تطلق على الرجال أيضا غير تلك الأسماء عَبَدة (بن الطبيب) وطرفة (بن العبد) وعلقمة والنابغة وضمرة (النهشلى) ومسيلمة (الكذاب) وورقة وحمزة وأسامة وطلحة وحُذَيْفة ومعاوية وأرطأة (أبو بُسْر بن أرطأة) وسَمُرة (بن جندب) ومحيّصة (بن مسعود) وثعلبة، والحُطَيْئة، وسبطة ولبطة وحبطة (أولاد الفرزدق)، وتَوْبَة (بن الحُمَيِّر) وجَحْظَة (البرمكى) ومسلمة ومخرمة وحارثة وخارجة وحنظلة وخُزَيْمة ودِحْيَة ورؤبة ودَوْقَلة ورفاعة وساعدة وسَلَمة وعُرْوة وعرفطة وعرفجة وعرقلة وعطية وعُقْبَة وعمارة وعنترة وعُمَيْرة وقتادة وكنانة وكلدة وجُهَيْنة وهُدْبَة (بن الخشرم). ومن هذا يتبين للقارئ الكريم كيف أن لويس عوض لا يلم بأبسط الأشياء المتعلقة بموضوعه، وهى فضيحة أخرى من فضائحه التى لا تنتهى فى هذا الكتاب!
    وفى بداية الفصل الثانى من كتابه تحت عنوان "مشكلة اللغة ونظرية اللوجوس" يقول لويس عوض ما يلى: "فى "رسالة الغفران" للمعرى أن ابن القارح عندما يئس من مجادلاته مع الشعراء فى الجنة انصرف عنهم إلى مكانه، "فيلقى آدم عليه السّلام في الطريق فيقول: يا أبانا، صلَّى الله عليك، قد رُوِيَ لنا عنك شعرٌ منه قولك:
    نحن بنو الأرض وسكَّانها* منها خُلِقْنا، وإليها نعود
    والسَّعْد لا يبقى لأصحابه* والنَّحْس تمحوه ليالي السُّعود
    فيقول: إنَّ هذا القول حقٌّ، وما نطقه إلاّ بعض الحكماء، ولكنِّي لم أسمع به حتى السّاعة. فيقول، وفّر الله قسمه في الثَّواب: فلعلَّك يا أبانا قُلْتَه ثمَّ نسيت، فقد علمت أنَّ النسيان متسرّعٌ إليك، وحسبك شهيدا على ذلك الآية المتلوَّة في فرقان محمد صلى الله عليه وسلم: "ولقد عَهِدْنا إلى آدم من قَبْلُ فنَسِيَ ولم نجد له عزما". وقد زعم بعض العلماء أنك إنّما سُمِّيتَ إنسانا لنسيانك، واحتجَّ على ذلك بقولهم في التَّصغير: أُنَيْسِيَان، وفي الجمع: أَنَاسِيّ. وقد رُوِيَ أنَّ الإنسان من النسيان، عن ابن عبَّاس. وقال الطائيّ:
    لا تَنْسَيَنْ تلك العهود، وإنَّما* سُميِّت إنسانًا لأنّك ناسِ
    وقرأ بعضهم: "ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض النَّاسِ" بكسر السّين، يريد "النّاسي"، فحذف الياء كما حذفت في قوله: سواء العاكف فيه والبادِ. فأمّا البصريُّون فيعتقدون أنَّ الإنسان من الأنس، وأنَّ قولهم في التَّصغير: "أنيسيان" شاذ، وقولهم في الجمع: "أناسيُّ" أصله "أناسين"، فأُبْدِلت الياء من النون. والقول الأوَّل أحسن . فيقول آدم صلَّى الله عليه: أبيتم إلاَّ عقوقًا وأذيَّةً، إنّما كنت أتكلَّم بالعربيَّة وأنا في الجنَّة، فلمّا هبطت إلى الأرض نُقِل لساني إلى السُّريانيَّة، فلم أئطق بغيرها إلى أن هلكت. فلمَّا ردَّني الله سبحانه وتعالى عادت عليَّ العربيَّة. فأيَّ حينٍ نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة. ألا ترى قوله: منها خُلِقْنا وإليها نعود؟ فكيف أقول هذا المقال ولساني سُريانيّ؟ وأمَّا الجنّة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها"...".
    ويعقب الدكتور لويس بقوله: "فى هذا التهكم الموجع الذى كتبه المعرى فى "رسالة الغفران" نحو 1024 ميلادية يتصدى المعرى بالسخرية لنظرية غُلاة السنة ثم الأشاعرة الشهيرة فى "قِدَم القرآن" ووجوده بنصه فى عقل الله وفى اللوح المحفوظ قبل الخليقة وما انبنى عليها من نظريتهم فى أن اللغة العربية التى نزل بها القرآن قديمة قدم الله أو على الأقل: قدم الخليقة، وأن آدم كان يتكلم العربية فى الجنة حتى لقد نسبوا إليه شعرا حفظته العرب. وطريقة المعرى فى التعريض بهذا الرأى هو المشايعة الساخرة بمعنى قوله: فليكن. ربما كان آدم يتكلم العربية فى الجنة، ولكن ما إن نزل إلى الأرض حتى تكلم السريانية. فإذا كانت العربية أقدم لغة فى السماء فالسريانية أقدم لغة على الأرض. والمعرى طبعا لا يقصد إلى هذا المعنى بحرفه، وإنما كل ما يقصد إليه هو: ما هكذا يكون البحث فى تاريخ الأديان أو تاريخ اللغات، ففى الدنيا كتب أخرى مقدسة غير القرآن، ولغات أخرى غير العربيية. وهذه وتلك "مخلوقة" أو "محدثة"، وليست قديمة قدم الله، وإنما بدأت بوجود الإنسان على الأرض. وإذا جاز الكلام عن السريانية أو العبرية فيجوز أيضا عن العربية" (ص 72- 74).
    والحق أنه ليس فى كلام شاعر المعرة أى شىء مما يهرف به لويس عوض، فلم يقل الرجل إن فى الدنيا كتبا مقدسة غير القرآن، وأتحدى أى إنسان يزعم خلاف ذلك أن يدلنى على النص الذى يشير إلى هذا صراحة أو تضمينا، فضلا عن أن المسلمين يؤمنون بأن الكتب السماوية السابقة على القرآن قد أصابها التحريف والنسيان فلم تعد ذات الكتب التى نزلت من السماء، أو ضاعت ولم يعد إليها من سبيل. وإذا كان أهل الأناجيل أنفسهم يقولون مثلا إنها مكتوبة بأقلام بعض النصارى بعد ترك المسيح الأرض بعشرات الأعوام مما يدل على أنها ليست هى الإنجيل الذى أنزله الله على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، ومثلهم فى ذلك اليهود، الذين يقولون إن عُزَيْرًا هو الذى كتب التوراة من الذاكرة، فكيف يُتَصَوَّر أن يقول المعرى المسلم إن هناك كتبا أخرى سوى القرآن مقدسةً تقديسَه فهو لا يتميز إذن بشىء عنها؟ أى أنه ليس فى كلام المعرى لا نصًّا ولا عقلاً أى شىء مما يزعمه الدكتور لويس! إنما هو كلام مستكن فى قلب دكتورنا أسقطه على المعرى ويريدنا أن نلغى عقولنا ونصدق أن الشاعر الفيلسوف هو الذى قاله. مسكين المعرى مع الدكتور لويس! ويبدو أنه موعود كل فترة أن تصيبه غاشية من الظلم على يد الدكتور.
    هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس فى كلام الشاعر القديم أى شىء أيضا عن قضية خلق القرآن. إن الكلام منحصر فيما نُسِب لأبى البشر من شعر، والمعرى يرفض هذه النسبة على لسان آدم ذاته، وهذا كل ما هنالك، ولا كلام عن قِدَم القرآن أو حدوثه، بل هذا أيضا إسقاط من لويس عوض على فكر المعرى كما هو واضح لكل من له عينان. وحجة المعرى على لسان آدم مكونة من شقين: إذا كانت لغة آدم حين نزل إلى الأرض هى، حسبما يؤمن الناس، اللغة السريانية، فكيف يمكن أن يكون قد نظم شعرا كهذا بالعربية التى لم يكن يتحدثها على الأرض؟ وإذا قلنا إنه إنما نظم هذا الشعر وهو لا يزال فى الجنة يتحدث العربية، فالسؤال هو: كيف يمكن أن يكون قد نظم هذا الشعر الذى يشير فيه إلى خلقه من الأرض وأنه بعد الموت والبعث سوف يعود إليها، وهو لم يكن رأى الأرض أصلا ولا ذاق الموت بعد؟ أرأيت كيف أن لويس عوض يتقول على الرجل الأقاويل وينسب له ما لم يدر بخَلَده؟ ليس فى كلام المعرى إذن شىء له صلة بتاريخ الأديان أو المقارنة بينها على الإطلاق، ولا فيه البتة شىء عن قِدَم القرآن أو حدوثه، ولا فيها كذلك شىء عن طبيعة اللغات البشرية بعامة، أو العربية بخاصة، وهل هى سابقة على الوجود البشرى أو لاحقة له. ثم ما حكاية "عقل الله" التى ينسبها لويس عوض فى الزحمة للمسلمين؟ ترى متى استعمل المسلمون مصطلحا كهذا المصطلح؟ فليرنا لويس عوض ذلك، وساعتها يصير هناك كلام آخر. المسلمون يتحدثون، إذا تحدثوا فى مثل هذه الأمور، عن "علم الله"، أما "عقل الله" فلْيلعب لويس عوض لعبة سواها!
    وأما ما قاله بعد ذلك من أن المعرى كان يأخذ إِخْذ الفلاسفة والمعتزلة، الذين يقولون إن الإنسان مخير لا مسير وإن الله موجود بذاته فقط وإن صفاته غير مساوية لذاته، لأنها لو ساوتها لانفتح الباب مرة أخرى أمام تعدد الآلهة، وذلك على عكس السنة والأشاعرة الذين ينسب إليهم لويس عوض أنهم كانوا يقولون بالجبر المطلق وبأن الله موجود بذاته وصفاته معا وبأن القرآن قديم قِدَم الله (ص 74)، أما قوله هذا فقد خلط فيه بعض الحقائق التاريخية ببعض الأباطيل، إذ لم يقل أهل السنة والأشاعرة بالجبر المطلق، بل قالوا بوجود كسب بشرى، وهو شىء مختلف عن الجبر الذى يدعيه عليهم الدكتور لويس. كما أن المعتزلة لم ينفوا صفات الله، بل كل ما قالوه أن ذاته هى عين صفاته، أى أنهم ينسبون له سبحانه صفات، إلا أنهم لا يفصلونها عن ذاته العلية، وهو ما يعنى أن القول بأنهم لا يساوون بينها وبين ذاته هو تحميل للقضية بما لا تحتمل على الإطلاق، إذ القول بأن ذاته سبحانه هى عين صفاته لا يمكن أن يكون معناه أن المعتزلة لا يساوون بين ذات الله وصفاته.
    ومما يهرف به لويس عوض أيضا، وكل ما يقوله تقريبا فى هذا الكتاب هو كذلك إلا الشاذ النادر الذى لا يُعَوَّل عليه، زعمه أن غُلاَة القائلين بوجوب سيادة العرب على غير العرب من المسلمين كانوا يقولون كذلك بأن القرآن يخلو تماما من أى لفظ غير عربى (ص 85). ولكنْ لننظرْ أولاً فى النص التالى الذى ألـمّ فيه الإمام السيوطى بهذا الموضوع فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن" تحت عنوان "النوع الثامن والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة العرب": "قد أفردتُ في هذا النوع كتابًا سميته: "المهذَّب فيما وقع في القرآن من المعرَّب"، وأنا ألخص هنا فوائده فأقول‏:‏ اختلف الأئمة في وقوع المعرَّب في القرآن: فالأكثرون، ومنهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس، على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: "قرآنًا عربيًّا" وقوله تعالى: "ولو جعلناه قرآنًا أعجميًّا لقالوا: لولا فُصِّلَتْ آياته. أأعجميٌّ وعربيٌّ؟". وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك‏. وقال أبو عبيدة‏:‏ إنما أُنْزِل القرآن بلسان عربي مبين‏. فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن "كِذّابًا" بالنبطية فقد أكبر القول‏. وقال ابن أوس: لو كان فيه من لغة غير العرب شىء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية والحبشية والنبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعد مخالطة لسائر الألسن في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظًا غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن‏. وقال آخرون‏:‏ كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جدًا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الجِلَّة‏.‏ وقد خفي على ابن عباس معنى "فاطر" و"فاتح". قال الشافعي في الرسالة‏:‏ لا يحيط باللغة إلا نبي‏. وقال أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك‏:‏ إنما وُجِدَتْ هذه الألفاظ في لغة العرب لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظًا‏،‏ ويجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ‏.‏ وذهب آخرون إلى وقوعه فيه‏،‏ وأجابوا عن قوله تعالى: "قرآنًا عربيًّا" بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيًّا، والقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية‏، وعن قوله تعالى: "أأعجمي وعربي؟" بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطَب عربي‏؟ واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو "إبراهيم" للعَلَميّة والعجمية. ورُدَّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست مكان خلاف، فالكلام في غيرها موجَّه بأنه إذا اتُّفِقَ على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس‏.‏ وأقوى ما رأيته للوقوع، وهو اختياري، ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل، قال‏:‏ في القرآن من كل لسان‏. وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه‏.‏ فهذه إشارة إلى أن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب‏. ثم رأيت ابن النقيب صرح بذلك فقال‏:‏ من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم. والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأُنْزِل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير. انتهى‏.‏ وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو‏.‏ وقد رأيت الجويني ذَكَر لوقوع المعرَّب في القرآن فائدة أخرى فقال‏:‏ إن قيل إن "استبرق" ليس بعربي، وغير العربي من الألفاظ دون الفصاحة والبلاغة، فنقول‏:‏ لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك، وذلك لأن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة فإن لم يرغّبهم بالوعد الجميل ويخوّفهم بالعذاب الوبيل لا يكون حثه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظرًا إلى الفصاحة واجب‏.‏ ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء، وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة ثم المآكل الشهية ثم المشارب الهنيّة ثم الملابس الرفيعة ثم المناكح اللذيذة ثم ما بعده مما يختلف فيه الطباع. فإذًا ذكر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال مَنْ أُمِر بالعبادة ووُعِد عليها وبالأكل والشرب إن الأكل والشرب لا ألتذ به إذا كنت في حبس أوموضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير‏.‏ وأما الذهب فليس مما يُنْسَج منه ثوب. ثم إن الثوب من غير الحرير لا يُعْتَبَر فيه الوزن والثقل، وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن‏.‏ وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثخن ولا يتركه في الوعد لئلا يقصّر في الحث والدعاء‏. ثم إن هذا الواجب الذِّكْر إما أن يُذْكَر بلفظ واحد موضوع له صريح أو لا يُذْكَر بمثل هذا. ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى لأنه أوجز وأظهر في الإفادة، وذلك "إستبرق". فإن أراد الفصيحُ أن يترك هذا اللفظ ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة. ولا يجد العربي لفظًا واحدًا يدل عليه لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفُرْس ولم يكن لهم بها عهد ولا وُضِع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عرّبوا ما سمعوا من العجم واستغنَوْا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به‏. وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخل بالبلاغة لأن ذكر لفظين بمعنًى يمكن ذكره بلفظٍ تطويلٌ. فعُلِمَ بهذا أن لفظ "إستبرق" يجب على كل فصيح أن يتكلم به في موضعه ولا يجد ما يقوم مقامه. وأي فصاحة أبلغ من ألاّ يوجد غيره مثله؟ انتهى‏.‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية‏:‏ والصواب عندي فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعرّبتْها بألسنتها وحوّلَتْها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب. فمن قال‏:‏ إنها عربية فهوصادق، ومن قال: عجمية فصادق‏.‏ ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون"‏.‏
    ومن هذا النص الذى اختصر فيه السيوطى المسألة من جميع جوانبها يتضح ما يلى: أن هناك عدة آراء فى هذه القضية لا رأيين اثنين فحسب كما يقول لويس عوض، إذ ثمة من يقول إن فى القرآن بعض الألفاظ الأعجمية، بيد أنها لم تعد كذلك بعد أن انصهرت قبل ذلك فى العربية وأضحت جزءا لا يتجزأ منها مثلما لا تخرج القصيدة الفارسية عن فارسيتها لوجود بعض الألفاظ العربية فيها مثلا. وإلى جانب ذلك كان هناك من يقول إن التشابه بين تلك الألفاظ ومثيلاتها فى اللغات الأخرى ليس تشابه أخذ واستعارة، بل تشابه مصادفة ليس إلا. وهؤلاء وأولئك قد سبقوا القاضى عبد الجبار فى ذَيْنِكَ الرأيين، فلا معنى إذن لمبالغة لويس عوض الهوجاء فى الثناء عليه وكأنه ابن بجدتها (ص 96)، إذ كان ثمة عدد من العلماء المسلمين يقولون بهذا وذاك من قبل. أى أن عبد الجبار لم يقل هذا دونهم، ولا قاله قبلهم. أما قول لويس عوض إننا لو أخذنا بهذا الرأى لما انشقت اللغة العربية شقين: فصحى وعامية (ص 98)، فلا أفهم كيف يكون ذلك، إذ الفصحى تمتص كل يوم من اللغات الأجنبية كلمات جديدة لم تتوقف عن ذلك قط، فأخذت من الفارسية، وأخذت من التركية، وأخذت من اللغات الأوربية فىالعصر الحديث، وإن لم يمنع هذا فيما بعد من ترجمة مثل تلك الكلمات فى كثير من الأحيان ليصبح لدينا لفظ أعجمى باق على حاله أو بعد تعريبه وإجرائه على أصول الصرف العربى، ولفظ عربى أصيل مترجم، ولتكون فرصة الاختيار واسعة أمام الكاتبين والمتحدثين. وعندنا على سبيل التمثيل كلمة "تليفزيون" و"تلفاز" و"مِرْناء"، وهذا مجرد مثال. ومع ذلك لم تختف العامية ولم تمت الفصحى، لأن هذا قانون من قوانين اللغة بوجه عام لا أمر خاص بلغتنا وحدها. ذلك أن الفصحى تشبه الملابس الرسمية، والعامية تشبه المنامة. تلك للحفلات والمناسبات الهامة، وهذه للمنزل أو لحجرة النوم ليس غير.
    كذلك فإن القائلين بوقوع الأعجمى فى القرآن ليسوا جميعا من غير العرب الرافضين للسيادة العربية على عكس ما يزعم لويس عوض، وإلا فهل ابن عباس من أولئك الرافضين لحكم العرب؟ مصيبة أن تكون الإجابة بــ"نعم"! أليس كذلك؟ وبالمثل كان سعيد بن جبير ووهب بن منبه من القائلين بأن فى القرآن المجيد من كل لسان، وسعيد ووهب عربيان صميمان: الأول هو سعيد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، والثانى وهب بن منبه بن كامل اليماني أبو عبد الله الأبناوي الصنعاني. وعلى الضفة الأخرى لدينا أبو عبيدة معمر بن المثنى، ولم يكن عربيا، بل كان شعوبيا يحمل أشد الحملة على العرب حتى لقد ألّف فى مثالبهم عددا من الكتب المشهورة، كما كان خارجيا حسبما نقل الذهبى عن ابن قتيبة أثناء ترجمته له فى كتابه: "سِيَر أعلام النبلاء". ومع ذلك كله كان يرى أن القرآن إنما أنزل بلسان عربى مبين، ومَنْ زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول على حد تعبيره المنقول عنه فى السيوطى. كذلك كان عبيد الله القاسم بن سلاّم غير عربى، إذ كان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة، ورغم هذا كان من المتشددين فى إنكار وجود الأعجمى فى القرآن كما مر بيانه. وقد تنبه لويس عوض إلى ما كتبه السيوطى هنا، لكن من الواضح أنه لم يفهم أو فهم لكنه لم يشأ أن يقر بالحقيقة لغاية فى نفسه! ألا يبدو كلامه مضحكا إذن؟ ألا يدل هذا أيضا على أنه لا يصلح لتناول الموضوع الذى أخذ على عاتقه الكتابة فيه؟ فما رأى العلم والعلماء فى ذلك؟ وما القول فيمن يسميه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، وكذلك فيمن يحرص على إبراز هذا التلقيب بالبنط العريض الطويل؟
    أما مُشَاحّة لويس عوض فى أن العربية أوسع اللغات وأكثرها مفرداتٍ، وكذلك شَغْبه على الشافعى، الذى يقول بذلك، فمشاحةٌ وشغبٌ لا معنى لهما ولا لقوله أيضا إن كل أهل لغة ينظرون إلى لغتهم بنفس المنظار (ص 112)، إذ المعجم العربى موجود، وكذلك المعاجم الأجنبية، ومن السهل المقارنة بين أكبرها عندنا وأكبرها عندهم لمعرفة أى اللغات هى الأكثر مفردات. كما أن المقارنة بين نحونا ونحوهم على يد من يحيط بهذا وذاك لا على يد الجهلة المتحذلقين كفيلٌ بوضع أيدينا على اللغة الأوسع والأكثر مرونة فى طرق التعبير. وكذلك لا معنى لاعتراضه على قول الشيخ أحمد شاكر، الذى يرى سبق العربية على العبرية والسريانية والكلدانية، ذلك الاعتراض الذى وجد مجال تنفسه فى الفصول التى تلى ذلك من كتابه الفقير علما ومنهجا بل العديمهما، وهى الفصول التى انتصر فيها دائما لسبق اللغات الأخرى دون أى دليل سوى الفَهْلَوَة التى برع فيها، لكن فاته أن الفهلوة لا تؤكّل خبزا فى ميدان العلم الصحيح. وفيما رددنا به عليه على طول هذه الدراسة وفنّدنا سخفَه وسطحيتَه الكفايةُ والمقنع. ولنفترض أن اعتزاز العرب بلسانهم غير قائم على الاستقصاء والمقارنة، فما الذى يؤلم لويس عوض فى الأمر، وهو الذى أخذ على عاتقه برعونةٍ أن يثبت أن العربية مدينة لكل ما هب ولم يدب من اللغات الأخرى، ولم يبق إلا أن يقول إنها مدينة أيضا للغة البراغيث؟ أحلال على الآخرين أن بياهوا بلغاتهم وحرام علينا نحن العرب؟ فما بالنا إذا ما كنا موقنين من تبحر العربية المذهل فى مجال المفردات ومرونة الاشتقاق رغم تخلف العرب العلمى فى تاريخهم الحديث عن أصحاب اللغات الأخرى التى نقارنها بها، وكذلك من مرونة لسان يعرب وسلاسته فى تركيب الجمل والعبارات على نحو لا يتيسر أبدا لأى لسان آخر؟ وليس فى الشعور بمثل هذا الاعتزاز أى معابة يمكن أن تؤخذ على صاحبه، فضلا عن اتهامه باستنجاس اللغات الأخرى وتعاليه على غير أمته من الأمم فِعْل الآريين، على عكس ما يزعم الدكتور لويس، الذى يَقْرِف فضيلة الشيخ أحمد شاكر بهذا لمجرد أنه ينكر وجود الألفاظ الأعجمية فى القرآن المجيد (112- 113).
    وبالمثل يخطئ لويس عوض خطأً فاحشًا، كدَيْدَنه فى فُحْش كل خطإ يقترفه، حين يدعى أن ابن جنى هو وحده من بين فقهاء اللغة جميعا الذى كان يقول بأن اللغة مواضَعة واتفاق. وهو كلام باطل، فابن جنى كان من المتوقفين لا إلى من يقول بالمواضعة والاتفاق ولا إلى من يقول بالإلهام والتوقيف. وفى كتابه: "الخصائص" نراه يعرض لكلا الرأيين وحجج القائلين به، ثم يعقّب بأنه لا يستطيع أن يرجح أيًّا منهما لتكافؤهما. بل إن فى بعض ما كتبه ما يُفْهَم منه أنه من هؤلاء، وفى بعضه الآخر ما يفهم منه أيضا أنه من أولئك، وهو ما يدل على أنه ظل مترددا بين الرأيين لا يحسم المسألة كما بينتُ فى كتابى: "من ذخائر الكتبة العربية" (دار الفكر العربى/ 1421هــ- 2000م/ 117- 119). وعلى أى حال فحتى لو قبلنا ما قاله لويس عوض، لقد كان هناك علماء آخرون يقولون بالاصطلاح البشرى لا بالإلهام الإلهى، ودليلنا على ذلك من ابن جنى نفسه لا من أى مصدر آخر، إذ قد ناقش هو نفسه، كما قلت قبل قليل، كلا من الرأيين والقائلين به، بما يدل على أنه كان قبله من يقولون بالاصطلاح إلى جانب أهل الإلهام. لا بل إن عبارته تفيد بما لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا أن الغلبة فى هذا الموضوع هى للقائلين بالمواضعة لا بالتوقيف على خلاف ما زعم الدكتور لويس عوض (انظر كتابه: "الخصائص"/ تحقيق محمد على النجار/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "الذخائر"/ العدد 146/ 1/ 40)، وهو ما يبين بالبرهان القاطع أن بضاعة "أستاذنا الدكتور لويس عوض" العلمية بضاعةٌ مُزْجَاةٌ رغم كل التصايحات والطنطنات باسمه الذى أصبحت أَعُدّه علامةً مسجَّلةً على رداءة العلم وانحراف المنهج.
    وفى هذا السياق ينتهز الدكتور لويس السانحة لكى يمرر فى الخفاء، آملا ألا يشعر به أحد، الزعم الكاذب الآخر بأن الحكومة الإسلامية هى حكومة ثيوقراطية، وهى الحكومة الدينية التى تجعل الشريعة أساس الدولة (ص 75)، وهذا كلام أقل ما يوصف به أنه غير دقيق ولا أمين، إذ الحكومة الثيوقراطية هى الحكومة التى يتولاها رجال الدين بأنفسهم بوصفهم نوابا عن الله، وهو ما لم يحدث فى الإسلام، وإن كان الإسلام دينا ودولة مع ذلك. فمن المعروف الذى لا يحتاج إلى تذكير أن رجال الدين لم يتولَّوْا فى الإسلام حكم الأمة، على عكس الحال فى النصرانية رغم أن النصرانية ليست دينا ودولة، وهذا من مفارقات التاريخ. لكن لويس عوض لا يترك فرصة من الفرص إلا وسمَّم فيها الآبار!
    وهو يربط هذا بأن الحزب العربى فى الدولة الإسلامية المبكرة كان يرى أن المسلمين العرب هم وحدهم الحقيقون بتولى شؤون الحكم دون غيرهم لمعرفتهم بالعربية وأسرارها ولمقدرتهم من ثم على الإحساس بإعجاز القرآن بسبب ذلك على نحو أفضل منهم. ثم ذكر المعتزلة فى هذا السياق بوصفهم الممثلين للاتجاه المناوئ الذى يرى أن المسلمين سواسية فى أهليتهم لتولى مقاليد الحكم ما دامت تتوفر فيهم الشروط اللازمة لتلك المهمة. ومع هذا فإنه حين جاء دور الكلام فيما وقع فعلا من حوادث التاريخ لم يجد فى الساحة من ممثلى ذلك التيار سوى الخوارج والشيعة (ص 76): فأما الأولون فهم عرب لا أعاجم، وقد أورد هو نفسه هذه الحقيقة، إذ نقل كلام يوليوس فلهاوزن فى كتابه: "الخوارج والشيعة" عن أنسابهم فى قبائل تميم وبكر وهمدان ومُضَر والأزد واليمانية، وإن كان قد تبعهم على دعوتهم ناس من غير العرب أيضا (ص 77- 79). وأما الشيعة فإنهم، كما يعرف ذلك حتى الأطفال، يعتقدون أن الحكم إنما هو من حق أهل البيت وحدهم، ومعروف أن أهل البيت عرب لا أعاجم، بل هم صميم العرب. ولهذا كان من الغريب أن نسمعه يقول بعلو حسه إن "دعوة الشيعة إذن كدعوة الخوارج كانت دعوة شعوبية تمثل احتجاج أبناء الأمصار المفتوحة على حكم قريش والعرب للدولة الإسلامية" (ص 80)، وكأن عليا وذريته أمريكان أو روس وليسوا عربا، بل من الذؤابة فى قريش ذاتها! وكأن شيعة علىٍّ الذين التفوا حوله فى وجه معاوية كانوا غير عرب! وقد ذكر لويس عوض ذاته أنه كان على رأس الشيعة بعد موت على أشراف العرب وفرسانهم المستوطنون فى العراق. والحق أن الشيعة، باتخاذهم الانحياز لعلى وأبنائه ركنا من أركان الدين على ما هو معروف فى إضافتهم إلى مذهبهم ركنا سادسا هو ركن الإمامة، إنما يؤسسون لتولى العرب حكم المسلمين إلى الأبد!
    أما قوله إن فكرة إعجاز القرآن قد انتقلت إلى فكرة إعجاز اللغة العربية نفسها، وإنه "بالقياس على هذا يُسْتَخْلَص ضمنا وصراحة أن الله تخير لحمل آخر رسالاته نبيًّا عربيًّا لأن العرب كانت خير أمة أُخْرِجَتْ للناس" (ص 85) فتعليقى عليه هو أننى لا أدرى من قال هذا من العرب أو غير العرب، فالإسلام واضح تماما فى هذا، وهو أن العرب ليسوا أفضل من غيرهم، ولا غيرهم أفضل منهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن الله إذا كان قد أثنى على المسلمين الأوائل بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فإنه قد اشترط فى المقابل أن يأمروا بالمعروف ويَنْهَوْا عن المنكر ويؤمنوا بالله، وإلا فلا أفضلية لهم فى شىء. فالمسالة إذن ليست عصبية عربية ولا قرشية، بل مسألة قيم ومبادئ مَنْ حازها كان هو الأفضل، ثم لا يهمّ جنسه ولا عِرْقه بعد ذلك فى قليل أو كثير. ومن شأن هذا كله أن يبطل ما ظل "أستاذنا الدكتور لويس عوض" يهرف به طويلا ويسوّد به الصفحات تلو الصفحات!
    ولقد وقعت فى الكتاب أخطاء جمة رهيبة تدل على أن معرفة الدكتور لويس بموضوع كتابه وكذلك بلغة العرب معرفة ضحلة تماما. وسوف نحاول فيما يلى من صفحات أن نستعرض بعض هذه الأخطاء، بعضها فقط: ولنأخذ أولا عنوان كتابه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، ونتساءل: ما معنى "فقه اللغة"؟ إن الكتاب كله من أوله إلى آخره لا يتعرض من اللغة العربية إلا لجانبها الصوتى، وفى مجال واحد من مجالات الصوتيات، ألا وهو تحول نطق الحروف من صوت إلى صوت بغية القول بأن ألفاظ اللغة العربية جميعها تقريبا مستقاة من اللغات الأخرى. وهذا كل ما هنالك، وكان الله يحب المحسنين! ومع ذلك فإنه يأنس فى نفسه التهور الكافى لعَنْوَنَة كتابه بهذا العنوان البراق الذى يحسب من يقرؤه أن تحت القبة شيخا، على حين نعرف أنه ليس هناك إلا ما دفنّاه معا! إن فقه اللغة يشمل علم الأصوات وعلم الصرف وعلم النحو وعلم المعاجم، بيد أن كتاب الدكتور لويس لا يتناول من كل ذلك إلا الصوتيات، ومن جانب واحد ليس إلا، ودعنا من أنه لم يتبع مناهج العلماء مؤثرا عليها أساليب أخرى لا تمت للعلم بصلة. والغريب أن يذهب رغم ذلك فيزعم أنه قد أتى فى كتابه هذا الضحل بما لم تأت به الأوائل ولا الأواخر، إذ أخذ يختال ويُدِلّ بعلمه الذى يعرفه كل أحد له أدنى اتصال بالدراسات اللغوية قائلا إن فقه اللغة بفروعه الكذا والكذا قد عرفته أوربا منذ القرن التاسع عشر وإنه يريد أن يطبق هذا الكلام على اللغة العربية، وكأن الأساتذة العرب الكبار المتخصصين فى ذلك المجال فى العصر الحديث ويؤلفون فيه الكتب والدراسات الرصينة منذ عشرات السنين كانوا يقشّرون بصلا طول الوقت. ودعنا من فطاحل علمائنا القدامى الذين سبقوا الغرب بقرون وتعلم الغرب على أيديهم أيام أن كنا متقدمين وكانوا متخلفين بل متوحشين. وهو، فى هذا، يذكرنا بالريفى الساذج الذى ذهب إلى المدينة لأول مرة واطلع هناك على بعض مظاهر الحضارة وآلاتها فنسى نفسه وشرع، كلما جلس إلى أحد من أهل الحَضَر، يشرح له أصول الحضارة وأدواتها ويفيض فيما يعرفه كل حَضَرِىّ لأنه من أَوَّلِيّات الحضارة، غير دارٍ أن ما يظنه العِلْمَ اللَّدُنِّىَّ ليس إلا قشورا سطحية لا تساوى عند العالِمين شيئا.
    والواقع أن الدكتور لويس يتصور العلم على أنه برميل موجود فى دماغه جاهز، وما عليه إلا أن يمد المغرفة فيه فتخرج بما يريد فيصبها فى الأطباق والصحون (أى الكتب والمقالات) للقراء، ناسيا أن رأسه لا يسع كل شىء ولا يستطيع أن يستوعب كل شىء، وأنه لا يوجد إنسان يعرف كل شىء، وحتى لو كان يعرف شيئا من الأشياء معرفة جيدة وأراد أن يكتب فيه كتابة علمية فعليه التثبت منه بالرجوع إلى الكتب والدراسات والمعاجم والموسوعات حتى يضمن أنه لم يشطّ أو يَنْسَ مثلا. وعلى أساس من هذا التفكير المهلك لصاحبه والمعرّضه للفضائح نجده يفسر "القوارير" بأنهم "الأطفال" (ص 184). كيف كان ذلك؟ البركة فى النظرية البرميلية! لقد ذكر ابن منظور الأصلى السليم لا ابن منظور القبطى التقليد أن "القارورة: واحدة القَوارير من الزُّجاج. والعرب تسمي المرأَة: القارورة، وتكنِّي عنها بها. والقارُورُ: ما قَرَّ فيه الشرابُ وغيره، وقيل: لا يكون إِلا من الزجاج خاصة. وقوله تعالى: قَوارِيرَ قواريرَ من فضة، قال بعض أَهل العلم: معناه أَوانيَ زُجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير. قال ابن سيده: وهذا حسن... والقارورة: حَدَقة العين، على التشبيه بالقارورة من الزجاج لصفائها وأَن المتأَمّل يرى شخصه فيها... ابن الأَعرابي: القَوارِيرُ شجر يشبه الدُّلْبَ تُعْمَل منه الرِّحالُ والموائد. وفي الحديث أَن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأَنْجَشةَ وهو يَحْدُو بالنساء: رِفْقًا بالقَوارير! أَراد، صلى الله عليه وسلم، بـ"القوارير" النساء. شبههن بالقوارير لضعف عزائمهن وقلة دوامهن على العهد، والقواريرُ من الزُّجاج يُسْرِع إِليها الكسر ولا تقبل الجَبْرَ. وكان أَنْجَشَةُ يحدو بهن رِكابَهُنَّ ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن، فلم يُؤْمَنْ أَن يصيبهن ما يسمعن من رقيق الشعر فيهن أَو يَقَعَ في قلوبهن حُداؤه، فأَمر أَنجشَةَ بالكف عن نشيده وحُدائه حِذارَ صَبْوَتِهن إِلى غير الجميل. وقيل: أَراد أَن الإِبل إذا سمعت الحُدَاء أَسرعت في المشي واشتدت فأَزعجت الراكبَ فأَتعبته، فنهاه عن ذلك لأَن النساء يضعفن عن شدة الحركة". فهل رأى القارئ الكريم فى كلام هؤلاء العلماء أن "القوارير" فى أى معنى من معانيها هى الأطفال؟ أترك لكم التعليق على ذلك!
    فهذا أولا، وبعد "أولا" تأتى بطبيعة الحال "ثانيا"، و"ثانيا" هنا هى ما قاله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى كلامه عن جذر كلمات "كور" و"صنم" و"جلّة" و"قلّة" فى اللغة العربية والعامية المصرية، وهو (كالعادة التى تعودناها منه) جذر من لغة هندوأوربية فى القديم أو فى الحديث لا وجود له فى كثير من الأحيان فى أية لغة رغم كل ما يمارسه "أستاذنا الدكتور لويس عوض" من بهلوانيات لم أر نظيرا لها من قبل، بل هو جذر يفترضه افتراضا وهو جالس منجعصا على المصطبة، وهات يا فتاوى. لكننى لن أتناول هنا إلا شيئا واحدا هو زعمه الجاهل أن كلمة "كرة" (التى يطلب من القارئ أن يقارن بينها وبين "كورة" فى العامية المصرية) "كان معناها الأصلى لا يحمل فقط معنى الاستدارة الكروية، ولكن يحمل أيضا معنى تشكيل الطين والصلصال لعمل "الصنم" و"الصورة" على عجلة الفخّارين (قارن "جلة" العربية و"قلة" العامية المصرية)" (ص 191). ترى، وأستحلفكم بالله أيها القراء الشرفاء أن تصدقونى القول، هل رأيتم قط أو سمعتم أو حتى تخيلتم أن الأصنام تُصْنَع على عجلة الفخارين؟ لماذا يا أستاذنا الدكتور؟ أأصنام هى أم قُلَل قِنَاويّة؟ ومتى كانت الأصنام تصنع من الفخار؟ يا رجل، حنانيك بنفسك، ولا تجعلها ملطشة لكل رائحٍ أو غادٍ! ثم ما حكاية الجلّة التى تصنع على عجلة الفخارين؟ وأية جلّة يا ترى؟ أهى الروث (الجَِلّة) الذى ينزل من مؤخرة البهائم؟ والله إننا لا نستطيع أن نشاركك هذه الخبرة التى لم يخبرها أحد من البشر من قبل ولا سيخبرها من بعد، اللهم إلا إذا كان الزمان يدخر لنا مفاجأة لا تخطر على البال ويهبنا عباقرة مثلك يفتحون فتحا فى عالم الجلّة! أم هى القفّة (الجُلّة) التى يضع المصريون فيها الغلال والدقيق والتمر والفول والحمص والبذور وتُصْنَع من الخوص؟ الواقع أن هذه أدهى وأضلّ، وتحتاج هى أيضا إلى عبقرى جِلاّوىّ من نفس الطراز، إذ مبلغ علمنا القاصر أن الخوص لا يشكَّل على عجلة الفخارين ولا على عجلة غير الفخارين!
    ثم ما معنى القول بأن كلمة "القلة" عامية مصرية؟ معناه طبعا هو أنها ليست عربية، على الأقل: بهذا النطق أو بهذا المعنى؟ لكن طلَع نَقْبُك (ككل مرة) على شونة، وضاع جهدك الذى بذلته طول الليل فى نقب الجدار على الفاضى وخرجت من المولد (يا ولداه!) بلا حمّص أو حتى حَبّ العزيز الذى الرُّبْعة منه بقرش! سأتركك وأترك السادة القراء مع هذا النص من معجم "محيط المحيط" لصاحبه بطرس البستانى (النصرانى ليكون أبلغ رد عليك وليعرف القراء أن العلم والبهلوانية أمران متعاكسان لا يتلاقيان ولا يتفاهمان حتى لو اتحد الدينان بين العالم والبهلوان: "القُلَّة: الحُبُّ العظيم. وقيل: الجَرَّة العظيمة. وقيل: الجَرَّة عامة. وقيل: الكُوز الصغير، والجمع قُلَل وقِلال. وقيل: هو إِناءٌ للعرب كالجَرَّة الكبيرة. وقال جميل بن معمر :
    فظَلِلْنا بنِعمة واتَّكَأْنا وشَرِبْنا الحَلالَ من قُلَلِهْ
    وقِلال هَجَر: شبيهة بالحِبَاب. قالَ حسان:
    وأَقْفَر من حُضَّارِه وِرْدُ أَهْلِهِ وقد كان يُسْقَى في قِلالٍ وحَنْتَمِ
    وقال الأَخطل:
    يَمْشُون حَولَ مُكَدَّمٍ قد كَدَّحَتْ مَتْنَيْه حَمْلُ حَناتِمٍ وقِلالِ
    وفي الحديث: "إِذا بلَغ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل نَجَسًا"، وفي رواية: "لم يحمِل خَبَثا". قال أَبو عبيد في قوله "قُلَّتين": يعني هذه الحِبَاب العِظام، واحدتها قُلَّة، وهي معروفة بالحجاز، وقد تكون بالشام. وفي الحديث في ذكر الجنة وصِفَة سِدْرة المُنْتَهَى: "ونَبِقُها مثل قِلال هَجَر". وهَجَر: قرية قريبة من المدينة، وليست هَجَر البحرين، وكانت تُعْمَل بها القِلال. وروى شمر عن ابن جريج قال: أَخبرني من رأَى قِلال هجر: تسع القُلَّة منها الفَرَق. قال عبد الرزاق: الفَرَق أَربعة أَصْوُع بصاع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن عيسى بن يونس قال: القُلَّة يُؤْتَى بها من ناحية اليمن تَسَع فيها خمس جِرار أَو سِتًّا. قال أَحمد بن حنبل: قدر كل قُلَّة قِرْبتان. قال: وأَخشى على القُلَّتين من البَوْل، فأَما غير البَوْل فلا ينجّسه شيء. وقال إِسحق: البَوْل وغيره سواء إِذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجسه شيء. وهو نحو أَربعين دَلْوًا أكثر ما قيل في القُلَّتين. قال الأَزهري: وقِلال هَجر والأَحْساء ونواحيها معروفة تأْخذ القُلَّة منها مَزادة كبيرة من الماء، وتملأُ الرواية قُلَّتين. وكانوا يسمونها: الخُرُوس، واحدها خَرْس، ويسمونها: القلال، واحدتها قُلَّة". ومن هذا النص نعرف بكل وضوح أن "القلة" بهذا اللفظ، وكذلك بالمعنى الذى نعرفه فى مصر، كانت معروفة لدى العرب منذ قديم الزمان، وعلى أنواع متعددة، ووردت فى الأحاديث النبوية وفى كتب الفقهاء الأوائل. ترى ماذا يريد "أستاذنا الــ... إلخ" أكثر من ذلك كى يعرف أنه جاهل باللغة التى يفتى فيها "على أذنه" دون احتشام من علم أو منهج ودون استعداد للموضوع وكأنه ذاهب لشراء شروة طماطم من سوق القرية؟ لا يا دكتور، هذا عيب! واضح أن "العلقة" التى أعطاكها المرحوم محمود شاكر ووضعك فيها فى الفلقة ولهلب أخمص قدميك بالخيزرانة لم تُحَوِّق فى بدنك! ترى ماذا كان ينبغى للرجل أن يصنعه معك حتى يؤثر تعليمه فيك؟ آمنّا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وبــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" بموضوع كتابه هذا جهولا!
    ونأتى إلى "ثالثا" حيث نجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" (كما يحرص بعض الدراويش المتواجدين أن يلقبوه) يظن أن قوله تعالى: "إِرَم ذات العماد" إنما هى أبنية تقام، وليست هى القوم الذين أقاموا الأبنية! لنسمع ما يقول أستاذنا الدكتور: "وفى كلام العرب عن تاريخهم الأسطورى أن مكة والحجاز بعامة قبل أن ينزل بها العرب كان يسكنها قوم يسمون: "العماليق" فى الجاهلية الأولى. وفى اسم "عماليك" عناصر فونوطيقية من "عمو"، فإن كانت هذه الصلة الاشتقاقية قائمة استخلصنا أن هذا "الخازو" و"العمو" انتشروا بعد خروجهم من مصر فى المنطقة كلها من الحجاز إلى أرض الكنعانيين، وأنهم كانوا شعبين: شعب من "الكاسى" أيا كان هؤلاء، وشعب من "الأراميين" أو "العرب" أو "أولاد العمو" أو "العمرو" أو "العرمو" أو "الأرمو" (الذين أقاموا إرم ذات العماد؟")" (ص 271). إلى هذا الحد يتدهدى الدكتور لويس فى العلم والفهم، ثم تسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يتصدى للكلام فى القرآن ولغة القرآن، وكأننا نلعب "جحشة الجرن"! يقول الله تعالى: "ألم تر كيف فعل ربُّك بعاد* إِرَمَ ذات العِمَاد* التى لم يُخْلَق مثلُها فى البلاد* وثمودَ الذين جابوا الصخر بالواد* وفرعونَ ذى الأوتاد* الذين طغوا فى البلاد* فأكثروا فيها الفساد* فصب عليهم ربك سَوْطَ عذاب؟* إن ربك لبالمرصاد". وواضح من الآيات أن "إِرَم" هى الناس، وأى حمار يفهم ذلك بدلالة مجيئها بدلاً من "عاد"، وكذلك بدلالة عَطْف "ثمود" و"فرعون" عليها، وكل هؤلاء ناس، وبدلالة قوله سبحانه إنه أنزل عليهم (بما فيهم إرم) عذابا رهيبا، والعذاب لا ينزل على المبانى يا "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، بل على البشر، لأنه ليس عندنا فى الإسلام مثلا تينة تُلْعَن فتَيْبَس لخلوّها من الثمر الذى نحتاج إلى أكله بسبب قرصة الجوع رغم أن الآلهة لا تجوع ولا تحتاج إلى طعام أو شراب! ذلك أن التينة لا تشعر ولا تفهم ولا ترتكب من ثم ذنبا تعاقب عليه. ومثلها فى ذلك المبانى ذات العماد التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد والتى ظننتَها، لقلة بضاعتك من العلم، هى نفسها إِرَم ولم تجد غرابة فى معاقبتها لتعوّدك على معاقبة غير المسيئين. ثم يقول بعض الدراويش الذين أخذتهم الجلالة إنك "أستاذنا الدكتور لويس عوض". أَخَفْتَنى يا درويش منك له!
    ونبلغ "رابعا" ليطلع علينا كالعادة (وكالعادة أيضا يطلع نقبه على شونة) "أستاذنا الدكتور لويس عوض" متفلسفا متحذلقا، بعد أن لف ودار واستعمل لغة الأَعِيّاء قائلا إنه قد لاحظ "أن الصفات العربية التى على وزن "أَفْعَل" لا علاقة لها بصفة "أَفْعَل التفضيل". إنما هى صفات تشترك جميعا فى أن صدرها يبدأ بالهمزة، وهذا القالب مألوف فى تكوين الصفة العربية. ولكن هذه الألفاظ المتصلة فى معانيها تشترك جميعا فى ظاهرة واحدة، وهى الدلالة على سلب البصر أو فقدانه بطريقة أو بأخرى: مثلا "الأكمه" فى لسان العرب فاقد البصر منذ ولادته، و"الأعشى" العاجز عن الإبصار فى ضوء الشمس أو أى ضوء شديد، و"الأعمش" فى مصر ضعيف البصر جدا، وربما كانت مركبة من "أعمى" و"أعشى" فخرجت منها "أعمش"، و"الأعور" فاقد إحدى العينين، و"الأحول" طائش إحدى العينين. واجتماع هذه المفردات البصرية على معنى سلب البصر بطريقة أو بأخرى يدل على أن النحو العربى عرف ما عرفته اللغات الهندية الأوربية، على الأقل منذ اليونانية واللاتينية من النفى بالأداة "أ:a " أو "أب:ab " أو "أن: an"، تدخل على أول الكلمة فتنفيها أو تسلب معناها أو تدل على الانحراف فى مفهومها، كما فى قولهم: "مورال: Moral": أخلاقى، و"أمورال: Amoral": لاأخلاقى، و"إيسثزيا: Aesthesia": شعور، و"أنسيثزيا: Anaesthesia": بمعنى "تخدير"، أو حرفيا: "فقدان الشعور". وهكذا يكون المعنى الحرفى لـ"أعمى" و"أكمه": أ+ عَمَى، وأ+ كَمَه": مَنْ لا عينين له" (ص 343- 344).
    والآن تعال أيها القارئ الكريم نقف قليلا أمام هذا النص القصير لأريك العجب العاجب والجهل الجاهل والكلام الذى لا رأس له ولا ذيل مما لا يصدر إلا عن أفواه العباقرة الذين يتكلمون وهم غائبو الذهن بسبب فنائهم فى عالم الإلهام. يقول العبقرى الملقب عند بعض خلق الله بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" إنه "يلاحظ أن الصفات العربية التى على وزن "أفعل" لا علاقة لها بصفة "أفعل التفضيل"..."، وهو ما يعنى أن الصفات العربية التى على وزن "أفعل" لا يمكن أن تكون صفات على وزن بعينه من "أفعل" هو وزن "أفعل التفضيل"! هل فهمت شيئا؟ إن كنت فهمت شيئا من هذه الهلاوس فأنجدنى به وحياة والِدَيْك! فهذه واحدة، أما الثانية فهى قوله عن الصفات التى على وزن "أفعل" وليس فيها تفضيل : "إنما هى صفات تشترك جميعا فى أن صدرها يبدأ بالهمزة". لكن "أفعل التفصيل" يبدأ هو أيضا والله العظيم بالهمزة. وهذا هلواس آخر! والثالثة هى قوله إن هذه الصفات تعنى دائما سلب الصفة أو نفيها. وهذا جهل مبين، فالعبقرى الملقب بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" لا يعرف ما يعرفه كل طالب فى المرحلة الإعدادية من أن الكلام هنا عن أحد أوزان "الصفة المشبهة"، ومعروف أن "الصفة المشبهة" لا تجىء دائما على وزن "أفعل"، بل تجىء أيضا على وزن "فَعِل" و"فَعْلان" و"فَعِيل" و"فُعْل" و"فَعَل" و"فَعْل" و"فُعَال" و"فَيْعِل"، وأن صيغة "أفعل" ليست خاصة بالفقدان وحده، بل تدخل فيها الألوان والمحاسن والعيوب. والدليل على ذلك الأمثلة التالية، وهى مما وفد على ذهنى عفو الخاطر: "الأزهر والأحمر والأزرق والأبيض، والأَغَنّ والأَعْيَن والأَغْيَن والأدعج والأوطف والأحور والأشمّ والأقنى والأَلَفّ والأفْوه والأشدق والأشنب والأقبّ والأغرّ والأبلق والأجهر والأقرن والأزبّ والأجْيَد والأشعر والأقعس، والأعرج والأبجر والأبخر والأثرم والأقطع والأجذم والأبرش والأبرص والأبقع والأبهق والأرقش والأعلم والأقطش والأثرم والأصلم والأصم والأقطع والأملط والأخنف والأعجم والألكن والأخرس والأدرد والأخنّ والأرسح والأبتر والأرمل والأحمق والأبله والأخرق".
    ومع ذلك فخَلِّنا معه إلى أن تنفقع مرارتنا، فهو يقول إن "النحو العربى عرف ما عرفته اللغات الهندية الأوربية، على الأقل منذ اليونانية واللاتينية، من النفى بالأداة "أ:a " أو "أب:an " أو "أن: an"، تدخل على أول الكلمة فتنفيها أو تسلب معناها أو تدل على الانحراف فى مفهومها، كما فى قولهم: "مورال: Moral": أخلاقى، و"أمورال: Amoral": لاأخلاقى، و"إيسثزيا: Aesthesia": شعور، و"أنيسيثزيا: Anaesthesia": بمعنى "تخدير"، أو حرفيا: "فقدان الشعور". وهكذا يكون المعنى الحرفى لـ"أعمى" و"أكمه": أ+ عَمًى، وأ+ كَمَه": من لا عينين له"...". وبالله أستحلفك أيها القارئ: هل يعرف النحو العربى النفى بـ"أن"؟ فلِمَ لَمْ تتحفنا عبقرية سيادته التى لم تلدها ولادة ببعض الأمثلة؟ بل هل يعرف النحو العربى النفى بـ"أ"؟ فماذا نقول فى الصفات التى على وزن "أفعل" وتدل على حُسْن أو لون؟ ومرة أخرى خلِّنا معه وتعال نسأل: كيف تكون الهمزة التى فى أول "أفعل" دليلا على النفى والفقدان كما يزعم، وفى ذات الوقت تكون الهمزة فى أول "أعمى" و"أكمه" دليلا على العمى والكمه؟ أليس المفروض بناء على هذه الهلاوس الصرفية التى لم ترد فى كتاب ولا كشكول ولا حتى نوتة موسيقية أن يكون معنى "أعمى" هو المنفىّ عنه العَمَى، ومعنى "أكمه" المنفىّ عنه الكَمَه، أى المبصر فى الحالتين؟ أرأيت أيها القارئ كيف تكون العبقرية؟ ربنا، لا تؤاخذنا بما فعل الجهلاء منا بنا!
    وفى هذا السياق (ص 345) يزعم الجهل الغليظ أن الأعشى هو الذى لا يستطيع أن يواجه ضوء الشمس، مع أن الأعشى هو من لا يستطيع الإبصار ليلا لا نهارا، أو إذا أردت التوسع فهو الذى لا يستطيع الإبصار لا ليلا ولا نهارا. وعلى هذا فما قاله جنابه العالى عن "الأعشى" لا يساوى شَرْوَى نقير! ومثل ذلك فى الدلالة على الجهل قوله إن تكرار الفاء فى كفيف للتكثير، وهذا غير صحيح، بل التكثير فيما لو قلنا: "كفَّف"، أما الفاءان فى "كفيف" فهما الفاءان الموجودان فى الفعل "كَفَّ"، وليس فى "كَفَّ" تكثير بأى معنى. وهو ما يبين لنا أنه يعتمد على فتافيت علم وعلى حذلقة وتنطع وغرور يخيِّل له أنه لا يوجد من يساويه فى العلم كما قال مرة لنبيل فرج ولأحد الأصدقاء المذيعين! لقد قرأ، وهو طالب فى المدرسة ذات يوم، أن تضعيف الفعل الثلاثى "قد" يدل على التكثير، ومعروف أن التضعيف هو تكرار الحرف، فلما رأى كلمة "كفيف" ووجد أن حرف الفاء فيها مكرر مرتين ظن أن ذلك هو التضغيف الذى يدل على التكثير، ونسى أن المسألة إنما تتعلق بالفعل الثلاثى حين يكرَّر حرف من حروفه، وأنها إنما تتعلق به فى بعض الحالات لا فيها كلها. ونحن هنا لسنا مع فعل ثلاثى بل مع صفة "فَعِيل" من "كَفَّ" كما قلنا. وحتى لو أردنا أن نخدع أنفسنا لنقيم له العذر وقلنا إنه ربما راح ذهنه إلى صيغة "فعيل" التى للمبالغة واختلط الأمر عليه فاضطرب بين التكثير عن طريق التضعيف والتكثير عن طريق صيغ المبالغة، فالجواب هو أن "فعيل" هنا هى بمعنى "مفعول" ولا تفيد تكثيرا بأى حال، مثل "جريح" و"قتيل" و"صنيع" و"كسير" و"عصير". أى أن الأسداد مضروبة على عبقريّنا من أى اتجاه أراد أن يخرج منه، أو أردنا نحن التصدق عليه بإخراجه منه!
    ومن قلة بضاعته من العلم أيضا تأكيده أن البحر "الأحمر" قد سُمِّىَ هكذا على اسم "الحميريين"، وهذا نص كلامه: "وقد سمَّت اليونان الحِمْيَرِيّين: "الهومريين:Homerites ". ولا شك أن البحر الأحمر قد اتخذ اسمه من اسم "حِمْيَر" أيام سطوتها فى القرن الأول قبل الميلاد. كذلك فإن اسم "إريتريا:Erithrea " يعنى باليونانية: "الحمراء". وقد كانت إريتريا جزءا من مملكة سبإ وذو ريدان" (ص 46، وانظر كذلك ص 561). هذا ما قاله، أما نحن فأول شىء نتعرض له هو هذا الخلط بين الحميريين وإريتريا والبحر الأحمر، إذ كيف فاته أن تسمية "البحر الأحمر" بهذا الاسم لم تُعْرَف لدى العرب، فضلا عن أن تنتشر، إلا بعد الإسلام بعدة قرون؟ ذلك أن هذه التسمية لم تقابلنى على كثرة تنقيرى واستقصائى إلا مرات قليلة، وفى بعض الكتب التراثية المتأخرة لا غير: منها مرة عند العماد الأصفهانى (ق 12م) فى كتابه: "خريدة القصر" لدن حديثه عن دولة آل الصليحى فى الجزيرة العربية، ومرة فى "أخبار الزمان" للمسعودى فى سياق تعرضه لما أفاء الله على حام بن نوح من البلاد والبحار، ومرة فى "جماهر" المقريزى وهو يتحدث عن غرق فرعون فى ذلك البحر، ومرة عند الجبرتى أثناء تعرضه لدعاوى الفرنسيس فى أنهم إنما أتوا إلى مصر ليرتقوا بها وينظموا ملاحتها بحيث يكون لها طريقان: طريق إلى البحر الأسود وطريق إلى البحر الأحمر جميعا. ومع ذلك فالمقصود بالبحر الأحمر عند الجبرتى غير واضح تماما لاقترانه بالبحر الأسود من جهة، ولأن مصر من جهة أخرى لم تكن محرومة فى أى يوم من الأيام من الوصول للبحر الأحمر حتى يوصلها الفرنسيس إليه، إذ هى تطل عليه وتلتصق به. على أن أولئك الكتاب قد استعملوا مع ذلك اسم "بحر القلزم" أيضا. أى أن العرب القدماء قد ظلوا طوال تاريخهم تقريبا يستعملون اسم "بحر القلزم، اللهم إلا القليلين منهم فى العصور المتأخرة. بل إن من بين العلماء العرب فى العصر الحديث من يستخدم تسمية "بحر القلزم" كرفاعة الطهطاوى، الذى استعمل هذا الاسم أولا ثم شفعه بالتسمية الحالية. هكذا: "بحر القلزم المسمَّى: البحر الأحمر" (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ تحقيق د. مهدى علام ود. أحمد أحمد بدوى ود. أنور لوقا/ وزارة الثقافة والإرشاد القومى بالإقليم المصرى/ 1958م/ 71). ولا يزال بعض المؤلفين العرب حتى الآن يستعملون التسمية العربية القديمة عند كلامهم عنه فى تاريخ العرب خَلْقًا للجو التاريخى أو مُجَرَّدَ استطرافٍ لذلك الاسم القديم.
    ولو كان كلام الدكتور لويس يستحق أن يكون محلا للمناقشة، أفلم يكن المنتظر أن يسميه العرب: "البحر الحِمْيَرِىّ" نسبة إلى "حِمْيَر" كما قالوا فى "البحر الأبيض": "بحر الروم"؟ لكنهم، كما قلنا، لم يكونوا يسمونه تقريبا إلا بــ"بحر القلزم" مما لا علاقة له لا بكلمة "حمير" ولا بأى شىء من مادة "حمر" البتة. و"القلزم" مدينة مصرية كان تطل على ساحل ذلك البحر قريبا من السويس، وما كان العرب ليستعيضوا بها عن كلمة "حمير" لو كان هناك أدنى شبهة فى وجود صلة بين اسم ذلك البحر واسم هؤلاء القوم اليمانين، على الأقل قياسا على تسميتهم "البحر الأبيض" بـ"بحر الروم". ثم هل لكلمة "حمير" أصلا صلة باللون الأحمر؟ ولماذا كان اللون الأحمر هو اللون الوحيد الذى اشتُقَّتْ منه هذه الصيغة النادرة الوجود فى لغة العرب، صيغة "فِعْيَل"؟ ذلك أنه ليس لدينا "زِرْيَق" أو "خِضْيَر" أو "صِفْيَر" ولا أىّ "فِعْيَل" من الألوان الأخرى الباقية، فلماذا "حِمْيَر" إذن وحدها؟ كذلك لماذا لم يظهر معنى الحمرة فى تسمية الإغريق لهم كما رَاعَوْا هذا فى "إريتريا" حسب كلام الدكتور إن كان لنا أن نركن إلى ما يقول؟ صحيح أن ابن الكلبى قد ذكر أن حِمْيَر لُقِّب بذلك لأنه كان يلبس حُلَلاً حُمْرًا، لكن أصحاب المعاجم العربية يضعّفون هذا التوجيه. على أية حال فالحق، كما قلنا قبلا، أن تسمية "البحر الأحمر" هذه لم تعرف إلا عند المتأخرين من الكتاب العرب، وكان اسمه قبل ذلك لديهم، مع استمراره أيضا بعد ذلك إلى جانب اسم "البحر الأحمر"، هو "بحر القلزم" نسبةً إلى مدينة "القلزم"، وهى (كما جاء فى "الروض المعطار" لابن عبد المنعم الحميرى) "مدينة من أعمال مصر على ساحل البحر، وبها يعرف البحر فيقال: بحر القلزم، وبها المراكب للتجار. وسُمِّيَ: "القلزم" لأنه في مضايق بين جبال، والقلازم: الدواهي والمضايق. وهي مدينة صغيرة متقنة البناء ليس فيها زرع ولا شجر، وإنما تمار من أرض مصر. ويضيق عندها البحر حتى يأتي كالنهر، ويمر كذلك دون مدينة القلزم إلى الشمال عشرة أميال وينقطع. وشُرْب أهل مدينة القلزم من جزيرة هناك ومن السويس، يجلب على الظهر، وهي بئر بطريق مصر على ثلاثة أميال من مدينة القلزم".
    وقد استخدم الدكتور لويس نفسه تسمية "بحر القلزم" فى كتابه هذا (ص 430)، فكيف لم يتنبه إذن إلى ضَعْف ما أتحفنا به من تأكيدٍ بل من قَطْعٍ وجَزْمٍ لا يقوم على أى أساس سوى أنه نظرية ضعيفة من النظريات التى بحاول العلماء أن يفسروا بها اسمه؟ وهذه النظرية لا تظهر بين نظيراتها إلا على استحياء حسبما يمكن القارئ أن يتحقق من المقال الإنجليزى الذى خصصته "الويكيبيديا" (الموسوعة المشباكية) لذلك البحر بعنوان "The Red Sea" (أما المقال الفرنسى فيخلو من التعرض لاسم البحر، فى الوقت الذى لم يُكْتَب حتى تاريخه: 12/ 10/ 2006م مقال عن هذا البحر باللغة العربية)، وبخاصة أن القائلين بتلك النظرية على ضعفها واستحيائها يشيرون إلى أن كلمة "حمير" تدل على اللون الأحمر، وهو ما ضعّفته المعاجم العربية كـ"لسان العرب" و"تاج العروس"، اللذين يحتلان القمة فى قائمة تلك المعاجم. كما أن الحميريين لا يمثلون كل تاريخ اليمن، فضلا عن أن اليمن إنما ترتبط فى الأذهان ببوغاز باب المندب وحده أكثر من ارتباطها بالبحر الأحمر جميعه، إلى جانب أنها ليست أكبر الدول المطلة على ذلك البحر، وإلا فأين مصر مثلا والحبشة؟ فلماذا يسمى البحر الأحمر باسم مأخوذ من اسم بعض حكامها دون بقية الدول المطلة عليه والتى تساحله لمسافات طويلة، على عكس اليمن التى تنزوى عند فتحته الجنوبية مطلة على بوغاز باب المندب كما أشرنا؟ وأين هى الدول المطلة على ذلك البحر التى ترضى ذلك؟ أما تسميته: "بحر القلزم" نسبةً إلى مدينة مصرية فأمر مفهوم، إذ كانت مصر ولا تزال أكبر الدول الواقعة على هذا البحر، علاوة على أنها تطل على جزء طويل جدا من ساحله على عكس اليمن. وهذا لو كان قد سُمِّىَ فى التاريخ القديم فعلا بــ"البحر الأحمر"! ثم إن د. لويس عوض، بعد ذلك كله، لا يشير إلى المصدر الذى استقى منه ذلك التفسير المتهافت، بل يسوقه وكأنه من بُنَيّات أفكاره تصورا منه، لقلة اطلاعه، أنه أتى بذِبْحٍ عظيم!
    وهناك نظريات أخرى من بينها أن "The Red Sea" إنما هى تحريف لــ"The Reed Sea: بحر قصب الغاب"، الذى ورد ذكره فى سِفْر الخروج (وهو التفسير الذى لم يقدم "The New Bible Dictionary" لمحرره J. D. Douglas تفسيرا سواه أثناء تناوله لمادة "بحر"، ولا أدرى كيف يكون ذلك لأنه يستلزم أن تكون اللغة التى حدث فيها اللَّبْس الأصلى مشابِهة للغة الإنجليزية فى أن الكلمتين فيها متقاربتان هجاء ونطقا، وأن يكون تركيب الكلام هناك هو ذاته فى الإنجليزية بحيث يأتى الاسم الدالّ على "الغاب" سابقا على كلمة "بحر" كما تسبق الصفات موصوفاتها فى لغة جون بول وتؤدى نفس مهمة النعت التى تؤديها تلك الأسماء فى الإنجليزية، أو شىء كهذا على نحو من الأنحاء)، أو أنها ترجع إلى جبال "إدوم" القريبة ذات اللون الأحمر، أو أنها إشارة إلى نوع من الفُطْريّات ينمو قريبا من سطح ماء البحر الأحمر ويزدهر لونه الأحمر كل موسم... إلى آخر ما ورد من تلك النظريات فى المقال المذكور.
    كذلك قرأت فى تعليق منشور بــ"منتديات أنساب أون لاين" تحت عنوان "محطات جغرافية وإستراتيجية (البحر الأحمر)" الفقرة التالية: "أشارت المصادر إلى أن الباحثين غير متأكدين من أصل اسمه، لكن الشائع جدا أن البحر الأحمر سمي بهذا الاسم بسبب نوع من الطحالب التي تكوّن زَبَدًا بُنِّيًّا يميل للحمرة خلال فترة الصيف، وقد عُرِف عند العرب الأقدمين ببحر القلزم". و هذا، فى الغالب، هو التعليل الصحيح لتلك التسمية، وهو ما وجدته أيضا دون أى تفسير آخر معه فى موقع "Eritrea. be"، إذ قرأت فيه تحت عنوان "The Red Sea" ما يلى: "The Red Sea takes its name from the seasonal abundance of cyanobacteria Trichodesmium Erythraceum, minute algae, that have a brownish-red pigment. These algae, which live near the surface of the sea, bloom at certain times of the year, the "red tide". They appear like groups of red and pinkish blankets on the surface of the water. After the bloom, the algae die, and they turn the sea reddish-brown". وبالمثل أَلْفَيْتُ "دائرة المعارف البريطانية الموجزة" (Britannica) تقول إن سبب تسميته بهذا الاسم هو ما يلاحَظ على مائه من تغيرات لونية: "Its name is derived from the colour changes observed in its waters. "، وهى ذات العبارة التى وردت فى "دائرة المعارف البريطانية" الكاملة بحذافيرها، وإن أضافت عقب ذلك أنه عادة ما يبدو للعين أزرق مخضرا، إلا أنه فى بعض الأحيان يعجّ بنوع من الطحالب المزهرة التى تضفى عليه عند موتها لونا مائلا للحمرة: " Normally the Red Sea is an intense blue-green; occasionally, however, it is populated by extensive blooms of the algae Trichodesmium erythraeum, which, upon dying off, turn the sea a reddish brown colour. ".
    ويلفت النظر فى "الروض المعطار فى خبر الأقطار" لابن عبد المنعم الحميرى ذكره لــ"البحر الأسود"، وإن لم يكن واضحا أى بحر يقصد. ومعنى هذا أنه استخدم تسمية لونية لبحر من البحور، ومن ثم فلو كان هناك أدنى ارتباط لونى بين "البحر الأحمر" و"الحميريين" لكان تنبه لهذا وتحدث عنه باعتباره حميريا يعرف لغة الحميريين وخطهم الـمُسْنَد. كذلك ذكر النويرى "البحر الأسود" فى "نهاية الأرب" أكثر من مرة، كما ورد ذلك البحر عند القزوينى لدن كلامه عن "الأندلس" مقصودا به بحر الظلمات، أى المحيط الأطلسى. على أية حال فإن تسمية "البحر الأحمر" هى تسمية لونية لا نَسَبِيّة، مثلها فى ذلك مثل البحر الأبيض والبحر الأسود والنيل الأزرق والنهر الأصفر والجبل الأخضر... إلخ.
    ثم إن المسألة رغم ذلك كله لم تنته بعد، إذ قرأت أن الإغريق كانوا يطلقون على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" (؟)، على حين يدعوه العبرانيون: "ها- يم"، أي اليَمّ، والرومان: "بحر ربرب" أو "بحر ربرم" حسبما هو منشور فى موقع "حوار الخيمة العربية" تحت عنوان "عرب ما قبل الإسلام". وفى مادة "البحر الأحمر" من "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ أنه "هو بحر سُوف (خر 10: 19… إلخ )، ويسمي في مواضع كثيرة: "البحر" فقط (خر 14: 2 و9 و 16 و21 و31، 15 : 1 و4 و8 و19 و21...)"، وأن "الاسم العبري "يَمّ- سوف" قد أثار الكثير من الجدل حوله، فكلمة "يَمّ" هي الكلمة التي تطلق على "البحر" أو أي مجتمع للمياه. وإذا أُطْلِقَتْ بدون وصف أو إضافة فقد تعني البحر المتوسط أو البحر الميت أو البحر الأحمر أو بحر الجليل، بل قد تدل في بعض المواضع على نهر النيل أو نهر الفرات… وكلمة "سُوف" تعني "الحَلْفاء"، وهي شجيرات تكثر في المناطق السفلي من النيل والأطراف العليا (الشمالية) من البحر الأحمر. وقد خبأت أم موسى السَّفَط الذي وضعت فيه ابنها الرضيع "بين الحلفاء" (خر 2: 3 و5). وحيث إن كلمة "سُوف" لا تعني "أحمر"، كما أن لون الحلفاء ليس أحمر، اختلفت الآراء حول سبب تسمية البحر الأحمر بهذا الاسم: فزعم البعض بأنه سمي بــ"الأحمر" بالنسبة لمظهر الجبال التي تكتنفه من الغرب. وزعم البعض الآخر أنه سمي هكذا بالنسبة للون المياه الناتج عن وجود الشعاب المرجانية الحمراء وغيرها من الأعشاب البحرية. ويرجح البعض أن الاسم نشأ أصلاً من اللون النحاسي الذي يتميز به سكان شبه الجزيرة العربية المتاخمة له من الشرق. والاسم "يم سوف" (بحر سوف)، وإن كان يطلق على كل البحر، فإنه كان يطلق بصفة خاصة على الجزء الشمالي الذي لا يُذْكَر في الكتاب المقدس سواه بما فيه خليج العقبة وخليج السويس اللذان يضمان بينهما شبه جزيرة سيناء". وفى ذات الموسوعة، وفى مادة "بحر" نجد ما يلى: "ويسمي البحر الاحمر: "بحر سوف" (ومعني هذا الاسم حرفيا هو "بحر قصب الغاب"- خر 10: 19، عد 14: 25، تث 1: 1، يش 2:10، قض 11: 16، 1، مل 9: 26، نحميا 9: 9، مز 106: 7، إرميا 49: 21)، كما يسمى: "البحر الأحمر" (أعمال 7: 36، عب 11: 29)، و "بحر مصر" (إش 11: 15)". لكن ينبغى أن أسارع فأوضح للقارئ أن مصطلح "البحر الأحمر" فى ذلك الوقت لم يكن يقتصر على البحر المسمى بهذا الاسم الآن، بل كان يشمل معه بحر العرب وبحر الهند أيضا طبقا لما يخبرنا به "The New Bible Dictionary" فى مادة "Red Sea". ألا يرى القارئ معى بعد هذه الجولة الممتعة (التى أعترف وأقر أنها رغم ذلك لم تشف الصدر تماما لأننا نضرب فى مجاهل الماضى البعيد دون أن يكون بين أيدينا شىء فى الموضوع كتبه من يعنيهم الأمر من القدماء) ألا يرى أن ما قاله الدكتور لويس عوض هو تسرعٌ أهوجُ لا يليق بحامل قلم محترم، وجَزْمٌ بالتأكيد دون أن يقدم لنا ما يسوغ هذا الجزم؟ فما بالك إذا كان الذى يجترح مثل هذه الأخطاء الفاضحة رجلا يقال عنه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟ أليس هذا أمرا مخجلا؟
    كذلك نراه (ص 397) ينطق كلمة "هن" (التى تدل، فيما تدل، على فرج المرأة) بضم الهاء وتشديد النون (هكذا: "هُنّ"). والصواب هو "هَنٌ"، وإذا أكملوا حروفها ورجعوا بها إلى أصلها الأصيل قالوا: "هَنَوٌ"، وإن كان بعضهم يشدد النون مع فتح الهاء، وهو قول تذكره بعض المعاجم فقط على استحياء. وكثير من العرب يعربها كالأسماء الخمسة، فيقولون: "هذا هَنُوك، ورأيت هَنَاك، ونظرت إلى هَنِيك"، ويسميها النحويين حينئذ: "الأسماء الستة". ترى أيصح أن يكون الرجل بهذا الضعف المزرى فى لغة القرآن بحيث يخلط بين اسم فرج المرأة وبين لقب أحد معلقى الكرة المصريين الآن ثم يتصدى لتلك المهمة المستحيلة، مهمة تتبع اللغات البشرية كلها تقريبا على مدى الدهور جميعا ومعرفة موضع اللغة العربية على خريطتها على وجه الدقة، وكأنه إله يعرف تاريخ البشر وكل ما يتعلق بلغاتهم ومسيرة كل لغة منها والعوامل المختلفة التى أثرت فى هذه المسيرة: اقتصادية كانت أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو بيولوجية أو عسكرية أو جغرافية أو ذوقية لا يغيب عنه منها شىء؟ تبارك الخلاق فيما خلق، وتبارك لويس عوض فيما نطق!
    والواقع أن شواهد شِحّة البضاعة العلمية فى هذا الكتاب كثيرة جدا، بيد أننا لا نستطيع أن نحصيها كلها هنا، وإلا فلسوف نحتاج إلى مجلدات، ومن ثم نكتفى ببعض الشواهد عن باقيها، وهذا شاهد آخر، إذ ظن عبقرينا الهمام (إلهى يحرسه من العين! قولوا: آمين) أن كلمة "قُرّة" فى قولنا: "قرة العين" تعنى إنسان العين أو "النِّنّى" كما يقال فى العامية (ص 401). وهو أمر غريب يدفعنا إلى التساؤل عن سر كل هذه الجراءة لدى "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى التهجم برعونة شديدة على مثل ذلك الموضوع الصعب جدا إلى درجة الاستحالة! إن "القُرّة" ليست جزءا من أجزاء العين كما ظن بعبقريته عبقرينا الدكتور، بل هى تعبير عن الفرح والسعادة، بسبب رَبْط العرب بين "القُرّ" (أى البرودة) والسعادة، وكذلك (فى المقابل) بين "السخونة" والتعاسة. ومن هنا قالوا: "سُخْن العين" بإزاء "قرير العين"، ولو كانت "قرة" اسما لجزء من العين ما جاءت منها الصفة: "قرير" لأنه لا علاقة بين هذا وذاك. ثم هل سمع أى واحد منا بمن يقول مثلا: "فلان قُرّة عينه جاحظة"؟ ألا إن ذلك لو حدث لكانت فضيحة بجلاجل! لكن أستاذنا الدكتور ولا هو هنا! طبعا، أليس عبقريا ملهما صلى الله عليه وسلم؟ وفى العامية التى يريد جنابه الشريف أن يحلها محل الفصحى نقول: "عينى عليك باردة"، بمعنى "قريرة"، أى أنا مسرور وسعيد! لكن ماذا تقول فى عبقرية أستاذنا الدكتور التى تخرّ من جوانبه فلا يستطيع لها حبسا ولا إمساكا؟ عينى عليك باردة يا دكتورنا!
    وإلى القارئ مثالا آخر ينزّ (لا بل يسيل) تنطعا وسخافة، إذ قال (ص 405) إن كلمة "Loin" الإنجليزية معناها "عانة"، وهى "الجزء من الجسم حيث يلتقى أسفل البطن بأعلى الفخذ". والمعروف أن "Loin" معناها الخصر أو الحقو، أى الموضع المناظر لذلك من الخارج وليس الموضع الذى ذكره. وليس فى المعاجم الإنجليزية العربية التى عندى (كقاموس إلياس العصرى، وقاموس النهضة لإسماعيل مظهر، وقاموس أوكسفورد) أن "Loin" تعنى "عانة"، ولا فى المعاجم العربية الإنجليزية (كقاموس ورتبات، وقاموس إلياس، وقاموس هانز فير، وقاموس المورد لروحى البعلبكى) أن"عانة" تعنى"Loin". بل لا يوجد فى القسم الإنجليزى الفرنسى من معجم "Harrap's New Shorter French & English Dictionary" مثلا أن "Loin" تعنى "Aine" الفرنسية التى زعم لويس عوض أنها تعنيها والتى تدل على "العانة" بالمعنى الذى سقناه قبل قليل، ولا فى القسم الفرنسى الإنجليزى من ذات المعجم أن "Aine" تعنى "Loin". صحيح أن الكلمة فى حالة الجمع وفى الاستعمال الشعرى وأسلوب الكتاب المقدس قد تعنى منطقة العورة أو الأعضاء التناسلية، إلا أن هذا معنى خاص لا يستعمل إلا فى الشعر والكتاب المقدس كما قلنا وعلى سبيل المجاز وبصيغة الجمع فقط، ثم هو بعد ذلك كله لا يدل على العانة تحديدا، بل تدخل فيه مع غيرها عرضا. كما أن منطقة العورة لا تقتصر على الجهة الأمامية من منتصف الجسد، بل تشمل (فيما هو معروف) المنطقة الخلفية كذلك. وأغلب الظن أن معنى الكلمة بصيغة الجمع فى الكتاب المقدس وفى الشعر قد جاء من أن الإنسان لكى يغطى عورته فعليه على الأقل أن يلبس شيئا يصل للخصرين ويلتف حولهما (أى المئزر) كما يفعلون فى المجتمعات البدائية والحارة. ومن هنا جاءت كلمة "Loin-cloth".
    المهم أن سيادته قد جرجرنا إلى كل هذا لكى يتحفنا بما جادت عليه مُوَشْوِشَةُ وَدْعِه وضاربةُ رَمْلِه بأن الألف واللام فى كلمة "العانة" إنما هما من أصل الكلمة، وذلك بغية أن يدفع بكلمة "عانة" إلى الأمام قليلا (على طريقة "إِدِّى لزُوبَة زَقَّة") فتقترب من كلمة "لُويِنْ: Loin" شيئا ما، وهو ما يعنى أن نقول من الآن فصاعدا: "الألعانة" بدلا من "العانة" إلى أن نلقى الله يوم القيامة ونبتهل إليه أن يأخذ لويس عوض أخذ عزيز مقتدر وأن يرينا فيه ساعة (ساعة لا أكثر) لقاء هذا الغثاء والهراء الذى يظل يرمينا به ويبلونا طوال الكتاب كله، وإنه لمن يعرف مدى علم "أستاذنا الدكتور لويس عوض" لَبَلاءٌ عظيم! قادر يا كريم! وربنا يستر ولا يقول "أستاذنا الدكتور لويس عوض": إن "الألعانة" ينبغى أن تكون فى الأصل "قلعانة"، من "قلع"، أى "خلع" ملابسه ليرينا عانته، وهذا دليل آخر على أن "العانة" (آسف: الألعانة". آه يانا، يا مَيِّت من الحسرة وانفقاع المرارة يانا!) هى "لُويِنْ" فعلا! أما كيف كان ذلك؟ فاسأل يا أخى الكريم بَيْدَبا الهندى الذى لا يعرف شيئا عن التمرهندى رغم أنه هندى، ولا تظنّ بى الظنون فتحسب أننى هندى!
    وإلى القارئ مثالاً آخر على هذا التسرع الأهوج الذى لا يحترم العلم ولا القراء فيهجم على الموضوع دون استعداد ولا مراجعة، بل دون الحد الأدنى من المعرفة فيه، وهو قول الدكتور لويس عن أصل كلمة "الذباب" على طريقته فى إرجاع كل كلمة عربية تقريبا إلى لغة أخرى بغية أن يوقع فى نَفْس القارئ العربى أن لغته مستعارة وليست أصلية، إلا أن الله يأبى إلا أن يهتك سوأته العلمية ويكشف جهله المخزى، والله غالب على أمره: "أما جذر "ذبابة" العربية فهو جذر "Abeille" الفرنسية بمعنى "نحلة". وهو فى البروفنسالية "أبيثا: Abetha"، ومصدرها هو "أبيس: Apis" فى اللاتينية بمعنى "نحلة"... والجذر مصرى قديم نجده فى الفعل: "عَفَّ" فى العامية المصرية (كما فى التعبير: "عَفَّ الطير" أو "عَفَّ الدِّبّان" مثلا، بمعنى "حط على الطعام). وفعل "عَفَّ" لا يستخدم إلا للذباب، وهو من القبطية: "أَفْ" بمعنى "ذبابة"... حتى "طَيْر" فى العامية المصرية بمعنى "ذباب" لا أظن أنها من جذر "طار يطير"، وإنما هى صيغة من "Taon" (كلمة فرنسية أشار إليها الدكتور نفسه قبل قليل) بمعنى "ذباب الحمير". ومن نفس جذر "أب: Ap" كلمة "يعسوب" العربية، وكلمة "Wasp" الإنجليزية، وهما بمعنى "ذكر النحل" أو "دبور" (فى الإنجليزية الوسيطة "واسبى: Waspe"، وفى الأنجلوسكسونية "وابس: Waps" أو "فسبا: Vespa"، وفى الجرمانية العالية القديمة...، وفى الألمانية...، وفى اللهجة البافارية...، وفى الجرمانية الواطئة القديمة...، وكلها بمعنى "يعسوب"..." (ص 495). وقد أخذ الأمرُ منه فقرات وفقرات تحنجل فيها بين أسماء اللغات المختلفة التى لا يعرف منها شيئا إلا كما أعرف أنا لغة النمل مثلا.
    والحق أن هذا الكلام لا يرد عليه بمناقشة علمية، بل ينبغى أن يكون الرد بصوت من الفم لا نسميه تجنبا لخدش الذوق العام. ومع ذلك فلسوف نرد عليه بمناقشة علمية. وواضح أن جنابه لا يعرف الفرق بين "اليعسوب" و"الدبّور" كما ينطقه، أو "الزنبور" كما هو فى الفصحى التى تُقْذِى وتؤذى عينه وتخزه بل تلدغه فى قلبه فيأخذ فى اللف والدوران كالدائخ من الحقد ويذهب فيسطو على كتاب إنجليزى فى علم اللغة المقارن مضيفا إليه بعض السخافات التى يطنطن بها بعض نصارى مصر الآن، يريدون إيهام الأغلبية الساحقة الماحقة من المسلمين فى أرض الكنانة أن "لغة قرآنكم مأخوذة من القبطية". "يا خى انّه" كما يقول إسماعيل يس رحمه الله! "اليعسوب" يا سيد منك له هو ذَكَر النحل، أما الزنبور (أو كما يحب الدكتور لويس أن يقول: "الدَّبّور"، أو كما كنا نقول فى طفولتنا وصبانا: "الضَّبّور"، أيام أن كنا نحن أيضا جهلاء فى غَرارة طفولتنا الأولى نحسب أنه كما ينتج النحلُ العسلَ الأبيض الشهىّ اللذيذ، فإن "الضبابير" تنتج العسل الأسود المطيّن بستين نيلة)، أقول: أما الزنبور فهو حشرة طائرة أضخم كثيرا من النحل وأغمق فى اللون منها، وإذا كان من النوع القارص فلسعته شديدة الألم، كما أنه لا يفرز عسلا، وطنينه غليظ. ببساطة شديدة إذن: ليست هناك صلة بين "اليعسوب" والــ"Wasp"، لأن كلا منهما شىء مختلف عن الآخر تمام الاختلاف. أى أن الحذلقة والحنجلة التى ظل الدكتور لويس يأتيها ويتباهى بها طوال تلك الفقرات العجيبة كما تتباهى القرعاء بشعر بنت خالة أم ابن عمها قد ضاعت فى الهواء كما ضاع كتابه كله المفعم بهذا اللون الغليظ من التهور. وهذا إن حصرنا أنفسنا وكلامنا فى النحل والزنابير، وإلا فلليعسوب معان أخرى منها أنه "طائرٌ أطول من الجرادة لا يضمُّ جناحه إذا وقع، تُشبَّه به الخيلُ في الضُمْر" (ولعله "الرَّعّاش" الذى كنا نسميه فى قريتنا: "الشيخة عزيزة")، وهو أيضا "فَراشَةٌ مُخْضَرَّةٌ تطِيرُ في الربيع"، و"غُرَّةٌ في وجْهِ الفرس مُسْتَطيلَةٌ تنقطع قبل أَن تُساوِيَ أَعْلى المُنْخُرَيْنِ. وإِن ارتفع أَيضًا على قَصَبة الأَنف وعَرُضَ واعْتَدلَ حتى يبلغ أَسفلَ الخُلَيْقَاءِ فهو يَعْسُوب أَيضًا، قلَّ أَو كَثُر، ما لم يَبْلُغِ العَيْنَيْنِ"، كما يقال للسَّيِّد: "يَعْسُوبُ قومه"! ترى هل يكفى هذا؟ أم هل أمضى فى المزيد؟
    كذلك فقوله إن كلمة "طير" فى العامية المصرية بمعنى "ذباب" ليست من جذر "طار يطير"، بل صيغة من "Taon" بمعنى "ذباب الحمير"، هو قول يدل على بهلوانية عريقة ضاربة فى جذور الأعصاب عنده، فهو يتنكب دائما وبشكل منهجى كل منطق وكل علم، ويروح فى ألوان من التشنجات الحاقدة بغيتها التقليل من شأن اللغة العربية، وكأن العرب كانوا يضعون أيديهم طول الوقت على خدودهم لا يفعلون شيئا حتى ولا طرد الذباب عن وجوههم الساكنة الجامدة وأفواههم الفاغرة من البلادة انتظارا لعودة رسلهم الذين بعثوا بهم فى كل أرجاء المعمورة يطوفون ببلاد الجرمان والسكسون والبافاريين والغال والإسبان والرومان والهنود والفرس، وكذلك الصين وتايلاند واليابان بالمرة (أليس لهم نفس فى هوجة عرابى هذه؟)، وبلا أدرى ماذا أيضا من البلاد والجنسيات، كى يأتوهم بما جَدَّ من ألفاظ فى كل مناحى الحياة فيُدخلوها فى لغتهم البزرميط التى تشبه مرقعة الحاوى، كل رقعة من بلد، بدلا من إجهاد عقولهم الخاوية فى اختراع الكلمات والجمل، فهم يؤثرون استيراد مثل تلك المشغولات اللغوية على إنتاجها بأنفسهم! تبًّا لكم أيها العرب من كسالى متخلفين لا تعرفون كيف تخترعون حتى ولا كلمة "طير" للدلالة على "الذباب" الذى يعفّ على وجوهكم وأفواهكم، وتؤثرون أن تنتظروا عودة رسولكم من فرنسا حاملا إليكم البشرى السعيدة بأنهم يقولون: "Taon" لــ"ذباب الحمير". نعم عودة رسولكم الذى طال عليكم غيابه لأنه بعد أن وصل إلى فرنسا قالوا له: "عليك ببلاد يسمَّى فيها القيراط، ويقال لأهلها: القبط، فهم الذين اخترعوا هذه الكلمة، وكانت فى البداية "أَفْ"، فأخذناها نحن وقلبناها إلى "طاؤن"، فعليك بالأصل جريا على المثل الذى يقول: "ع الأصل دوَّر". ثم إنكم أنتم وهم أقارب، إذ هم أخوالكم، والأقربون أولى بالمعروف. كما أنكم أنتم وهم جيران، وليس بينكما إلا فركة كعب عَوْمًا فى بحر القلزم يا أخا العرب"، فجاء إليكم رسولكم وهو يلهث من الدوخة ما بين بلاد الغال وبلاد الأَفّ والعَفّ. إلا أنكم بعد ذلك كله ومع ذلك كله ورغم ذلك كله، شأن كل عريان الـــ.. ويحب التجميز أو كأى أقرع ونُزَهِىّ، تَأْبَوْن إلا أن تحرّفوها من "تاؤن" إلى "طير" وتتوسعوا فى معناها بحيث تغطى كل أنواع الذباب ولا تقتصر على ذباب الحمير وحده"!
    هل رأى القراء تفاهة فى الكيد أتفه من هذه التفاهة؟ لقد كان العرب يطلقون كلمة "طير" على كل ما له جناحان يتحرك فى الهواء بهما، ويدخل فى ذلك الذباب والجراد والنحل والزنابير والبعوض... إلخ. وفى "لسان العرب" لابن منظور: "الطَّيْرُ...: اسمٌ لجماعَةِ ما يَطيِر، مؤنَّث، جمعُ "طائِرٍ"، كـ"صَاحِب وصَحْب"...". أى أن قولهم، ومن ثم قول المصريين بدورهم، عن "الذباب": "طير" لا غرابة فيه البتة، فهو نوع من التخصيص. وعلى نفس الشاكلة كنت أسمع الإنجليز يقولون عن المكنسة الكهربية: "هوفر"، مع أن هناك شركات أخرى غير هوفر تنتجها، كما أنها ليست الآلة الوحيدة التى تنتجها تلك الشركة. ولا معنى إذن لكل هذه الجولة العريضة الطويلة كى يقنعنا سيادته بهذه البلاهات التى لا تجوز إلا على تلاميذ "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! بل إن الإنجليز حين بحثوا عن اسم للذباب لم يجدوا إلا كلمة "fly" المشتقة من الطيران ذاته، وكأنهم يخرجون ألسنتهم لــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض"، الذى تخصص فى لغتهم وأدبهم ما شاء له التخصص، وأقام فى بلدهم ما أقام، وقرأ من كتبهم ما قرأ، وشمخ بأنفه بالباطل ما شمخ، ثم تفوته هذه الملاحظة البسيطة جدا والفاضحة جدا والمخزية جدا لمن وهبهم الله عقلا لكنهم آثروا خلع عقولهم! وأخيرا وليس آخرا: ما العلاقة بين كلمة "طير" وكلمة "تاؤون"؟ الواقع أن مثل هذه العلاقة المدّعاة ليس لها أى وجود إلا فى سمادير بعض العقول المبتلاة بآفة الانسلاخ من ضوابط المنطق والتمرد على قواعد الانضباط الفكرى! وهو ما يسمونه فى العامية المصرية: "كلام فى الهجايص" من نوع "الفيل فى المنديل"، و"الفِلّة فى الفانلة"!
    أما "عَفّ" فى قولنا: "عَفّ الدّبان على وِشّه" فهى من "عَفَّ اللبنُ يَعِفّ" (أى اجتمع فى الضرع أو بقى فيه)، وكما نلاحظ فإن عين مضارع هذا الفعل فى العامية مكسورة كالفصحى سواء بسواء، مما يؤكد أنه منها وليس من القبطية ولا المهلبية. وقد نبه د. عبد المنعم سيد عبد العال إلى فُصْحَوِيّةِ أَصْلِها فى "معجم الألفاظ العامية المصرية ذات الأصول العربية" (مكتبة النهضة المصرية/ 1971م/ 149)، وإن كنت لا أوافق على عنوان معجمه تماما لما قد يوحيه من أن الألفاظ العامية التى ترجع إلى أصل عربى هى الاستثناء، مع أنها تمثل الأغلبية الساحقة، بخلاف الألفاظ التى ترجع إلى أصول أجنبية، فإنها بطبيعتها قليلة، إذ العامية هى مجرد مستوى من مستويات اللغة وليست لغة غريبة عن الفصحى. وعلى هذا فمن المنطقى بل الواجب الحتم أن يخطر، أول ما يخطر على بالنا إذا ما فكرنا فى أصل أى لفظ عامى، أن نفتش فى الفصحى حيث يكون أصله. أما الألفاظ العامية ذات الأصول الأجنبية فتمثل الاستثناء. هذا ما يقضى به المنطق والعلم ووَضْع اللهجات العامية فى كل اللغات، على الأقل: تلك اللغات التى نعرفها، أما اللف والدوران الذى يبرع فيه بعض من يمسكون بالقلم متشبهين بالأساتذة العلماء ثم يتيهون بذلك كأنهم أساتذة علماء فعلا فإنه لا ينفع ولا يشفع!
    ومن الشواهد على أن العرب كانوا يعدّون الذباب من الطير ما جاء مثلا فى كتاب "أخبار أبى القاسم الزَّجّاجى" للزجاجى نفسه: "قال أبو عبد الله الكرماني: ما يُعَدّ في خلق الفرس من أسماء الطير: "الصّردان"، عرقان مكتنفان اللسان. ويقال: بياض في الظهر. و"الذباب"، إنسان العين. و"الديك":، ما انحنى من لحييه... و"اليعسوب"، الغرة الرقيقة المستطيلة. و"الهامة"، مؤخر الدماغ، ويقال: إنها الدماغ... و"العصفور"، عظم ناتئ في كل جبين، وإذا شالت الغرة فدقت ولم تجاوز العينين فهي "العصفور"...". وفى كتاب "الأشباه والنظائر" للخالديَّيْن مثل ذلك، إذ قالا نقلا عن الأصمعى: "في الفَرس اثنان وعشرون اسما من أسماء الطَّير: الفَرْخ والهامَة والحرّ والنَّعامة والصُّرَد والسّمامة والفَراش والخشاش والصُّلصل والصَّداة والناهض والحدأة والرَخَم والقَطاة والخطَّاف والنسور والخَرَب والعصفور والدَّجاجة والغراب والذباب والعُقاب...". وفى "الحيوان" للجاحظ هذان البيتان اللذان استعار أبو زبيد الطائى فيهما اسم "الطير" للذباب. وهذا أكبر دليل على سخف ما يقوله لويس عوض بغشم ودون احتراس:
    تذبُّ عنهُ كفٌّ بها رَمقٌ * طيرًا عكوفًا كزُوَّرِ العُرُسِ
    إذا وَنَى ونْيَةً دَلَفنَ له* فهنَّ مِنْ والغٍ ومُنْتَهِسِ
    وقال الجاحظ تعليقا على البيتين: "والطّير لا تَلِغ، وإنما يَلِغ الذباب، وجعله من الطّير. وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه، فإذ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر، جاز أن يستعير للطير وَلْغ السِّباع فيجعَل حَسْوها وَلْغًا". والشاهد فى البيتين أن الكلام فيهما عن الذباب، لكن الشاعر استعمل له كلمة "الطير"، ثم سواء بعد ذلك أكان الذباب يُعَدّ فعلا فى الطير كما قلنا آنفا أم كان استعير له ذلك الاسم على ما يقول الجاحظ، الذى لا أوافقه فى كلامه لأننا رأينا العرب تعد الذباب من الطير، إذ له أجنحة يطير بها، وهم أنفسهم ينسبون إليه فعل الطيران فيقولون: "طار الذباب وتطاير وطيّرته أنا...".
    ومثله فى ذلك هذا النص من كتاب "المفصَّل فى صنعة الإعراب" للزمخشرى حيث سمى الذباب: "طائرا". يقول عالمنا الكبير تحت عنوان "الإخبار عن كل اسم في جملة سائغ إلا إذا منع مانع": "وطريقة الإخبار أن تصدّر الجملة بالموصول وتزحلق الاسم إلى عَجُزها واضعا مكانه ضميرا عائدا إلى الموصول. بيانه أنك تقول في الإخبار عن زيد في "زيد منطلق": "الذي هو منطلق زيد"... وعن خالد في "قام غلام خالد": "الذي قام غلامه خالد" أو "القائم غلامه خالد". وعن اسمك في "ضربت زيدا": "الذي ضرب زيدا أنا" أو "الضارب زيدًا أنا". وعن الذباب في "يطير الذباب فيغضب زيد": "الذي يطير فيغضب زيد: الذباب" أو "الطائر فيغضب زيد: الذباب"...". وكذلك هذا الشاهد من كلام صلاح الدين الصفدى فى كتابه: "الوافى بالوَفَيات" تعليقًا على البيتين التاليين للمعرى اللذين استخدم فيهما كلمة "الذباب" على سبيل التورية:
    مثل وَشْي الوليد وإن كا* نت من الصنع مثل وَشْي حبيبِ
    تلك ماذيّةٌ، وما لذباب السيــ * ــف والصيف عندها من نصيبِ
    إذ قال إنه "استخدم لفظ الذباب في معنييه: الأول طرف السيف. والثاني الذباب، الطائر المعروف، وهو الذِّبّان"، فجعل الصفدى الذباب طائرا. وفى "جمهرة الأمثال" لأبى هلال العسكرى تعليقا على المثل القائل: "أبخلُ من أبي حباحب، ومن حباحب": "قالوا: هو رجل من العرب كان لبخله يوقد نارًا ضعيفة، فإذا أبصرها مستضىء أطفأها. وقيل: يعني بها النار التي تنقدح من سنابك الخيل، وهي نار اليراعة. وهي طائر مثل الذباب، إذا طار بالليل حسبته شرارة". فسمَّى العسكرىُّ أيضا الذبابَ طائرا. ووالله إننى لأشعر بالخجل أن أشغل نفسى وأضيع وقتى بمناقشة تلك التنطعات، لكن ما العمل وهناك من يقول: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟ إذا كان هذا أستاذا، فكيف يا ترى تكون تلاميذه؟ ألا أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهم من تلاميذ!
    وهو يسخر مما يقوله المصريون من أن الثعلب إذا حوصر ورأى أنه مأسور أو مقتول لا محالة فإنه يتماوت ويخرج من بطنه ريحا منتنا، أو "يفسو" كما يقول العامة حسبما جاء فى كتابه، مؤكدا أن ذلك ليس سوى أسطورة، وزاعما أن المسألة لا تعدو أن يكون المصريون قد خلطوا بين مادة "فسا" وبين الجذر "فخ/ فس/ فكس"، الذى اشتُقَّت منه كلمة "ثعلب" فى اللغات الأخرى، فأطلقوها على ما يزعمون أن الحيوان المكار يخرجه من بطنه من ريح منتنة لدى شعوره بالخطر المحدق. وهو، فى حقيقة الأمر، لم يكتب هذا بالضبط، إذ هو لا يستطيع أن يكون دقيقا إلى هذا الحد لأن ثقافته، كما هو واضح، قائمة على الخطف والسرعة كثقافة أستاذه محمد مندور، بل جاء كلامه هكذا: "ومن الطريف أن نذكر الأسطورة المصرية الشائعة للتدليل على مكر الثعلب أنه "يفسو" ليطرد الناس عنه". ثم يمضى معللا هذا التخلف الذى يرمى به المصريين فيقول: "والأرجح أن هذه الأسطورة بنيت لاختلاط مادة "فسا" المعروفة بكلمة "فخ" و"ويس" أو"فيكس"، فهو صيغة منقرضة من اسم الثعلب، فهو نوع مألوف من الإتيمولوجيا الشعبية قصد منه حفظ جذر Fs= Ps= Wps= Lps" (ص 442). وكل هذا التخبط الغليظ الوجه قد أريد به خدمة هدف واحد، وهو القول بأن المصريين لم يأخذوا عن العرب كلمة "فسا"، بل أخذوها، مثلما زعم أنهم أخذوا أيضا كلمات"ثعلب" و"ذئب" و"كلب"، من أصل أجنبى واحد (بعد أن أدخلوا عليها بعض التحويرات، لكن دون أن يقدم ولو شبهة دليل واحد على ما يقول)، وفوقها أيضا كلمة "دحلبَ"، التى يزعم أنها مأخوذة من نفس جذر تلك الكلمات الثلاث، إذ إن كلمة "دحلب" (كما يقول) تدل على التسلل فى مكر شأن الثعالب (الصفحة السابقة). وهو يسلك فى هذا السبيل طرقا كلها التواء لا يمكن أن تخطر للشيطان نفسه على بال، فهو يلوى عنق الكلمات والمفاهيم ويتشقلب فى الهواء شأن البهلوانات بغية التعمية على ما يريد التسلل به إلى الأفئدة والعقول، إلا أن الله له بالمرصاد والفضح وهتك الستر والسر!
    وأول شىء نقوله فى الرد على هذا الكلام الممخَّط هو أن الثعلب مشهور فعلا بأنه عندما يحدق به الخطر الداهم يتماوت. وكنت أسمع هذا فى طفولتى فى القرية من أولاد جيراننا الفلاحين، كما أكده لى بعض مهندسى الزراعة الذين سألتهم قبل أيام. وبالمثل ذكره الكاتب المصرى محمد قنديل البقلى فى كتابه: "الأمثال الشعبية"، إذ كتب فى تعلبقه على المثل القائل: "مكّار زَىّ التعلب" أن "الثعلب يشتهر بالمكر والخداع، فإذا أحس بأنه سيقع فى فخ الصياد تماوت ونفخ بطنه حتى إن من يراه يظن أنه ميت حقيقة فيتركه" (محمد قنديل البقلى/ الأمثال الشعبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1987م/ 725). كذلك كتب الجاحظ نفس الكلام فى كتابه: "الحيوان"، والجاحظ لم يكن مصريا بحال (أم ترى الدكتور لويس سيصيّره مصريا على طريقته فى التأريخ للُّغات واشتقاق الكلمات؟)، بل كان من البصرة. وقد استشهد ذلك الأديب الكبير فى هذا المضمار بحادثة شاهدها أخ لأحد أصدقائه فقال: "حدَّثني صديقٌ لي قال: تعجَّبَ أخٌ لنَا من خُبث الثَّعلب، وكان صاحبَ قَنْص، وقَالَ لي: ما أعجب أمر الثعلب! يفصل بين الكلب والكلاَّب، فيحتالُ للكَلاَّب بما يعلم أنَّه يَجوز عليه، ولا يحتال مثل تلك الحيلة للكلب، لأنّ الكلب لا يَخفى عليه الميِّت من المغشيِّ عليه، ولا ينفع عنْدَه التَّماوت. ولذلك لا يُحمل من مَات من المجوس إلى النَّار حتى يُدْنَى منه كلبٌ لأَنّه لا يَخفى عليه مغْمُور الحِسِّ: أحَيٌّ هُوَ أو ميت. وللكلب عند ذلك عمل يستَدِلُّ بِهِ المجوس. قال: وذلك أنِّي هَجَمْتُ على ثعلبٍ في مَضيق، ومعي بُنَيٌّ لي، فإذا هو ميِّتٌ منتفِخٌ، فصدَدْت عنه، فلم ألَبثْ أن لحِقتني الكلاب، فلمَّا أحسَّ بها وثَب كالبرق، بعد أن تحايَدَ عن السَّنَن. فسألت عن ذلك، فإذا ذلك من فِعلِه معروفٌ، وهو أنْ يستلقيَ وينفخَ خواصرَه ويرفعَ قوائمه، فلا يشكُّ مَن رآه من الناس أنّه ميِّت منذ دهر، وقَدْ تَزكَّرَ بالانتفاخِ بدنُه. فكنتُ أتعجَّب مِنْ ذلك، إذْ مررْتُ في الزُّقاق الذي في أصل دار العبَّاسيّة ومنفَذه إلى مازن، فإذا جرو كلبٍ مهزولٌ سَىِّء الغذاء قد ضربه الصِّبيان وعقَروه ففرَّ منهم ودخل الزُّقاق، فرمى بنفسه في أصل أُسطُوانة وتبِعوه حتَّى هَجمُوا عليه، فإذا هو قد تَمَاوَتَ فضربوه بأرجلهم فلم يتحرَّكْ فانصرفوا عنه، فلمَّا جاوزُوا تأمَّلت عينَه، فإذا هو يفتَحُها ويُغمِضها، فلمّا بعدوا عنه وأمِنَهم عدا، وأخذَ في غير طريقهم، فأذهَبَ الذي كان في نفسي للثَّعلب، إذ كان الثَّعلب ليس فيه إلاَّ الرَّوَغان والمكر، وقد ساواه الكلبُ في أجودِ حِيَلهِ".
    وفى كتاب اليُوسِىّ: "زهر الأَكَم فى الأمثال والحِكَم"، وهو أيضا (ثلاثة أيمان بالله العظيم) لم يكن مصريا قط، بل مغربيا من أهل القرن السابع عشر الميلادى: "الثعلب... موصوف بالمكر والاحتيال، مشهور بذلك. ومن مكره إنّه إذا رأى الغلبة عليه تماوت حتى لا يُشَكّ في موته فإذا غُفِل عنه وثب هاربا". أما الريح المنتنة التى يقال إنه يخرجها من بطنه حين يتحقق أنه سيقع فى الحصار ولا يستطيع الإفلات فقد كنت أسمعها وأنا صبى صغير من أولاد الفلاحين من جيرتنا ممن يذهبون دائما إلى الحقول ويشاهدون الثعالب ويعرفون الكثير عن طبائعها وسلوكها، بيد أننى لم أستطع العثور على شىء من هذا صريح وأنا بصدد تجهيز هذه الدراسة رغم ما بذلته من جهد للوصول إلى حقيقة هذا الأمر فى المشباك، وإن كانت حكاية الجاحظ وكلام البقلى واليوسى يقتضى ذلك.
    هذا أولا، أما ثانيا فهو أن منطق الدكتور لويس عوض مضحك لتفاهته وسخفه، إذ ما معنى أن يطلق المصريون على الريح التى تخرج من بطن الثعلب الاسم الذى كان يُطْلَق على الثعلب نفسه فى اللغات القديمة التى ذكرها؟ ترى ما العلاقة بين الثعلب والفساء؟ وهل الثعلب وحده هو الذى يفسو من دون المخلوقات الحية؟ إذن فيمكننا بهذه الطريقة أن نسمى كلام الدكتور لويس هنا "ثعلبا"! ثم إنهم، حسب كلامه الأعوج، لم يكتفوا بهذا بل اشتقوا من ذلك الاسم فعلا هو "فسا يفسو"! كذلك إذا ثبت أن حكاية الريح المنتن هذه ليست إلا أسطورة تكون قد غطَّت ووطَّت، إذ معنى ذلك أنهم اخترعوا شيئا لا وجود له، ثم زادوا فبحثوا عن تسمية لذلك الشىء فوجدوها فى لغتهم العربية، لكنهم أبَوْا إلا أن يبحثوا عنها فى لغة أخرى ماتت وشبعت موتا حتى وجدوا فى تلك اللغة كلمة "ثعلب" فأخذوها وأطلقوها على "الفساء" الذى يزعمون كذبا أن الثعلب يخرجه من دبره. ولا أدرى لماذا فعلوا ذلك إلا أن يكونوا مجانين قد فقدوا عقولهم ولم يبق إلا أن يسيروا فى الشوارع عراة يريلون! إذ إن تصرفهم هذا يفتقر تمام الافتقار إلى الحكمة، وبخاصة أن التحقق من الموضوع واكتشاف حمق ما وقعوا فيه مسألة فى غاية السهولة!
    قلت إننى لم أجد حكاية الفساء هذه صريحة فيما قرأت على المشباك من المقالات والدراسات الفرنسية والإنجليزية كما سلفت الإشارة من قبل، لكن تفسير ذلك ممكن فى ضوء ما يمكن أن يقال من أن الثعالب فى بلادنا إنما تأكل، كما نأكل نحن، الفول والطعمية، بخلاف ثعالب أوربا التى كتب عنها العلماء ما كتبوا عن طباع الثعالب، فإنها تأكل الجاتوه والمارون جلاسيه فلا تخرج ريحا أصلا، فضلا عن أن يكون هذا الريح منتنا، أما ثعالبنا آكلة العدس والبصارة، ومحرِّشة بطنها بالفجل والكراث والبصل فأجارك الله! إلا أن علماء أوربا الذين يكتبون فى هذه المسائل لا يضعون ثعالبنا فى اعتبارهم للأسف، ومن هنا لم أجد فى الكتب والدراسات التى رجعت إليها شيئا عن هذا..
    أيا ما يكن الأمر فليس من المعقول أن يترك المصريون لغتهم العربية ويذهبوا إلى اللغات الأجنبية كى يقترضوا منها كلمة موجودا مثلها وأنتن منها فى لغتهم من أجل أن يطلقوها على شىء لا وجود له ويمكن بسهولة شديدة التحقق من أنه عديم الوجود! ترى هل تتعلق هذه الكلمة بشىء ليس له وجود فى ثقافتنا؟ ترى هل هناك فرقٌ موسيقىٌّ مثلا بين الكلمتين لصالح اللغة الأجنبية؟ ثم لماذا يأخذ المصريون كلمة "ثعلب" فى تلك اللغات ويطلقونها على الفساء؟ ولماذا، بعد أن أخذوا كلمة "ثعلب" من اللغات الأجنبية، لم يمدوا هذه الكلمة نفسها ويعطوها الدلالة على تلك الريح الكريهة أيضا بدلا من أن يأخذوا أولا الكلمة التى تعنى "الثعلب" من تلك اللغات ثم يحوّروها إلى كلمة "ثعلب" العربية ثم يطلقوها على ذلك الحيوان، ثم يعودوا كرة أخرى فيأخذوا كلمة "ثعلب" من تلك اللغات نفسها ليطلقوها على الفُسَاء لكن دون تحوير (أو كما يقول "أستاذهم الدكتور لويس عوض" بحذلفته البغيضة، كى يشده العقول ويخرسها فلا تفكر ولا تتكلم: دون "ميتاتيز") هذه المرة؟
    إن هذا ليشبه ما صنعه ذلك الأحمق الذى عثر فى الطريق ذات يوم على زِرّ بدلة، فما كان منه إلا أن شرع يقتصد من قوته وقوت عياله ويقرمط عليهم وعلى نفسه غاية القرمطة كى يشترى بدلة للزر! إذن ففيم المشكلة؟ الواقع أنه لا توجد مشكلة ولا دياولو إلا فى بعض الأذهان المنكوسة الملحوسة المنحوسة التى ترى الشىء تحت أنفها يكاد أن يخزق عينيها لكنها تترك هذا كله وتسافر فتجوب بلاد الله خلق الله وتدوخ وتدوّخنا معها (ربنا يدوخها السبع دوخات! قادر يا كريم!) بحثا عن ذلك الشىء! إن الذى يقرأ كتاب لويس عوض ولا يعرف اللغة العربية سوف يظن أننا إزاء مشكلة عويصة القرار لا تقبل الحل ولا النقض أو الإبرام! ثم ماذا يقول الحمقى إذا عرفوا أن الثعلب ليست هى التسمية الوحيدة عندنا لذلك الحيوان، بل هناك أيضا "تَتْفُل" و"أبو الحصين" مثلا؟ ثم هل يكفى أن يكون هناك حرف مشترك بين لفظين فى لغتين مختلفتين بل متباعدتين تمام التباعد حتى نقول إن أحدهما مشتق من الآخر؟ طيب، فلم لا تكون اللغة الأجنبية هى التى أخذت من لغتنا؟ بل لماذا أخذ العرب كلمة "الثعلب" عن غيرهم من المتكلمين؟ هل لدلالتها على مخترع حضارى لم يكونوا يعرفونه فاستوردوه، ومعه اسمه الذى يدل عليه؟ ألا بئست العقول العمياء!
    ومن هذا الوادى المضحك أيضا ما زعمه لويس عوض من الشَّبَه الشديد بين العاج والآبُنُوس، التى يكتبها كالعامة: "أبنوس" من غير مدّ! وهذا كلامه بحرفه: "والدليل على ذلك أن كلمة "أبنوس" لها صيغ متعددة فى المجموعة الهندية الأوربية يختلط فيها معنى "أبنوس" ومعنى "عاج": فمن ناحية اشتقاقية نجد أن "إبونى: Ebony" الإنجليزية و"إبين: ébène" الفرنسية و"أبينوس: Ebenus" فى اللاتينية البائدة وفصيحها فى اللاتينية الكلاسيكية "هبينوس: Hebenus"... كلها تعنى "أبنوس"... وبالمثل فإن الكلمة "إيفورى: Ivory" الإنجليزية و"إيفوار: Ivoire" الفرنسية، وكلاهما بمعنى "عاج"، مشتقة من الجذر اللاتينى "Ebor" بمعنى "عاج"... و"إيبور: Ebor" و"إبين: Eben" و"هبين: Heben" صور من نفس الجذر الذى أفضى إلى "Ivory" أو "Eben" (؟!) فى الإنجليزية ونظائرها فى اللغات الأوربية بمعنى "أبنوس" و"عاج". ورغم اختلاف الأبنوس عن العاج، فالأول من شجرة الأبنوس، والثانى من سن الفيل، فقد كان لهما اسم واحد لشدة الشبه بينهما. والأصل طبعا هو العاج أو سن الفيل لأنه طبيعى، أما الأبنوس فهو صناعى، وبالتالى فهو المجاز. ولكن المهم فى كل هذا هو أن "Ebor" أو "Eben" أو "Heben" هى جذر "فيل" العربية، و"إيفان" فى "Elephant" الهندية الأوربية"، كما أنه جذر لكلمة "إبل"..." (ص 451). وكان قد قال (ص 266- 267) إن كلمة "abw: أبو" فى المصرية القديمة التى تعنى "الفيل، والعاج، وسن الفيل" قد دخلت كلمة "أبنوس" العربية و"Ebony" الإنجليزية و"Ebène" الفرنسية. ولن أتعرض هنا لما اعتسفه من غثاءٍ مُغَثٍّ فى هذا السبيل، بل سأتوقف فقط عند ذلك التشابه المزعوم بين العاج والآبنوس الذى لم أسمع به من قبل، لكن بعد أن ننبه إلى أن معجم "Nouveau Petit Larousse" (ط1972م) ينص على أن الأصل اللاتينى لكلمة "Ivoire" هو "Ebur"، كما أن معجم "Webster's New Collegiate Dictionary" (ط1951م) يرجع كلمة "Ivory" إلى "Eboreus"، وليس "Ebor" فى أى منهما كما يقول لويس عوض. كما أن المعجم الأخير يرد "Ebony" إلى "Ebenus" اللاتينية، على حين يردها المعجم الأول إلى "Ebenos" اليونانية لا كما قال الدكتور لويس! وإن كان من الممكن القول بأن سبب هذا الاختلاف إما أن يكون راجعا إلى خطإ الدكتور لويس كما أخطأ فى كثير جدا مما حبره يراعه فى هذا الكتاب معتمدا على ما يخطر له وهو يكتب، وهذا افتراض قوى جدا، وإما أن يكون راجعا إلى أن الآراء فى تأصيل الكلمات وإرجاعها إلى مصادرها الأولى مختلفة جدا فى كثير من الأحيان (فما بالنا بالدكتور لويس الذى يأخذه الغرور القاتل المهين الموقع لصاحبه فى المآزق والمهالك فيذهب يتخيل نفسه إلها قد أحاط بلغات العالم كلها تقريبا قديما وحديثا وجلس وقد بسط أمامه خريطة لتلك اللغات وأخذ يفتى على طريقة ضاربة الرمل والودع دون كابح من علم أو منهج سوى النزوات البهلوانية التى لا تحق حقا ولا تبطل باطلا؟)، وإما أنه نقل ما نقله من كتاب كونى وغيره من غير تدقيق.
    ترى هل سمع القراء الكرام أن أحدا قال يوما إن العاج والآبنوس شىء واحد كما قال "أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟ إن العاج (بافتراض تسليمنا للويس عوض بما يقول من أنه سن الفيل فقط) هو ذو لون أبيض ناصع يشبّهون به الأشياء البيضاء الجميلة، أما الآبنوس فهو على النقيض من ذلك أسود، بل يُضْرَب به المثل فى السواد. ولذلك فإن الصفة: "ebony" تعنى فى الإنجليزية أيضا: "أسود كالآبنوس"، ويشبهه قولهم فى الفرنسية عن الشعر الأسود الجميل: "cheveux d'ébène". ثم إن العاج جزء من جسم حيوان، أما الآبنوس فمأخوذ من شجرة. فما وجه الشبه بين هذا وذاك؟ فإذا عرفنا أن العاج عند العرب، أو عند بعضهم على الأقل، ليس هو سن الفيل، أو على أدنى تقدير: ليس سن الفيل فقط، بل يندرج فيه أيضا ظهر السلحفاة البحرية، وكذلك كل عظم، بل إن منهم من يقول إن العاج يطلق أيضا على سوار المرأة (ويُنْظَر فى ذلك "تاج العروس" للزبيدى مثلا)، إذا عرفنا ذلك تبين لنا كم هى محدودة وملتبسة معلومات "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، وأن ما يعرفه فى هذا الصدد هو، على فرض صحته (رغم أنه غير صحيح كما تبين لنا)، لا يزيد عما يعرفه العوام.
    على أن هذه ليست كل المشكلة، بل المشكلة الحقيقية هى أن الرجل لا يعرف شيئا عن المنهج العلمى أو قيم العلم الصحيحة التى تتمثل فى التواضع أو على الأقل: شىء من التشكك، وكذلك العمل الدؤوب على استكمال النقص الموجود فى المعلومات لدى للشخص، وبخاصة إذا كان يراد تنصيبه أستاذا للأولين والآخرين حتى ميقات يوم معلوم هو يوم الدين كــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" كائد العُذّال من يومه! إننى مثلا أعترف بأنه تنقصنى معلومات كثيرة فى أبسط الأمور، إلا أننى أحاول إذا ما بدا لى أن أتناول شيئا يتصل بها أن أستكمل على قدر ما أستطيع هذا النقص حتى لا أفتضح. صحيح أننى مهما فعلت فلن أستكمل الأمر تماما، وهذا ما دفعنى ذات يوم أن أكتب مقالا طويلا عريضا عن "أخطائى" التى تنبهت لوقوعها فى مؤلفاتى، بيد أن تلك الثقة الجهول بالنفس التى عند بعض الناس من شأنها أن تهتك الستر الذى يغطى سوأة صاحبها. عافانا الله بكرمه ومَنّه وجميل ستره من كل ثقةٍ جهولٍ فاضحة!
    والآن إلى دعواه السمجة بأن كلمة "خبر" فى قولنا: "أصبح فى خبر كان" لا تعنى "الخبر" الذى نعرفه، بل هى كلمة مصرية قديمة (hpr) معناها "كان"، أخذها المصريون من لغتهم السابقة وصاغوا منها فى عاميتهم التعبير المشهور: "أصبح فى خبر كان"، أى أننا نحن المصريين حين نقول: "خبر كان" فإننا نعنى "كان كان" مكررين بذلك الكلمة مرتين (ص 179). إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن كلمة "خبر" فى المصرية القديمة، حسبما ذكر، لا تقتصر على هذا المعنى بل تعنى أيضا "صار، وقع، حصل، خلق، أوجد". وأول سؤال نطرحه هو: من قال إن لفظ "خبر" فى التعبير المذكور مأخوذ من المصرية القديمة؟ هل هناك برهان على مثل تلك الدعوى؟ وكيف اتخذت تلك الكلمة طريقها إلى لسان العرب؟ ولماذا اختار لويس عوض معنى "الكينونة" لهذا الفعل دون سائر المعانى الأخرى التى لا صلة لها بالكينونة؟ وهذا كله إن كان الأمر فى المصرية القديمة كما يقول. ثم هل هذا التعبير تعبير عامى مصرى أو هو تعبير فصيح؟ وهل هو مقصور فى الفصحى على استعمال المصريين أو هو مستعمل عند العرب جميعا؟ وهل هو تعبير محدث أو استعمال قديم؟ وقبل ذلك هل يعقل أن يستخدم المصريون الكلمة مرتين، كل مرة منهما بلغة مختلفة؟ فلماذا يا ترى؟ هل فى الكلمة شىء استثنائى يجعلهم يأتون هذا الصنيع الأحمق؟ وهل يجوز فى العقل أم هل يسوغ فى الذوق أن نقول: "أصبح فلان فى كان كان"؟ وهل لذلك أصلا من معنى؟ أم تراه يقصد لعبة الــ"كان كان" فى الكوتشينة؟ يا للهزل!
    كذلك هل يصح فى العلم أن نترك السبب الواضح المباشر إلى سبب ملتو غريب لا يمكن أن يخطر على البال ولا يقبل به العقل ولا يستسيغه الذوق؟ إن المعنى المراد من العبارة حسب فهمنا نحن لا حسب التأويل السخيف الذى جاء به لويس عوض هو معنى واضح على أحسن ما يكون الوضوح، إذ المقصود أن فلانا بعد أن كنا نتحدث عنه فنقول: هو موجود ومتفوق وغنىّ مثلا أصبحنا بعد وفاته نقول عنه إنه "كان" موجودا، و"كان" متفوقا، و"كان"غنيا. أى أنه "كان" ثم لم يعد له وجود، على أساس أن خبر المبتدإ فى مثل هذه الأحوال يدل على الزمن الحاضر، بخلاف "كان"، التى تقلب زمن الخبر من الحاضر إلى الماضى. ترى هل من تعسف فى هذا التفسير؟ أويجد فيه القراء أية بهلوانية أو مدابرة للمنطق أو لذوق اللغة كما هو الحال فى كلام لويس عوض؟ أما القول بأنه تعبير عامى مصرى فغير صحيح لأن الصيغة الفُصْحَوِيّة واضحة على سيمائه أتم الوضوح، إذ العامية المصرية أو أية عامية عربية أخرى لا تعرف "كان" وأخواتها، ومن ثم لا تعرف "خبر كان". كما أن هذا التعبير ليس مقصورا على المصريين بل يستخدمه العرب جميعا! وقد وجدت بالمصادفة وأنا أعد هذه الدراسة، أن لويس عوض نفسه قد استخدمه بلا أية حذلقة فى المعنى الذى يزعم هو أنه غير صحيح، إذ يقول فى كتابه: "رحلة الشرق والغرب" على لسان القنصل البريطانى فى يوغوسلافيا فى أوائل السبعينات من القرن الماضى إنه لولا نائب المحافظ فى بور سعيد أثناء العدوان الثلاثى على مصر لكانت الجماهير فى تلك المدينة قد فتكت به ولكان الآن "فى خبر كان" (سلسلة "اقرأ"/ العدد 354/ يونيه 1972م/ 48).
    وكعادتى، كلما قدمت رأيا لى فى مسألة لغوية يخالف ما يقوله الآخرون، ذهبت أبحث عن شواهد تبين أن ذلك التعبير إنما هو تعبير فصيح، وأن العرب لا يعرفونه اليوم فقط، بل كانوا يعرفونه من قبل. وهذه هى الشواهد المذكورة: يقول ابن الجوزى فى "المدهش" (وابن الجوزى بغدادى من أهل القرن الثانى عشر الميلادى): "أين الراحلون؟ كانوا بالأمس. صحَّت حجة الموت فبطلت حجة النفس، واعتقلهم حاكم البِلَى على دين الرَّمْس، وكفَّ أَكُفّ الحس، بعد تصرف آلة الخمس، واستوعر عليهم الحصر واستطال الحبس، وأصبحت منازلهم "كأنْ لم تَغْنَ بالأمس". يا قليل اللبث، خل العبث، كم حدث جدث في حدث؟ يا موقنًا بالرحيل وما اكترث، اقبل نصحي ورُمَّ الشعث.
    إذا نلت من دنياك خيرًا ففز به* فإن لجمع الدهر من صرفه شتا
    فكم من مشت لم يصيف بأهله* وآخر لم يدركه صيف إذا شتى
    انْتَهِبْ نثار الخير في مكان الإمكان، قبل أن تدخل في خبر كان، قبل معاينة الهول المخوف الفظيع، وتلهف المجدب على زمان الربيع. إنما أهل هذه الدار سَفْرٌ لا يحلون عقد الركاب إلا في غيرها، فاعجبوا لدار قد أدبرت والنفوس عليها والهة، ولأخرى قد أقبلت والقلوب عنها غافلة". وفى "معجم البلدان" لياقوت الحَمَوِىّ (وهو من أهل القرن الثانى عشر والثالث عشر الميلاديين) عن مدينة هراة الخراسانية: "وجاءها الكفار من التتر فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك في سنة 618". وفى "المقامات الزينية" لابن الصيقل الجزرى (من أهل القرن الثالث عشر الميلادى) نقرأ: "ولّما رسَخَتْ قَدمُ ساقِ المسرّةِ الريّانِ وانسلخَتْ أُهُبُ الظُّلَم عن مرابض الظّيَّان أقبلنا بمُنْصُلِ الصلةِ الصقيل، معتذرينَ إليهِ من ذلكَ التثقيل، فألفيناهُ قد بلقعَ المكان، ودخلَ في خبرِ كان". وفى "أعيان العصر وأعوان النصر" للصَّفَدِىّ عن على بن يوسف الحسن أنه "نَظَمَ ونَثَر، وقرأ بنفسه الحديث والأثر، ولم يزل على حاله إلى أن دَثَر، ودخل في خبر كان وغَبَر، وتُوُفِّيَ رحمه الله تعالى". والصفدى ليس مصريا، وهو من أهل القرن الرابع عشر الميلادى. وبالمثل نجد قول ابن حجة الحموى (الذى عاش فى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين) فى كتابه: "ثمرات الأوراق فى المحاضرات": "ووصل المملوك بعد الفجر إلى البلد وقد تلا بعد زخرفة في سورة الدخان، فوجب أن أُجْرِي الدموع على وجيب كل رَبْع وأُنْشِد، وقد دخل صبري بعد أن كان في خبر كان:
    دمعٌ جرى فقضى في الرَّبْع ما وجبا"
    وفى "فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عرب شاه الدمشقى (وهو من أهل القرنين 14- 15 م): "ذَكَر أهل السِّيَر ونَقَلة الأثر أن الملك أنوشروان كان راكبا في السيران، فجمح به فرسه وقوى عليه نفسه، فاستخف شانه وجبذ عنانه، فهمزه ولكزه وضربه ووخزه، فزاد جموحا وماد جموحا، فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان أن يقع، فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان ". وفى "نفح الطيب" للمقرى (ق 16- 17م) عن أبى حيان الأندلسى عند وفاته: "ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان، وتوفّي رحمه الله تعالى بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة". وفى رحلة ابن بطوطة: "هذه حلب، كم أدخلتْ ملوكها في خبر كان، ونسخت صَرْف الزمان بالمكان". وفى "نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة" للمحبّى: "وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان، على أبدع ما في الإمكان"... وغير ذلك كثير. ونختم بهذا البيت الشعرى لأحمد محرم:
    وأَمْسَى الذي كان ملء العيو* ن في قومه أثرًا أو خَبَرْ
    وهو يدور فى نفس المدار الذى يدور فيه قولنا: "أصبح فى خبر كان" مما يدل على أن هذا التعبير الأخير لا يمكن أبدا أن يكون مركَّبا من العربية والمصرية القديمة بمعنى "كان كان". وقبل ذلك فالعبارة، كما هو واضح، ليست عامية بل فصيحة. وفوق هذا فثمة تعبيرات كثيرة أخرى فى لغتنا عمادها كلمة "خبر"، وهو برهان على أن قولنا: "أصبح فى خبر كان" ليس شيئا استثنائيا بحيث يمكن أى متنطع أن يزعم بشأنه المزاعم المتهافتة، ومنها "عند جُهَيْنَةَ الخبر اليقين"، "جاء بوَرِكَيْ خبر" (أى جاء بالخبر بعد أن استثبت فيه كأنه جاء به أخيرا، لأن الورك متأخرة عن الأعضاء التي فوقها. والمعنى أتى بخبرٍ حَقّ)، "فلان ذو خبر بهذا الموضوع" (أى على علم به)، "وافق الخُبْرُ الخَبَر"، "أصبح خبرا من الأخبار"، "أصبح خبرا يُرْوَى"، "لم يعد يُسْمَع له خبر"، "لا حِسّ ولا خبر"، "مالي به خبر" (أي ليس لدىّ به علم)، "أتاه بالخبر اليقين"، "نزل الخبر على رأسه كالصاعقة"، "أتانا خبره" (بمعنى "مات")، "خبر السماء" (الوحى)، "ما الخبر؟" (أى ماذا حدث؟)، علاوة عما نردده من تعبيرات فى الحياة اليومية مثل: "يا خبر!"، "خبر أسود!"، "خبر مطيّن!"، "يا خبر بفلوس، بكرة يبقى ببلاش"، "اكْفِ ع الخبر ماجور"، "إن شا الله ييجى خبره"... وهذا كله فى المفرد وحده، ولا داعى للدخول فى صيغة الجمع فى مِثْل المَثَل الشِّعْرِىّ المشهور: "ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ".
    ترى بالله لماذا تستعير العربية كلمة "خبر" بمعنى "كان" من المصرية القديمة؟ أوليس فيها كلمة "كان"؟ أوليس فيها كلمة "خبر" بالمعنى الذى نعرفه والذى لا يمكن أن يعنى هذا التعبير شيئا آخر سواه؟ ثم لماذا يوالون بين الكلمة وبينها هى نفسها بلغتين مختلفتين فى معنى تافه وواضح كهذا؟ بل إنى لأمضى إلى أبعد من ذلك فأطالب من يزعم هذا الزعم السخيف أن يثبت لنا أن ذلك التعبير كان موجودا فى المصرية القديمة! الحق أن هناك ناسا عندهم من البرودة وجمود الوجه بحيث لا يجدون أى حرج فى الزعم والإلحاح بأن الجمل قد صعد النخلة. وعبثا تحاول أن ترد عليهم بأن الجمل يستحيل أن يصعد النخلة، لأنهم سوف يصدعون دماغك بأنه يصعد فعلا النخلة، والدليل على ذلك أنه قد صعد النخلة. أليسوا قد زعموا أنه قد صعد النخلة؟ فماذا تريد من دليل أفضل من هذا؟ أى أنهم يجعلون دليلهم هو ذات كلامهم، مستخدمين طريقة المصادرة على المطلوب. ومثل هؤلاء لا يصلح معهم لكى تفضحهم على رؤوس الأشهاد إلا أن تقول لهم: هذا هو الجمل، وهذه هى النخلة، فأرونا كيف يمكن أن يصعد الجمل النخلة. وبالمثل نقول للويس عوض: هات لنا هذا التعبير من المصرية القديمة ونَقِّطْنا بسُكَاتك وأرحنا من هذه الثرثرة البغيضة على غير طائل!
    وفى معجم قديم كـ"القاموس المحيط"، وهو ما هو بين المعاجم الفصيحة: "دخل الأمرُ في خبر كان: مضى". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى (اللبنانى): "أصبح المشروعُ في خبر كانَ، أي زال واضمحلّ أو مضى"، وليس فيه أى كلام من قريب أو بعيد عن أن التعبير مأخوذ من العامية كما هى عادة هذا المعجم عند إيراده شيئا ذا أصل عامى. وفى "المعجم الوسيط" (فى مادة "كان"): "دخل فى خبر كان" أى مضى. وليس فيه أيضا أية إشارة إلى أنه عامى الأصل كما هى عادته فى مثل هذه الحالة. وفى معجم "الغَنِىّ" لمؤلفه "المغربى" الدكتور عبد الغني أبو العزم (فى مادة "خبر") أن قولنا: "هَذَا الأَمْرُ أَصْبَحَ في خَبَرِ كَانَ" معناه "أَصْبَحَ أَمْرًا مَنْسِيًّا". وكما يرى القارئ فمن المستحيل هنا كذلك تأويل الكلام على أساس أن كلمة "خبر" معناها "كان"، وإلا فلا ملامة على السامعين إذا أخذونا من فورهم إلى السراية الصفراء!
    ولقد قمت بجولة على المواقع المشباكية العربية غير المصرية فإذا بى أعثر على عشرات المشاركات المختلفة من قصائد ومقالات وإعلانات وتعليقات عنوان كل منها هو: "فى خبر كان". وبالمناسبة فهذا التعبير قلما تعرفه العامية فى مصر أو فى غيرها إلا على ألسنة المتعلمين والمثقفين، إذ هو تعبير فُصْحَوِىّ فى الأساس. ليس ذلك فحسب، بل هو فى الواقع تعبير عربى حَصْرًا، أى لا تعرفه اللغات الأخرى. ذلك أن مفهوم "خبر كان" لا يوجد إلا فى لغة العرب حيث هناك باب للأفعال النواسخ فى كتب النحو يتحول خبر المبتدإ فيه إلى "خبر كان" أو إحدى أخواتها، ويعتريه النصب بعد أن كان مرفوعا، علاوة على تحوله، مع "كان" وعدد من أخواتها، من الحاضر إلى الماضى كما قلنا.
    وفضلا عن ذلك كله فالعبارة موجودة أصلا فى كتب النحو بمعناها الحقيقى بما يدل على أنها كانت جاهزة تحت يد من يريد التقاطها وإعطاءها المعنى المجازى الذى نحن بصدده الآن. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن جِنِّىّ فى "الخصائص": "وأجاز أبو الحسن زيادة الواو "في خبر كان"، نحو قولهم: كان ولا مال له، أي كان لا مال له"، وقول الزمخشرى فى كتابه: "المفصَّل فى صنعة الإعراب": "ويُضْمَر العامل "في خبر كان" في مثل قولهم: الناس مجزيّون بأعمالهم: إن خيرًا فخَيْر، وإن شرًّا فشَرّ. والمرء مقتول بما قتل به: إن خنجرًا فخنجر، وإن سيفًا فسيْف. أي إن كان عمله خيرًا فجزاؤه خير، وإن كان شرًّا فجزاؤه شَرّ"، وقول ابن أم قاسم المرادى فى "الجَنَى الدانى فى حروف المعانى": "وذكر ابن مالك أن لام الجحود هي المؤكدة لنَفْيٍ "في خبر كان" ماضية لفظًا أو معنًى"، وكذلك قول عبد القادر البغدادى فى "خزانة الأدب": "وأجاب بأن أصل خبر كاد أن يكون اسمًا كما "في خبر كان"، ولذلك استعمل ذلك الأصل المرفوض في البيت، فالفعل واقعٌ موقع الاسم نظرًا إلى الأصل"... إلخ. أما الدكتور لويس فهو بكلامه ذاك إنما يلعب فى الوقت الضائع، كما أن طريقته فى التفكير ليست فى الواقع طريقة أهل العلم، بل طريقة العوامّ أحلاس المصاطب، فهو فى الواقع لا يبغى، بزعمه أن اللغة العربية مدينة للمصرية القديمة والقبطية، سوى المكايدة كراهيةً منه للغة القرآن وللقوم الذين حملوا إلينا كتاب الله المجيد، وهيهات، اللهم إلا فى الأحلام والأوهام مما ليس على من يلجأ إليها من حرج، بشرط أن يبقى حبيس أحلامه وأوهامه لا يخرج عنها إلى فضاء العلم ويزاحم بها فى سوقه، وإلا فلا يلومنّ إلا نفسه إن أراه العلماء شُغْلَه وجَرّسوه وجعلوا من لا يشترى يتفرج!
    وكثيرا ما توفقت وأنا أقرا كتاب لويس عوض، وكذلك وأنا أناقش هنا بعض ما يتضمنه من سخافات وتفاهات، وسألت نفسى: أيصح أن أستمر فى الاشتغال بهذه السخافات والتفاهات نازلا بذلك على حكم صاحبها، إذ يصرفنى عما يفيد بما لا يترتب عليه سوى إهدار الوقت والجهد فى قراءة هذه الهلاوس والرد عليها؟ وأكاد أنصرف لولا، وآه من لولا، نعم لولا أن هناك باعةً سرِّيحة تخصصوا فى البكش وبرعوا فى الضحك على عباد الله الأغرار فتراهم يرفعون عقائرهم بالصياح المنغَّم مع القسم المغلَّظ بالله إنهم لا يقولون إلا الصدق، ولا شىء غير الصدق، وإن ما يعرضونه من سلع إنما هو بضاعة أصلية ممتازة ورخيصة الثمن، ثم لا يقف المشهد عند هذا الحد، بل نشاهد فريقا من المطيباتية يُقْبِلون من بعيد على نحو يوهم من لا يعرف خبيئة الأمر أنهم أَتَوْا بالمصادفة المحضة والْتَقَوْا هناك على غير ميعاد، ثم يأخذون فى تقليب السلع وعليهم علائم الجِدّ والاهتمام، ثم يشرعون بعد ذلك فى الثناء عليها والتصفيق لها والتظاهر بالشراء منها والإعراب عن الانبهار بها. فخوفا من أن يقع عباد الله الطيبون فى حبائل أولئك النصابين المحتالين وصبيانهم كان لا بد من "تضييع" الوقت فى مناقشة هذه السخافات والتفاهات حسبةً وابتغاءً لأجر الكريم المتعال.
    ومن نفس الوادى ، وادى الجهل وقلة البضاعة العلمية والمنهجية، قوله إن لفظ "البَنَان" لفظ مفرد لا جمع له. وهو يرجع بها إلى كلمة "Finger" التى يفترض جنابه العالى أنها كانت أولا "Penger"، ثم يعود فيفترض ثانية (على طريقة "سكتنا له، دخل بحماره") أن "Penger" هذه قد أصبحت "Pener" مع تطويل حرف الــ"e" الثانى حتى تكون قريبة من "بنان" (ص 418). ولن أناقش افتراضَيْه الـمُضْحِكَيْن اللذين يأخذ راحته وحريته تماما فى افتراضهما مثل أى ولد سخيف مدلل فاسد يعبث بلعبته دون أن يكون لأحد الحق فى التعقيب على هذا التخريب، بل سأحصر همى فى مراجعة الجهل المتمثل فى حسبانه أن كلمة "بنان" كلمة مفردة، وأنه لا جمع لها، وأنها من ثم لا تعنى "إصبعا" بإطلاق، بل إصبعا بعينه هو البنصر. ولماذا البنصر؟ لا أدرى، فهذا ما شاءه "أستاذنا الدكتور لويس"، ولا راد لمشيئته العابثة المخربة. فليعلم إذن لويس أن كل ما قاله جهل فى جهل فى جهل فى جهل... من هنا للصبح، ليس صبح الغد، بل صبح يوم القيامة (يا دين النبى!). نعم ليعلم لويس أن كل ما قاله جهل فى جهل فى جهل فى جهل، إذ "البنان" ليس لفطا مفردا، بل هو كــ"شجر" و"ورد" و"سِدْر" مثلا، أى جمع لا مفرد، ويسمى: اسمَ جنسٍ جمعيًّا، ومفرد هذا اللون من الجموع يكون بإضافة "تاء التأنيث" إليه، فنقول: "شجرة، وسِدْرة، وزهرة، ووردة، ونخلة، وتوتة... وتوتة توتة خلصت الحدوتة!". وعلى هذا فمفرد "بنان" هو "بنانة"، وكان الله يحب المحسنين! أما القول بأن كلمة "بنان" لاتدل على"إصبع" بوجه عام، بل على "البنصر" بالذات فجوابى عليه هو أن يقوم من يقول بذلك ويغطى نفسه جيدا لأن ما يقوله عيب لا يصح! فاللغة لا يصلح لها هذا التنطع الجاهل الثخين الوجه. أجل، لأنها ليست بنت اليوم حتى يفتى فيها لويس، بارك الله فى عقله وعلمه! بل هى موجودة منذ دهور، على الأقل قبل أن نصطبح بوجه لويس! أليس كذلك؟ ومن ثم فليس لمن يقول كما قال لويس عوض إنه كان ينبغى أن يكون هناك "التِّنْصَر" مثلما هناك "الخنصر" و"البنصر" إلا مستشفى الـــ... لا لا، لا داعى للتكملة، فالطيب أحسن!
    وهو يدعى أن الصفة: "هَصُور" ليس لها اشتقاق واضح فى اللغة العربية، ومن ثم يرجح أنها كانت اسما من أسماء الأسد ثم ذهبت مذهب الصفة (ص 444). لكن هل هذا صحيح؟ كلا، بل اشتقاقها واضح، إذ هى مأخوذة من الفعل: "هَصَر"، أى أخذ الشىء نحوه وكسره وحطمه، بالإضافة إلى بعض الدلالات الأخرى. جاء فى معجم "محيط المحيط" مثلا: "هصَرهُ يهصِرهُ هَصْرًا: جذبهُ وأمالهُ. والشيءَ: كسرهُ ودفعهُ وأدناهُ. والغصنَ وبالغصن: عطفه وكسره من غير بينونة أو ثناهُ ومدَّهُ إلى نفسهِ، أو هو عَطْف أيّ شيءٍ كان. وفي حديث الركوع: "ثم هصر ظهرهُ"، أي ثناهُ ثَنْيًا شديدًا في استواءٍ بين رقبته وظهره. وقال امرؤُ القيس:
    هَصَرْتُ بفَودَيْ رأسها فتمايلتْ* علىَّ هَضِيمَ الكَشْح رَيَّا الـمُخَلْخَلِ
    انهصر واهتصر: مطاوعا هَصَر. واهتصر الغصنَ: بمعنى هصرهُ. والنخلةَ: ذلَّل عذوقها وسوَّاها. الهَصْرَة والهَصَرَة: خرزة للتأْخيذ. الهَيصُور والهَيْصَر والهَيْصَار والهَصَّار والمِهْصَر والهُصَرَة والهاصِر والهَصْوَرَة والهَصْوَر والمِهْصَار والمِهْصِير والهَصِر والهُصَر والمُهتصِر والهَصُور: الأسد، لأنهُ يهصر فريستهُ". ثم هل يحل اقتراح لويس عوض المشكلة؟ أبدا، بل سنظل نرواح أماكننا، إذ السؤال هو: وعلام تدل تلك الصفة إذا قلنا إنها متحولة من اسم للأسد إلى صفة له؟ ستظل دالّةً على الأخذ العنيف والكسر والتحطيم كذلك. فكأنك يا أبا زيد ما غزوت! ثم كيف يجوز لواحد منا الآن، أى بعد أن برزت اللغة العربية إلى الوجود بأحقاب لا يعلمها إلا الله (ومعه لويس عوض طبعا حسب أوهامه القاتلة!)، أن يذهب فى بيداء التخمينات الساذجة المضحكة ويتخيل ثم يخال، ويضع تاريخا جديدا للُّغة ما أنزل الله به من سلطان، تاريخا لا تماسك فيه ولا منطق ولا علم ولا فهم، تاريخا لا يستند إلا إلى العناد والتمرد ومحض الرغبة فى التشكيك فى كل شىء وترك القارئ مبلبل النفس والعقل تمهيدا للمرحلة التالية، مرحلة القضاء على اللغة ذاتها بعد أن اجتاحت الرِّيَبُ كالنار كلَّ شىء؟
    ومن ذات الوادى، وادى الجهل المركب، قول "أستاذنا وتاج رأسنا ورأس من خلفونا وتركونا مع لويس عوض للضياع والخسران" إن كلمة "بَوّ" معناها "العجل الصغير" (ص 434). وهذا جهل شنيع، وبخاصة من رجل أبت له همته القعساء إلا أن يقعد مقعد الإله فيفتى فى شؤون اللغات جميعا على مدار التاريخ الإنسانى كله تقريبا دون أن يرفق بنفسه (وهذه هو حُرٌّ فيها) ودون أن يرفق بنا (وهذه ليس هو حُرًّا فيها، بل تثير أعصابى وتجعلنى أكتب ما أكتب الآن ردا على هذا الصداع الذى يسببه لنا هذا الجهل الفاحش). نعم إن هذا جهل شنيع، بيد أن الأمر لا يقف عند حدود هذا الجهل الذى كان يمكن صاحبه أن يزيحه عن عقله لو أنه رجع إلى أى معجم. لكنه طبعا أبو زيد زمانه، بل أبو زيد كل الأزمنة والأمكنة، أبو زيد السالك صاحب السكة التى كلها مسالك، ومزالق، من كثرة ما يرمى بنفسه فى المهالك، من حالق، فى الظلام الحالك، فتصبح فضيحته خبر الممالك والبيالك والشفالك، وحديث المصاطب والأرائك، مستطيرا كلهيب الحرائق، دون عوائق! المهم أن الأمر ليس أمر جهل فحسب، بل أمر حواة جاهزين لكل ما تريده الجماهير منهم من ألاعيب. ذلك أنه يرتب على هذا الجهلِ القولَ بأن الجذر: "بو" هو أساس كلمة "بقرة" (وكذلك الثور، لأن البقرة لا تستطيع أن تدبر شؤونها وحدها فى مجتمع ذكورى متخلف، وتحتاج إلى رجل. صحيح أنه "راجل طور" كبعض الناس، لكنه رجل والسلام، وظِلّ رَجُل ولا ظِلّ حائط!)، نعم، "البَوّ" هو أساس كلمة "بقرة" و"ثور" فى كل اللغات الرئيسية فى العالم تقريبا. فانظر إلام جَرَّ الرجلَ غرورُه. لقد جرّه إلى حتفه، و"راح فى الكازوزة"! والكازوزة، كما تعرفون حسب العلم اللويسى العوضى، مأخوذة من نفس الجذر الذى أخذت منه كلمة "كِزّ" و"جِزّ" و"هِزّ يا وِزّ" و"حَطَّة يا بطة يا دقن القطة" و"نطّة" و"شطة" (لاعب الأهلى القديم، وكان سودانيا، وكان يحب النط، فلذلك ذكرناه بعد كلمة "نطة") و"شنطة" و"وزة وبطة" و"واك واك واك" و"كاك" و"ماك" و"كرباك"، (وهى صيغة أخرى من "كرباج"، ولاحظوا أنها قريبة فى جرسها من كلمة "عربجى"، وهو الرجل الذى اخترع منطاد زبلن الذى تعاورته قبلا الصيغ التالية: "زبرن، زربن، كربن، كرجن، برجن، عربن، عربج"، وهذه الصيغة الأخيرة هى التى أدت إلى ظهور كلمة "عربجى"، وكان هذا العربجى يمسك كرباجا ويلسع به من يتشعلقون فى مؤخرة المنطاد. ولهذا سنضيفه إلى هذه القائمة ونقول: "عربجى")، و"حنطور" و"الإلهة حتحور بنت الطور" (لاحظ التشابه اللفظى بين "حنطور" و"حتحور"، فأبوها كان رئيس العربجية فى زمانه)، وبعد "حنطور" يأتى بطبيعة الحال "شَفْتُور" و"عَجُّور" و"بَعْجُور"، و"جرَاك" (أى معَسّل عند السعوديين) و"حراك" (لامعنى لها هنا، وإن كان لها معنى كل المعنى عند الحداثيين، لكننا ذكرناها توطئة للكلمة التالية) و"حراج" (سوق الكانتو عندالسعوديين أيضا) و"لجاج" و"اعوجاج" و"ارتجاج" و"زعيط ومعيط ونطاط الحيط" و"الحيض" و"كرتونة البيض" (لاحظ العلاقة بين البيض والحيض، فقد كانت النساء زماااااااااان يبضن ولا يلدن، ولذلك كان البيض رخيصا) و"النفاس" و"الوسواس الخناس" "والسكسكة فى الحمبلاص" و"لحمة الراس" و"الفشة والكرشة والمرشة من عند المعلم أبو لباس" (وهذه الكلمات الثلاث بينها توتولوجى. وأرجو أن تسامحونى فى "أبو لباس" هذه، فبدونها لن يكون هناك سجع)، و"أُسْتُرْجِى" (على جَرْس "توتولوجى")، و"عطشجى" (مثلها)، و"قطار قليوب" (الذى كان سببا فى كارثته العطشجى)، و"أبنوب" (على وزن "قليوب"، وهو صاحب وكالة الحبوب هو والمعلم "أبو سريع" اللهلوب)، و"قطار الشرق السريع" (ماشية مع "أبو سريع" طبعا)، و"أرسين لوبين" (ملحوظة: "قطار الشرق السريع" قصة من قصص أرسين لوبين كانت مشهورة فى اللغة السنسكريتية أيام الله لا يعيدها ولا يعيده هو أيضا. وبعد أرسين لوبين تأتى، لزوم النغم الموسيقى، كلمة "مسطرين"، ولهذا نقولنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي و"مسطرين"، و"حسنين ومحمدين"، و"أبو العينين"، و"أروح فين، وآجى منين؟". لا تضحكوا، فإن ما صنعه لويس عوض فى معظم صفحات كتابه لا يختلف كثيرا عن هذا سوى أنه يرسم على وجهه ملامح الوقار (الزائف طبعا)، أما أنا فلا أتمالك من الضحك على هذا الوقار الكاذب، والعقل الهارب، والجهل الكارب!
    يااااااااااه، لقد نسيت فى غمرة هذا العلم اللَّدُنِّىّ أن أذكر لكم المعنى الصحيح لكلمة "بَوّ". ولسوف نكتفى بــ"لسان العرب" و"المحيط" عن المعجمات الباقيات: يقول ابن منظور إن "البَوّ (غير مهموز): الحُوار. وقيل : جلده يُحْشَى تِبْنا أَو ثُمَاما أَو حشيشا لتَعْطِف عليه الناقة إذا مات ولدها ثم يُقَرَّبُ إلى أُم الفصيل لتَرْأَمَهُ فتَدِرَّ عليه. والبَوُّ أَيضا: ولد الناقة. قال:
    فما أُمُّ بَوٍّ هالكٍ بتَنُوفَةٍ إذا ذكَرَتْه آخِرَ الليلِ حَنَّتِ
    وأَنشد الجوهري للكميت: "مُدْرَجة كالبَوِّ بين الظِّئْرَيْن". وأَنشد ابن بري لجرير: "سَوْق الروائمِ بَوًّا بينَ أَظْآرِ". وفى "المحيط": "البَوُّ: ولد الناقة.-: جِلْد ولد الناقة يُحْشَى تِبنًا فيقرَّب من أمّ الفصيل فتُخْدَع وتعطف عليه فتَدِرُّ. ومنه المثل: أخدعُ من البّوِّ". ولعلى أفيد القراء شيئا إذا قلت إن "البَوّ"، كما عرفناه ونحن صغار، هو كرة ضخمة كبيرة من الخرق القديمة الملفوفة بالحبال اليدوية كان الفلاحون يلعبون بها، وقد شاطرتهم هذا اللعب أحيانا فى خمسينات القرن الماضى وبعض أوائل ستيناته، ثم اختفت تماما بعد ذلك. وواضحةٌ الصلة بين هذه الكرة والبَوّ الذى كانت العرب قديما تحشوه تبنا لخداع الناقة استدرارًا للبنها.
    ومن جهله المغرض الذى يوقعه الله فيه دائما كى يفضحه ويشهّر به فى العالمين قوله (ص 552) إن "الصَّيْقَل" هو لوح الفضة الذى يستخدم مرآةً، وذلك كى يتخذه تكأة للقول بتحول إحدى الكلمات الأجنبية إلى كلمة عربية، مع أن "الصَّيْقَل" إنما هو شَحّاذ السيوف الذى يجلوها كما جاء فى "الصحاح" للجوهرى، و"تهذيب اللغة" للأزهرى، و"لسان العرب" لابن منظور، و"تاج العروس" للزبيدى، و"محيط المحيط" للبستانى، و"المعجم الوسيط"، و"الرائد" لجبران مسعود، و"لاروس" للدكتور خليل الـجُرّ مثلا، وليس لوح الفضة المزعوم فى كلام الدكتور لويس. كما فاته فى ذات السياق أن كلمة "سَجَنْجَل" التى وردت فى معلقة امرئ القيس هى فى الأصل كلمة مستعارة من لغة الروم كما جاء فى "أدب الكاتب" لابن قُتَيْبَة و"خزانة الأدب" للبغدادى و"محيط المحيط" للبستانى مثلا، إذ ذكر "أستاذنا الدكتور لويس عوض" أنها عربية، ثم مضى فبنى كلامه على هذا الأساس، وهو الذى لا تفوته فرصة دون أن يزعم أن الكلمة العربية الفلانية أو العلانية أو الترتانية مأخوذة من هذه اللغة الأجنبية أو تلك. والسبب هو أنه قليل العلم فى الميدان الذى تصدى فيه للكتابة فلم يعرف ما قال العلماء العرب أنفسهم فى أصل كلمة "السَّجَنْجَل".
    وهو يقول إن جذر "بيو" اليونانى الذى يعنى "حياة" (كما فى "بيولوجى" و"بيوجرافى") لا يزال موجودا فى اللغة العربية متمثلا فى عبارة "حياك الله وبياك" (بمعنى "أحياك الله وأحياك") وفى غيرها مما يشير إلى ذكرياتٍ للَّفظةِ قديمةٍ هذه بقاياها (ص 218). فأما فى غير "بياك" فلم يورد أى شاهد، ولهذا نضرب عنه صفحا ونعده كلاما فى الهواء لا يعنى شيئا، فالكلام المرسل ليس عليه حساب، وما أسهله على كل من أراده. لكننا نقف قليلا بإزاء تعبير "حياك الله وبياك"، الذى يقول عنه إنه نوع من "التوتولوجى"، أى تكرار المعنى بعبارات مختلفة دون أن يترتب على هذا التكرار زيادة فى وضوح المعنى. وعنده أن "حياك" عربية بمعنى "أحياك"، أما "بياك" فيونانية، ولها نفس المعنى كما سبق بيانه. أى أن معنى العبارة هى "أحياك الله وأحياك".
    وأولا نقول إن "حياك" هنا مختلَف فى معناها، ولم يذكر المعجميون أنها تعنى "أحياك" كما قال الدكتور لويس، بل قالوا إنها تعنى الدعاء للشخص بالبقاء أو بالمُلْك أو بالتحية. ثم ما معنى أن يُدْعَى لإنسان بالحياة إذا كان حيا فعلا؟ لو قيل مثلا: "أحياك الله حياة طيبة" لكان للكلام معنى، أما أن نقول: أحياك الله" هكذا بإطلاق فلا تصح إلا إذا كان المدعوّ له ميتا فندعو له حينئذ أن ينقله الله من حالة الموت إلى حالة الحياة. فهل يصح أن نخاطب ميتا؟ ثم متى أحيا الله إنسانا بعد موته على غير يد عيسى عليه السلام الذى أعطاه الله المقدرة على إحياء الموتى، أجل متى حدث ذلك حتى يكون ثمة أمل باستجابة مثل ذلك الدعاء؟ إذن فالأبواب موصدة فى وجه لويس عوض أَنَّى اتجه!
    وثانيا لو صح هذا الذى يزعمه لويس فإنه لا يسمَّى: "حشوا" كما زعم، إذ الحشو ما كان لفظه زائدا على أصل المعنى دون أن تحمل الزيادة معها فائدة. وهذا الذى بين أيدينا ليس من الحشو، بل من التكرار الذى يراد به التأكيد، وبخاصة أن اللفظ الثانى (حسب كلامه) مأخوذ من لغة أخرى، فهو يعطى الكلام نكهة منعشة، كما كنا نبتهج ونحن نسمع فى شبابنا إحدى أغانى الفلم الهندى "سانجام" حيث يردد المغنى عبارة "أحبك" بعدة لغات مختلفة: (هكذا حسب ما أذكر بعد أربعين عاما:"ich liebe dich, I love you, Je vous aime"). وعلى هذا فحتى فى أمر بسيط كهذا لا يستطيع لويس عوض أن يقول شيئا سليما، وهو ما يؤكد ما لاحظته من قبل من أنه يكتب ما يعن لخاطره دون أن يكلف ذلك الخاطر التثبت مما يكتب. وهذا هو العبث بعينه، إذ مطلوب من الكاتب ألا يخط شيئا دون أن يكون متيقنا من صحته، وبخاصة فى مثل تلك المسائل التى لا تكلف من يطلبها أكثر من أن يفتح كتابا من كتب البلاغة، وهى أكثر من الهم على القلب!
    بيد أن لويس عوض لم يفعل، وهو لم يفعل لأنه مغرور، مع أن العلم ليس فيه كبير! والغرور والانتفاخ فى العلم دليل على الضحولة والسطحية، إذ العالم الحق كلما ارتقى وازداد نطاق معارفه اشتد تواضعه واستوثق أنه ليس إلا جاهلا كبيرا، وإن كان جهله من النوع البسيط الذى يستحث صاحبه على الاجتهاد فى إزالة حجب الظلام عن عقله! والحشو، كما ألمحنا، هو تكرار المعنى بعبارات أخرى دون أن تترب عليه فائدة. إلا أن هذا المثال، إن صح ما يقوله فيه الدكتور لويس، لا يقوم على تكرار المعنى بعبارات مختلفة، بل بنفس الألفاظ لكن بلغة أخرى. كما أن التكرار هنا، لو صح ما يقوله لويس عوض، من شأنه أن يضفى على الكلام تأكيدا. وأخيرا فإن الحشو قد يقع فى أسلوب كاتبٍ فردٍ، أما أن يقع فى عبارة يرددها العرب جميعا فى كل العصور دون أن يتنبهوا إلى هذا فيتجنبوه بل يظل يستعمله كبار الكتاب والشعراء وصغارهم والجمهور العادى فلم أسمع به!
    وليسمح لى القراء الكرام بلفت نظرهم فى هذا السياق إلى مصيبة أخرى من مصائب "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى باب هذا "التوتولوجى" اللعين الذى لو كنت أنا من الأستاذ الدكتور ما جئت بسيرته على لسانى إلى أن أموت وأشبع موتا وأبعث فى العالم الآخر ثم لا أفكر فى الإتيان بسيرته بعد هذا كله رغم ذلك على لسانى، إذ قال لا فض فوه (أو "فُضَّ" حتى يريحنا من خوتة الدماغ التى يزعجنا بها على مدى مئات الصفحات دون أن يصيبه صداع ولا ملل ولا قرف، وهو ما يرشحه لموسوعة جينز العالمية) عن "تاتا خَطِّى العتبة": إنها تعبير توتولوجى! ثانٍ يا دكتور؟ أوبعد هذا كله لم تحرِّم؟ قلنا إن التوتولوجى هو تكرار المعنى بعبارات أخرى لا تضيف جديدا، فهو إذن مجرد حشو. وعلى هذا فــ"تاتا خَطِّى العتبة" ليست من التوتولوجى فى شىء. وهذه عبارة "أستاذنا الدكتور لويس عوض": "وربما كان هناك تعبير توتولوجى فى التعبير المصرى المألوف فى لغة الأطفال: "تاتا خَطِّى العتبة" قُصِد به، مع اللعب على الألفاظ العربية، حفط جذر "ات" كما فى "تا" و"خط" و"عت" فى "عتبة" (ص 268). أرأيت أيها الصديق القارئ كيف يصبح مجرد تكرار الجذر فى عبارة من العبارات "توتولوجى"؟ وهذا لو صح أن هناك تكرارا فى الجذر فى تلك العبارة! إن ما يقوله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" ما هو إلا خنفشاريات بهلوانية لا تسمن ولا تغنى من علم! وعوضنا على الله فى لويس بن عوض! والله إنى لأشعر بالخجل أَنْ كان هناك جامع بينى وبين أستاذنا الدكتور لويس عوض، هو لقب "عوض"!
    وثالثا ليست معنى كلمة "بيّاك" فى العبارة التى بين أيدينا "أحياك"، بل معناها: "بيَّنه ووضَّحه، أو سَرّه وعجَّل له ما يحب، أو بوّأه مكانا حسنا". وهناك من هذه المادة أيضا قولهم: "هَىّ بن بَىّ" أو "هيّان بن بيّان"، بمعنى "فلان بن فلان". ويمكن أن نضيف إلى ذلك (لكن بالواو لا بالياء) الفعل: "باء" فى "باء إلى" بمعنى "رجع"، و"باء بالذنب أو بالمسؤولية": أقرّ بهما، و"باء بفلان": قُتِل به، و"بوّأه المكان الفلانى": أنزله إياه. ومنه أيضا "بِيئة"، وهو المكان الذى ينتمى له الشخص أو يرجع فى آخر المطاف إليه، و"الباءة"، أى الزواج، و"القوم بَواءٌ فى هذا" أى أَكْفاء... إلخ. وكما هو واضح لا علاقة لهذا كله، لا فى المعنى ولا فى الاشتقاق، بالمقطع "بيو: bio" اليونانى الذى تقرّ اللغات الأوربية أنها قد أخذته عمدا ووضعته فى أول بعض الكلمات فيها للدلالة على معنى "الحياة". كما أن الطريق الذى اتخذه هذا المقطع فى رحلة دخوله للغات الأوربية الحديثة طريقٌ لاحِبٌ معلومٌ للجميع. وهذه اللغات حديثة عهد بالوجود، فهى محتاجة إذن إلى هذه الاستعارة، فضلا عن أن هناك جامعا يجمعها باليونانية هو الخلفية الأوربية وانتماؤها جميعا إلى مجموعة اللغات الهندية الأوربية، أما العربية فمن اللغات السامية، ولا علاقة لها بها. وعلى هذا فكل ما كتبه لويس عوض فى هذا الموضوع هو عبث فى عبث فى عبث وتضييع للوقت والجهد: لا وقته هو وجهده، فمن الواضح أن وقته كان طويلا وفاضيا، بل وقتنا نحن وجهدنا، إذ يترك السبيل الواضحة المستقيمة التى يقتضيها العقل والمنطق والعلم والتاريخ، ويضرب فى بيداء مضلة مهلكة عنادًا جاهلاً وكبرًا أثيمًا.
    ولولا أننى آليت على نفسى أن أفضح عجزه وبهلوانيته وقلة بضاعته من العلم حتى لا يأخذ الشباب ما يكتبه فى هذا المضمار مأخذ الجد ويظنوا أن تحت القبة شيخا وحتى أجنّبهم مزالق الطريق الوعر فى هذه الأيام التى ساد فيها الرويبضات لما جشمت نفسى هذا الجهد فى الرد على رجل كلويس عوض مكشوف المقاتل بادى السوءات! والعبارة على كل حال تقترب من باب الإتباع، كقولنا: "قسيمٌ وسيم"، و"حَسَنٌ بَسَن"، و"ضئيلٌ بئيل"، و"قبيحٌ شقيح"، و"جَظٌّ جَعْظ"، و"شيطانٌ لَيْطَان"، و"هَشٌّ بَشٌّ"، و"ثائر فائر"، و"حائر بائر"، و"ندمان سدمان"، و"اللَّحْظ واللَّفْظ" (من كلام طه حسين)، و"عَلِيلٌ بَلِيلٌ" (للنسيم)، و"عِيَانًا بيانًا"، و"حارٌّ جارٌّ"، و"لَقًى بَقًى" (مرمىٌّ مطروح)، و"لَقْلاقٌ بَقْباقٌ"، و"ثَرْثارٌ بَرْبار"، و"فُلاَن وعِلاّن"، و"هَبَّ ودَبَّ"، و"هنّاه ومنّاه" (تقال فى وسوسة الشيطان)، و"أبتعين أبصعين (أى جميعا)". ومنه فى العامية: "إِهِئْ مِهِئْ"، و"الهُؤْ النُّؤْ"، و"سَلْقَط مَلْقَط"، و"سَدَاح مَدَاح"، و"التَّبَات والنَّبَات"، و"خَبْص ولَبْص"، و"حانا ومانا"، و"حاتا باتا"، و"حَتَتَكْ بَتَتَكْ"، و"حَلاَل بَلاَل"، و"طويل هبيل"، و"هِيلاَ بِيلاَ"، و"السَّحّ الدَّحّ"، و"السَّحّ النَّحّ، و"حَطّة يا بطَّة"، و"كانى مانى"، و"شُرُمْ بُرُمْ"، و"خايب ونايب"، و"شافع ونافع"، و"شايب وعايب"، و"كِرْشَة ومِرْشَة"، و"الصباح رباح"، و"سِيما وقِيمَة"، و"سَلْطَحْ مَلْطَحْ" (من فلم "إشاعة حب")، و"خِيبَة بالوِيبَة". وما زال الكبار منا يذكرون ما كان الناس فى مصر يرددونه وراء شويكار فى ستينات القرن الفائت من قولها فى إحدى تمثلياتها فى غُنْجٍ سمج: "خالِصْ مالِصْ"، وإذا زوَّدتْ عيار السماجة قليلا قالت: "خالص مالص بالص"، وإذا تمادت فى السماجة قالت: "خالص مالص بالص جالص" بمعنى "تماما/ أبدا"! ومن المعروف فى الإتباع أنه قد يكون للكلمة الثانية معنى قريب من معنى الكلمة الأولى كما فى بعض الشواهد المارة، أو قد تجىء بلا معنى سوى هذا التناغم الموسيقى المنعش الذى نراه فى بعض الشواهد الأخرى.
    وأخيرا لقد كان بمستطاعنا أن نقول إن اليونانية هى التى أخذت كلمة "بيو" من "بيّاك" و"باءَ" وأمثالهما، لكننا لسنا كلويس عوض فى الثرثرة الفارغة واللامبالاة ورمى الكلام على عواهنه دون مبالاة بالعقابيل وحشو الصفحات بأى شىء، والسلام، وإلا لكان علينا أن نبين بالدليل القاطع أو ما يقرب منه أن اليونانية إنما أخذت هذه الكلمة من اللغة العربية، وأن نبين فوق ذلك بالدليل أيضا المسار الذى اتخذه هذا الانتقال بين اللغتين. أما أن ينجعص الإنسان فوق المصطبة ويتجشأ من أعماق بطنه بصوت كريه السمع والرائحة ثم يفتى فيما لا يحسنه دون تبصر أو برهان أو فقه أو فهم فهذا شىء آخر لا صلة بينه وبين العلم، على الأقل العلم الذى نعرفه وتربينا على احترام منهجه. أما إن كان هناك علم آخر يسمح بها، لا بل يباركه ويرحب به ويصفق لصاحبه ويطنطن باسمه، فذلك شىء آخر لا يشرفنا أن تكون لنا به أية علاقة!
    *****
    وفوق كل ما مر هناك خطأ رهيب آخر يقع فيه بصفة دائمة "أستاذنا وتاج رأسنا وحبة عيننا الدكتور لويس عوض"، وما أكثر أخطاءه وأدومها وأفدحها، ألا وهو حديثه عن العامية المصرية بوصفها لغة تختلف عن العربية الفصحى اختلافا جذريا ولا صلة لها بها، وكأن المصريين يتكلمون باللاوندى مثلا. ومعروف لكل إنسان، حتى من لم يذهب إلى الكتاب ليفك الخط، أن العامية هى مجرد مستوى من مستويات اللغة نفسها التى ينتمى إليها المستوى الفصيح. ومعروف كذلك، إلا لمن أعمى الله قلبه وعينيه جميعا، أن العامة فى أية أمة يفهمون اللغة العصحى كما يفهمون العامية إلى حد كبير ما دام مستوى الفكر المعبَّر عنه لا يرتفع كثيرا عن مستواهم الثقافى، وإلا تحولت المشكلة فى هذه الحالة من مشكلةِ عاميةٍ وفصحى إلى مشكلة مستوًى ثقافى ومستوى ثقافى آخر، بالضبط مثلما لا يستطيع واحد مثلى أن يفهم بسهولة أى شخص يتناول بالحديث أو بالكتابة موضوعا بعيدا تماما عن مجال تخصصى وقراءاتى واهتماماتى. ذلك أن العامية فى أية لغة، كما قلنا ونقول دائما، هى ذاتها الفصحى مع بعض التحويرات التى قد تدخل على بعض الالفاظ أو التراكيب، فضلا عن تخليها عن الإعراب (بالمناسبة كنت أشاهد أمس فى قناة "الجزيرة" برنامجا عن اغتيال الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، وكان من المتحدثين اللواء فؤاد علام صديق الإخوان اللدود فراعنى أنه كثيرا ما يعرب الكلمات، بل ويعربها إعرابا صحيحا). كما أن العامية كثيرا ما تضيف إلى اللغة مفردات وتعبيرات وصورا ليست فى الفصحى، لكن هذا لا يجعل من هذه المفردات ولا تلك التعبيرات والصور شيئا أجنبيا عن اللغة. والدليل على ذلك أن فريقا من الكتاب الفصحاء يتبنَّوْن كثيرا من هذه الإضافات العامية فى أساليبهم، وكل ما يفعلونه هو إجراؤها على مقتضى الإعراب وإرجاعها إلى صيغتها الفُصْحَوِيّة إذا كانت قد تعرضت لشىء من التحوير.
    وأنا من هذا النوع من الكتاب، وإذا أراد القارئ شواهد على ذلك فأمامه الدراسة مملوءة بمثل تلك الألفاظ والعبارات والصور، ومنها عبارة "أستاذنا وتاج رأسنا وحبة عيننا" التى لم أفعل فيها شيئا سوى أن أعدت "الألف" فى "راسنا" همزةً فصارت: "رأسنا"، وإن كان إبقاؤها كما كانت بالألف لا يخرجها عن المستوى الفصيح، إذ من العرب القدماء من لم يكن يهمز، ومنهم أهل مكة ذاتها، فكانوا يقولون كما نقول الآن فى العامية: "راس"، "كاس"، "بير"، "شُوم"، "لولو"... ومع ذلك فقد همزتُ الكلمة هنا لأننا فى الفصحى الآن لا نسهّل الهمز بل نحققه، وهذا كل ما هنالك. ولو كانت العاميات لغات مستقلة برأسها لا مستويات من اللغة إلى جانب المستوى الفصيح لكان معنى هذا أنه ما من شعب فى الدنيا إلا ويتكلم عددا كبيرا من اللغات بعدد العاميات التى يتكلمها سكان المناطق المختلفة فى البلاد، علاوة على الفصحى ذاتها، وهذا مما لايقول به عاقل ولا مجنون. بيد أن الدكتور لويس صاحب غرض، والغرض مرض، وقد غطى المرض الذى يعانى منه وتتلوى مصارينه بسببه على بصره وبصيرته! وما يقوله لويس عوض هو جزء من سياسة الخطوة خطوة لقتل اللغة العربية وإحلال العامية محلها. ولعلكم لم تَنْسَوْا بَعْدُ كتابه سئ الذكر: "بلوتولاند" الذى كتبه بالعامية وأعلن فيه أنه يريد كسر رقبة البلاغة الفصيحة. وفى هذا الصدد ينبغى أن نذكر دعواه الكاذبة بأن المسلمين فى مصر يزعمون أنهم "من سلالة العرب الشريفة"، تلك الدعوى التى أراد أن يعادل بها إقراره بما يردده الأقباط فعلا من الزعم الخرافى بأنهم هم وحدهم الذين ينحدرون من سلالة قدماء المصريين، وأنهم من ثم أصحاب مصر الأصليون، وذلك كيلا يكون أحد أحسن من أحد، مع أن أحدا من المسلمين قديما أو حديثا لم يقل هذا قط (انظر نسيم مجلى/ لويس عوض ومعاركه الأدبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 417). ومما يجرى فى ذلك المجرى أن بعض الأقباط صاروا الآن يتبَارَوْن فى إرجاع الكلمات العامية المصرية إلى أصل قبطى فيزعمون أن هذه الكلمة أو تلك أصلها فى القبطية كذا أو كيت، مع أنها كلمة عربية مائة فى المائة، وكل ما فى الأمر أن الاستعمال العامى لها قد أدخل عليها شيئا من التحوير كما شرحنا قبل قليل.
    ومن هذا أيضا أن فريقا من السياسيين المصريين الكارهين للعروبة وما يرتبط بالعروبة من ثقافة وفكر وغير ذلك كانوا قد تداعَوْا قبل سنوات قلائل إلى تأسيس حزب يتبنى طرد اللغة الفصحى وإحلال العامية محلها بشبهة أنها لا الفصحى هى لغة المصريين. وكانوا قد أعلنوا، حسبما قرأنا فى الصحف، أنهم يريدون ترجمة القرآن الكريم إلى العامية حتى يفهمه الناس! أى أننا بدلا من أن نقول مثلا: "يا أيها الناس، ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له. إن الذين تَدْعُون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له..." يتعين علينا أن نقول: "يا بنى آدوم منك له له، تعالوا اسمعوا المثل اللى بيقول: المساخيط اللى بتعبدوهم دول بدل ربنا لا ممكن أبدا انهم يخلقوا دبانة من الدبان اللى على وشكو ده يا أوساخ يا لمامة. أُوم فزّ انت وهوّ من أُدّامى. جات البُعَدا شُوطه تاخدكو كلكو على وِشّ بعضكو انتو والدبان اللى على خِلْقِتْكو الغَبْرا...". وبعد قليل لن يكون هناك قرآن ولا يحزنون، والبقية فى حياتكم يا أهل مصر الطيبين! وهذه هى الغاية البعيدة التى يرمى إليها كتاب الدكتور لويس جريًا على آثار المستشرقين والمبشرين ممن يأكل الحقد قلوبهم على القرآن الكريم الذى يعرفون حق المعرفة أنه هو العقبة الكأداء المانعة لأوربا والغرب من ابتلاع العالم العربى والإسلامى. وللعلم فدراستى هذه التى بين يدى القارئ الكريم الآن يمكن أن يفهمها أى شخص يستطيع القراءة رغم أنها مكتوبة بالفصحى، اللهم إلا بعض المصطلحات المغرقة فى التخصص.
    ومن الأمثلة على استبلاه لويس عوض وحديثه عن العامية المصرية على أنها لغة أخرى غير العربية قوله إن الجذر: "Gen" فى المجموعة الهندية الأوربية هو أساس كلمة "ضنا" (ص 187- 188)، التى يصفها بــ"المصرية"، وكأن للمصريين لغة أخرى خاصة بهم غير العربية. والكلمة، كما نعرف، تجرى على لسان المرأة المصرية عندما يحرقها قلبها على ابنها فتقول: "يا ضنايا يا ابنى"، لكن "أستاذنا الدكتور" يزعم أنها غير معروفة الأصل أو المعنى، طبعا إلى أن هَلّ هو علينا بطلعته البهية فانحل اللغز الذى أرّق الدنيا واللغويين طوال القرون وحَلّه سعادته بفرقعة إصبعه النُّونُو كَوَنُّونُو. والواقع أن كلمة "ضنا/ ضنى" عربية فصيحة: وإذا نطقناها على أنها واوية الأصل وكتبناها من ثم بالألف كانت من "ضَنَت المرأة"، أى كثر نسلها. وإذا نطقناها على أنها يائية الأصل وكتبناها من ثم بالياء لا بالألف كانت من الفعل: "ضَنِىَ" بمعنى: أصابه الهزال من التعب. وقد يوصف المريض النحيل نفسه بهذه الكلمة فيقال: "فلانٌ ضَنًا". وعلى هذا فالكلمة تعنى فيما أفهم: "يا ابنى الذى ضَنِيتُ (أى تعبت حتى هُزِلْتُ) فى حمله وتربيته"، أو "يا ابنى الذى يئنّ ويعانى"، إذ تقال هذه العبارة عادة عند إشفاق الأم أو حزنها على ابنها. أو يمكن أن تكون هى "ضَنْءٌ" الفصحوية كما قال د. عبد المنعم سيد عبد العال، ثم سُهِّلت الهمزة واستعيض عنها بألف وعوملت معاملة المقصور، ومعناها "ولد" (معجم الألفاظ العامية المصرية ذات الأصول العربية/ 135). ولا داعى لأية حذلقات ثقيلة الظل وخيمة الأنفاس. أما ربط الدكتور لويس بين "يا ضنايا يا ابنى" و"الضانى" فيبدو أنه كتبها وهو جائعٌ قَرِمٌ إلى اللحم، أو كما كنا نقول ونحن صغار فى القرية: "شهوان اللحمة"!
    ومثل ذلك زعمه أن اسم "عشماوى" الذى يطلقه الناس فى مصر على الشرطى المختص بشنق المحكوم عليهم بالإعدام هو صيغة من الجذر الجرمانى: ":Henchen يشنق" والإنجليزى: ":Hangman الشنّاق"، وكأن المصريين لا يعرفون فى لغتهم العربية كلمة "شنّاق" أو "خنّاق" حتى يعجزهم توفير اسم لذلك الرجل إلا بعد أن وجدوه فى الجرمانية العالية والإنجليزية. ولكن التفسير الصحيح هو أن هذا اسمُ شنّاقٍ مشهورٍ أُخِذ وعُمِّم واستُعْمِل "اسم علم للجنس" لا "اسم علم لفرد واحد"، وذلك كقولنا: "جابوا له فرقة حسب الله" لأى فرقة موسيقية شعبية، وكما كان كثير من أهل قريتنا فى الخمسينات يقولون عن أى حافلة ركاب: "الكافورى" على اسم صاحب الشركة التى كانت تسيّر الحافلات فى منطقتنا، ثم عُمِّم الاسم حتى صار يُسْتَعْمَل لكل حافلة حتى لو لم تنتم إلى هذه الشركة. ومثله "أم على"، وهو طبق حلواء لذيذ سُمِّىَ باسم أول من طهته، وهى "أم على" ضَرّة شجرة الدر، التى قتلتها ثم أمرت بصنع هذا الطعام الحلو ووزعته على أحبابها فى أطباق تشفيا وابتهاجا بانتقامها من غريمتها. ومثله كلمة "جُرُوبِّى" التى كنا نسمع بائع الجيلاتى ونحن صغار يسمِّى بها قطع الآيس كريم التى ينادى عليها، مع أن هذه الكلمة هى اسم حلوانى مشهور فى مصر فى ذلك الحين اتسع استعماله حتى صار يطلق على الآيس كريم. وأذكر بهذه المناسبة أنه كان معنا ونحن صغار فى الفرقة الأولى الإعدادية طالب من القرية مات بعد ذلك فى حرب 1967م رحمه الله، وكنا ننتشر بين امتحانات آخر العام فى الشوارع القريبة من المعهد الذى كنا نؤدى الامتحان فيه فى طنطا، وكان يدور بيننا الباعة الجائلون ينادون على مبيعاتهم، ومن بينهم رجل يبيع قطع الجيلاتى فى صندوق نظيف، ويسميه كسائر الباعة فى ذلك الوقت: "جروبى"، مناديا عليه بقوله: "جروبى النجاح يا سِيدْنا". فكان زميلنا رحمه الله ينفق كل ما معه على "جروبى النجاح" هذا متصورا أن من يأكل منه ينجح تلقائيا على حسب ما ينادى البائع الظريف. لكنه للأسف لم ينجح لا ذلك العام ولا العام الذى يليه، ثم ترك التعليم وتعلم الخياطة فى القرية وبرع فيها وفى لعب الكرة أيضا، وكان يشبه إلى حد ما محمد شوقى لاعب الأهلى الحالى. وعندنا كذلك لفظ "الساندويتش" الذى أُخِذ من اسم أول من فكر فيه، وكان رجلا فرنسيا مدمنا للقمار لا يستطيع ترك المائدة الخضراء، فكان إذا جاع يطلب ممن حوله أن يأتوه بشطائر يتناولها وهو باق أمام عجلة الروليت. ومثله طبق "الشاتوبريان"، وهو شرائح اللحم المشوى بالبطاطس، على اسم الكاتب الفرنسى المشهور الذى كان مغرما بالطبخ والتفنن فيه واخترع هذا اللون من الطعام. ومثله كذلك "الـهُوفَر"، الذى كنت أسمعهم فى بريطانيا يطلقونه على المكنسة الكهربية من باب التوسع فى استعمال اسم شركة "هوفر"، التى تصنع تلك المكانس فى بريطانيا رغم أنها لا تقتصر على صنع تلك الآلة، بل تصنع معها آلات كهربية أخرى. ويشبهه فى ذلك اسم "سى السيد" (بطل رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ) و"الخُطّ" (على اسم أحد سفاحى الصعيد قبل عدة عقود). وقد كنت أقلب فى "معجم العادات والتفاليد والتعابير المصرية" للدكتور أحمد أمين بعد أن كتبت هذه الفقرة والفقرات التى تليها بعدة أيام فألفيته يقول إن كلمة "الحاتى" أصلها اسم أسرة مصرية اشتهرت بصنع اللحم المشوى، وإنه من غَلَبَةِ هذه الحرفة عليهم صار الناس يقولون لكل من يصنع الكباب: "حاتى". بل إنهم اشتقوا من هذا اللقب فعلا فقالوا: "حتاه يحتيه"، أى أكل مخه وضحك على عقله. ثم عقب قائلا إن "هذه إحدى الكلمات التى شاهدنا تطورها فى حياتنا، فانتقلت من اسم أسرة إلى اسم صناعة إلى الدلالة المعنوية" (معجم العادات والتفاليد والتعابير المصرية/ 149). ومما قرأت فى ذلك القاموس أيضا عبارة "لونه توت عنخ آمون"، بدلا من "لونه لون توت عنخ آمون"، أى ملون بالأصباغ الجميلة، وهو تعبير شاع عقب اكتشاف مقبرة ذلك الفرعون التى وجدوا فيها ضمن ما وجدوا قناعه الذهبى المزركش بالألوان البهيجة (ص 467). ثم لماذا نذهب بعيدا، وعندنا تسمية أحد دراويش لويس عوض له بــ"ابن منظور المصرى"؟ فهذه مثل تلك، ولا داعى لكل هذه الحذلقة السمجة!
    ومعروف أن "عشماوى" لقبٌ لكثير من الأسر العربية، ومنها عدة أُسَرٍ فى قريتنا وحدها. ومن العشماويين الذين قرأت عنهم فى الكتب أو على المشباك محمد عشماوى أحد وزراء المعارف بمصر فى العهد الملكى، وأحمد عشماوي، وهو رجل أعمال سعودى فى عهد الملك عبد العزيز تحدث عنه محمد رفعت المحامي فى كتابه: "أسد الجزيرة قال لى"، وصالح عشماوى، وكان من قيادات جماعة الإخوان فى مصر أيام عبد الناصر، ومحمد زكى العشماوى أستاذ الأدب السابق بجامعة الإسكندرية، ومحمد سعيد العشماوى المستشار القضائى المعروف، وعبد الرحمن عشماوى الشاعر السعودى ذو الاتجاه الإسلامى، وعلى محمود علي عشماوى (السودانى الجنسية) الذى ورد اسمه فيما يُعْرَف بقضية "التاكسى التعاونى" فى الخرطوم منذ سنوات، وشخص سعودى يدير مؤسسة للخدمات فى منطقة مكة المكرمة يدعى: إبراهيم عشماوى، وطالبٌ سورىٌّ من دمشق تخرج من كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية بجامعة دمشق سنة 2004م اسمه نزار عشماوى. فهل نقول إن كل تلك الأسر تتيمّن وتتباهى باسم "الخنّاق"؟ أليس هذا أمرا مضحكا؟
    والواقع أن اسم "عشماوى"، بعيدا عن الشقلباظات اللويسعوضية المضحكة، قد أتى من النسبة إلى "عشما"، وهى بلدة ذكر السخاوى عند ترجمته لبعض رجاله فى كتابه: "الضوء اللامع" أنها من قرى الغربية، إذ وصف يس بن محمد بن إبرهيم بن محمد الزين، وكان معاصرا له، بأنه "العشماوي المولد، ثم البشلوشي الأزهري الشافعي، والد الشمس محمد الماضي، ويعرف باسمه. وُلِد في أوائل القرن (يقصد القرن التاسع الهجرى) بعَشْما من الغربية"، إلى جانب ترجمته لعدة علماء عشماوية آخرين، وإن كان السيوطى يقول إن "العشماء" قرية بالمنوفية، وذلك عند التعرض فى كتابه: "لب اللباب فى تحرير الأنساب" للقب "العشماوى"، إذ نصّ على أنه نسبة "للعشماء، قرية بمصر من المنوفية". ومثله الجبرتى، الذى عرض فى كتابه: "عجائب الآثار"، خلال كلامه عن حوادث المحرم من عام 1124 هــ، لقرية "عشما" (التى ذكر أن الثلج تساقط فيها ذلك الشهر) على أنها من قرى المنوفية. اللهم إلا إذا ثبت أن هناك أكثر من قرية بهذا الاسم، وهو جائز جدا. كما ترجم كل من المرادى فى "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" وعبد الرازق البيطار فى "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" والبابانى فى "إيضاح المكنون" و"هدية العارفين" لعدد من رجال العلم الذين يحملون لقب "العشماوى". بل إن هناك رسالة لعبد الباري العشماوي اسمها "الرسالة العشماوية" فى العبادات قام بشرحها أحمد بن تركي المالكي (من أهل القرن العاشر الهجرى) في كتاب سماه: "الجواهر الزكية في حل ألفاظ العشماوية". وهناك كذلك منظومة فقهية تعرف بــ"العشماوية" نسبةً لمؤلفها عبد اللطيف بن شرف الدين العشماوي الأنصاري المالكي (من أهل القرن الحادى عشر الهجرى)، و"نَظْم مَتْن العشماوى" فى العبادات أيضا للشيخ الطيب بُو خريص (من علماء القرن الثالث عشر الهجرى بتونس) الذى تولى شرحه تلميذه أبو العباس أحمد بن محمد عاشور الصدفي.
    وحتى لو لم تكن هنا بلدة اسمها "العشما" لقد كان لقب العشماوى، كما رأينا، معروفا فى مصر منذ قرون، أى قبل أن تعرف أرض الكنانة وغيرها من الأقطار العربية بزمن طويل جدا نظام المشانق الحالى والــ"Hangman" الذى تحول (حسب قارئة الفنجان اللويسية فى شؤون الهَمْبَكة اللينجويستيكية) إلى "عشماوى"، ذلك النظام الذى يقول عنه الصحفى محمد صلاح بجريدة "أخبار الحوادث" إنه لم يكن موجودا على الأقل حتى عشرينات القرن المنصرم، إذ "لم تكن هناك حجرة إعدام خاصة في السجون كما هو الحال الآن، بل كانوا يقومون بنصب المشنقة في فناء السجن. وكانت مشنقة بسيطة، مجرد ثلاثة عوارض خشبية تقام قبل ليلة تنفيذ الحكم ثم تزال بعد التنفيذ مباشرة. في تلك الأيام لم تكن وظيفة عشماوي قد ظهرت. وكان بعض حراس السجن يتم اختيارهم عشوائيا لأداء المهمة الثقيلة. وحتي الأصول والاجراءات التي ظهرت فيما بعد لم تكن تُتَّبَع في تلك الأيام، فلم يكن يتم تقييد يَدَيِ المحكوم بإعدامه كما يحدث الآن. ولم يكن يوضع علي رأسه قناع أسود يغطي وجهه وعينيه خلال اللحظات البشعة التي تسبق الاعدام" (محمد صلاح/ هكذا كان يتمّ الإعدام/ أخبار الحوادث/ 19 يناير 1906م).
    وقد سمعت أن رَيّا وسَكِينة الخنافتين السكندريتين المشهورتين هما أول امرأتين مصريتين ينفذ فيهما حكم الإعدام شنقا، وكان ذلك فى السادس عشر من مايو 1921م. وكنت، مساء أول من أمس (السبت 19 نوفمبر 2006م) بعد أن كتبت هذه الفقرات بعدة أيام، أشاهد جزءا من فلم "ريا وسكينة"، وهو الفلم الذى أُنْتِج عام 1953م، وقام ببطولته أنور وجدى وفريد شوقى ونجمة إبراهيم وزوزو مدى الحكيم، فسمعت "الأعور" (أحد رجال العصابة التابعة لتَيْنِكَ المجرمتين، وكان يقوم بتمثيل دوره فريد شوقى) يذكر "عشماوى" فى معرض حديثه عن عقوبة الإعدام. ومعروف أن نجيب محفوظ قد قام بكتابة سيناريو هذا الفلم، ولكنى لا أدرى أحقَّق المسألة تاريخيا فاستعمل تلك الكلمة وهو يعرف أنها كانت مستخدمة فى ذلك الوقت، أم جاء استعماله لها فى هذا السياق رمية من غير رام. لكنى قرأت أن الأهرام قد صدرت فى اليوم التالى لتنفيذ حكم الإعدام، وفيها تحقيق عن عملية الشنق تضمَّن الجملة التالية التى ورد فيها ذكر "الجلاّد" لا "عشماوى": "قالت سكينة: هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي؟ حاسب! انا وليّة لكن جدعة. الموت حق. ولما وقفت سكينة تحت حبل المشنقة قالت: سامحونا يمكن عيبنا فيكم". وبالمناسبة فإن المصريين قد يطلقون على كل امرأتين شريرتين اسم "ريا وسكينة" من باب التوسع كما يفعلون مع اسم "عشماوى"، الذى أصبحوا يطلقونه على أى شناق، وكما يفعلون كلما رأوا إنسانا يريد أن يدوس القانون دون أن يتعرض للمساءلة، إذ يقولون له: "ابن بارِم دِيله"، وكما يقولون كلما وجدوا أنفسهم إزاء مسألة صعبة الحل إنها "حسبة برما"! وإذن فلا معنى لكل هذا اللف والدوران الذى يجلب الصداع والدوخة للقراء دون أدنى جدوى، على حين أنه لا يخرج فى أحسن الأحوال عن أن يكون كلام مصاطب رغم توسله بأسماء اللغات الأجنبية المختلفة لزوم التهويش.
    والحق أنه لو كان تخريج لويس عوض للأمر صحيحًا لكان المستشرقون الإنجليز أول من يتنبه إل ذلك ولسجلوه فى كتاباتهم على أساس أن اللغة التى استعيرت منها كلمة "عشماوى" هى لغتهم، فضلا عن أنهم كانوا يحتلون مصر، ومن ثم يَعُون أكثر من غيرهم جدا أن الكلمة المذكورة مأخوذة من "Hangman". فهل هناك نص بهذا المعنى؟ الحق أنْ لو كان هناك مثل هذا النص ما ترك لويس عوض تلك الفرصة السانحة تضيع من يده بهذه البساطة! كما يغلب على الظن أن تلك الكلمة لو كانت تمصيرا لـ"Hangman" لكان الأحرى أن يقولوا: "الهَجّان" مثلا لأنها تعنى الشرطى الشديد الصارم الذى لا يفهم إلا تنفيذ الأوامر، ولا يعرف "يا امَّه ارحمينى" كما نقول فى مصر، وذلك شىء قريب مما نعرفه عن الشناق. كما أنها فوق ذلك شبيهة فى الجَرْس بــ"هنجمان"، وليست كـ"عشماوى" التى لا تربطها صلة صوتية بالكلمة الإنجليزية. ويمكن أن نضيف إلى ما مر أن لقب "العشماوى" مستعمل فى بعض الدول العربية الأخرى التى تأخذ بعقوبة الشنق، فلو كانت هذه الكلمة مأخوذة من "Hangman" لما أخذ الناس فى تلك الدول كلمة "عشماوى" المصرية ولعرّبتها كل دولة على نحو خاص بها وأعطتها الطابع المحلى مثلما صنع المصريون، بناء على تفسير الدكتور لويس.
    وأخيرا لقد كان منفّذ عقوبة الشنق وقطع الرقبة وغيرها عندنا قبل العصر الحديث يسمَّى بــ"المشاعلى" ‏نسبةً إلى المشعل الذي يحمله في سيره ليلا، (وإن سُمِّىَ أحيانا بــ"الضوئي")، وذلك حسبما جاء تحت عنوان "المشاعلى" فى "القاموس الإسلامى" بموقع "al-islam.com"، ويصدقه ما نقرؤه فى "ألف ليلة وليلة"، وفى "البداية والنهاية" لابن كثير، و"مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لابن طولون، و"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغرى بردى، و"إنباء الغمر بأنباء العمر" لابن حجر العسقلانى، و"عجائب الآثار" للجبرتى...‏ إلخ. وقد رجعت إلى الطبعة الثامنة من القاموس العصرى (1951م) لإلياس أنطون إلياس فلم أجده ذكر كلمة "عشماوى" العامية بين الكلمات التى ترجم بها "hangman" أو "executioner". ومرجع هذا، فيما يبدو لى، أن الكلمة لـمـّا تكن قد دخلت مجال الاستعمال فى الدلالة على وظيفة "الشنّاق". ذلك أن إلياس من أصحاب المعاجم الذين يستعملون الألفاظ العامية إلى جانب الفصيحة بإزاء الكلمات الإنجليزية المراد تفسيرها بالعربية، لكنه استعمل كلمات "الشنّاق، الجلاّد، المـَشَاعِلِىّ، منفذ الحكم بالإعدام" فقط. ومعنى هذا أنه كان عندنا المقابل العربى للكلمة، وهو ما ينسف الفرض الغشيم الجهول الذى وضعه عبقرينا تعسفا وعنادا بأن "عشماوى" لفظة أجنبية. كذلك لو كانت تلك الكلمة إنجليزية كما يدعى الدكتور لكانت جرت على الألسنة منذ البداية، إذ إن تعريب أى كلمة أجنبية ليس لها مقابل ناجز جاهز إنما يأخذ عادة وقتا، وتشيع الكلمة الأجنبية حينذئذ إلى أن يظهر لها منافس قومى، كما هو الحال مع "سبكتاكل" و"وابور" و"أوتوموبيل" و"أوتوبيس" و"راديو" و"جُومَة" و"الفوتبول" و"الجول كيبر" و"الكورنر" و"الأوردوفر" و"الشيف"... إلخ. وقد يؤكد ما قلته أن إلياس أنطون إلياس لجأ، ضمن ما لجأ، إلى كلمات عربية صميمة منها كلمة "مشاعلى" القديمة، ولو كانت كلمة "عشماوى" قد ظهرت لأخذت مكان كلمة "المشاعلى"، أو جاورتها على الأقل. ونفس الشىء يقال عن الطبعة الثالثة من قاموسه العربى- الإنجليزى (1930م) الذى لم ترد فيه أيضا كلمة "عشماوى"، مما قد يؤكد كلامى آنفا. لكننا، على العكس من ذلك، نقابل "عشماوى" بإزاء كلمة "hangman" فى معجم "The Oxford English-Arabic Dictionary of Current Usage" الصادر للمرة الأولى عام 1972م والذى يعتمد، فى ترجمته للمفردات الإنجليزية، الكلمات العامية فى البلاد العربية المختلفة إذا كان هناك مقابل عامى مشهور، إلى جانب المفردات الفصيحة التى تحتل المكانة الأولى بطبيعة الحال.
    والمتحذلق المداور يزعم أيضا، وهو منجعص فوق المصطبة آخر انسجام، أن كلمة "طشاش" كلمة مصرية (ص 169)، يقصد أنها ليست عربية. ثم يأخذ فى البكش المعروف عنه والمسجل باسمه فى الشهر العقارى، فيقول إنها من كذا وكذا حسب طريقته الغثيثة فى إرجاع كل شىء تقريبا فى لغة القرآن الذى كان يهرى قلبه إلى أصل أجنبى، وكأن العرب فى الزمن القديم لم تكن له شغلة ولا مشغلة ولا يفكرون فى عمل أى شىء حتى ولا البحث عن كلمات يعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم، بل كانوا يلزمون أماكنهم لا يَرِيمونها كتنابلة السلطان. وكانوا إذا رامُوا التعبير عن شىء من ذلك ظلوا جالسين فى أماكنهم لا يحركون ساكنا أبدا حتى إنهم لا ينشّون الذباب من على وجوههم وأفواههم الفاغرة... إلى أن يدخل عليهم جذع ابن حلال ويشرع فى الكلام ويتصادف أن ينطق بعض الكلمات التى تعنى ما كانوا يريدون التعبير عنه (لكن كسلهم كان يمنعهم من بذل جهد فى البحث عنه فى جوانب أمخاخهم)، فعنئذ وعندئذ فقط ينطقون تلك الكلمات! ألا فاعلموا، أيها القراء الكرام، رغم تلك العنطزة اللاعلمية أن كلمة "طشاش" عربية فصيحة أبا عن جد، ولم يعرفها المصريون إلا من لغة القوم الذين ينتمى لهم رسولنا العظيم. وهذا ما قاله الزبيدى فى "تاج العروس": "الطَّشُّ، والطَّشِيشُ: المَطَرُ الضَّعِيفُ... والطَّشَاشُ مِنَ المَطَرِ كالرَّشَاشِ... وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه (أى على "القاموس المحيط"، بمعنى أنه فاته ذكره): الطَّشَاشُ، بالفَتْح: ضَعْفُ البَصَرِ، وكَأَنَّهُ مَجَازٌ مَأْخُوذٌ من طَشَاشِ المَطَر إذا كانَ ضَعِيفا، ومِنْهُ المَثَلُ: الطَّشَاشُ ولا العَمَى". وانظر كذلك "المعجم الوسيط". أى أن الكلمة ليست عربية فحسب، بل بنى العرب منها مثلا كيلا يتركوا فرصة لأى كذاب قرارى يزعم أنهم لم يكونوا يعرفونها، وإن كان معروفا أن الكذابين القراريين لا يعجزهم فى ميدان الكذب شىء فى الأرض ولا فى السماء!
    ونفس الشىء يقوله عن الصفة "زنخ" التى يدعى أنها كلمة مصرية وأنها مأخوذة من كلمة "hns: خنش" المصرية القديمة بنفس المعنى. وكيف كان ذلك؟ زعم بَيْدَبَا الفيلسوف لدَبْشَلِيم الملك أنه كان فى سالف العصر والأوان رجل يقال له: هيّان بن بيّان، الألعبان الزنّان الطنّان، المزعج كالذِّبّان، يقول إن حرف "الشين" فى الكلمة السابقة قد تحول بقدرة قادر إلى "زاى"، ومن المعروف أن قدرة الله لا يقف فى سبيلها شىء، ثم إن الميتاتيز (أو بالأَخْرَى: "الميتاطيز") قد تكفل بالباقى فانقلبت الكلمة رأسا على عقب، وأصبحت "زنخ" بدلا من "خنش" (ص 178). ولا أدرى لماذا لم يضف أيضا أن كلمة "خنش" كانت فى الأصل: "الخُنْش دى مُونْش خِرِشْتُو"، ثم صارت "الكونت دى مونت كريستو"، وأنه من هذا الجذر كذلك أتى اسم "خريشة" (بائع الأحذية المشهور فى الزيتون بالقاهرة)، وكِرْشة ومِرْشة وفِشّة ومشّ ومشمش وإشْ إشْ وفِتْفِتْ (بنتا موسيقار الأجيال) وعِفَّت (عازف الناى فى فرقة أحمد فؤاد حسن، ما دمنا تكلمنا عن موسيقار الأجيال، وما دمنا قلنا قبلها: "فتفت"، إذ بينهما تقارب موسيقى كما هو واضح) وأُلْفَت ونفرتيتى وبَفْتَة وفتّة ولحمة وسلطة وزلطة وسَبَطة ولَبَطة (وَلَدا الفرزدق الشاعر الأموى المعروف) ووزّة وبطّة ولُعَب وحاجات وماما زمانها جاية، وانت اللى قتلت بابايا، وزعِيط ومْعِيط ونطّاط الحيط وأبو جلامبو وأم قويق وأم أربعة وأربعين وأم العواجز (السيدة زينب رضى الله عنها)، واللى يحب النبى يزقّ! لا تضحكوا، فهذه طريقة لويس عوض أحببت أن أطبّقها أمامكم مع شىء من المنطق والتماسك لا يوجد فى كتابه المخبول. المهم بعد هذه الجولة أن الكلمة عربية فصيحة بالغيظة فى لويس عوض، وأخذتْها العامية من هناك وقلبت فتحة الزاى كسرة، وهذا كل ما هناك! ولنسمع ما كتبه ابن منظور (الذى ليس بقبطى) فى "لسان العرب": "زَنِخ الدهن يَزْنَخ زَنَخًا: تغيَّر، فهو زَنِخ"، "وسَنِخَ الدُّهْنُ والطعامُ وغيرهما سَنَخًا: تغيَّر، لغةٌ في "زَنِخَ يَزْنَخُ" إذا فسد وتغيرت ريحه". ولنسمع كذلك ما جاء فى "تاج العروس": "زَنِخَ الدُّهْنُ والسَّمْنُ، كفَرِحَ، يَزْنَخ زَنَخًا: تَغَيَّرَتْ رائحتُه فهو زَنِخٌ، ككَتِفٍ". لكن لويس عوض رجل ملء هدومه فهو لا يستعين على شيطان جهله بالبحث والتقصى، بل بفرقعة من إصبعه يحصل على ما يبغى! وسبحان الوهّاب!
    وفى ص 180 يزعم "أستاذنا الكبيييييييير" أن كلمة "حَرَن" مصرية دارجة وأنها مأخوذة من "hn: خن" بمعنى "عاصٍ" أو "خارج" أو "ثائر". هل رأيت العناد والجهل؟ الكلمة عربية، وأبوها عربى، وأمها عربية، والنبى عليه الصلاة والسلام عربى (وهنا مربط الفرس فى هذه الشكاسة!)، ورغم ذلك يصر الدكتور لويس أستاذنا وتاج رأسنا أنها مصرية دارجة أتت من المصرية القديمة. عنزة، إذن، ولو طارت! يقول عمّنا ابن منظور الحقيقى، ابن منظور العَالِم وليس ابن منظور الذى لا صلة بينه وبين العلم: "حَرَنتِ الدابةُ تَحْرُن حِرانًا وحُرانًا وحَرُنَتْ: لغتان. وهي حَرونٌ: وهي التي إذا استُدِرَّ جَرْيُها وقَفَتْ، وإنما ذلك في ذوات الحوافر خاصَّة... وفرسٌ حَرُونٌ من خَيْلٍ حُرُنٍ: لا يَنْقادُ، إذا اشتدّ به الجَرْيُ وَقَف. وقد حَرَنَ يَحْرُنُ حُرُونًا وحَرُنَ، بالضم أَيضًا: صار حَرُونًا، والاسم الحِرانُ... ويقال: حَرَن في البيع إذا لم يَزِد ولم يَنْقُص". هذا هو العلم، وهذه هى سبيل العلم، وما سوى ذلك ضلال وتخبيص! ولعنة الله على يوم يحوجنا إلى تأكيد البديهيات لمن يصرون على المجادلة فى نور الشمس وهو يكاد يُعْشِى أبصارهم!
    ويمضى ابن منظور الذى ليس له صلة بالعلم فى عناده وشكاسته كراهيةً للنبى العربى قائلا إن هذا الجذر المصرى القديم (جذر "hn") هو أساس كلمة "حنايا"، التى يزعم حضرة جنابه العالى أن مفردها لا وجود له، بل هو وجود افتراضى كما يقول، وإذا وُجِد فإنه لا يستعمل أبدا (ص 180). يا عيب الشؤم! الدكتور لويس يريد منا أن ننزل على حكم بضاعته اللغوية الخاسرة المـُزْجَاة، أو بالتعبير البلدى المباشر الواضح غير المحتاج إلى "ميتاطيزات" ولا يحزنون: بضاعته المضروبة، ولا يفكر أبدا أن يرتقى بمعلوماته أو طريقة تفكيره. شىء يقئّ! فأولا مفرد "حنايا" ليس شيئا افتراضيا إلا فى عقله الفاضى من العلم الصالح، بل هو موجود على سن ورمح، ألا وهو "حَنِيّة"، وهى لفظة معروفة تماما إلا لمن كان فى عقله خواءٌ وهباء، وفى ضميره دَخَلٌ ودَغَل، ومن معانيها "القوس". قال ابن منظور: "والحـَنِيَّةُ: القوس، والجمع حَنِيٌّ وحَنَايا. وقد حَنَوْتُها أَحنوها حَنْوًا. وفي حديث عمر: لو صَلَّيْتُم حتى تكونوا كالحَنَايا. هي جمع "حَنِيَّةٍ" أَو "حَنِيٍّ"، وهما القوس: "فَعِيل" بمعنى "مفعول" لأَنها مَحْنِيَّة أَي معطوفة". ومن هذا النص يتضح أن "الـحَنِيّة" من الانحناء، أى الانعطاف والتقوس، ومن ثم تُسْتَخْدَم مصطلحا من مصطلحات فن العمارة كما فى النص التالى المأخوذ من كتاب "مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لابن طولون، وهو عن تعديل عمارى تم فى جامع البزورى بدمشق فى القرن التاسع الهجرى: "ووُسِّع إلى جهة القبلة نحو خمسة أذرع، وجُعِل له ثلاث حنايا على عمودَيْ حجرٍ قرب المحراب القديم"، وكما فى هذا النص من رحلة ابن بطوطة فى وصف جدار من جدران المسجد الحرام: "ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قِسِيٍّ "حنايا" يجلس بها المقرئون والنساخون والخياطون، وفي جدار البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها. وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا". ومثله هذا النص المأخوذ من موقع "صندوق التنمية الثقافية" التابع للحكومة المصرية، وهو فى الكلام عن التفاصيل العمارية فى قبة الغورى بالقاهرة، إذ جاء فيه أنها مكونة من كذا وكذا ومن "حَنِيّة متوَّجَةٍ بصفين من المـُقَرْنَصات تحوي شبابيك الإضاءة والتهوية لفراغ القبة الضريحية... وحَنِيّة متوَّجَة بصَفَّيْن من المقرنصات تحوي شبابيك الإضاءة والتهوية للمصلَّى (الخانقاه)". ومن موقع "الموسوعة العربية المسيحية" نقرأ عن إحدى الكنائس التى كانت عند جبل الدويلى أنه "لا زال قائما بعض أجزاء من جدرانها، وكان لها باحة، وكان جدار هيكلها الشرقي مستطيلا، وليس على شكل حَنِيّة". "فــ"الحنايا" فى العبارة التى استشهد بها ابن منظور آخر زمن، وهى: "سكن فى حنايا القلب"، معناها إذن أنه قد استقر بين الضلوع. والضلوع تشبه القوس كما نعرف، وهذا هو السر فى تسميتها: "حنايا". فما المشكلة؟ وما الذى يضطر ابن منظور المتحذلق إلى الانحشار فى هذه المآزق المستحيلة؟ أهى فراغة عين والسلام؟ وإذا كان هذا هو مستوى لويس عوض المعرفى فى اللغة والفن العمارى فكيف يجد أمثاله جرأة التهجم على ما لا يحسنون؟ ألا رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، وصدق رسول الله حين حذر المؤمنين من تعريض أنفسهم لما لا يطيقون من البلاء كيلا يُذِلّوا أنفسهم! لكن لُبّ الشكلة إنما يكمن هنا بالذات، أى فى كراهية هذا الرسول ولغته ولغة القرآن المجيد الذى جاء به! إنها لمعضلةٌ ولا أبا حَسَنٍ (صِهْر هذا الرسول) لها!
    إن كل ما يفعله "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، ابن منظور القبطى، الباحث الميتاطيزى من "حَنْجَلة فى المــَنْجَلة" (على شاكلة "الفيل فى المنديل" و"الفِلّة فى الفانِلّة"، ومعناها أن من يقوم بالحنجلة فى المنجلة فسوف تُطْبِق المنجلةُ على يده إطباقةً تعصرها عصرا، وتكسرها كسرا!)، أقول: كل ما يفعله من حنجلة وحركات رُبْع كُمّ هدفه أن يوقع فى رُوع القارئ أن لنا نحن المصريين لغة تختلف عن لغة العرب. وعليه فإذا جاء سفيهٌ وطالب بترك اللغة العربية بدا الأمر ساعتها طبيعيا جدا. وليس فى المسألة أية مبالغات، أفلم نسمع منذ قريب من ينادون بترجمة القرآن إلى اللغة المصرية؟ (يقصدون العامية، بغضًا سامًّا للغة النبى ولغة القرآن الذى نزل على النبى). لكن، والنبى ومن نبّأ النبى فكان لنا نبى ولا أى نبى، بعيدة عن شاربك أنت وهو وهى يا كارهى النبى، يا من لا ترتفعون إلى موطئ قدم النبى! إنها سلسلة مترابطة الحلقات، وإن بدت متباعدة فى الزمان والمكان. ورحم الله مالك بن نبى، الفيلسوف الجزائرى المسلم الذى كان أستاذا ولا كُلّ الأساتيذ فى فضح مثل هذه المسسلات وبارعا فى شرح قواعدها وواضعا للمعادلات الخاصة بفك شفراتها وطلاسمها! إن ابن منظور القبطى يتحدث عن اللغة العربية وكأنها تنفرد من بين اللغات كلها بأن عامياتها، وبالذات العامية المصرية (إكراما لخاطر "أستاذنا الدكتور لويس عوض")، هى لغات مختلفة ومنفصلة عنها. الله أكبر! والحق، كما نقول ونكرر ولا نملّ القول والتكرار، أن العامية فى أية لغة ليست أكثر من مستوى من مستويات هذه اللغة. أما إذا قيل إن فى عامياتنا ألفاظا أعجمية فالرد سهل جدا وواضح جدا، وهو أن فى اللغة الفصحى أيضا ألفاظا أعجمية، وتكاد أن تكون الألفاظ الأجنبية فى اللهجات العامية هى ذاتها فى اللغة الفصحى، بيد أنها فى العامية تبقى فترة أطول من بقائها فى الفصحى، إذ كثير من الكتاب الفُصْحَوِيّين يحرصون على ترجمة تلك الألفاظ إلى لسانهم القومى، بالإضافة إلى مجامع اللغة واهتمامها بذلك، أما العامة فهم لا يُعَنّون أنفسهم بتلك القضية. إنهم يريدون أن يعبروا عن أنفسهم بالعَتِيد المتاح فى أيديهم، وكفى.
    وجريا على خطته الجهنمية فى الفصل التام بين الفصحى والعامية على أساس أنهما لغتان مختلفتان، لا لغة ولهجة من لهجاتها، يقول لويس عوض (آسف: "أستاذنا الدكتور لويس عوض" كيلا يغضب المفتونون ويظنوا أننا لا نقدر عبقريته حق قدرها، مع أننا نقدر عظيم التقدير عبقريته فى التفاهة والسخافة والتنطع واقتحام باب العلم دون سند أو عُدّة ودون تردد أو خجل لأننا نعرف أن هذا الأمر يحتاج لمواهب لا تتاح لكل الناس)، يقول عبقرينا وأستاذنا رغم أنوفنا عند حديثه عن بعض الكلمات التى تنقلب قافها جيما قاهرية: "والصعيدية المصرية تعرف صيغة جيمية من هذاالجذر (أى جذر "Cit: كت" بكاف مفخمة قريبة من القاف كما يقول) فى "جطع" و"جصف"..."، أى فى "قطع" و"قصف" (ص 193)، وكأن الصعيدية المصرية جاءت بهذا من عند والديها فى الزمانِ الأولِ! إن عرب الجزيرة العربية يفعلون هذا قبل أن يفعله الصعايدة بأحقاب وأحقاب، ومعهم كثير من البحاروة أيضا كما هو معروف. إذن فالصعايدة والبحاروة قد أخذوا هذا النطق من أصحاب اللغة الأصلاء ولم يأتوا به من عندهم لأنهم حين يتكلمون إنما يتكلمون اللغة العربية لا اللغة المصرية التى اندثرت مع اعتناق المصريين الإسلام وإقبالهم على قراءة القرآن، ذلك الكتاب السماوى الأصيل الذى لم تقترب منه يد التزييف والتحريف ويكرهه بعض العباقرة كراهية العمى، على حين أن قسما آخر من البحاروة يجرى على قلب القاف همزة. ودُمْتُم!
    كذلك نراه فى ص 196 يزعم أن كلمة "سِوّة" كلمة عامية، بل إنه ليجعلها مادة كاملة هناك لا مجرد كلمة واحدة، والسلام! وليس فى الواقع شىء اسمه مادة "سِوّة" فى العامية، بل إن الكلمة فى حد ذاتها ليست عامية بالمعنى الذى يريد تقريره فى النفوس والعقول، وإنما هى باختصار تحوير لكلمة "سَوْأَة" الفصحوية كما هو واضح، لكن الأستاذ الدكتور يستبله كعادته على طول الكتاب من أوله إلى آخره. والحق أن ما يقوله الدكتور لويس إنما هو كيد رخيص مفضوح لا يجوز إلافى عقول البلهاء. نعوذ بالله من البلاهة والبُلْه عل كل شكل ولون.
    وبالمثل يزعم عبقرينا ابن منظور القبطى فى ص 208 أن كلمة "غموس" مأخوذة من الجذر الافتراضى: "خبوس: χοβοs" أو "جبوس: Gobos". وكان قد قال إن مادة "خبز" فى اللغة العربية ترجع إلى الجذر اللثوانى "كبسنيس: Kepsnis" بمعنى "مطهو (فى الفرن)" أو "مشوى (على النار)"، و"كبجاس: Kepejas" اللثوانية بمعنى "خباز"، وإن "طبخ" و"طبيخ" و"طها" و"يطهو" هى فى رأيه من جذر "خبز"، وكذلك كلمة "غموس" تأسيسا على أن جذرها الافتراضى هو "خبوس" أو "جبوس" كما سبق بيانه. ولا أدرى فى الواقع، ولست إخال أن أحدا غيرى يمكن أن يدرى، الصلة بين "الغموس" و"الطهو" أو "الشى"، فالغموس يمكن أن يكون جبنا أو عسلا أو فجلا أو بصلا أو فسيخا أو خيارا أو طماطم أو لبنا أو سمنا أو سما هاريا يفرتك مصارين كل متنطع رقيع ويأخذه من على وجه الأرض مما لا علاقة له بطبخ أو طهو. كما أن "الغموس" مأخوذ، كما هو بين جلى حتى لأعمى العميان، من الفعل: "غمس" لأن الطاعم يغمس لقمته فى الطعام ويأكل ما تخرج به اللقمة منه، ولا علاقة له بالطَبْخ أو بالطَهْو فى اللثوانية البتة لا معنًى ولا نطقًا كما هو ظاهر تمام الظهور. وفى الإنجليزية يوجد الفعل: "dip in"، وهو يعنى ما يعنيه الفعل: "غمس" فى لغة العرب. ولو كان الأمر كما يخبص لويس عوض لكانت "خبز" مأخوذة من "الخَبْص" أو "الكَبْس" أو "الحَبْس" أو "الجِبْس" مثلا، وهى أقرب لها من الكلمة اللثوانية! ولا معنى لكل هذا الخبص الخبيث الذى لا أدرى كيف لا يخجل أصحابه من مجرد رؤية أنفسهم بعدها فى صقال المرآة! ثم ما وجه الصلة بين العربية واللثوانية؟ ولماذا، لو كان هناك أخذ أو تأثر، يجب أن تكون العربية هى الآخذة أو المتأثرة؟
    وفى ص 227 ينفى حضرته بكل ثقة أن كلمتى "كَفَرَ" و"كَفْرَان" اللتين يستعملهما المصريون (بمعنى أن فلانا شديد الإرهاق والغيظ وعلى وشك الانفجار) لا علاقة لهما بمادة "كفر" التى تعنى الخروج عن الدين فى الفصحى، بل بكلمة "Foror"، التى أُخِذَتْ منها "Fury" الإنجليزية و"Furie" الفرنسية، بمعنى "الهياج والغضب الشديد"، مؤكدا أن قولنا: "حاجة تكفّر" إنما تعنى: "حاجة تفوّر الدم" لا حاجة تُخْرِج عن الدين. أى أنهما لا تنتميان إلى لسان العرب ولغة القرآن. لماذا؟ هى كذا لله فى لله! وواضح أن الرجل لا يمتاز عن العوام فى فهم اللغة، وإلا فكيف لم يستطع رغم كل تصايحاته وانتفاخاته وغروره (التافه طبعا) أن كلا المعنيين اللذين ذكرهما لا يتناقضان ولا يلغى أحدهما الآخر؟ إن الحاجة التى تفوّر الدم تجعل الإنسان يشعر وكأنه قد كفر أو تدفعه من شدة إزعاجها إلى الكفر، إذ الكفر عند المسلم هو أبشع شىء فى الوجود، فلا يوجد من ثَمَّ ما يتفوق عليه فى التعبير عن الغيظ والثورة! وهذا ما يسمى فى علم البلاغة بــ"المبالغة"، وهو أسلوب من القول تعرفه جميع اللغات، بيد أن الأستاذ الدكتور لا يعرف، كما قلنا ونقول، شيئا عن التمرهندى أو العرقسوس! واسألوا أنفسكم وقولوا لها: يا أنفسنا، هل صحيح ما يتساخف به أستاذنا الدكتور ابن منظور القبطى الذى لا يفقه شيئا فى لغة العرب من أن قولنا: "حاجة تكفّر" لا علاقة لها بالكفر الذى هو تَرْك الدين؟ وأنا أعرف ما الذى سوف تقوله لكم أنفسكم تمام المعرفة. لماذا؟ لأننى من قلب هذا المجتمع وأعلم أن ما يقوله ذلك الرجل هلس فى هلس واستبلاه تام وكلام لا يقابَل عند العقلاء إلا بالاستهجان والاستسخاف!
    والواقع أن موقفه هذا كله لا يزيد عن أن يكون وَسْوَاسًا وتعبيرًا حِوَازِيًّا عن بغضه للعروبة ولغتها التى بها نزل كتاب الله المجيد على أشرف الخلق وأعظم الرسل، فاضح الوثنيات وهاتك ستر الملفقين وما أدخلوه على كتبهم من تزييفات! ولو أن ما يقوله صحيح فماذا عن قولهم فى نفس الموقف ونفس المعنى: "الحاجة دى طلَّعت دينى"، أو "طلّعت مِلّتى" أو "طلّعت أيمانى (أى إيمانى)"؟ أسيقول إنها أُخِذت هى أيضا من "Foror"؟ يا للسخف! وخوفا من أن يتنطع أحد فيزعم، عنادا وعجزا ورغبة فى الجدل لمجرد الجدل، أن اختلاف الصيغة من "كافر" إلى "كَفْران" يعنى اختلافا فى الجذر، وفى المعنى من ثَمَّ، أبادر أنا من تلقاء نفسى فأقول إن العامية المصرية كثيرا ما تستعيض بــ"فَعْلان" عن غيرها من الصيغ دون أن يكون هناك أى تعيير فى الجذر، مثل: "فَطْران، فَهْمان، قَرْفان، كَسْبان، خَسْران، فَقْران، خَمْران، فَلْتان، تَلْفان، فَسْدان، خَيْبان، نَيْبان، فَلْسان، عَدْمان، جَرْبان، عَرْجان، طَوْلان، عَمْيان، خَرْيان، مَيْتان، هَفْتان، تَعْبان، عَيّان، مَرْضان، سَقْعان، بَرْدان، سَخْنان، هَمْدان، خَدْلان، وَخْمان، صَدْمان، عَدْمان، نَدْمان، زَعْلان، فَرْحان، شَمْتان، عَمْران، حَرْنان، عَشْمان، طَمْعان، قَنْعان، دَهْشان، تَقْلان، شَرْقان". وكنا، ونحن صغار، إذا عض طفل طفلا آخر عيّره المعضوض بأنه "شَهْوان اللحمة"، أى يشتهيها لأنهم فى بيتهم لا يأكلونها، فهو يعض زملاءه لها السبب (وكأن المعضوض يأكل اللحم أكثر منه، مع أنهم جميعا فى الهوا سوا!). وكثيرا ما نقول: "فلان مُشْ تَمْران فيه المعروف"، أى لا يثمر فيه الجميل، أو نقول: "فلان طَلْعان عِينِيه فى الشغل"، أى هو فى عمل مرهق لا يعرف الراحة. ثم ما الذى يربط بين "فُورُور" و"كَفْران" حتى نقيم الدنيا ونقعدها بهذا السخف الساخف؟ أما الفعل: "يِكَفَّر" فى قولنا: "شِىءْ يِكَفَّر" فهو نفسه الفعل فى قولنا بالفصحى: "شَىْءٌ يُكَفِّر" لا يخرج عنه ولا فيمتو مليمتر، فالفعل ينتقل دائما فى هذه الحالة من صيغة "يُفَعِّل" فى الفصحى إلى "يِفَعَّل" فى العامية، وكفى الله المؤمنين شر الجدال مع من لا يفقهون فيتبالهون ويستبلهون!
    ومن الكلمات التى يزعم العبقرى أنها مستقلة عن الفصحى وأنها قد استعيرت مباشرة من لغة أجنبية، رأسها برأس الفصحى سواء بسواء، كلمة "تخين"، التى يقول إنها مأخوة من كلمة "كن: Kn" المصرية القديمة بمعنى "سمن" أو "دهن" أو "سمين"، والتى يقول إنها مصدر كلمة "دهن" العربية وكلمة "تخين" المصرية الدارجة (قارن "ثخين" العربية). ويمضى قائلا إنه "ربما كانت "تا" السابقة هى مجرد أداة تجمدت فى صلب الكلمة وصارت جزءا لا يتجزأ منها. فالجذر "Kn" أدى إلى "سم+ ن" وإلى "د+ سم" وإلى "د+ هن" وإلى "ت+ خين" (ص 291). حسبى الله ونعم الوكيل فى هذا الخبث الجامد الوجه الثخين الجلد البارد القلب شأن القتالين المحترفين! الدكتور لويس يترك كلمة "ثخين" الفصيحة التى نتج عن تحويرها فى العامية كلمة "تخين" (جريا على تحول "الثاء" فى كل الكلمات الفصحى تقريبا "تاءً" على ألسنة المصريين) إلى القول بأنها مأخوذة عن كلمة "Kn" المصرية القديمة. وبطبيعة الحال لا أظنك قد فاتك، يا قارئى الكريم، ما استعان به الدكتور لويس من بهلوانية فى القول باشتقاق الكلمة من تلك الكلمة المصرية القديمة المدعاة يخجل منها العلم والعلماء.
    وفى ص 272 يذهب فى وادى الأوهام متصورا أنه يستطيع خداعنا بالقول بأن كلمة "جَدَع" العامية مأخوذة من كلمة ",dd: عجد (أى "الصبى/ الغلام/ اليافع")" المصرية القديمة بالميتاتيز (أو كما أسميه أنا: "الميتاطيز")، وهو ما يسمَّى فى الصرف العربى:"القلب المكانى"، الذى لم يسمع به سيادته البتة رغم تهجمه الأرعن على لسان العرب نحوا وصرفا وأصواتا ومعاجم، ولذلك يظل يطنطن يهذا "الميتاطيز" طنطنة مزعجة يتحالى بذلك كالقروى الساذج الذى يظن أنه، بذهابه إلى المدينة وتغميسه رغيفا من الخبز العادى برغيف من الخبز الفينو، أنه قد أتى بالذئب من ذيله ولم يعد أحد يملأ عينيه، غير دارٍ أن الخبز الفينو ليس غموسا ولا دياولو وأن أهل المدينة يرمون لبابه فى الزُّبالة.
    ولأنه لا يعرف شيئا عن لغة العرب يؤهله للفتيا فيها إلا على طريقة المنجعصين على المصاطب، ولأنه كذلك لا يريد بشىء مما يكتبه فى كتابه هذا بلوغ الحق، نراه يسارع إلى القول بذلك الهراء والغثاء. بيد أن العلم لا يحسمه كلام المصاطب، بل التفكير المنهجى المنطقى السليم المستقيم والإخلاص فى البحث والتنقير فى الكتب المحترمة والدراسات الرصينة والمراجع المعتمدة التى وضعها العلماء المشهود لهم بالصدق والإحاطة. جاء فى "تاج العروس" أن "الجَذَع: الشَّابُّ الحَدَثُ. ومِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ: "يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ"، أَيْ لَيْتَني أَكُونُ شَابًّا حينَ تَظْهَر نُبوَّتُه حَتَّى أُبَالِغَ في نُصْرَته... ج: جِذَاعٌ، بالكَسْر، وجُذْعانٌ، بالضَّمِّ، كما في الصّحاح. وفي اللِّسَان: والجَمْعُ جُذْعٌ وجُِذْعانٌ، الأَخير بالكَسْر وبالضَّمِّ". وفى "لسان العرب" لابن منظور (ابن منظور العالم لا ابن منظور الواهم. خذ بالك!): أن "الدهر يسمى جَذَعًا لأَنه جَدِيد. والأَزْلَمُ الجَذَعُ: الدهر لجِدَّته... ويقال: لا آتِيكَ الأَزْلـَمَ الجَذَعَ، أَي لا آتيك أبدًا لأَنَّ الدهر أَبدًا جديد كأَنه فَتِيٌّ لم يُسِنُّ". فهذا هو أصل كلمة "الجدع" بالضبط كما تنطق فى العامية مع قلب الذال دالاً على عادتنا فى لغة الكلام فى مصر، وكذلك بمعنى قريب جدا من معناها فيها، إذ "الجَذَع" هو الرجل الفتِىّ القوى النشيط الذى يعوَّل عليه وعلى قدرته على أداء المطلوب، وذلك فى الشباب أقوى منه فى أية سن أخرى. وأخيرا فإن الهجاء اللاتينى لكلمة ",dd" لا يقول أبدا إن هناك صلة بينه وبين كلمة "جدع" ولا حتى كلمة "عجد" التى لا أدرى من أين جاء بها!
    هذا ما يقضى به العقل والمنطق ومنهج العلم، أما المكايدة للعرب والعربية فلا يوصّل إلى طائل ولا يؤكّل عَيْشًا: لا عيشًا فينو ولا حتى عيشًا من أبو خمسة صاغ المملوء بالمسامير والنشارة والزلط! وأما العمل على إرجاع عقارب الساعة للوراء وإحلال القبطية محل لغة القرآن بالدَّحْلَبَة الكذابة فذلك ما لا يكون أبدا يا دكتور لويس! يا دكتور لويس، ليس من المعقول أن يكون أصل كلمة "جدع" أمامى تحت بصرى وأنفى ولا يكلفنى الحصول عليه إلا أن أبسط أصابعى لألتقطه (مجرد بَسْط أصابعى ليس إلا)، لكنك ترفض هذا فى عناد حرون حاقد، وتظل ترقص وتتحنجل وتعزّم بزمزمات وهمهمات فعل من يستعين بالشياطين، مع أن زمن الاستعانة، أو بالأحرى: الزمن الذى كان السحرة والبهلوانات يعمدون فيه إلى الإيهام بالاستعانة بالشياطين، قد ولّى إلى غير رجعة على يد الرسول الكريم ماحى الكهانة والكاهنين، ثم تعود من الغاشية التى تغشى أصحاب الشياطين وأنت تصيح قائلا: وجدتها! وجدتها! وما وجدت فى الحقيقة سوى الضلال والضياع! أمعقول هذا؟ أمعقول أن نترك السبيل الواضحة اللاحبة التى يقتضيها المنطق والعلم والتطابق (أو على أقل تقدير: التقارب القوى) اللفظى والمعنوى بين الكلمات، ثم تريدنا أن نروح معك فى غيبة عن الوعى كهنوتية متصورا أن العلم يمكن أن يتأسس على غيبة العقل والمنطق والجرى وراء الأوهام والأحقاد التى كان ينبغى أن تحتفى منذ مئات السنين؟ لا يا دكتور، أنت بهذا تثير على نفسك السخرية وتجعل الناس كل يوم يتحققون من أن ما صنعه معك محمود شاكر وتقفيعه يديك ولهلبته أخمص قدميك كان أمرا لا بد منه، أمرا محتوما مقضيا ما دمت لا تتعلم ولا تريد أن تتعلم ولا تعمل على بلوغ الحقيقة بل على الروغان والزوغان منها وكأنها عدود لك لدود! لا يا عم، يفتح الله! شف لك لعبة غيرها!
    وبعد هذا بصفحة واحدة (ص 273) يدعى سيادته أن "عكش" (التى يصفها بــ"المصرية الحديثة"، بكل ما يعنيه ذلك مما هو واضح لكل ذى عينين وعقل من أن العامية ليست لهجة عربية، بل لغة مستقلة كما سبق أن قلنا مرارا، وذلك توطئة لإزاحة لسان القرآن وإحلال القبطية محله على طريقة الخطوة خطوة)، أقول إنه يصف الفعل: "عكش" بأنه كلمة مصرية قديمة مأخوذة من "عجصو"، أى "الزمام". فما القول إذا ما صككنا هذا الكَذِب القرارى وذلك الخبث المـَرِيد فى وجهه وعلى قفاه وأعطيناه ركلة فى دبره فوق البيعة حتى يأخذ كل عضو رئيسى فى جسمه نصيبه من الضرب والإهانة، وقلنا إن هذا الفعل عربى فصيح وإن وجوده فى العامية المصرية أمر طبيعى تماما، إذ العاميات فى أية لغة إنما هى مستويات من هذه اللغة، وليس الفرق بينها وبين الفصحى إلا فى التحوير الذى قد يدخل بعض الألفاظ والعبارات ليس إلا، والباقى هو هو؟ نعم ما القول عندئذ؟ أما أنا فلست أتصور أن يفىء مثله إلى الحق أبدا ولو أوقدنا له أصبعنا العشر شمعا، بل حتى لو أشعلنا النار فى أنفسنا احتجاجا على سخف كيده وجمود وجهه كما كان الرهبان البوذيون يصنعون بأنفسهم فى ستينات القرن المنصرم احتجاجا على الإجرام الأمريكانى فى بلادهم. ذلك أن أمثاله إنما يقبلون على هذه الدراسات وفى أذهانهم أفكار محددة سلفا يريدون أن يقرروها فى العقول والنفوس بعيدا عن العلم وعن الحق وعن الخير! تقول مادة "عكش" فى "تاج العروس": "عَكَشَ الشَّيْءَ عَكْشًا: جَمَعَهُ، عن ابنِ دُرَيْد. والجَامِعُ: عَكِشٌ، كـ"كَتِفٍ"، والقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَاكِشًا. وذاكَ المَجْمُوعُ: مَعْكُوشٌ. وعَكَشَتِ الكِلابُ بالثَّوْرِ: أَحاطَتْ بهِ. وعَكَشَ فُلانًا: شَدَّ وَثَاقَهُ. والمَعْرُوفُ فيه عَكْبَشَ، بزِيَادَةِ المُوَحَّدَة".
    ثم هناك كلمة "عَبَل"، التى يدعى بجهل الواثقين، وهو أشنع ألوان الجهل وأشدها خطورة على الأمن العام، أنها كلمة مصرية حديثة، أى غير عربية، وأنها تعنى "الوساخة أو القذارة أو النجاسة"، وأنها مأخوذة من الجذر المصرى القديم: "'bw: عبو" الذى يعنى المعنى ذاته (ص 277). هذا ما قاله هو، والآن إلى قول العلم: فأما أن "عَبَل" ليست عربية فصيحة فهذه فضيحة أخرى من الفضائح التى كان لويس عوض يكثر منها سواء وهو رائح، أو قاعد لايبارح، حتى لكأن الفضائح قد عقدت معه معاهدة لتوريدها فى مقالاته وكتبه، وهى ميزة أخرى ينفرد بها العم لويس وتؤكد أهليته للدخول فى موسوعة جينز العالمية عن جدارة واستحقاق بسبب هذا اللون الفائح من الفضائح! فمن معانى "العَبَل" كما جاء فى "لسان العرب": "كلُّ ورقٍ مفتول غير منبسط كورق الطرفاءِ، وثمرُ الأَرْطَي وهدبهُ إذا غلظ وصلح أن يُدبَغ بهِ أو الورق الدقيق"، "وأَعْبَل الأَرْطَي، إذا غَلُظ هدبهُ في القيظ واحمرَّ"، وفى "محيط المحيط": "عَبَلَ الشجرُ، إذا طَلَع ورَقُه"، وفى "المعجم الوسيط": "جاءَ بعَبَله: غير مَعْنِيٍّ بِهِنْدَامِهِ ونظافتِه، وأصْلُهُ من الشَّجر يكون عليه ورقُهُ لا يُشَذَّبُ ولا يُهَذَّبُ". إذن فقولنا فى لغتنا الفصحى أو العامية المعاصرة: "أخذ فلان الشىء بعبله" معناه أنه أخذه على وضعه الفطرى الأصلى دون تشذيبه أو إزالة ما يكون عليه من ورق أو هدب أو شوك مثلا، وليس شرطا أن يكون قذرا أو وسخا إلا بالمعنى الذى شرحناه، وهو ألا يهتم صاحبه بتشذيبه وتنقيته أيًّا ما يكن نوع هذا التشذيب وتلك التنقية. ثم ما الذى جمع الشامى على المغربى فى لَفْظَىْ "'bw" و"عَبَل"؟ وما الدليل؟ نعم ما الدليل، بشرط ألا نلجأ إلى أسلوب الزمزمة والهمهمة والهينمة والهلضمة والبسبسة والوسوسة والوشوشة رغم أن شادية تقول إنها تحب الوشوشة، إذ نحن الآن فى ميدان العلم لا فى ميدان الغناء والتمثيل والغنج والدلال النسوى؟ إى والله ما الدليل؟ اللهم لطفا بنا ورأفة بحالنا كيلا نصاب بالضغط أو يطقّ لنا عرق!
    هذا، ولم نبرح بعد ص 277، إذ يبدو أن الدكتور لويس قد زادت عليه عند هذه الصفحة نوبة الإسهال اللفظى الذى يصعب حاله ساعتها على الكافر ويجعل الكافر "كَفْرَان" أكثر مما هو كافر رغم بعض الأنوف الجاهلة التى تقتحم "مباحث" اللغة العربية، وهى لا تصلح ولا حتى خفيرا جاهلا بريالة فى "مباحث" الشرطة المصرية. قال "أستاذنا الدكتور لويس عوض" إن "كلمة "عنج (بالجيم المعطشة): 'nd" المصرية القديمة بمعنى "عاز" أو"افتقر" أو"احتاج" أو"نقص" أو"قَلَّ" أو "قليل" فيها عناصر "غنج" التى نعرفها فى المثل المصرى: "المحتاجة غناجة"، وهو فيما يبدو تعبير توتولوجى تتكرر فيها كلمة "الحاجة" باللغتين لتعليم اللغة الجديدة العربية (يقصد: للأقباط أول دخول العرب مصر) بتجاور المترادفَيْن، مع اللعب على اللفظ. ومعنى هذا أن "غناجة" ليست من الغنج الذى يعنى فى العربية والشامية الحديثة "دلال" المرأة، ويعنى فى المصرية الحديثة الأصوات الانفعالية التى تصدرهاالمرأة وقت الجماع، وإنما هى بالمجاز"، وهو ما يعنى بالمفتشر أن هذا ليس مثلا شعبيا، بل شاهد تعليمى ورد فى كتاب أبو لمعة الأصلى: "كيف تتعلم يا قبطى يا مبلِّم، اللغة العربية بدون معلّم". لكن يبدو أن أبا لمعة لم يكن ساعتها فى مزاجه الرائق، لأن المثال بهذه الصورة لا يقول شيئا إلا كما يفسر الواحد منا فى لحظة من لحظات التحشيش "الماء" بالماء، ولكن بعد الجهد والتطوح والوقوع فى الأرض عدة مرات والتقايؤ مثلها والتلعثم فى الكلام ضعفها، إذ المعنى هنا هو أن "المحتاجة محتاجة"!
    عفارم عليك يا دكتور! وصدق من سمّاك: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! وهل فى هذا أدنى شك؟ طيب، ولماذا لم يقل المـَثَل: "المحتاج غناج" عِوَضًا عن "المحتاجة غنّاجة"؟ أجل لماذا أصر على أن يكون المحتاج امرأة إذا لم يكن الغنج المعروف هو المقصود؟ إن المعنى واضح تمام الوضوح لكل ذى عينين فى رأسه، وعقلٍ تحت فروتها، ألا وهو أن المحتاجة تبذل كل ما عندها من فنون التقرب إلى من فى يده قضاء حاجتها. وليس بشرط أن يكون غنج الفراش هو المقصود، بل الكلام غالبا على المجاز، وإن كان من الممكن أن يتحول المجاز إلى حقيقة فعلية فى بعض الظروف. ألم تسمع يا دكتور لويس عن فلم "أشرف خاطئة" الذى يسوّق بعض الناس به الزنا والتفريط فى الشرف حتى لا تموت الأم (يا كبدى عليها!) بسبب الحاجة إلى ثمن زجاجة دواء، وكأن مصر كلها قد تحولت إلى مجتمع من الوحوش لا يحنّ فيه "أحد" على "إحدى" إلا إذا غنجت وغنجت وغنجت إلى أن يطلع الصباح، ويدركها الديك الصيّاح، فتسكت عن الغنج والسفاح، بعد أن يكون الشرف قد راح، على يد الكبش النطّاح؟ ثم إن كلامك يا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" ليس له من معنى إلا أن هذا المثل (إن صدقنا ما تقول رغم كل ما يملأ كلامك من سخف ونطاعة) يرجع تاريخه إلى مبدإ دخول المسلمين مصر وإقبال المصارْوة (وفى لغة أخرى: "المصارْية") على اقتناء كتاب "تعلَّمْ لسان العرب، بمنتهى قلة الأدب". نعم "قلة الأدب" ما داموا بدأوها بالغنج، ثم جاء الدكتور لويس فختمها هذا الختام المهبّب بهباب! فهل لديك دليل على أنه يرجع إلى ذلك التاريخ وأن التلميذات فى مَبْغَى المعلمة نُوسة الحنتوسة المهووسة بأكل "الباس بوسة" كن يكتبنه على لوح الإردواز وهن يتعلمن لغة الفاتحين؟ وهذا كله قبل ظهور زيكو القمص المشلوح المنكوح المقبوح، الغنّاج المهتاج النهّاج، المثلوم المخروم المفروم، والذى لو كان تقدم به الزمن إلى حينها لسمعناهم يقولون فى الأمثال: "القمّص المحتاج، غنّاج عند الإيلاج".
    والآن أيها القارئ العزيز، دعنى من فضلك ألتقط أنفاسى، فقد سبب لى "أستاذنا الدكتور لويس عوض" صداعا شديدا فى رأسى رغم أننى شديد التحمل لمثل هذه الألوان الفارغة من الثرثرة والإسهال الكتابى، وأتساءل: أمن المعقول أن هناك ناسا يكتبون ما يكتبه الدكتور لويس ويعتقدون فى صحة هذا الغثاء؟ أما أنا فوالله الذى لا إله إلا هو لا أظن ذلك أبدا إلا إذا فقد الإنسان عقله وأصبح البعيد بلا تمييز. والذى سوف أموت وألقى الله عليه أن الرجل لا يقول ما يعتقده بالمرة، بل يريد أن يقرر فى العقول شيئا يظن أنه يمكنه تقريره بالتكرار والإلحاح إلى أن تنضج الظروف فيقال بصريح القول ما يُرْمَى إليه الآن من بعيد. وقد بدأ المسلسل منذ فترة وخرجت العقارب من جحورها ظنا منها أن الوقت قد حان للضربة القاضية القاتلة يصوبونها إلى الإسلام وكتابه ولغته!
    والآن بعد أن كاشفتكم ببعض ما عندى نعود إلى موضوعنا فنقول إن لويس عوض يقول إن كلمة "عأ" المصرية القديمة بمعنى "حمار" موجودة فى "حا" و"شِى"، وكذلك فى "حصاوى" التى يفسرها بأن معناها "حمار" (ص 279). ترى ما العلاقة بين "عأ" من جهة وبين "حا" و"شِى" من جهة أخرى؟ الواقع أن الواحد منا لا يمكن أن يصدق بوجود مثل تلك العلاقة إلا إذا كان غائب الذهن جَرّاءَ شرب حاجة أصفرة سقاها له الرجال الذين كانوا يخطفون الأولاد زمان كى يذبحهم أصحابُ مَكَن الطحين الجديدة لتشتغل، والذين من الواضح أنهم ما زالوا موجودين معنا هنا. اللهم اجعل كلامنا خفيفا على قلبهم يا رب بحق جاه حبيبك المصطفى! طيب: "حا" وتقال للحمار، فما معنى "شِى" هنا، وهى لا تقال للحمار بل للحصان؟ ألم يسمع لويس عوض مثلما كنت أسمع فى طفولتى وصباى أغنية "حا يا حمار البوستة حا! شِى يا حصان البوستة شِى!"، وكذلك المثل الشعبى الذى يقول: "يِتَخَّنُوا وِدْن الحمار بقُِولِة: شِى" (أى يملأون الحمار غرورا بمناداتهم له بما ينادَى به الحصان فيقولون له: "شِى" بدلا من "حا" فيظن نفسه حصانا فعلا لا حمارا)؟ ألم يسمع بهذا وبذاك ويعرف أن الــ"حا" للحِمَار، والــ"شى" للحصان؟
    ألم يكن يقول إنه يتطلع إلى اليوم الذى تسود فيه العامية وتحل محل لغة القرآن بعد أن يكسر رقبتها، كسر الله رقبة كل خبيث نبيث؟ وهل معنى "حصاوى": حمار، كما يقول ابن منظور القبطى؟ سلامات يا ابن منظور يا قبطى! الأقباط على رأسنا من فوق، لأن الأقباط معناها "المصريون". وحتى لو كان معناها "المصريين النصارى" فقط فهم كذلك على العين والرأس! أليسوا شركاءنا فى الوطن والتاريخ؟ لكن من قال إنه لا بد أن يكون عندهم بالحنجل والمنجل ابن منظور كما لدى المسلمين؟ وحتى لو قلنا إنه لا بد، أفلم يجد البعض إلا الدكتور لويس، وهو ما هو فى العجز التام والموت الزؤام أمام لغة الإسلام؟ إن "الحصاوى" ليست هى الحمار، بل صفة من صفاته، وذلك كما نقول: بخور جاوى، وعود هندى، وخيزرانة سويسى، وتلفاز يابانى، وإجرام أمريكى، وتوحش صهيونى، وابن منظور قبطى، واستبلاه لويسعوضى... وهلم جرا؟ وهذا كله لو أنها بــ"الصاد"، لكنها بــ"السين"، أى "حساوى" كما سمعتها فى منزل الدكتور حجر البنعلى وزير الصحة القطرى السابق على لسان أديب فلسطينى واستغربتها، فأكد لى صاحب البيت والصديق الفلسطينى وصديق آخر سورى فاضل من رجال التربية والتعليم الكبار أنها نسبة إلى مدينة "الحَسَا" (الأحساء) السعودية التى كانت مشهورة بالحمير القوية الـجَلْدة.
    فإن كان هذا صحيحا، وأغلب الظن أنه كذلك، يَكُنِ المصريون قد حولوا السين فيها إلى صاد كما فى قول كثير من أهل الريف: "صَالْخِير"، أى "مساء الخير"، و"شجرة صَنْط" بدلا من "سنط"، و"مصمار" بدلا من "مسمار"، و"صَطْل" بدلا من "سَطْل (أى جردل مثل القمص المنكوح، وكذلك مثل دبره، فهو واسع كالجردل"، و"صُرْم (زيكو) بدلا من "سُرْمه، الذى يعانى من شَرْمه"... وهكذا! والآن انظر إلى كل هذه البلايا التى نزلت على رؤوسنا ترفّ من فقرة واحدة من فقرات الدكتور. إن كل فقرة فى كتابه هذا ليست فقرة، بل فاقرة، أى مصيبة ثقيلة تقصم فقرات الظهر! والله المستعان! والمضحك أن أبو زيد المسلِّك السالك الذى سِكَّتُه كلها مسالك يرجع كلمة "حصاوى" إلى جذر لا يعرفه هذه المرة (وهذا حدثٌ كونىٌّ يؤرَّخ به) ولا كتب الله له أن يعرفه لا هو ولا غيره، والذى يخمن وهو متسلطن فوق المصطبة ساعة عصرية أنه هو الجذر الذى أتت منه كلمات "Ass" و"Ane" و"Aselus" و"Assa" و"Asse" و"Assin" و"Asyn" و"Asen" و"Asni" و"Esal" و"Esel"... وهلم جرا عبر لغات القارة الأوربية فى سيلٍ ثرثارىٍّ مرهقٍ إلى أن ينفجر شريان فى مخنا، والعياذ بالله. الرحمة يا رب من هذا الإسهال اللفظى الغثيث. الرحمة يا خلق هو، الرحمة فوق العدل!
    ومن مزاعمه كذلك أن الفعل: "وَلّف" عامى مأخوذ من جذر أجنبى طفق جنابه يطوف بنا على اللغات التى يقول إن هذا الجذر دخلها بصُوَره المختلفة مثل "Liver: كبد" فى الإنجليزية، و"Lepos: دهن" فى اليونانية، و" :Lobhaاشتهاء" فى السنسكريتية، و":Libido شهوة" فى اللاتينية، و"Liebe" فى الألمانية وغيرها وغيرها حتى حطّ أخيرا على أرض العامية المصرية، وفى يده كلمة "لبوة" فوق البيعة حتى تحلو القَعْدَة (ص 380)، وكأننا لا نقول فى العربية الفصحى: "وَلَفَ القومُ وَلِيفًا: جاءُوا معًا... ووالفهُ موالفةً ووِلافًا: أَلِفَهُ واعْتَزَى إليهِ واتصل بهِ. والوَلِيف: "الأَلِيف" أو عاميَّة، وكذلك "الوِلْف" لـ"الإِلْف"..." كما فى "لسان العرب"، أو "لافَّ القومُ القومَ: اختلطوا بهم" كما فى "الغنىّ" و"المحيط"، وهو ما يمكن تخفيف التشديد فيه ليكون: "لافَ"! ونحن الآن نقول: "التوليف"، أى تركيب الأشياء المتقاربة بعضها مع بعض. وليس فى الأمر أية غرابة، فتبادل الهمزة والواو لمكانيهما كثير فى العربية، مثل: "وَرَّخ (أَرَّخ)، و أَقَّتَ (وَقّتَ)، وأَقَطَ (وَقَطَ)، أى صَرَعَ، وإسادة (وسادة)، مُؤْصَدة (مُوصَدة)، وإشَاح (وِشَاح)، وإعَاء (وِعَاء)، ووِكَاف (إِكَاف)، وهى البرذعة، والأُجُوه (الوُجُوه)، وإقاء (وِقَاء)، وتوكيد (تأكيد)، وأَبَّ (وَبَّ)، أى هَبَّ وتهيّأ للحملة، وأُحْدَان (وُحْدَان)، جمع "واحد"، ووَخَذَ (أَخَذَ)، ووِرْب (إِرْب)، أى العضو، ووِرْث (إرث)، وتَوَاثير (تآثير)، وهم رجال الشُّرْطة، ومَأْزُور (مَوْزُور)، أى آثِم، وأَزَعَ (وَزَعَ)، أى منع، و"أَشَرَ" (وَشَرَ)، أى حَزَّز الأسنان، وأَلَتَ فلانا (وَلَتَه)، أى نَقَصه...".
    وكدَيْدَنه يدَّعى لويس عوض أن كلمتَىْ "زبّ" هى كلمة مصرية، أى غير عربية، فى مقابل "الذَّكَر" العربية (ص 387). والحق أنها هى أيضا بهذا المعنى (وبمعانٍ أخرى أيضا) كلمة عربية فصيحة (نعم فصيحة رغم أنف الجهلاء) أخذتها العامية المصرية من الفصحى، وكل ما هنالك أنها كسرت "الزاى" بدلا من ضمها على عادة العامية فى كثير من الأحيان كما هو معروف. يقول الجوهرى (وهو من أهل القرن الرابع الهجرى) فى "صِحَاحه" فى أول مادة "زبب" إن "الزُّبّ: هو الذَّكَر"، و فصّل صاحب "تاج العروس" الأمر تفصيلا فقال: "الزُّبُّ بالضم: الذَّكَرُ بلُغَةِ أَهْل اليَمَن، أَي مُطْلَقًا. وفي فقه اللغة لأَبِي مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيِّ في تقسيم الذُّكورِ: الزُّبُّ للصَّبيّ، أَو هُوَ خَاصٌّ بالإِنْسَان. قَالَه ابن دُرَيْد، وقال إِنَّه عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وأَنْشَد:
    قَدْ حَلَفَتْ باللهِ: لا أُحِبُّه* أَنْ طَالَ خُصْياهُ وقَصْرَ زُبُّه
    وفي التَّهْذِيب: الزُّبُّ: ذكر الصَّبيّ بلُغَة اليمن... ج "أَزُبٌّ وأَزْبَابٌ وَزَبَبَةٌ محرّكَةً"، والأَخِيرُ من النوادر". ولعله يحسن أن نورد هنا أيضا ما قاله ابن منظور غير القبطى كى يتبين القراء بأنفسهم مدى تدليس ابن منظور القبطى، لا لأنه قبطى، بل لأنه، بصفته الشخصية، لا يحترم شروط العلم ومنهجه: "والزُّبُّ: الذَّكَرُ، بلغة أَهل اليَمَنِ، وخصَّ ابن دريد به ذَكَرَ الإِنسان، وقال: هو عربي صحيح. وأَنشد:
    قد حَلَفَتْ باللّهِ: لا أُحِبُّهْ* أَن طالَ خُصْياهُ، وقَصرَ زُبُّهْ
    والجمع: أَزُبٌّ وأَزْبابٌ وزَبَبَةٌ".
    وفى ص 292- 393 يضع أستاذنا الدكتور" كلمة "كُسّ" فى مقابل كلمة "هن" على اعتبار أن الثانية هى وحدها العربية، بخلاف الأولى التى هى عنده مصرية عامية لا علاقة لها بالفصحى وأنها مأخوذة من لا أدرى أية لغة ومن أى جذر، إذ طاف بنا على عادته بين أشتات اللغات التى لا يعرف منها إلا الإنجليزية والفرنسية، موهما إيانا أنه ابن بجدتها كلها على ما يريد الحواريون المدلسون أن يقنعونا. ولن أتكلم أنا ردًّا على هذا التسرع الجاهل الذى لا يليق بمنهج العلم، بل سأتنحى وأدع المجال للمرتضى الزبيدى صاحب "تاج العروس" ليقول لنا ما فى جَعْبته فى هذا الموضوع. قال العالم الجليل الذى لم يكن بكّاشًا ولا هوّاشًا، بل كان يتثبت دائما مما يقول: "الكَسُّ: الدَّقُّ الشَّديدُ، كَسَّ الشَّيْءَ يَكُسُّه كَسًّا: دَقَّه دَقًّا شَدِيدًا، كالكَسْكَسَةِ. وهذه عن ابن دُرَيْدٍ... والكُسُّ، بالضّمّ: اسمٌ للْحِرِ، أَي الفَرْج من المَرْأَة، وليس من كَلامهم القَديم، إِنَّمَا هُوَ مُوَلَّدٌ كما حقَّقَه ابنُ الأّنْبَاريِّ. وقال المُطَرِّزيُّ: هو فارسيٌّ، مُعَرَّبُ "كوز". وفي "شِفاءِ الغَليل" للخَفاجيّ: قالَ الصّاغَانِيُّ في خَلْقِ الإِنْسَانِ: لم أَسْمَعْه في كلامٍ فَصِيحٍ ولا شِعْرٍ صَحِيحٍ إلاّ في قولِه:
    يا قَوْمِ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِن عِرْسِ تَغْدُو وما أَذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ
    عَلَيَّ بالعِقَابِ حَتَّى تُمْـسِـي تَقُولُ: لا تَنْكِح غَيْرَ كُـسَّـي؟
    وقال بَعْضُهم: إِنّه عربيٌّ، وإِليه ذَهَبَ أَبو حَيّانَ، وأَنْشَدَ قولَ الشاعر:
    يا عَجَبا للسَّاحِقـات الـدُّرْسِ والجَاعلاتِ الكُسَّ فَوْقَ الكُسِّ
    قال شيخُنَا، أَي ذَكَرَه في تَفْسيره الكَبير المُسَمَّى بــ"البَحْر" عند قوله تعالى: "والَّلاتي يَأْتينَ الفَاحشَةَ"، قال: "المُرَادُ بها السَّحْق، وهو حَكُّ المَرْأَةِ فَرْجَها بفَرْجِ مِثْلِهَا"، ثمَّ أَنْشَدَ البيتَ نقلاً عن النَّحّاس أنه سَمِعَه من كلامِ العَرَب... وقد تَوَلَّع المُوَلَّدُونَ بذِكْره في أَشْعَارهم كثيرا، فمن ذلكَ قول بَعْضهم:
    غايَةُ ما تَشْتَهيه نَـفْـسِـي منَ الأَمَانِي لـقَـاءُ كُـسِّ
    ... وقال آخَرُ:
    الأَيْْرُ للْحِجْر حَرْبَةٌ نُدِبَتْ* لَوْ كانَ للْكُسِّ كانَ كالْفاسِ
    ... إِلى آخر ما قالُوه ممّا يُسْتَهْجَنُ إِيرادهُ هنا. وأَنا أَسْتَغْفرُ اللهَ تَعَالَى من ذلك، وإِنّما استطردتُ به هُنَا بَيَانًا لوُرُوده في كلامِ المُوَلَّدينَ، وإِن لم يُسْمَعْ في الكلام القديم، خِلافًا لما ذَهَبَ إِليه شيخُنَا من تَصْويب عَرَبِيَّته، ورَدّ كلام ابن الأَنْبَاريّ ومَن وَافَقه. على أَنَّا إِذا نَظَرْنا من حيثُ اللُّغَةُ وَجَدْنا له إشْتقَاقًا صَحيحًا، من الكَسِّ الذي هو الدَّقُّ الشَّديدُ، سُمِّيَ به لأَنَّهُ يُدَقُّ دَقًّا شَديدًا، فلْيُتَأَمَّلْ". نخرج من هذا بأن الكلمة المذكورة معروفة فى الفصحى منذ قديم الزمان، وليكن أصلها الأصيل بعد ذلك ما يكون. وهو عندى بكل تأكيد، كما قال الزبيدى رحمه الله، مشتق من "كَسَّ"، أى دَقَّ. ولو كان من الفارسية فلماذا صرفه العرب عن وجهه فقالوا: "كس" بدلا من "كوز" التى يستعملونها أيضا فى لغتهم؟
    وما دمنا فى هذا الباب الهباب فلنعرِّج على ما قاله، يحرسه المولى، بشأن كلمة "يخرى"، إذ زعم أنها مصرية (ص 393)، بمعنى أنها ليست من العربية الفصحى فى شىء، ليقفز منها إلى القول بأنها مأخوذة من اللغة الفلانية أو العلانية أو الترتانية... إلى آخر اللغات التى لا تنتهى مما يذكره فى كتابه رغم أنه لا يعرف منها إلا ما يعرفه كثير من المثقفين عندنا من الإنجليزية والفرنسية. والكلمة عربية عريقة فى عروبتها، ولا معنى لكل هذا البكش اللغوى الذى ليس فيه شىء من علم اللغة رغم كل هذا الاستعراض الممل الكريه الذى يخرّ (أم نقول من باب الهومونيم اللويسعوضى: "يخرى"؟) من كل كلمة من كلمات كتابه العبقرى مثله. وهذا ما قاله الزبيدى مثلا فى "تاج العروس"، وفيه الكفاية، ولا داعى لأن أسدّ نفسكم بإيراد الشواهد الكثيرة من الشعر والنثر القديم عند العرب: "خَرِئَ كسمِع خَرْءًا بفتح فسكون وخَراءةً، ككرِه كَرْهًا وكَرَاهَةً، ويُكْسَر ككِلاءة، وخُرُوءًا كقُعُود، فهو خارِئٌ. قال الأَعشى يهجو بني قِلابة:
    يا رَخَمًا قاظَ على مَطْلوبِ* يُعْجِلُ كَفَّ الخارِئِ المُطِيبِ
    وفي العباب: أَمَّا ما روى أَبو داوود سليمان بن الأَشعثِ في السنن أَنَّ الكُفَّار قالوا لسلمان الفارسيِّ رضي الله عنه: "لقد علَّمكُم نبِيُّكم كلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءةَ" فالرواية فيها بكسر الخاء، وهي اللغة الفصحى. انتهى. وتقول: هذا أَعرفُ بالخِراءةِ منه بالقِراءة. وقال ابنُ الأَثير: الخِراءةُ، بالكسر والمدّ: التَّخَلِّي والقُعود للحاجة، قال الخَطَّابِيُّ: وأَكثر الرُواةِ يَفتحون الخاءَ، قال: ويُحتملُ أن يكون بالفتح مصدرًا، وبالكسر اسمًا: سَلَح. والخُرْءُ بالضَّمِّ ويُفتح: العَذِرَةُ، ج خُروءٌ، كجُند وجُنود، وهو جمعٌ للمفتوح أيضا، كفَلْس وفلوس، قاله الفَيُّومِيُّ. وخُرْآنٌ بالضَّمِّ على الشذوذ. وخُرُءٌ بضمَّتين، تقول: رَمَوْا بخُرُئِهم وسُلُوحِهم، ورمَى بخُرْآنِه، وقد يقال ذلك للجُرَذِ والكَلب. قال بعض العرب: طُلِيتُ بشيءٍ كأنَّه خُرْءُ الكلب. وقد يكون ذلك للنَّمل والذُّباب، وقال جَوَّاسُ بن نُعيمٍ الضَّبِّيُّ، ويروى لجوَّاس بن القَعْطَلِ، ولم يَصِحَّ:
    كأَنَّ خُروءَ الطَّيْرِ فوقَ رُؤوسِهِمْ إذا اجْتَمَعَتْ قَيْسٌ معًا وتَميمُ
    متى تَسَلِ الضَّبِّيَّ عن شَرِّ قَومِهِ يقُلْ لكَ: إنَّ العائِذِيّ لَئيمُ
    وقوله: كأنَّ خُروءَ الطَّيرِ، أَي من ذلّهم. والموضع: مَخْرَأَة بالهمز، ومَخْراة بإسقاطها. وزاد غيرُ الليثِ: مَخْرُؤَة، هكذا بفتح الميم وضمِّ الراء، وفي بعضها بكسرِ الراء، وفي أُخرى بكسر الميم مع فتح الراء. وفي التهذيب: والمَخْرُؤَةُ: المكانُ الذي يُتَخَلَّى فيه. وعبارة الصحاح: ويقال للمَخْرَجِ: مَخْرُؤَةٌ ومَخْرَأَةٌ. وقال أَبو عُبَيد أَحمد بن محمد بن عبد الرحمن الهَرَوِيُّ: الاسم من "خَرِئَ" الخِراء، بالكسر. حَكاه عن الليثِ، قال: وقال غيرُه: جمع الخِراء: خُرُوءٌ، كذا في العُباب. وقال شيخنا: وقيل: هو اسمٌ للمصادِر كالصِّيامِ، اسمٌ للصَّوْمِ، كما في المصباح. وقيل هو مصدرٌ. وقيل: هو جمعٌ لخَرْءٍ، بالفتح، كسَهْمٍ وسِهامٍ".
    وما قلناه فى "يخرى" نقوله أيضا فى "يشخّ"، التى يدعى "أستاذنا الدكتور لويس عوض" كالعادة أنها مصرية، أى لا تعرفها العربية الفصحى (ص 393- 394)، بغية إيهام القراء بأن فى مصر لغتين مختلفتين وليس لغة واحدة بلهجاتها المختلفة كأية لغة فى العالم. ولن أفعل هنا أيضا أكثر مما فعلته فى الفقرة السابقة حين تركت قرائى الكرام مع ما قاله الزبيدى. وأنا عادةً ما أكتفى به لأنه أشد معجميينا القدماء تفصيلا وآخرهم. قال عالمنا الجليل: "الشَّخُّ: البَوْلُ، وصَوْتُ الشُّخْبِ إِذَا خَرَجَ من الضَّرْعِ... وشَخَّ ببَوْلِه يَشُخُّ شَخِيْخًا وشَخًّا: لم يَقدرْ أَن يَحْبِسَه فَغَلبَه، عن ابن الأَعرابيّ. وعمَّ به كُراع فقال: شَخَّ ببَولِه شَخًّا، إِذا لم يَقْدِرْ على حَبْسه. وشَخَّ ببَوْلِه وشَخْشَخَ: امْتَدَّ كالقَضِيبِ، أَو مَدَّ به وصَوَّتَ. وإِنَّه لــ"شَخْشَاخٌ بالبَوْلِ" من ذلك". ترى هل هناك مجال لإضافة شىء آخر؟ لا إخال، ففيما أوردناه من كلام العلامة الزبيدى الكفاية لإخراس أى صوت جاهل يقدم بكل جسارة، بل بكل بجاحة، على مواضيع لا يعرف عنها شيئا!
    ومع"أستاذنا الدكتور لويس عوض" نمضى ولا نتوقف كى يعرف القاصى والدانى أن الرجل لا يعرف شيئا فى موضوع كتابه حتى لو كان يتعلق بالأمور الأولية فيه وحتى لا يجوز على القارئ الخالى الذهن كلام المطيباتية الخطرين على الأمن الفكرى والعقيدى، فنتوقف عند زعمه أن كلمة "زَرّ عينه" بمعنى "شدد بصره بحيث يركزه فى إنسان" هى كلمة مصرية (ص 401)، أى لا علاقة لها بالفصحى، التى لا تزيد العامية المصرية عن أن تكون لهجة من لهجاتها. فتأمل وتعجب من هذا الغُشْم الغاشم الغشيم الغَشُوم المِغْشَم المِغْشَام الغَشّام الغُشَمَة المستغشم المتغاشم. والله لولا أنّ شق الهدوم حرام فى دين سيد المرسلين لشققتها وفششت بها غليلى بدلا من أن أصاب بالسكر أو بالضغط أو ربما الموت وَحِيًّا. قال الزبيدى فى "تاج العروس" فى معرض سرده لمعانى ذلك الفعل: "والزَّرُّ: تَضْيِيقُ العَيْنَيْن. يقال: زَرَّ عَيْنَيْه: ضَيَّقَهما"، وهو الموجود فى المعاجم التى رجعت لها جميعا. فكيف حال "أستاذنا الدكتور لويس عوض" الآن؟ كان الله فى عوننا عليه، فإنه ناشف الدماغ متغشمر فى التمرد دون وجه حق!
    وهو يدعى أن كلمتى "شرم" و"صرم" مصريتان مأخوذتان من "Scrotum" اللاتينية: بحذف التاء من "سكروتم"، وأن ذلك تم فى العصر الرومانى، أى أيام كانت أرض الكنانة مستعمرة رومانية (ص 408). ومعنى هذا أن الكلمة ليست عربية! فماذا هو قائل هو ومن يتشدد له إذا فضحنا هذه الرعونة وبرهنّا على أن الكلمتين عربيتان؟ إليكم أولا النصوص المعجمية الخاصة بــ"شرم"، ونبدأ بمعجم "العين"، وهو معجم قديم جدا، إذ يرجع إلى القرن الثانى الهجرى: "الشّرمُ: قَطْعٌ من الأَرْنَبة، وقَطْعٌ من ثَفَرِ الناقة، قيل ذلك فيهما خاصّة. وناقةٌ شَرْماءُ: مَشْرومةٌ. ورجلٌ مَشْرومُ الأنف: أشْرَمُ. وكان أبْرَهةُ صاحبُ الفيل جاءه حَجَرٌ فَشَرَمَ أنفه، ونجا ليُخبِرُ قومه، فسُمّيَ: الأشْرَم. وربّما قيل: اشْتُرِمَ ثَفَرها. والشَّرْمُ: لُجّةُ البَحْر".
    وجاء فى "محيط المحيط" لبطرس البستانى: "الشَّرْمُ و التَّشْرِيمُ: قَطْعُ الأَرْنَبَةِ وثَفَرِ الناقة، قيل ذلك فيهما خاصة. ناقةٌ شَرْماء وشَرِيمٌ ومَشْرومَةٌ، ورجل أَشْرَمُ بَيِّنُ الشَّرَمِ: مَشْرُومُ الأَنْفِ، ولذلك قيل لأَبْرَهَةَ: الأَشْرَمُ. وأُذُنٌ شَرْماءُ ومُشَرَّمَةٌ: قُطِع من أَعلاها شيءٌ يسير... والشَّرْمُ: الشَّق. شَرَمَهُ يَشْرِمُه شَرْمًا فَشَرِمَ شَرَمًا وانْشَرَم و شَرَّمَهُ فَتَشَرَّم. والشَّرْمُ: مصدر شَرَمَهُ أَي شَقَّه... والتَّشْرِيمُ: التَّشْقِيقُ. وتَشَرَّمَ الشيءُ: تَمَزَّق وتَشَقَّقَ. والأَشْرَمُ: أَبْرَهَةُ صاحبُ الفيل، سمي بذلك لأَنه جاءه حجر فَشَرَمَ أَنفَه... ويقال للجلد إِذا تشقق وتمزق: قد تَشَرَّمَ. ولهذا قيل للمشقوقِ الشفة: أَشْرَمُ... ابن الأَعرابي: يقال للرجل المشقوق الشفة السُّفْلَى: أَفْلَحُ، وفي العُلْيا: أَعْلَمُ، وفي الأَنف: أَخْرَمُ، وفي الأُذُن: أَخْرَبُ، وفي الجَفْن: أَشْتَرُ، ويقال فيه كُلِّه: أَشْرَمُ... والشَّرِيمُ والشَّرُومُ: المرأَة المُفْضاة. وامرأَة شَرِيم: شُقَّ مَسْلكاها فصارا شيئًا واحدًا... وكلُّ شَقٍّ في جبل أَو صخرة لا يَنْفُذُ: شَرْمٌ... الجوهري: وشَرْمٌ من البحر: خَلِيجٌ منه".
    وفى "المعجم الوسيط" نقرأ: "شَرَمَ الشيءَ- شَرْمًا: شَقَّهُ من جانبه. يقال: شَرَمَ أنْفه. وشَرَمَ أُذُنَه: قطَع من أَعلاها شيئًا يسيرًا، فهو مشرومٌ، وشَرِيمٌ... شَرِمَ- شَرَمًا: انشقَّ. فهو أشْرَمُ، وهي شَرْماء. (ج) شُرْمٌ. شَرَّمَه: شَقَّقَه. انْشَرَمَ: انشقَّ. تَشَرَّمَ: تَشَقَّقَ. يقال: تَشَرَّمَ الجلدُ، وتَشَرَّمَتْ نواحي الكتاب. الشَّرْمُ: كلُّ شَقٌّ غير نافذ في جبل أَو حائط. و- من البحر: خليجٌ منه".
    أما "الصُّرْم" فهو فى العربية "السُّرْم" بالسين، إلا أن العامة تقلب السين "صادا" كما فى قولهم: "صالخير"، أى "مساء الخير"، و"مصمار" فى "مسمار"، و"ماصورة" فى "ماسورة"، و"أَصْمَر، وصَمْرَا" بدلا من "أسمر وسمراء". وكنت وأنا فى أكسفورد أفتح إذاعة الجزائر فى أواسط سبعينات القرن الفائت فأستمع كل ليلة إلى برنامج "مع الصاهرين" بالصاد. وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى (اللبنانى) أن العامة تنطق هذا اللفظ بالصاد. وهذا يؤكد ما قلته قبل قليل عن ظاهرة قلب السين فى بعض الكلمات على ألسنة العامة "صادا". على كل حال فإننا نجد فى معجم "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدى مثلا أن "السُّرْمُ: باطنُ طَرَف الخَوْران من الدُّبُر". وفى "لسان العرب": "روى الأَزهري عن ابن الأَعرابي أَنه سمع أَعرابيًّا يقول: اللهم ارزقني ضِرْسًا طَحونًا ومَعِدَةً هَضُومًا وسُرْمًا نَثُورًا. قال ابن الأَعرابي: السُّرْمُ: أُمُّ سُوَيْدٍ. وقال الليث: السُّرْمُ: باطن طرف الخَوْرانِ. الجوهري: السُّرْمُ: مَخْرَجُ الثُّفْل، وهو طرَف المِعَى المستقيم، كلمة مولَّدة. وفي حديث عليّ: لا يذهب أَمر هذه الأُمة إِلا على رجل واسع السُّرْم ضخم البُلُعومِ. السُرْمُ: الدُبرُ، والبُلعُومُ: الحلق. ابن سيده: السُّرْمُ: حرف الخَوران، والجمع: أَسْرامٌ. قال أَبو محمد الحَذْلَمِيّ: "في عَطَنٍ أَكْرَسَ من أَسْرامِها".وخص بعضهم به ذوات البَراثِنِ من السباع. ابن الأَعرابي: السَّرَمُ: وجع العَوَّاء، وهو الدُّبُرُ".
    ومن شواهد تلك الكلمة فى الشعر القديم قول ابن الرومى فى القرن الثالث الهجرى:
    كأنه سُرْمُ بغلٍ حين يُخْرِجُه* عند الرِّياث وباقي الروث في وسطِهْ
    وكذلك قول ابن حجاج من شعراء القرن الرابع:
    يخرى فيخرج سرمه* شبرين من وجع الزحير
    وقول ابن منير الطرابلسى من أهل القرنين الخامس والسادس:
    لِحيةٌ سُرْمُ سِيبَوَيْه* عَلَيها قَدِ انتَهكْ
    ولست أستطيع أن أقتنع بأن الكلمة مولدة كما قال الجوهرى، وإن كان توليدها لا يطعن فى عربيتها، بل المقصود أن هذه الكلمة ذاتها، وبهذه الدلالة فقط، جديدة: معنًى أو اشتقاقًا، أما سائر المادة فشىء آخر. وها هو ذا الخليل بن أحمد، وهو متقدم على الجوهرى كثيرا جدا، لا يشير إلى أنها مولدة، فضلا عن أن الكلمة قد وردت، كما نرى، فى نصوص تصل لعصر الصحابة وفى أقوال منسوبة لبعض "الأعراب"، مما يدل على أن الجوهرى غير دقيق. كما أن وجود مادة "سرم" فى اللغة العربية بهذا التوسع وفى معنى "القطع" يعضد أن الكلمة عربية أصيلة. وفضلا عن ذلك فإن البستانى فى معجمه: "محيط المحيط" لم يتطرق إلى ذكر توليدها البتة، مع حرصه على ذلك عادة وإرجاعه الكلمة المأخوذة من لغة أعجمية إلى أصلها الذى يرى أنها مأخوذة منه. وواضح أن الزعم بأن الكلمتين مأخوذتان من "Scrotum" اللاتينية هو زعم لا معنى ولا أساس له، وبخاصة أن هناك فرقا كبيرا فى النطق وفى الاشتقاق بين الكلمتين كما هو بين واضح. والمضحك أن يرجع لويس عوض كلمة "شرج" (التى يعترف بعربيتها، والحمد لله أَنِ اعترف بذلك) إلى "Scrotum" أيضا. ولم لا، وكله عند لويس "سكروتم"؟ وسواء كانت الكلمة عربية أصيلة أو كانت مولدة فإنها موجودة فى كل الأحوال منذ قديم الزمن فى لسان العرب، وليست مصرية كما يريد لويس عوض أن يضحك على ذقن قرائه، بل أخذتها العامية المصرية من أمها العربية الفصحى بعد أن غيرت سينها إلى صاد كما صنعت فى بعض الكلمات الأخرى حسبما رأينا!
    ولقد وقف المستشرق الألمانى يوهان فُِكْ فى كتابه: "العربية- دراسات فى اللغة واللهجات والأساليب" أمام هذه الكلمة فى شِعْر ابن حجاج الذى سبق الاستشهاد ببيت منه يحتوى على كلمة "سرم" قبل قليل، قائلا إن "مادة الألفاظ العربية عند هذا الشاعر كثيرا ما يستمدها من لهجة بغداد الدارجة: ستى، راسمال، شوّشَ (أى "أزعج"). وهى غنية بالتعبيرات الدارجة على الأقل فى غزل المذكَّر، مثل الكلمة المولَّدة: "سُرْم"، بمعنى "الدبر"، والصيغة الشعبية لها "صرم". وقد تجنب الكتّاب الملتزمون للدقة، بسبب ذلك، المشتركَ اللفظىّ لهذه الكلمة، وهو "الصرم"، بمعنى "الهجر". وأخذ ابن الأثير على المتنبى استعماله هذا اللفظ الفصيح الذى يكثر فى القديم" (انظر ترجمة الكتاب المذكور للدكتور عبد الحليم النجار/ نشرة د. رمضان عبد التواب/ مكتبة الخانجى/ 1400هــ- 1980م/ 191). هذا، وأرجو أن يتنبه القراء الكرام لكلام فك عن كلمة "رسمال" ووصْفه لها بأنها عامية بغدادية، وهى التى يزعم لويس عوض على طريقته العابثة المضحكة التى لا علاقة لها بالعلم ولا بالعقل أنها عامية مصرية، أى ليست مأخوذة (كما يقول) من كلمة "رأس" الفصحى (التى لا يمكن فى الواقع إلا أن تكون مأخوذة منها)، ويصر على أن أصلها هى و"رأس مال" جميعا كلمة "رس: Res" اللاتينية، بمعنى "ملْك/ ثروة" أو بالمعنى الحرفى: "شىء" (ص 231). فتأمل هذا المنطق المدمر والعناد الأرعن والرغبة الشريرة فى إثارة الفوضى اللغوية.
    وفى ص 409 نجد أن كلمة "طَرْب" (وهى المنديل الدهنى الذى يغشّى الكرش والأحشاء والذى يغرم كثير من المصريين بأكله على هيئة شطيرة محشوة لحما) هى أيضا، حسب دعوى لويس عوض المشرومة، كلمة مصرية، وكأنها ليست محرفة عن "ثَرْب" الفصحى كعادة العامية فى مصر حين تقلب الثاء تاء (وقد تقترب بها من الطاء فى بعض الأحيان)، مثل: "ثَوْم (تُوم)، واثنان (اتنين)، وثلاثة (تلاتة)، وثمانية (تمانية)، وكثير (كتير)، والثالثة ثابتة (التالتة تابتة)، ويثمر فيه الخير (يِتْمَر)، وثنيّة البنطلون (تَنْية)، وثخين (تخين)، وأثرم (أترم)، وثِقَل (تُقْل)، و ثعلب (تعلب)، وثُفْل (تِفْل)، ومُثَلَّم (مِتَلِّم)، وثَمَن (تَمَن)، وثَوْر (تُور)..."، وهذا فى الثاء التى تأتى فى أول الكلمة فقط. وفضلا عن هذا ينبغى أن نتنبه إلى أن مادة "ثرب" مادة واسعة ومتفرعة الدلالات فى لغة بنى يَعْرُب مما يدل على تجذرها فيها وأنها ليست طارئة كما يتصور الدكتور لويس أنه يستطيع أن يوهمنا!
    واضح أنه لا يكلّ ولا يملّ وأن باله آخر روقان، وهل هو خاسرٌ شيئا؟ إن شعاره: إما طابت أو اثنتان عوراوان! ومن روقان باله أن قولنا عمن خسر كل شىء: "خَسَر الجلْد والسَّقَط" يعنى عنده: "خسر الجلد والجلد". أى، كما يقول دائما دون تبصر، "توتولوجى". الله يخرب بيت التوتولوجى وسنينه! ذلك أن "السَّقَط" عنده هو ":Scunt سكونت"، التى تحولت إلى ":Cunt كونت" فـ"Cut: كوت" بمعنى "جلد". يا ألطاف الله! أين أنت يا خواجة بيجو حتى تأتى وترى أن أبا لمعة الأصلى (الله يرحم أيامه!) كان رجلا طيبا ضيّق منادح الخيال والـمَعْر والفَشْر، ولم يكن يستحق كل تلك الفضائح منك. يا أخى، أو إذا شئت: يا والدى، أو إذا أصررت: يا جدّو الدكتور، أنت تعرف تماما مثلما يعرف العبد لله الغلبان الذى أنت مدوّخه ليلا ونهارا (ربنا على القادر المفترى!)، بل إنك لتعرف أفضل ألف مرة من هذا العبد الغلبان، أنه لا توتولوجى ولا يحزنون، وأن المسألة وكل ما فيها، بعيدا عن كل هذه الهَمْبَكَة، أن "السَّقَط" من الذبيحة هو "الكرشة والمصارين والكوارع ولحم الرأس واللسان" وأن الذى خسر الجلد وهذه الأشياء فمعناه أنه خسر كل شىء، لأن هذه الأشياء هى أتفه وأرخص ما فى الحيوان المذبوح، فلو خسرها هى أيضا لكان معنى ذلك أنه خرج من المولد بلا حمص. وإياك أن تجنِّنى بقولك إن "الحمص" مأخوذ من الجذر الفلانى أو الأصل العلانى أو اللفظ الترتانى أو الكانى مانى ودكّان الزلابانى فى السنسكريتية أو الجرمانية العالية أو الإنجليزية الواطئة بنت ستة وستين كلبا... إلى آخر ذلك الكلام الفارغ الذى تسرقه من كتب الأوربيين ثم تأتى لتتمنظر به علينا كتلك القرعاء التى تتباهى بشعر بنت أخت زوج امرأة ابن عمة حَماة جارتها! وكحبيبك وأستاذك محمد مندور سارق جان كالفيه والمازنى كما أثبتُّ بالنصوص والوثائق التى لا تعرف أن تكذب أو تتجمل فى كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة"! صحيح: "صُحْبَةٌ بعضها من بعض"! يا رجل، حرام عليك! أولا تهمد قليلا؟ لقد أصبتنا بالخَوْتَة فى دماغنا! وفى "المعجم الوسيط": "السَّقَطُ: الساقِطُ من كلِّ شيءٍ. و- الرديءُ الحقيرُ من المَتَاع والطعام. ومنه قيل لأحْشَاءِ الذبيحة كالكَرِشِ والمِصْران: سَقَطٌ".
    كذلك فى "المعجم الوسيط" وفى كل المعاجم أن "الأعمش" كلمة عربية فصيحة، بيد أن أستاذنا العبقرى الذى تخرّ عبقريته من كل حرف يكتبه يقول إن كلمة "أعمش" اختراع عامى مصرى مركب من "أعمى" و"أعشى" (ص 242). أرأيتم كيف تكون العبقرية؟ أرأيتم كيف يكون العلم؟ أرأيتم كيف يكون المنهج؟ أرأيتم كيف يكون تأليف الكتب التى لا يستطيعها المتخصصون الكبار فى فقه اللغة عندنا ويستطيعها "واحد ما فيش غيره" هو الأستاذ الدكتور؟ ستقولون لى إن المعجم الوسيط وسائر المعاجم تقول إن الكلمة فصيحة، وأنت يا فلان قد قلته ذلك بعظمة لسانك منذ نصف دقيقة فقط لا غير، فما الذى جرى حتى تغير موقفك بهذه السرعة؟ سأقول لك: انْسَ، أَلْغِ. كلام عيال وحياة والديك! فماذا فى ذلك؟ كان طيشا منى وتراجعت عنه، والرجوع إلى ما قال الدكتور فضيلة، بل "أبلة فضيلة" ذاتها! أوتريدنى أن أقول شيئا غير ما قاله الدكتور؟ أولا تعرف أن كلامه هو الكلام؟ أنا معك فى أن المعاجم تقول إن "الأعمش" كلمة فصيحة وإن معناها، كما جاء فى المعجم الذى ألفه ابن منظور الحقيقى لا ابن منظور القبطى، هو "الفاسد العين الذي تَغْسَِقُ عيناه، ومثله الأَرْمَصُ. والعَمَشُ أَن لا تزالَ العين تُسِيل الدمع ولا يَكادُ الأَعْمشُ يُبْصِرُ بها. وقيل: العَمَش ضَعْفُ رؤية العين مع سيلانِ دمعها في أَكثر أَوقاتِها. رجل أَعْمَشُ وامرأَة عَمْشاءُ: بيِّنا العَمَشِ. وقد عَمِشَ يَعْمَشُ عَمَشًا. واستعمله قيس بن ذريح في الإِبل فقال :
    فأُقْسِم ما عُمْشُ العُيونِ شَوارِفٌ رَوائِمُ بَوٍّ حانِياتٌ على سَقْبِ"
    كما أعرف أنه كان هناك عالم مسلم شهير جدا جدا أشهر من أستاذنا الدكتور ذاته (تَصَوَّرْ!) لقبه "الأعمش". لكن هذا كله لا يغير من واقع الأمر شيئا، إذ ما دام لويس عوض قال، فقوله لا بد أن يمشى، وطظ فى الحق وفى العلم وفى المنهج، لأنه قد رُفِع عنه القلم فيمن رُفِع عنهم، ومن رُفِع عنه القلم فليقل ما يشاء، وقتما يشاء، وفى المكان الذى يشاء، وعلى النحو الذى يشاء، وليخبط رأسه فى الحائط من يشاء، فقد مات العلم ولله البقاء، وسيظل الجهل سيدا رغم أنف الشرفاء من العلماء!
    إذا قالت حَذَامِ فصدِّقوها* فإن القول ما قالت حَذَامِ
    وقد قالت حَذَاِم، فلا بد إذن أن نصدقها لأن قولها هو القول الفصل. ذلك أنها فى ظُهْرِيّةٍ من الظهريّات الصيفية الحارة، وبعد أكلة فول وبصارة معتبرة، ومعها بعض أقراص الطعمية وطبق طرشى بقرون الشطة السودانى وكم حزمة فجل وجرجير وكراث وبصل أخضر بطين البِرَك، أخذت حذام هانم غفوة، وعينك لا تشوف إلا النور، وإذا بها ترى فى المنام (لكن ربك والحق أنا لا أدرى أكانت مغطاة أم لا)، إذا بها ترى كبار رجال مصر بعد دخول العرب فاتحين أرض المحروسة بقليل، وقد اجتمعوا فى ميدان العتبة الخضراء (وأرجو ألا يقول لى أحدكم إن القاهرة كلها على بعضها لم تكن قد وُجِدَتْ بعد، فكيف يكون هناك عتبة خضراء أو حمراء؟ إذ من قال إننا فى سياق تحقيقات علمية؟ نحن فى منامات يا حبيبى، والمنامات لا رقيب ولا حسيب عليها ولا على صاحبها)، المهم أن الست حَذَامِ رأت كبار رجالات مصر وقد اجتمعوا على باب المطافى القائمة فى ذلك الميدان، المطافى التى اشتراها إسماعيل يس فى الفلم المشهور، وهات يا مباحثات حول الكلمة التى ينبغى استخدامها للشخص المصاب بالعمش، وهو مرض مصرى لم يكن العرب يعرفونه حسب بيانات منظمة الصحة العالمية فى ذلك الوقت (أى منظمة صحة عالمية؟ لا أدرى، ولا الميتاطيز نفسه يدرى!)، فلهذا لم يضعوا له اسما، فقال بعضهم: أعمى، وقال بعضهم: أعشى. وظلوا يتجاذبون النقاش حتى دخل عليهم أحد مجاذيب الحسين (ولا يقل أحدكم إنه لم يكن هناك حسين بعد، فهذه منامات كما قلنا)، وإذا به تعجبه الحكاية فتأخذه الجلالة ويتطوح يمينا ويسارا وهو يصيح: أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى، أعمى، أعشى... وظل يكرر الكلمتين على هذا النحو (كما تفعل البنات وهن يقطفن أوراق الوردة التى فى أيديهن: يحبّنى، لا يحبّنى، يحبّنى، لا يحبّنى...) حتى خانه لسانه بسبب الإرهاق كما يحدث لأى منا إذا شرع يكرر عبارة "خشب السقف سبع خشبات"، فخلط بين الكلمتين وقال: "أعمش"! وإذا بالمحتشدين يقومون فيجرون فى الشوارع بلابيص كأرشميدس هاتفين مثله من الفرحة: وجدناها، وجدناها. ومن يومها والمصريون يباهون بإدخال هذه الكلمة فى اللغة، وكذلك فى دبر القمص المنكوح! وشكرا للدكتور لويس على هذا التحقيق التاريخى!
    وكعادتنا نقفز فوق كثير من الصفحات، وإلا فلن ننتهى، كما أن العبرة بأخذ بعض الشواهد ليس إلا، والباقى يستطيع القارئ أن يرجع إليه بنفسه متى أراد. ونقف أمام قوله إن كلمة "سلايّة" (أى الشوكة) عامية مصرية ترجع إلى ذات الجذر الذى يرجع إليه لفظ "Thistle" الإنجليزى، ولفظ كذا الألمانى، ولفظ كَيْت الدانمركى... إلى آخر الموال المحفوظ السمج الذى اعتدنا عليه فى الكتاب. ولأنى، على الأقل فى هذه اللحظة من كثرة ما قرأت هذا الهراء، قد فرغ منى الصبر وضاق الصدر رغم شدة تحملى عادة، فسوف أكتفى بنقل ما كتبه الزبيدى عن هذه الكلمة فى "تاج العروس" وأترك القارئ معه يقرر ما يشاء: "سَلأَ الجِذْعَ والعَسِيبَ سَلاًْ: نزع شوكهما. والسُّلاَّءُ، بالضم، ممدود: شَوْك النخل على وزن القُرَّاء، واحدته سُلاَّءَةٌ. قال عَلْقَمةُ بن عَبْدَةَ يَصف فرسًا:
    سُلاَّءَةً كَعَصا النَّهْدِيِّ غُلَّ لَها* ذُو فَيئةٍ مِن نَوَى قُرَّانَ مَعْجُومُ
    وسَلأَ النَّخْلَة والعَسِيبَ سَلأ: نَزَع سُلاَّءَهما، عن أَبي حنيفة. والسُّلاَّءُ: ضَرْبٌ مِن النِّصال على شكل سُلاَّءِ النخل. وفي الحديث في صفة الجَبانِ: "كأَنما يُضْرب جِلْدُه بالسُّلاَّءِ"، وهي شوكة النخلة، والجمع "سُلاَّء" بوزن جُمّار. والسُّلاَّءُ: ضَرب من الطير، وهو طائر أَغْبَرُ طويل الرجلين". الواقع أننى أحسد الدكتور لويس على طول البال وممارسته لهذا البكش المفضوح دون أن يطرف له جفن أو يختلج له ضمير!
    ولا يقتصر عبث "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على المجال اللغوى، بل يتعداه إلى الإسلام والإساءة إليه. ولنأخذ بعض الأمثلة: فعلى طريقة "سمك لبن تمر هندى" يعتمد أسلوب الإفتاء المصاطبى فى "حياة" و"حواء" و"وَحَوِى يا وَحَوِى إيّاحَه" و"عائشة" و"عست" و"عشتروت" و"إيزيس" و"باندورا" وغير ذلك من أسماء الجنس وأسماء الأعلام جميعا فى نفس واحد وفى فقرة واحدة على بُعْد ما بين هذه الأسماء فى المغزى والزمان والمكان والسياق الحضارى واللغوى، بحيث تختفى فى النهاية الفروق بين الوثنى والإسلامى، وبين اليونانى والمصرى والعربى، وكل هذا دون أدنى أَثَارَةٍ من علم أو أقلّ شبهة من دليل! وهل على منجعصى المصاطب من حرج؟ لقد رُفِع عنهم القلم رفعًا، فمن حقهم أن يضربوا بفتاواهم أينما يعنّ لهم ومتى يحلو لجـُشَائهم! وهات يا دكتور لويس ما لديك، فمغفورة لك خطاياك الشنيعة التى لا أدرى أى شيطان سوَّل لك بها وبثَّها فى رُوعك ووَزَّك على التصايح بها ونَشْرها فى الناس، وكلها عورات وسوآت تفضح صاحبها وتلقى به فى مهاوى الردى وتجعل منه عرضة للتهكم والتشنيع!
    ذلك أنه بعد الهلس الذى أتحفنا به وظن أنه يستطيع تسويقه بين البُلْه المتخلفين الذين هم نحن حسبما زين له شيطانُه (أو لَيْطَانُه) الغبى الأبله المتخلف، وبعد عدة قفزات وشقلباظات فى الهواء لزوم الإبهار انتقل إلى القول بأنه من كلمة "كويه" الجرمانية العالية القديمة خرجت "كويكو" فى الأنجلوسكسونية، ثم "كويك" الإنجليزية (بمعنى "سريع") التى تقابلها فى الفرنسية كلمة "فيت: Vite" المأخوذة من "Vie: حياة"، ثم أضاف أن الجذر فى العربية بالحاء فى "حىّ" و"حياة"، وأننا لو رجعنا إلى هجاء الكلمة الأخيرة قديما لوجدناه "حيوة"، ومن ثم تكون "حواء" مشتقة من "الحياة". وما دام علماء اللغة يربطون بين جذر "حياة" وجذر "عاش" كانت عائشة من نفس الجذر، فهى و"عشت/ عست" (أى الربّة إيزيس) شىء واحد، وكلتاهما صورة من "حواء". ثم يطلب منا أن نقارن هذه الأسماء بــ"عزة وعُزَّى وناعسة" و"عشتار وعشتروت". هل فهمت شيئا أيها القارئ الكريم؟ إن لويس عوض يعتمد هنا على أسلوب "دوخينى يا ليمونة"، لذلك فهو يلقى بالكلام الكثير الذى لا رابط بينه فى سرعة ولهوجة وموالاة دون أن يعطى القراء فرصة للهضم والتمثل والمراجعة لأنه يعلم تمام العلم أنه لا يكتب علما بل هَلْسًا وهَجْسًا، وأنه لو خفف الخناق عن القراء وأعطاهم فرصة لالتقاط الأنفاس فلسوف يكشفون عواره ويتبينون ضحالة علمه وعوار كلامه. إنه يرمى بالأحكام ويقرر النتائج دون أن يقدم دليلا على أى شىء مما يقول، ظنا منه أنه يكفى جنابه أن يقول، فإذا بالجهل يُضْحِى علما، وإذا بالهَلْس يمسى جِدًّا. لكنْ فاته أن هناك من يستطيع أن يتوقف ويوقفه هو أيضا وأن يفضح زيف ما يكتب ويهتك سترته وسوأته، وكل ذلك بالتفكير المنطقى والمنهج العلمى، وإلا فلو كان هذا هو العلم لما كانت العين بكت، وعندئذ فقل على العلم: يا رحمن يا رحيم! إن الناس جميعا بهذه الطريقة يمكن ما بين غمضة عين وانتباهتها أن يصبحوا بقدرة قادر علماء، وعلماء لغة يستطيعون أن يكتبوا مقدمات فى فقه اللغة العربية تناطح السماء وتصل إلى الجوزاء!
    إنه يذكرنى هنا بالشيخ الذى يصف فى "الليلة الكبيرة" الطريق لأحد الريفيين، فإذا به يغرقه فى دوامة من التفصيلات التى تصيب السامع بالدوار من مثل "انعطف يمينا، ثم عد فانعطف شمالا، ثم ارتد من حيث أتيت، ثم ارجع على أعقابك، ثم خذ فى طريقك إلى الأمام، ثم تحول وخذ فى طريقك مرة أخرى إلى الخلف، ثم سُخْ فى الأرض، ثم اصعد فى السماء، ثم طِرْ فى الجو، ثم قَعْ على جذور رقبتك..."، وهكذا حتى فقد الريفى عقله مع انتهاء صاحبنا من وصفته وهو يقول له: "وهكذا تجد نفسك قد تهت"، فيرد عليه الريفى الساذج وهو يهلل ويرقص من الفرح بأنها "وصفة سهلة"، بل "صفة هائلة"، ثم ضاع فى الحوارى فلم يعرف طريقه، ومن يومها وهو لا يدرى كيف الخروج، ولا أهله يعرفون له "طريق جُرّة". أغلب الظن أن صلاح جاهين فى "الليلة الكبيرة" كان يقصد لويس عوض و"مقدمته" التى نحمد الله حمدا كثيرا يليق بجلاله وكرمه أن صاحبها لم يشفعها بــ"مؤخرته"، وإلا لكانت كارثة! ويكفينا مؤخرة الثعلب المصرى الذى حدثنا عنه الدكتور لويس وما تخرجه من روائح عبقة بإيسانس "إف"!
    لكن إذا كان المتكلم أبله فليكن القارئ عاقلا، وليتساءل القارئ العاقل: يا ترى لماذا لم يعرف المصريون قبل الإسلام أسماء "حواء" أو "ناعسة" أو "عائشة"، وعرفوها بعد الإسلام؟ وهل هم ينطقون الاسم الأخير فعلا: "عائشة"؟ أم إنهم يقولون: "عِيشة" بحذف الهمزة وإمالة العين؟ فلماذا إذن يصر لويس عوض المغرم بالعامية والداعى إليها على أن يقول: "عائشة"، وهذا (كما نعرف) هو الاسم الذى نطلقه بهذه الصيغة على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها، ولا رضى عمن يريد الإساءة لها ويعمل على خَلْط الإسلام بالوثنية وتمييع الحدود بين الشرك والإيمان بحيث لا تبقى لأى من الرموز الإسلامية الكريمة مكانتها فى نفوسنا؟ إن هذا ليفسر لنا السر فى حرصه على إمطارنا هنا بأسماء الآلهة الوثنية من كل صوب وحَدَب: من مصر القديمة التى خرجنا والحمد لله من عقائدها الشركية المتخلفة، ومن بلاد سومر وأكاد، ومن بلاد الإغريق، حتى نغرق فى هذا الطوفان فلا نستطيع التنفس ونختنق.
    وهو السر كذلك فى الربط بين هلال رمضان و"باندورا" الإغريقية التى يؤكد الدكتور أثناء حديثه عنها أن أغنية "وحوى يا وحوى إياحة" هى نفسها وصف ميلاد باندورا فى الأدب الإغريقى، وأنها تذكرنا بأسطورة البقرة إيو فى اليونان القديمة. وكنا نحب أن يأتينا بالنص الخاص بميلاد باندورا، وكذلك النص الخاص بالبقرة إيو كى نقارن بين الموضوعين على علم بدلا من نتش المعرفة على السماع ممن لا يمكننا أن نأتمنهم على شىء ومن إذا اضطرتنا الظروف القاهرة على مصافحتهم لسارعنا بجذب أيدينا من أيديهم وعدّ أصابعها للاطمئنان على أنها لا تزال خمسة لم يضع منها شىء! ولكن لا وألف لا، فالحمد لله أنْ وهبنا بصيرة نافذة تستطيع أن تسمع دبة الثعلب المكار من على بعد سبعين خريفا وبذلك نحذر كيده فنعد له مصيدة نمسكه بها ونقيّده ونضع على فمه وأنفه كمامة ونلبسه صديرية كالقرد ميمون ونرقّصه على واحدة ونصف ونجعل منه أضحوكة ومسلاة للأطفال بدلا من أن يختلنا هو ويعيث فى مزارعنا وحظائرنا فسادا! إن الرجل يلدغ لدغته السامة ثم يولى الأدبار قبل أن نتنبه فنقبض عليه ونسحقه، أو على الأقل: قبل أن ننزع زُبَانَاه.
    إن أنشودة "وحوى يا وحوى" هى تعبير عن فرحة المسلمين المصريين بمجىء شهر الصيام لا بميلاد الهلال عموما، وإلا فالهلال يأتى فى العام اثنتى عشرة مرة، فلماذا لا يغنّون له إلا إذا كان هلالا لرمضان فقط؟ ولماذا يبتهلون فى أنشودتهم إلى "الله الغفار"؟ أترى الإغريق كانوا أيضا يشكرون ربهم أنْ مَدَّ فى عمرهم حتى رأوْا هلال رمضان الكريم الذى ينتظرونه بفارغ الصبر من السنة للسنة؟ وهل كان الأطفال الإغريق يطوفون بالشوارع يعلنون مولد هلال الشهر الفضيل ومعهم الفوانيس الملونة طالبين "العادة"؟ ثم ما علاقة "عشتروت" و"نا- عست" بــ"ناعسة" و"عائشة" و"حواء" يا ترى؟ ألا خيبة الله على البكاشين! إن "عائشة" من "العيش"، على حين أن "حواء" من "الحُوّة"، وهو لون الحمرة المشربة بالسواد أو شىء قريب من هذا (ومذكَّره هو "أحوى" كما فى قوله تعالى يصف ما يحدث للنبات بعد أن يجف: "والذى أَخْرَج المرعى* فجعله غُثَاءً أحوى")، ولا صلة بين الاسمين الكريمين وذينك الاسمين الوثنيين كما نرى جميعا! وبالمناسبة فهناك اسم "حياة" (وهو عَلَمٌ للأنثى)، فلو كان المراد بــ"حواء" أنها من "الحياة" لقالوا لها: "حياة" بدلا من ذلك. أليس هذا ما يقتضيه العقل ويقول به المنطق؟ أما قوله إن كلمة "حياة" كانت تكتب قديما: "حيوة" فهو يظن أنه نافعه فى الزعم بأن "حواء" (بالواو، و"كُلّه بالواو" على رأى أحمد رمزى) مأخوذة من "حياة" (بالياء). لكننا نعرف أن الكتابة لا تتماشى دائما مع النطق، والعبرة بالنطق لا بالكتابة، فليست له إذن حجة فى ذلك. وهذا يدل على قلة بضاعته من العلم باللغة التى هجم على دراستها بغشمٍ واعتسافٍ أرعن كما قلنا مرارا.
    أما الربط بين "وحوى يا وحوى إياحه" واللغة المصرية القديمة فيحتاج إلى إثبات أن المسلمين المصريين كانوا ينشدون هذه الأغنية منذ القديم، على الأقل منذ أن اتسع نطاق الإسلام فى أرض الكنانة وأضحى المسلمون يشكلون الأغلبية بين السكان، وإلا فما الذى يجعلهم يتذكرون تلك العبارة المصرية القديمة فجأة بعد كل هاتيك القرون؟ ذلك أنى حاولت أن أعثر على تلك العبارة فى كتبنا القديمة فلم أجدها رغم أن بعضهم تكلم عن عادات المصريين عند دخول رمضان كابن بطوطة، الذى زا بلادنا وعاش فيها زمنا أثناء تجواله فى مناحى الأرض، والجبرتى مؤرخنا المصرى العظيم الذى لم يكن يترك شاردة ولا واردة فى البلاد رآها أو سمع بها إلا أوردها فى كتابه: "عجائب الآثار". وكل ما وجدته عند الأول هو قوله عن قرية إبيار التى تقع على مبعدة ثمانية كيلومترات عن قريتى كتامة الغابة (التابعة لمركز بَسْيُون بمحافظة الغربية): "ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة يوم الرَّكْبَة، وهم يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مُرْتَقَب الهلال عندهم، وقد فُرِش ذلك الموضع بالبُسُط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة".
    أما الجبرتى فقد عثرت فى كتابه المذكور أثناء بحثى تحت عنوان "هلال رمضان" على ستة نصوصٍ هذه بعضها للائتناس بها ليس إلا، وليس فى الباقى أى جديد فى الموضوع. قال فى رؤية الهلال لسنة 1213هـ: "وفيه أعرض حسن آغا محرم المحتسب لساري عسكر أمر ركوبه المعتاد لإثبات هلال رمضان، فرسم له بذلك على العادة القديمة فاحتفل لذلك المحتسب احتفالاً زائدًا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثاء: دعا في أول يومٍ العلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية وغيرهم، وفي ثاني يومٍ التجار والأعيان، وكذلك ثالث يوم، ورابع يومٍ دعا أيضًا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم، وركب يوم الثلاثاء بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وأمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم، وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قائمقام وأمير الحاج وساري عسكر بونابارته، ثم رجع بعد الغروب الى بيت القاضي بين القصرين فأثبتوا هلال رمضان ليلة الأربعاء، ثم ركب من هناك بالموكب وأمامه المشاعل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم، وخلفه عدة خيّالة عارية رؤوسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه".
    وفى رؤية هلال رمضان لسنة 1222 من الهجرة: "وفي ليلة الأحد كانت رؤية هلال رمضان فلم يُعْمَل الموسم المعتاد، وهو الاجتماع ببيت القاضي وما يُعْمَل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحِرَف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي، فبطل ذلك كله ولم تثبت الرؤية تلك الليلة، وأصبح يوم الأحد والناس مفطرون. فلما كان وقت الضحوة نودي بالإمساك ولم تعلم. وفي ليلته بين العصر والمغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة، وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة فعلوا كفعلهم من كل ناحية ومن أسطحة الدور والمساكن، وكان شيئًا هائلاً، واستمر ذلك إلى بعد الغروب. وذلك شنك قدوم رمضان في دخوله وانقضائه". وفى رؤية هلال الشهر المبارك لعام 1229 نقرأ: "وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر أبيب القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه، وكان ذلك اليوم أيضًا ليلة رؤية هلال رمضان، فصادف حصول الموسمين في آن واحد، فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة، ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم، وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد، وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج، فبطل ذلك جميعه ولم يشعر بهما أحد".
    كما حاولت العثور على ذات العبارة عند إدوار وليم لين المستشرق البريطانى المعروف الذى أنفق من عمره سنوات طوالا فى مصر مختلطا بطوائف الشعب المختلفة مشاركا لهم فى أفراحهم وأتراحهم ومرتديا أزياءهم، وصاحب أكبر معجم عربى- إنجليزى (هو "مَدّ القاموس")، ومؤلف أهم كتاب فى "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، فلم أجده أتى بذكر لذلك النشيد رغم أنه لم يكد يترك شيئا يتعلق برمضان والصيام دون أن يدونه فى كتابه الأخير (انظر:An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians, Ward, Lock & Co., 1992, 436- 442). وأحسب أنه لو كان الأطفال المصريون فى عصره ينشدون هذا النشيد عند دخول الشهر الفضيل لسجّله بكل تأكيد، وبخاصة أنه كانت تفتنه مثل تلك المناظر فكان لا يكتفى بوصفها بالقلم، وإنما كان يشفعه بتصويرها بالريشة فى كثير من الأحيان. أما ما قرأته على المشباك فى موقع "بُصّ وطُلّ"، وتحت عنوان "الأغنية الرمضانية"، من أن "أصلها فرعوني: وأن كلمة "أيوح" معناها القمر، وكانت الأغنية تحية للقمر، وأصبحت منذ العصر الفاطمي تحية خاصة بهلال رمضان" فينقصه تقديم النص من كتب التاريخ أو الأدب القديم على هذا الكلام، وهو ما حاولت أن أصنعه مستعينا بمحركات البحث فى عشرات المواقع ومئات الكتب، وعلى رأسها موقع "الوراق" و"الموسوعة الشعرية" التى تضم الشعر العربى كله تقريبا منذ الجاهلية إلى منتصف القرن العشرين وما يقرب من ثلاثمائة كتاب من كتب التراث بعضها يتكون من عدد كبير من المجلدات ككتاب "الأغانى" الذى يضم أكثر من عشرين مجلدا، فلم أخرج بشىء. وفوق ذلك فإن الأطفال لا يقتصرون على إنشاد هذه الأغنية لدى دخول رمضان ورؤية هلاله بل يكررون ذلك كل ليلة، فضلا عن أن كلمات الأغنية لا علاقة لها بأى شىء وثنى من عقائد المصرييين القدامى.
    ومثل ذلك نقوله عند قراءتنا للنص التالى الذى وجدته فى صحيفة "الأخبار" المصرية بتاريخ الأربعاء الخامس من نوفمبر 2003م (الموافق للحادى عشر من رمضان 1424م) لمحمود أحمد فضل، وعنوانه: "وحوى يا وحوى أغنية فرعونية": "من صفات الأغنية الشعبية أن لها بعدا تاريخيا وأن هذا البعد التاريخى موغل في القدم لا يمكن تحديده بدقة متناهية. كما أن للأغنية الشعبية بعدا جغرافيا وأن هذا البعد الجغرافى قد يظل محصورا في منطقة معينة، وقد ينتشر انتشارا واسعا ليشمل القطر كله. ومن الأغانى الشعبية القديمة أغنية "وحوى يا وحوى"، وهي أغنية موغلة في القدم ترجع الي 6 آلاف سنة، وهي أيضا من الأغانى النادرة التي ترددت طوال التاريخ المصرى حتى يومنا هذا بنفس نطق كلمات اللغة المصرية القديمة بخطوطها الأربعة: الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية القبطية. والنص الأصلى للأغنية هو: "قاح وي، واح وي، إحع"، وترجمتها باللغة العربية: "أشرقت أشرقت ياقمر!"، وتكرار الكلمة فى اللغة المصرية القديمة يعني التعجب. ويمكن ترجمتها أيضا: "ما أجمل قرفتك يا قمر!". وأغنية "وحوى يا حوى إيوحه" هي من أغانى الاحتفاء بالقمر والليالي القمرية، وكان القمر عند الفراعنة يطلق عليه اسم "إحع"، بينما كان يطلق على إله القمر اسم "خنسو"، وهو الإله الابن المكمل لثالوث مدينة طيبة، فالأب هو الإله أمون، والأم هي الإلهة موت. والمصرى القديم غنى للقمر "إحع"، ولم يغن لإله القمر "خنسو"، أي غنى للطبيعة ولم يغن للعقيدة. وبعد دخول الفاطميين إلى مصر وانتشار ظاهرة الفوانيس أصبحت الأغنية مرتبطة بشهر رمضان فقط بعد أن ظلت أزمنة مديدة مرتبطة بكل الشهور القمرية".
    وبعد، فإذا لم نجد أحدا من الكتاب المصريين أو الرحالة الذين مروا بها أو المستشرقين الذين زاروها أو أقاموا فيها قد ذكر أن المصريين كانوا يتغنَّوْن بذلك النشيد، فهل من الجائز القول بأنه شىء أُدْخِل على احتفالات المصريين بدخول الشهر الكريم بأُخَرة، وبخاصة أنه غير معروف فى القرى، ولم أسمع به إلا بعد أن كبرت وأخذت أنصت باهتمام إلى البرامج الرمضانية فى الإذاعة؟ لكن من أدخله يا ترى؟ ومتى؟ ولم؟ وما معناه فعلا؟ ألا يمكن أن يكون الكلام عن حِوَاية الدار ضد الثعابين والحيات، وبالذات أن هناك أغنية مصرية مشهورة يؤديها أحمد عبد القادر وتذاع كلما هلّ رمضان، وفيها بعد الديباجة المشهورة عبارة "وحَوِينا الدار"؟ فهل إذا صح ما سمعته (ولم تكن: "وحوى نضار" كما وجدتها مكتوبة فى أحد المواقع، وهو ما لا يعنى شيئا مفهوما) يكون المعنى مثلا: عزّمنا عليها حتى نطرد عنها أذى الزواحف السامة؟ لكن ما علاقة ذلك برمضان؟ أم هل المقصود بحواية الدار حوايتها من العفاريت؟ لكن هل تستخدم هذه الكلمة لطرد الشياطين، وبخاصة أن حلول رمضان نفسه يطرد الشياطين كما يعتقد كثير من المسلمين؟ وربما يجرى فى نفس المجرى هذا البيت من قصيدة وجدتها فى موقع من المواقع المشباكية: "وحوي يا وحوي، وقلبي بيحوي. جرح القدس بقى له سنين". أيا ما يكن الأمر فلنلاحظ أن كلمة "حَوَى (الدار)" مشتق من نفس الجذر الذى منه كلمة "حية". ومن اللغويين من يقول إنها سميت كذلك لأنها تتحوَّى، أى تلتف حول نفسها. كما سُمِّىَ "الحوّاء" بهذا الاسم لأنه يجمع الحيات حسبما جاء فى "لسان العرب" لابن منظور، وهو مصرى كما نعلم.
    وبعد أن كتبتُ ما كتبتُ عن هذه القضية: ما فات منه وما هو آت، رجعت إلى كتاب د. أحمد أمين: "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" فوجدته كتب تحت عنوان "وحوى يا وحوى" أنها أغنية تنتشر فى رمضان ينشدونها بعد الفَطُور وهم يمسكون فى أيديهم بالفوانيس الملونة، وكلما قال المنشد عبارة أجابوه فى نفس واحد: "إياحة"، كقوله: "بنت السلطان" فيردون: "إياحة"، "لابسة فستان/ إياحة"، "بالأحمر/ إياحة"، "بالأخضر/ إياحة"، "بالأصفر/ إياحة". ثم يعقب قائلا: "ولا أدرى معناها: هل هى كلمة مصرية قديمة أو هى مشتقة من "حوى يحوى"، أى عمل كما يعمل الحواة، بدليل قولهم: لولا فلان ما جينا، ولا تعبنا رجلينا، ولا حوينا ولا جينا...؟" (د. أحمد أمين/ قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1953م/ 414- 415). وأرجو من القارئ الكريم أن يتنبه إلى تواضع الكاتب والتعبير عن حيرته ورغبته الصادقة فى الوصول إلى الحقيقة، على عكس الدكتور لويس عوض، الذى لا يبالى إلا بتقرير ما دخل به الموضوع منذ البداية دون اهتمام بمنهج البحث وما يوجبه من التقصى وتقليب الأمر على كل وجوهه ثم إيراد ما توصل له بشىء من الحذر. وتحت عنوان "أغاني الأطفال الرمضانية" فى أحد المواقع المشباكية قرأت ما يلى: "ومن أشهر أغاني الأطفال الشعبية أغنية "وحوي"، وفيها يقوم أحدهم بترديد مقطع، ويرد عليه الأطفال: "إياحا", ولا يوجد معنى حقيقي لكلمة "إياحا"، وقد تعني: "إياها"، أي هي ذاتها".
    كما وجدت لحسَن شكرى فلفل كلمة فى جريدة "الوطن" القطرية تحت عنوان "سهرة شريعى" يقول فيها: "حل شهر البركة وراح عمار الشريعي يؤانسنا كل ليلة من خلال سهراته المنتقاة وضيفانه من أهل المغنى. وأول ما يلفت النظر في هذه السهرات حرص الفنان الشريعي على توجيه المشاهدين إلى أسرار الإبداع فيما يعرضه من أغنيات وموسيقى، وذلك من خلال التفسير اللغوي والشرح الموسيقي الأكاديمي بلغة مبسطة متدفقة كما شاهدناه في تقديم أغنيات مثل "وحوي يا وحوي" حيث ردها الى أصلها اللغوي، وهو "أحوي" بمعنى: أمتلك. "أحوي يا أحوي إياها" بمعنى: أمتلكها، وهي بنت السلطان... إلخ". يقصد أن الأغنية فى أصلها تقول: "وحوى يا وحوى إياحة. بنت السلطان، إياحا. لابسة فستان، إياحا...". وفى موقع آخر هو موقع "الديرة" الخليجى، وتحت عنوان "فولكلور رمضانى" ألفيت الكاتب الذى لم يذكر اسمه يقول إن معنى "وحوى يا وحوى" هو "الْوَحَا الْوَحَا"، أى هيّا عجِّلوا ولا تتأخروا. لكن معلقا نوبيا ظريفا فى موقع "محاورات المصريين" ذكر أن أم أحمس كانت تسمَّى: "إياحا"، ولما انتصر ابنها على الهكسوس خرج الناس إلى الشوارع نحو بيتها يهتفون باسمها تمجيدا وتهنئة لها. ومن هذا يرى القارئ الكريم بنفسه أن ما جزم به الدكتور لويس عوض ليس بالأمر السهل كما أراد أن يوهمنا.
    ومع مضحكات الدكتور لويس عوض نمضى فنقرأ أن جذر "تارَه:Tarah " السنسكريتى (بمعنى "نجمة"كما يقول، رغم أنه لا يوجد فى العربية الفصحى "نجمة"، إنما هو "نجم"، وهو ما يدل على ضحولة معرفة الرجل باللغة موضوع دراسته وفتاواه الشيطانية) قد اشتُقّت منه كلمات "دُرّة" (وجمعها "درارى" بمعنى "نجوم"، ومنها "الكوكب الدُّرِّى" كما يقول) و"ثُرَيّا" و"سِدْرَة" (بمعنى "نجمة" أيضا كما يقول) كما فى "سدرة المنتهى" حسب كلامه، التى هى نفسها كلمة "Ultima siedera" اللاتينية، بمعنى "النجوم الأخيرة" فى هلاويسه (ص 233). نعم هى مضحكات لأن صاحبها يكتب بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، وإليك البيان أيها القارئ العزيز: فأما أن "درة" أو "سدرة" معناها "نجم" فهذا ليس بعربى، ولا حتى خواجاتى، إذ الخواجات الدارسون للغة العربية يعرفون أن "دُرّة" إنما هى "اللولؤة العظيمة"، وأن "الكوكب الدُّرِّىّ" إنما سمى كذلك نسبة إلى الدُرّ "فى صفائه وحسنه وبهائه وضيائه" كما جاء فى "تاج العروس" و"لسان العرب" و"المعجم الوسيط" مثلا، وأن "السدرة" إنما هى شجرة النبق أو شجرة تشبهها لا النجم ولا يحزنون، وأن "سدرة المنتهى" إنما هى آخر الحدود التى سُمِح لجبريل والنبى أن يصلا إليها فى الرحلة السماوية، رحلة "المعراج"، دون أن يتخطياها، أو هى المكان الذى لا يتجاوزه علم مخلوق أيا كان، وهى شجرة عندها جنة المأوى، ولا يمكن أن تكون نجما، إذ لم نعهد أن يسمى نجم باسم شجرة، علاوة على أن اللقاء لا يمكن أن يتم عند نجم من النجوم لأن النجوم تحرق بل تبخّر من مسافات هائلة كما هو معروف، فكيف لو تم اللقاء عندها؟ وهذا مرة أخرى يرينا كيف أن الرجل يكتب دون تفكير.
    وكل ما قلناه هنا فى تفسير "الدُّرّة" و"الكوكب الدُّرِّىّ" و"سِدْرة المنتهَى" تقوله أيضا كتب اللغة وكتب التفسير على السواء، أما لويس عوض فهو يخبطها خبط مكر وإساءة. إن الحديث الآن هو عن عبارات وألفاظ من لغة القرآن الكريم لم يكن الجاهليون يعرفونها، وإلا فهل سبق لأحدهم أن قام بالعروج إلى السماء السابعة ورأى "سدرة المنتهى" كما وقع للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل كان الجاهليون يستخدمون كلمة "الكوكب الدرى"؟ فما مغزى عَمْلة لويس عوض هذه إذن؟ لقد قلنا إنه جاهل بموضوع كتابه، لكن هذا لا يعنى أنه لم يُرِدْ ما كتب ولم يقصد هذا القصد السئ من ورائه، وإلا فعلى الجاهل أن يجتهد فى نزع أغلفة الجهل عن عينه وعقله وقلبه، وهو ما لم يفعله لويس عوض ولم تتجه إرادته إليه، بل كانت إرادته كلها متوجهة إلى الطعن اللئيم فى القرآن؟
    ولقد كان بمكنته أن يرجع إلى كتب اللغة والتفسير حتى لو لم يقتنع بما جاء فيها، وعندئذ كان عليه أن يناقش هذا الذى يعترض عليه ويبدى وجهة نظره فيه. بَيْدَ أنه يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع أن يصمد فى مناقشة تلك الكتب لأنه ليس لديه من العلم ما يمكنه من ذلك، ولأنه لا يريد للقارئ أن يتنبه إلى الجريمة التى يرتكبها، بل يريد أن تكون تلك الجريمة قد تمت قبل أن يعى بهذا الذى يعمله أحد! ثم بعيدا عن الجهل والنيات السيئة هل يستطيع لويس عوض أن يتتبع، تاريخيا (لا تخمينًا عشوائيًّا ولا ضربًا بالودع ولا خَطًّا فى الرمل)، المسار الذى سارته الكلمة اليونانية حتى أصبحت "دُرّة" و"ثريّا" و"سِدْرة" فى لغتنا؟ إن هذا لهو المستحيل ذاته، وإن حاول أن يوهم الأغرار من معجبيه أنه يستطيع ذلك لا بالنسبة لهاته الكلمات الثلاث وحدهن بل بالنسبة لكل مفردات اللغة، وبطرقعة بسيطة من إصبعه. فإذا أضفنا ما استبان لنا الآن من أنه جاهل ولا يعرف الألف من كوز الذرة فى القرآن وفى لغة القرآن، ثم إذا ما أضفنا إلى هذا وذاك ما نعرفه من أغراضه الخبيثة من وراء هذه السفسطات والخزعبلات والبهلوانيات والشقلباظات، ظهرت أمامنا حقيقة الأمر عارية مخجلة! ورغم ذلك كله فإن بعض الناس يسمونه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! صحيح: أساتذة وتلامذة آخر زمن!
    وأشنع من ذلك أن المستشرقين الذين ترجموا القرآن إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهى اللغات الأجنبية التى تحتوى مكتبتى الخاصة على عدد من الترجمات القرآنية بها، لم يُقْدِموا على شىء مما أَقْدَم عليه لويس عوض بدم بارد واستبلاه بلغ الغاية: فمثلا فى ميدان الترجمات الفرنسية يقول كل من كازيمرسكى ومونتيه فى "كوكبٍ دُرِّىّ" فى الآية 35 من سورة "النور": "une étoile brillante"، كما يقول كل من بلاشير وشوراكى: "un astre étincelant"، أما من الترجمات الإنجليزية فقد اخترنا ترجمات جورج سيل ورودويل وبالمر وآربرى، التى جاءت على التوالى هكذا: "a shining star"، "a glistening star"، "a glittering star"، "a glittering star"، ثم نختم بما قاله بعض المترجمين الألمان: ففى ترجمة ماكس هننج تقابلنا "ein flimmernden Stern"، وعند لودفيج أولمان "ein leuchtender Stern"، أما رودى باريت فيترجمها هكذا: "ein funkelnder Stern". فهم جميعا، كما ترى، يترجمون كلمة "دُرِّىّ" على أنها صفة تعنى "شدة الضياء" (تشبيها للكوكب بالدُّرّ فى صفائه وبهائه حسبما سبق القول)، وليست جزءا من اسم عَلَمٍ خاصٍّ بكوكب معين. ونفس الشىء فى ترجمة "سِدْرَة المنتهَى" فى الآية 14 من سورة "النجم"، وها هى ذى بين يَدَىِ القارئ ترجمات المستشرقين السابقين بذات الترتيب: "le lotus de la limite"، "le lotus de la limite"، "le jujubier d'al-Montahâ"، "le lotus de la limite"، و"the lote-tree"، "the Sidra-tree which marks the boundry"، "the lote tree none may pass"، "the Lote-Tree of the Boundry"، و"der Lotosbaum"، "der Lotusbaum an dem nicht vorbeigeschritten werden darf, am Ende aller Ziele"، "der Zizyphusbaum am äuβersten Ende (des heiligen Bezirks?) ".
    بل لقد عاد بعضهم فى الهامش فكرر القول، خلال ما زاده من تفصيلات، بأنها شجرة لا نجم: إذ ذكر كازيمرسكى ومونتيه أنها شجرة تحدّد نهاية الجنة، كما أورد سيل ما قاله علماء التفسير فيها لم يعترض على شىء منه، وهو ما فعله أيضا رودويل، وإن كان قد أورد تفاصيل أكثر، وقال كل من ماكس هننج ولودفيج أولمان إنها شجرة فى السماء السابعة على يمين عرش الله. وحتى بلاشير الذى، بعد أن أثبتَ فى الهامش ما قاله علماء القرآن المسلمون فى تفسير هذه الكلمة، ثَنَّى بتعضيد ما ذكره كايتانى الإيطالى من أن المقصود شجرة على حدود مكة وليست شجرة سماوية، بلاشير هذا لم يفسرها على أنها نجم كما صنع عبقرى زمانه لويس عوض، بل استمر على القول بأنها شجرة من أشجار السدر: "عُنّاب" على وجه التحديد. وأخيرا فإن كلام لويس عوض ليس له من معنى إلا أن صاحب القرآن، أيا كان، لم يكن يعرف اللغة اللاتينية التى استعار منها عبارة "سدرة المنتهى" لأنها فى اللاتينية إنما تعنى النجوم الأخيرة، لكنه أخطأ فحسب أن "سيديرا" اللاتينية تعنى "شجرة السدر"، وإن كان قد خمّن معنى "الأخيرة" وترجمها ترجمة مقاربة فقال: "(الخاصة بـ)"المنتهى"، أما "سيديرا" فاستعصت عليه فظنها "السدرة" وقال: "سدرة المنتهى"، أى "السدرة الأخيرة" أو شيئا من هذا القبيل. مسكين، فهو لا يعرف اللاتينية كما ينبغى! فما هو المغزى من وراء هذا كله إذن؟ طبعا لا يمكن أن يكون فاعل هذا هو الله! ولكن إذا كان هو الرسول فكيف يا ترى جاءته تلك العبارة اللاتينية وحده دون العرب جميعا منذ أن كان هناك عرب ولسان عربى إلى أن كشف السر كله لويس عوض؟
    ليس ذلك فقط، بل إن كلمة "المعراج" عنده مأخوذة من اللفظ المصرى القديم: "'r"، الذى يعنى "الأغنام الصغيرة" ويعنى أيضا فى صيغته الكاملة: "العلو والارتفاع"، كما أن "المعراج" فى اللاتينية هو "Scala Coelum"، أى السُّلَّم، أو إذا أردنا المعنى الحرفى: "سقالة السماء" (ص 274). فانظر إلى شغل البهلوانات الذى على أصوله وتأمَّل، وقَهْقِهْ على هذا الخبص واللبص. فأولا: ما الحكمة فى أن يذكر "أستاذنا الدكتور لويس عوض" هنا فى هذا السياق الكريم، سياق المعراج المحمدى، معنى "الأغنام الصغيرة" لكلمة "'r" التى يقول إنها أصل كلمة "معراج"، بغض النظر عن مدى صحة هذا الكلام أصلا أو لا، إذ إنى لا أثق بــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى ميدان العلم، وبالذات علم اللغة العربية، ولا قدر أنملة! نحن نتكلم عن المعراج، والكلمة المصرية القديمة (حسبما تقول) تعنى "العلو والارتفاع"، فما دخل الأغنام الصغيرة هنا ما دام هذا ليس هو المعنى المطلوب؟ إنه ربط مقصود بين "المعراج المحمدى" (لأنه ليس ثمة معراج آخر فى لغة العرب ولا فى الإسلام دين الناس الذين يكتب لهم هذا الطراش) وبين الأغنام الصغيرة، وذلك بغية الإساءة إلى تلك المعجزة عن طريق الإيحاء. ثم "السقالة السماوية"، ما داعيها؟ لم يبق إلا أن تقول إنه كان هناك فواعلية يبنونها وهم يحملون على أكتافهم قصاع المونة ويغنون: "هيلا هوب هيلا"! ومرة أخرى إنه الربط بنيّة الإساءة إلى المعراج من خلال الإيحاء! ثم إننا نتكلم هنا عن معراج لا عن سقالات، اللهم إلا إذا كان علمه اللدنى قد قال له إنه صلى الله عليه وسلم قد صعد إلى السماوات العلا عند "النجوم الأخيرة: Ultima siedera" التى أفرزها خيالك السقيم على سقالة وسلالم!
    لكن أعود فأقول إننا ينبغى أن نحمد الله ونقبل أيدينا بطنا لظهر، وظهرا لبطن، أنه لم يأتنا الخبر بأن المونة كانت مغشوشة وأن المعراج انهد على رأس المقاول والفواعلية الصعايدة الغلابى (أليس يُبْنَى فى مصر حيث فساد عالم المعمار للرُّكَب؟) وأنه كان واقفا هناك يفرك يديه فى حبور شيطانى تصورا منه أن الرسول قد راح فيها! يا رجل، هذه الألاعيب لا تليق بدنيا العلم، وإن لاقت بدنيا السيرك والعروض المسرحية الشعبية! أية أغنام؟ وأية سقالات؟ يا رجل، هذا لا يصح! ويا ليتك بعد هذا كله جئت بلفظ يقترب من كلمة "المعراج" رغم كل هذا الخبص واللبص! بل كل ما حوته جعبتك هو "'r" التى يقولونها للماعز حين يريدون أن يبعدوها أو يسوقوها أمامهم. يا قراء يا كرام، أرجو أن تنظروا أنتم وتقولوا لى: أين الصلة بين الكلمتين حتى يكون هناك شىء من المعنى فى كل ذلك القىء الذى كُتِب علينا فى هذا الزمن الأغبر أن نقرأه؟ مرة أخرى بالله عليكم أيها القراء المحترمون ما وجه الصلة بين "إر" و"المعراج"؟ يا إلهى، أين نحن؟ أفى بحث علمى أم فى لعبة "الثلاث ورقات"؟ لكن لا، فنحن بكل تأكيد لسنا فى مولد وصاحبه غائب، فما الذى أتى بالحواة إلى هنا بألاعيبهم وكوتشيناتهم؟
    وفى نوبة أخرى من النوبات البهلوانية يجرجرنا الدكتور لويس وراءه جرجرة مرهقة يراد بها إفقادنا عقلنا والتعمية على وعينا حتى نسلم له بالبكش اللغوى الذى يظن أنه قادر على إبهارنا به، مع أنه عند المحققين لا يزيد على أن يكون لعب عيال مثل البمب والسواريخ (وقد كتبتها بالسين عن عمد كى أضعها فى موضعها العيالى الذى لا تسحق أفضل منه) وحبش الأطايلة الذى كنا نلعب به فى الريف ونحن أطفال، ولا أدرى هل ما زالوا ينتجونه حتى الآن أو لا، فى نوبة من هذه النوبات يمطرنا الدكتور لويس بكلام لا رأس له ولا ذنب عن اشتقاقات كلمات "تين" و"جميز" و"توت" وعلاقة بعضها ببعض، شامًّا على ظهر يده مَلِيًّا استجلابا للوحى اللدنى، وهو ما كان يمكن أن نغضى الطَّرْف عنه ونفوّته له كما فَوَّتْنا معظم ما خطَّه فى كتابه السطحى من هلاوس وتشنجات، إلا أنه (كعادته كلما سنحت له فرصة) لم يطق أن يسكت عما يجنّه ضميره تجاه القرآن فقال إن شجرة "سيكامينوس" فى اللاتينية (و"سوكامينوس" فى اليونانية)، ومعناها شجرة التوت، هى فى الغالب شجرة "الزقوم" فى الأدب الدينى. ولم يكتف بهذا على شناعته وبشاعته، بل أتحفنا بتحفة أخرى لا تقل شناعة عن هذه فقال إن اسم "التين الشوكى"، رغم أنه حرفيا وظاهريا مأخوذ من "شوك"، هو فى الواقع مشتق من الجذر "كاكتوس: Cactus"، ومعناه "الصبار"، فهو تعبير توتولوجى بمثابة قولنا: "تين التين" (ص 517- 518).
    فأما هذا "التوتولوجى" فقد بينا من قبل أنه هَلْسٌ فى هَلْسٍ، فلا حاجة بنا إلى العودة إليه، وأما أن "التين الشوكى" مأخوذ حرفيا وظاهريا كما يقول لويس عوض (وأزيد أنا فأقول: ومعنويا أيضا، إذ إن قشرته وأوراقه مملوءة بالشوك) من الجذر: "شوك"، رغم إصراره على أنه ليس مأخوذا فعلا من هذا الجذر بل من كلمة "كاكتس" التى تعنى الصبار ولا علاقة لها بالتين من قريب ولا من بعيد، فهو الخَرَف بعينه، نعوذ بالله من الخرف ومن أهل الخرف ومن كل شىء يمت بصلة للخرف ومن كل طريق يؤدى بنا إلى الخرف والخرفان على السواء: ذلك أن الصبار مر، والتين حلو، ومن ثم كان الصبار لا يؤكل، بينما التين يؤكل. ثم ما حكاية "تين التين" هذه؟ أترى التين الآخر الذى نسميه فى مصر بــ"التين البرشومى" ليس "تين التين" بل "تين الزيتون" مثلا؟ أم تراه "تينا" فقط دون التكرار الذى يعلّم الشطّار، على حين أن التين الشوكى "تينان اثنان"؟ بالله ما هذا السخف؟ وما هذا التنطع؟ وماذا يقول لويس عوض فى أن أهل الخليج يطلقون على "التين الشوكى": "التين البرشومى"، ويسمون "التين البرشومى" أو شيئا قريبا منه: "الحماط"؟ هيا أرنا شطارتك يا دكتور لويس! ومثل ذلك قوله إن "دودة القز" و"سوق عكاظ" معناهما فى الأصل: "دودة الدودة" و"سوق السوق" (218) على التوالى. "يا صلاة النبى" على رأى إسماعيل يس!
    ثم نأتى لــ"شجرة الزَّقُّوم" التى يرجح سيادته أنها هى التين قائلا إنها وردت فى الأدب الدينى. وهو هنا يهدف إلى عدة أشياء: الأول إشاعة الاضطراب فى النص القرآنى وفى فهمه وتفسيره على السواء. ذلك أن القرآن المجيد قد صرح عقب ذلك بأنها "شجرة تخرج فى أصل الجحيم* طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين"، فكيف تكون تينا بالله عليكم أيها القراء؟ هل التين ينبت فى أصل الجحيم؟ وهل طلعه يشبه رؤوس الشياطين؟ أَمَا إن البعداء ليس عندهم دم ولا عقل. ثم كيف يكون الجحيم جحيما إذا كان فيه توت؟ الواقع أنه لو كان كلام لويس عوض صحيحا لهتفت من أعماق قلبى أَنْ خذونى من هنا إلى الجحيم خبط لزق. ذلك أنه فى هذه الحالة لن يكون جحيما بل جنة فواكه! لكن أيها القراء الكرام، هل تظنون أن كلمةً ككلمة"الزَّقُّوم" التى تقطع الخميرة من البيت بوجهها الكالح البغيض وجَرْسها الغليظ يمكن أن يكون معناها "التوت"، تلك الفاكهة الرقيقة الأنيقة الحلوة؟ والله لو لم يكن للويس عوض إلا هذه السقطة لكفته عارا إلى الأبد! لكن ماذا نفعل وعندنا من يسميه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟
    وثانيا متى كان القرآن الكريم يسمَّى: "أدبا دينيا"، وعلى هذا النحو الوقح من التجهيل؟ القرآن الكريم، يا سيد يا محترم يا من أخبرنى أحد من يعرفونك أنك لم تكن تستطيع أن تكتم حقدك الشديد كلما سمعت كتاب الله يتلى فى إذاعة القرآن الكريم وتدعو إلى إغلاقها: يا سيد يا محترم، القرآن الكريم وحى سماوى نزل على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وليس مجرد "أدب دينى"، وتسميته "أدبا دينيا" هو قلة أدب دينى ودنيوى معا! صحيح أن لويس عوض لم يكن يؤمن بالقرآن بوصفه وحيا سماويا، فليكن، وهذا حقه، لكنه كان يستطيع أن يقول: "القرآن" حتى دون أن يصفه بــ" الكريم" بدلا من حكاية "الأدب الدينى"، التى تعنى أن "شجرة الزقوم" موجودة فى العهد القديم وفى العهد الجديد وفى غيرهما من الآداب الدينية التى خطّتها يد البشر. فهل "شجرة الزَّقُّوم" موجودة فى تلك الآداب الدينية؟ بطبيعة الحال كلا وألف كلا! إننى أقلب الأمر على جميع وجوهه لأبين للقارئ ماذا يتغيّا السيد المحترم الدكتور لويس عوض. إن السيد المحترم يتغيا من وراء هذا أن يضرب القارئ المسلم فى صميم عقيدته دون أن يتنبه هذا القارئ للضربة عند وقوعها، ثم إذا ما تنبه يفاجأ بأن القرآن لم يعد قرآنا، بل تحول إلى "أدب دينى"، فهى ضربة معقدة إذن. ثم ماذا يعنى أن "الزقوم" هو التوت وأنه مأخوذ من الكلمة التى لا أدرى إلى أية لغة أوربية تنتمى بعد أن أنبأنا الدكتور لويس أن القرآن هو مجرد"أدب دينى"؟ الذى يعنيه هذا هو أن صاحب القرآن قد أخذ هذه الكلمة من تلك اللغة الأجنبية، إذ لم يكن العرب يعرفونها قبل أن يأتى بها القرآن، ومن ثم لا يمكن توجيه تهمة أخذها إليهم، بل إلى القرآن والذى ألفه! أرأيتم مدى الالتواء فى الكيد والخبث والإساءة؟
    وكل هذا فى جهل بالعلم وبمنهج العلم! وهو أمر طبيعى تماما، فالبكاشون يكرهون العلم ويحاذرون الاقتراب منه كما يحاذر القاتل واللص الاقتراب من قسم الشرطة ورجال الشرطة! ولنفترض بعد هذا كله أننا قلنا مع كل بكاش نتاش إن الجذر واحد بالنسبة للكلمة العربية والكلمة الأجنبية، فلماذا بالله عليكم أيها القراء ينبغى أن تكون الكلمة القرآنية هى المأخوذة من اللغة الأجنبية وليس العكس؟ أترى العرب كانوا متخلفين لا يستطيعون أن ينتجوا التوت فكانوا يستوردونه من أوربا البلد واستوردوا معه اسمه؟ وهل زَرْع التوت يحتاج إلى علم وتقنية خاصة لم يكن يقدر عليها العرب والقرآن؟ فهذه هى عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" كما سماه أحد تلاميذه العباقرة مثله! ومن شابه أستاذه فى هذا النوع من العبقرية فقد ظلم!
    وفى علم الكلام أيضا لا يتورع "أستاذنا الدكتور لويس عوض" عن عبثه المعتاد، إذ يزعم مثلا أن الشهرستانى بقول بتأثر المعتزلة بالفلاسفة وبالنساطرة النصارى واليهود (ص90- 91). فأما بالنسبة للجزء الأول من دعواه فقد قال ذلك العالم عن كبار المعتزلة إنهم قرأوا أقوال الفلاسفة وخلطوها بكلامهم. لكنه لم يقل، عند كلامه عن واصل بن عطاء والنظّام والجاحظ، إنهم تأثروا بفكر النساطرة وبمفكرى النصرانية أمثال يحيى الدمشقى وتيودور أبى قرة كما زعم لويس عوض. كل ما وجدته هو قول العالم المسلم عند كلامه عن فرقة النسطورية النصرانية إنهم "أصحاب نسطور الحكيم الذى ظهر فى زمان المأمون وتصرف فى الأناجيل بحكم رأيه، وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة" (الملل والنحل/ تحقيق محمد سيد كيلانى/ مكتبة مصطفى البابى الحلبى/ 1396هـ- 1976م/ 1/ 224). ثم قال بعد عدة أسطر: "وأشبه المذاهب بمذهب نسطور فى الأقانيم أحوال أبى هاشم من المعتزلة، فإنه يثبت خواصَّ مختلفةً لشىء واحد". ثم بعد عدة فقرات نقرأ هذه العبارة: "ومن النسطورية من ينفى التشبيه ويثبت القول بالقدر خيره وشره من العبد كما قالت القَدَريّة (أى المعتزلة)" (1/ 225). فهذا ما قاله ذلك العالم، وكما نرى معا فليس فيما قال أى شىء عن تأثر المعتزلة بالنساطرة، بل كل ما هنالك قوله إن هناك شبها بين بعض آرائهم وبعض آراء المعتزلة، الذين لم يذكر منهم إلا أبا هاشم، ولم يتعرض لواصل ولا النظّام ولا الجاحظ من قريب أو بعيد.
    وبالمناسبة فواصل بن عطاء قد توفى سنة 131هـ، أى قبل عصر المأمون الذى يقول الشهرستانى إن نسطور إنما ظهر أثناءه، بعشرات الأعوام، فكيف يقال إنه تأثر بنسطور هذا؟ وذلك إن سلمنا بما قاله الشهرستانى عن العصر الذى ظهرت فيه عقيدة نسطور، أما إذا علمنا أن نسطور، وكان بطرقا للقسطنطينية، إنما عاش قبل الإسلام بزمن طويل (إذ وُلِد فى 386م، ومات فى 451م) تبين لنا أن النص الذى يستند إليه الدكتور لويس لا قيمة له من هذه الناحية لأن صاحبه، حسبما هو بيّن، يتكلم عن مسألة غير واضحة فى ذهنه. وهذا ما قصده ابن الأثير حين قال فى كتابه: "الكامل فى التاريخ": "ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّفَ كتاب "نهاية الاقدام في الأصول"، ومصنّفَ كتاب "الملل والنحل" في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرَّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقا". وعلى أى حال فكما رأينا لم يقل الشهرستانى إن المعتزلة قد تأثروا بنسطورس أو غير نسطورس من النصارى، بل كل ما هنالك أنه رأى شبها بين بعض آرائهم وبعض آراء هؤلاء، وجعل الأساس فى هذا الشبه غالبًا هم المعتزلة لا العكس، ولهذا دلالته التى لا تخفى من أنه لا يمكن أن يكون مقصده القول بأن المعتزلة تأثرت بالنساطرة أو سواهم.
    وأما دعوى لويس عوض بأن الشهرستانى يقرر تأثر المعتزلة باليهود فقد استند فيه إلى قول ذلك العالم الجليل عن اليهود وموقفهم من عقيدة القضاء والقدر: "وأما القول بالقَدَر فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين فى الإسلام: فالربّانيون كالمعتزلة فينا، والقرّاؤون كالمجبِّرة والمشبِّهة" ( 1/ 212). فأين، بالله عليك أيها القارئ المحترم، فى هذا النص ما يُفْهَم منه، ولو على سبيل التمحّل البعيد، أن المعتزلة قد تأثروا باليهود؟ إن كل ما قاله الرجل هو أن هناك شبها بين فكر اليهود فى عقيدة القدر وفكر المعتزلة فى ذات القضية. كما أنه إنما يشبّه اليهود هنا بالمعتزلة لا العكس. وهذا، كما هو واضح حتى لمن لا يبصر، شىء، والزعم بما زعمه لويس عوض عن الشهرستانى شىء آخر. وتفسير ذلك فى رأيى أحد أمرين: فإما أنه لم يفهم ما قرأ، وهذا أمر عادى عنده كما رأينا وكما سنرى، وإما أنه فهم ما قرأ، لكنه يريد أن يجعل الفرقة العقلانية فى الإسلام مجرد تابعة فى أفكارها لليهود والنصارى. والواقع، حسبما أتصور، هو أنه لا يدقق فى القراءة والفهم بوجه عام، ومع هذا فإنه ما إن وقع على شىء ظن أنه يمكن توظيفه فى الإساءة إلى المسلمين حتى سارع إلى الابتهاج به والطنطنة بما فهمه منه دون أن يتريث قليلا ليتبين مدى صحة فهمه لما قرأ.
    *****
    وإلى جانب قلة البضاعة العلمية فى الكتاب الحالى هناك عيب التدليس. ومما دلس به "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على القراء بالكذب والباطل قوله إن لفظ "الصمد" يدل على التثليث! يا خبر أسود ومطيّن! هكذا مرة واحدة؟ ألم يجد إلا "الصمد"؟ بلى لم يجد، أو بالأحرى، لم ينتق إلا "الصمد" عن وعىٍ وسبقِ تخطيطٍ وحقدٍ على القرآن الكريم، الذى فضح التثليث وكفّر القائلين به ووسمه ووصمه بأنه شرك صراح لا مثنوية فى ذلك! ولكن كيف توصل بسلامته إلى ذلك الخرف؟ لقد زعم كاذبا (ص 304) أن كلمة "الصمد" مأخوذة من "خمتو" المصرية القديمة التى تعنى الرقم 3، وهذا إن صدقنا هذا الذى يقول لأنى، كما أكرر دائما، لا أثق بهذا النوع من الكتاب أبدا، ولو كان كُتِب علىّ يوما أن أصافحه لسحبت يدى من يده بسرعة ولعددت أصابعها حتى أتحقق أنها كاملة وسليمة لم تُمَسّ. ترى ما العلاقة بين "الصمد" و"خمت"؟ وهل يمكن لويس عوض أو أى لويس غير عوض أو أى عوض غير لويس أو أى إنسان بأى اسم غير لويس وعوض جميعا أن يثبت لنا أن "الصمد" هى "خمت" المصرية القديمة؟ بل هل هناك أى سبب يدعو إلى القول بهذا الهلواس؟ لا المعنى هو المعنى، ولا الحروف هى الحروف، ولا التشكيل هو التشكيل. ثم لماذا كان على العرب أن يغيروا فى نطق حروف كلمة "خمت"؟ هل ثَمَّ شىء فيها لا وجود له فى لسانهم، قَصَّ الله لسان كل كاذب فشّار؟ لا، بل كل حرف فيها موجود فى لغة العرب، والحمد لله! الخاء موجودة، والميم موجودة، والتاء موجودة، فلماذا إذن حين انتقلت تلك الكلمة إلى اللغة العربية كان عليها أن تتغير إلى "صمد"؟ ولماذا "الصمد" بالذات رغم أنه لا يربطها شىء بكلمة "خمت" كما قدمنا"؟ نعم لماذا الصمد بالذات، وليس "خمط" مثلا أو "خمد"؟ ولا يقل أحد إن هاتين الكلمتين لا تعنيان الرقم ثلاثة، فإن "الصمد" أيضا لا تعنى هذا المعنى، ومع ذلك فقد زعم لويس عوض بشأنها ما زعم! أما هاتان الكلمتان فعلى الأقل تشبهان كلمة "خمت"، على العكس من "الصمد" التى لا تشبهها من قريب أو بعيد! واضح من كل ما تقدم أن لويس عوض قد قصد قصدا كلمة "الصمد" ليصوب لها سهمه، تلك الكلمة التى لم ترد إلا مرة واحدة فى القرآن، وفى سورة اقتصرت على إقرار مبدإ التوحيد ونفى التثليث حتى لقد أصبحت هذه الكلمة اسما للسورة وعلامة على الوحدانية وإنكار التثليث واستنكاره على أهله، ولكن طلع نقب "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على شونة، فالعلم دائما للجهل بالمرصاد!
    كذلك لماذا هذا الرقم بالذات يا ترى دون سائر الأرقام من أولها إلى آخرها؟ أعلى رأسه ريشة؟ لكن هأنذا أستدعيه وأوقفه أمامى و"أُتْئِر فيه النظر" (كما كان يقول المازنى أو شيئا قريبا من ذلك) لأرى هل ثَمَّ وجود لهذه الريشة أَوْ لا، بل لقد مددت يدى وتحسست رأسه طويلا لعلى فاتنى أن أرى تلك الريشة اللعينة بعينى فألمسها بيدى وأتحقق من وجودها، لكن كانت النتيجة "سلبية" حسب المصطلحات التى تستخدمها تقارير معامل الأشعة وتحليل البول والبَرَاز. هل يمكن أن نصدق أن العرب لم يكونوا يعرفون هذا الرقم وظلوا يقفزون فوقه كلما عن لهم أن يعدوا شيئا قائلين: واحد، اثنان (ثم يقفون قليلا حائرين بائرين لا يُحِيرون كلمة إلى أن تضيق صدروهم بذلك التوقف الطويل الذى لا ثمرة ترجى من ورائه فيضطروا إلى الاستمرار مضيفين وأمرهم إلى اللهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أربعة، خمسة... حتى وجدوه فى المصرية القديمة فأعجبهم شكله وحسن هندامه وأدبه الذى ينبئ أنه ابن ناس ومتربٍّ واطمأنوا أنه لن يسبب لهم أى إزعاج فأخذوه ووضعوه مع زملائه بعدأن أَوْصَوْهم به حتى يأخذ عليهم ويأخذوا عليه؟ لكن هل هذا ممكن؟ أجل أيمكن أن تكون هناك أرقام ناقصة رقما، وبالذات من أرقام الآحاد التى هى أصل كل الأرقام؟
    أما قوله إن معظم الأرقام متقاربة بين العربية والمصرية القديمة، ويدلل على ذلك بأن "وع" تقابل الرقم واحد، وسنو تقابل الرقم اثنان، وسفح تقابل الرقم سبعة، فهو كما يرى القارئ كلام لا يدخل عقلا ولا يرضى أى ضمير علمى. هل كان العرب عاجزين عن نطق أى حرف من حروف الأرقام المصرية القديمة حتى يحوروها كل هذا التحوير؟ الإجابة هنا، كهناك، هى النفى التام! ثم لماذا هجر العرب الرقم "صمد" الذى يقابل رقم "خمت" هذا وقالوا: ثلاثة؟ ومتى تم هذا الهجران يا ترى؟ ولماذا؟ وهل يستطيع هو أو غيره أن يمدنا بنص عربى يرد فيه لفظ "صمد" بمعنى "ثلاثة"؟ أم هل هناك فى أى معجم عربى أنها تدل، فيما تدل عليه، على الرقم ثلاثة؟ وإذا كانوا قد استعملوه ثم هجروه لأى سبب من الأسباب (ولا داعى للتفتيق فى الأمر، فالله حليم ستار، وقد أمرنا بالستر)، فلماذا ظلوا محتفظين به، ولما أرادوا أن يفعّلوه (على كراهيتى لتلك الكلمة) لم يجدوا مجالا يستعملونه فيه إلا أسماء الله الحسنى؟
    وإذا كان النصارى المصريون القائلون بأنهم، دون نظرائهم من المسلمين، هم وحدهم سلالة المصريين القدماء (الذين كان لديهم هم أيضا ثالوث كما لدى النصارى) لم يأخذوا هذه الكلمة ليستعملوها فى الدلالة على العقيدة المحورية فى ديانتهم، عقيدة التثليث، فكيف يمكن أن نتصور أخذ العرب الجاهليين لها، وهم لم يكونوا يعرفون التثليث يوما؟ ثم كيف، فوق ذلك، لم يجد القرآن لوصف "الله" إلا هذه الكلمة التى تتناقض مع عقيدة الوحدانية فيه، تلك العقيدة التى يدور حولها الإسلام من أوله إلى آخره، ويختلف بسببها مع النصرانية الحالية اختلافا جذريا حتى لقد سفهها وسفه من يعتنقونها ويشركون مع الله عيسى والروح القدس جاعلين الوحدانية ثالوثا؟ بل كيف، بعد ذلك كله، لم يجد العرب الأوائل إلا المصريين القدماء كى يأخذوا منهم هذا الرقم؟ ألم يكونوا يعرفون أن لويس عوض سوف يأتى فى آخر الزمان ويفتح لهم هذا الملف ويشوشر على الدين الذى سيأتى به واحد من أبنائهم فيما بعد؟
    على أية حال تعالَوْا نقرأ معا مادة "صمد" فى بعض المعاجم. يقول "القاموس المحيط": "الصَّمْدُ: القَصْدُ والضَّرْبُ والنَّصَبُ، وماءٌ للضِّباب، والمكانُ المُرْتَفِعُ الغَلِيظُ، وتأثيرُ لَفْحِ الشمسِ في الوَجْهِ. وبالتحريك: السَّيِّدُ لأَنَّهُ يُقْصَدُ، والدائمُ والرفيعُ، ومُصْمَتٌ لا جَوفَ له، والرجلُ لا يَعْطَشُ ولا يَجوعُ في الحَرْبِ، والقومُ لا حِرْفَةَ لهم ولا شيءَ يَعيشونَ به. وككتابٍ: سِدادُ القارورَةِ أو عِفاصُها، وقد "صَمَدَها" كــ"مَنَع"، والجِلادُ والضِّرابُ وما يلُفُّهُ الإِنْسانُ على رأسِه من خِرْقَةٍ أو مِنْديلٍ دون العِمامَةِ. والصَّمْدَةُ: صَخْرَةٌ رأسِيةٌ في الأرْضِ مُسْتويةٌ بها أو مُرْتَفِعةٌ، والناقةُ المُتَعَيِّطَةُ التي لم تَلْقَحْ. والمُصَوْمِدُ: الغليظُ. والمُصَمَّدُ، كــ"مُعَظَّم": المقصودُ، والشيءُ الصُّلْبُ ما فيه خَوَرٌ. وناقةٌ مِصْمادٌ: باقِيةٌ على القُرِّ والجَدْبِ دائمةُ الرِّسْلِ. ج "مَصامِدُ ومَصاميد"...". وفى معجم "المحيط": "الصَّمَدُ: من أسماء اللهِ الحسنى: "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ". -: المقصود لقضاء الحاجات: "توجهنا إلى هذا الصَمَد لحلّ مشكلتنا". -: المُصْمَتُ الذي لا جوف له". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى النصرانى: "الصّمَد من صفاته تعالى وتقدّس لأَنه أُصْمِدَتْ إِليه الأُمور فلم يَقْضِ فيها غيره. وقيل: هو المُصْمَتُ الذي لا جَوْفَ له، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. والمُصْمَدُ: لغةٌ في المُصْمَت، وهو الذي لا جَوف له. وقيل: الصَّمَد: الذي لا يَطْعَم. وقيل: الصمد: السيِّد الذي ينتهي إِليه السُّؤدَد. وقيل: الصمد: السيد الذي قد انتهى سُودَدُه. قال الأَزهري: أَما الله تعالى فلا نهاية لسُودَدِه لأَن سُودَدَه غير مَحْدود. وقيل: الصمد: الدائم الباقي بعد فناء خَلقه. وقيل: هو الذي يُصمَد إليه الأَمر فلا يُقْضَى دونه، وهو من الرجال الذي ليس فوقه أَحد. وقيل: الصمد: الذي صَمَد إِليه كل شيء، أَي الذي خَلق الأَشياءَ كلها لا يَسْتَغْني عنه شيء، وكلها دالّ على وحدانيته. ورُوِيَ عن عمر أَنه قال: أَيها الناس، إِياكم وتَعَلُّمَ الأَنساب والطَّعْن فيها. فوَالذي نفسُ محمد بيده لو قلت: لا يخرج من هذا الباب إِلا صَمَدٌ ما خرج إِلا أَقَلُّكم. وقيل: الصَّمَد: هو الذي انتهى في سُؤْدَده والذي يُقْصَد في الحوائج. وقال أَبو عمرو: الصمد من الرجال: الذي لا يَعْطَشُ ولا يَجوع في الحرب. وأَنشد :
    وسَاريةٍ فَوْقَها أَسْوَدُ* بِكَفِّ سَبَنْتَى ذَفيفٍ صَمَدْ
    قال: السارية: الجبل المُرْتَفِعُ الذاهبُ في السماء كأَنه عمود. والأَسْوَد: العَلَم بِكَفِّ رجل جَرِيء. والصَّمَد: الرَّفَيعُ من كل شيء" .
    فهذه نصوص مأخوذة من ثلاثة معاجم عربية (مادة "صمد")، وكما يلاحظ القارئ ليس فيها أى شىء يتعلق بالرقم ثلاثة من قريب أو من بعيد. وكان لويس عوض قد أورد فى مذكرة رفعها للقضاء أثناء نظر قضية كتابه هذا نُسَخًا لما جاء فى ذات المادة فى عدد من أشهر معاجم اللغة قديما، وليس فى أى نص منها ما يشير إلى علاقتها بالأرقام، بله الرقم ثلاثة بالذات. لكنه أخذ يسفسط ويجادل قائلا إن كلمة "صمد" ملغزة غير واضحة المعنى لتعدد دلالاتها، ولأن بعض معانيها لا يليق بالله، غافلا (أو قل: متغافلا) عن أن معظم كلمات اللغة تدل على عدة معان، وأن الصلة بين هذه المعانى قد تكون خافية فى بعض الأحيان بحيث يصعب أو يستحيل التوصل لها نظرا لما يكون قد اعترى اللغة من تطور فى الاستعمال والدلالة، وأن الكلمة التى تستعمل فى الكلام عن الله والبشر جميعا لا بد أن يراعى فى استعمالها هذا الاعتبار، كلفظ "العِلْم": فهو بالنسبة للبشر محدود ومكسوب وموهوب ومؤقت وعرضة للخطإ والنقص والزيادة ولا يشمل كل شىء، أما بالنسبة لله فهو ذاتى لم يُوهَبْه سبحانه أو يَكْسِبْه، بل هو صفة ملازمة له أزلا وأبدا، فضلا عن أنه مطلق لا تحده حدود ولا يعتريه نقص ولا زيادة ولا خطأ مثل سائر صفات الله سبحانه. وقس على ذلك صفة الرفعة والمجد والرحمة والقدرة والإرادة. بل إن هناك صفات إذا وُصِف بها البشر كانت مَذَمّة، لكن إذا وصف بها الله انتفت عنها صفة الذم. مثال ذلك المكر والنسيان، ففى القرآن: "ومَكَروا ومَكَر الله، والله خير الماكرين" (آل عمران/ 49)، و"نَسُوا الله فنَسِيَهم. إن المنافقين هم الفاسقون" (التوبة/ 67)، وهو ما يأتى عادة فى سياق المشاكلة، أى استخدام صفة لله لا يوصف بها عادة، كى تكون هناك مشاكلة مع نفس الصفة التى وُصِف بها البشر فى ذات الجملة. وعلى هذا فلا معنى لاحتجاج "أستاذنا الدكتور لويس عوض" بأن الفعل "صمد" معناه "قصد"، ومن ثم لا يصلح لاستعماله مع الله، أو أن "الصمد" هو "السيد الذى تنتهى إليه السيادة"، ومن هنا لا يصلح لاستعماله لله... إلخ. ذلك أنه إذا استُعْمِل اللفظ لله كان لا بد من مراعاة معنى الألوهية فيه كما سبق القول ولا يظل اللفظ على محدوديته. وعلى هذا فــ"الصمد" إذا وُصِف به الله كان معناه أنه سبحانه هو مقصود كل الخلائق، وَعَوْا هذا أم لم يَعُوه، وأقرّوا به أم لم يُقِرّوا، إذ إن حياتهم وبقاءهم وإشباع حاجاتهم لا يتم إلا من خلال عطائه وكرمه، وأنه عز وجل هو صاحب السيادة والسلطان والرفعة والمجد التى تُسْتَمَدّ منهما كل سيادة وكل سلطان وكل رفعة وكل مجد، وإليه وحده تعالى ينتهى كل شىء.
    وفوق ما مرّ فإن السياق الذى وردت فيه الكلمة يحدد المعنى إلى حد كبير. فهل فى سياق سورة "التوحيد"، وهو السياق الأصغر للكلمة، أو فى سياق القرآن كله، وهو السياق الأكبر، ما يمكن أن يشير إلى أن هذه الكلمة تعنى "ثلاثة"؟ وهل فيها ما يستطيع الاستنادَ إليه أى إنسان فى الزعم بأنها تعنى "بناء التوحيد على قبول نظرية "الانبثاق" (Transubstantiation) ورفض مساواة المسيح لله فى الجوهر (Consubstantiation) فى أهم مدرستين للاهوت المسيحى نبعتا من الفكر البيزنطى" كما يقول سيدنا لويس بن عوض؟ كذلك يفسر لويس عوض "الانبثاق" بأنه لا يخرج عن قوله سبحانه فى القرآن الكريم: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشرا سويا" (مريم/ 17)، وقوله عز من قائل: "ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" (التحريم/ 12)، وقوله تعالى: "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فآمِنوا بالله ورسله، ولا تقولوا: ثلاثة. انتهُوا خيرا لكم. إنما الله إله واحد، سبحانه" (النساء/ 171). لكن بالله عليكم أيها القراء كيف يمكن لكلمة تعنى "ثلاثة" أن تدل على "واحد"؟ وهلا أرانا المؤلف المحترم كيف تطور معنى الكلمة بحيث أضحى يدل على الواحد بدل الثلاثة؟ واضح أن ذلك العبقرى كان يظن أنه سيكون بمنجاة من التبعات حين يحتقر عقولنا نحن القراء. ولكى يتبين القراء أن لويس عوض لم يكن بريئا فى جهله نعيد تذكير القراء الكرام بأن بعض المواقع النصرانية التى تهاجم الإسلام قد نشرت كتابه نكاية فى المسلمين، وأن القمص المنكوح ذا الدبر المقروح زيكو الشرشوح يملأ الدنيا ضجيجا بالتفعيص فيما فعّص فيه لويس عوض.
    لكن، بغض النظر عن كل هذا الهلس، أتعرف أيها القارئ الكريم ما معنى هذا الـ"Transubstantiation"؟ أرجو أن تستعد لهذه المفاجأة المذهلة، إذ إن معنى الكلمة هو أن الخبز والخمر اللذين يطعمهما النصرانى من يد القسيس فى سر التناول يتحولان فيصبحان جسد المسيح وروحه وألوهيته رغم بقاء الخبز والخمر على حالهما المادى فى رأْى العين ولَمْس اليد وتذوُّق اللسان. ولا أدرى كيف لم يتنبه لهذا الجهل، بل العمى الحيسى، الأستاذ نسيم مجلى مؤلف كتاب "لويس عوض ومعاركه الأدبية"، الذى اعتمدتُ عليه فى مطالعة ما كتبه لويس عوض من تقرير يدافع به عن نفسه على طريقة "جاء يكحّلها فأعماها" (الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 571- 572) رغم أن الأستاذ مجلى هو أيضا، فيما أعرف، خريج قسم اللغة الإنجليزية. ولكن إذا كان العبقرى لويس عوض يعكّ كل هذا العَكّ، فهل من المناسب أن ننتظر من الحوارىّ شيئا أفضل؟ وهذه، على كل حال، بعض نصوص من كتب القوم تبرهن على جهل "أستاذنا الدكتور لويس عوض" أو استبلاهه وحربائيته، وكلا الأمرين أضرط من أخيه. تقول الموسوعة المشباكية المسماة: "الويكيبيديا: Wikipaedia" تحت هذا العنوان:
    "Transubstantiation (in Latin, transsubstantiatio) is the change of the substance of bread and wine into that of the body and blood of Christ that, according to the belief of the Roman Catholic Church and other Christians, occurs in the Eucharist and that is called in Greek μετουσίωσις".
    كما ورد كلام كثير فى "الموسوعة الكاثوليكية: Catholic Encyclopedia " عن هذا المصطلح تحت العنوان التالى، وهو عنوان يدل بذاته على ما نريد قوله، ولا يخرج قيد أنملة عما ورد فى "الويكيبيديا": "The Real Presence of Christ in the Eucharist". وفى "Skeptic Dictionary" لصاحبهRobert Todd Carroll نقرأ فى مادة "transubstantiation":
    "Transubstantiation is the alleged process whereby the bread and wine offered up at the communion service have their substances changed to that of the body, blood, soul, and divinity of Jesus Christ while their accidents remain that of bread and wine. What looks like, tastes like, etc., bread and wine is actually another substance altogether. How this happens is a mystery and defies logic. How it can happen would require a mmiracle.
    In Catholicism, transubstantiation is also known as the doctrine of the real presence, though other Christian traditions mean something different by real presence."
    وفى كتاب " Understanding Roman Catholicism" الصادر سنة 1995م والمنشور فى موقع "www.chick.com"، وتحت ذات العنوان يكتب مؤلفهRick Jones ما نصه:
    "During the mass, priests allegedly have the power to supernaturally turn the bread and wine into the actual and literal body and blood of Jesus Christ:
    The Council of Trent summarizes the Catholic faith by declaring: "Because Christ our Redeemer said that it was truly his body that he was offering under the species of bread, it has always been the conviction of the Church of God, and this holy Council now declares again, that by the consecration of the bread and wine there takes place a change of the whole substance of the bread into the substance of the body of Christ our Lord and of the whole substance of the wine into the substance of his blood. This change the holy Catholic Church has fittingly and properly called transubstantiation".
    ثم يضيف المؤلف قائلا إن الكاثوليكية تعلّم أتباعها كيف يشتركون فى أكل لحوم البشر بالمعنى الحرفى: "Catholicism is teaching members to partake in literal cannibalism"، وإن كان ينبغى تغيير العبارة فى كلمة واحدة بحيث تصبح: "أكل لحم الإله" بدلا من "أكل لحوم البشر" فتكون على هذا النحو أدق وأوفى بالمراد. وهذا ما قاله أيضا، ولكن بتفصيل شديد، الفيلسوف الفرنسى فولتير، الذى فتحتُ قاموسه الفلسفى على تلك المادة، فإذا به يمطر من يؤمنون بهذا الهراء من سخرياته وتهكماته ما هو كفيل بشى جلودهم وأكبادهم وإنضاجها من الغيظ والغم، قائلا إن البروتستانت يعدون هذا الاعتقاد أكبر برهان على وقاحة الرهبان التى ما بعدها وقاحة، وعلى البلاهة الشديدة التى يتسم بها رعاياهم، ويصفونه بالتوحش مؤكدين أنه لا يمكن أى إنسان عنده شىء من الفهم أن يعتقد فى هذا الاعتقاد الذى يصل فى السخف والتناقض ومخالفة القوانين الطبيعية إلى الحد الذى يصبح فيه نوعا من إفناء الله... إلى آخر ما قال، وهذا نصه أولا بالفرنسية، ثم بالإنجليزية بعد ذلك:
    1-"Les protestants, et surtout les philosophes protestants, regardent la transsubstantiation comme le dernier terme de l’impudence des moines, et de l’imbécillité des laïques. Ils ne gardent aucune mesure sur cette croyance qu’ils appellent monstrueuse; ils ne pensent pas même qu’il y ait un seul homme de bon sens qui, après avoir réfléchi, ait pu l’embrasser sérieusement. Elle est, disent-ils, si absurde, si contraire à toutes les lois de la physique, si contradictoire, que Dieu même ne pourrait pas faire cette opération, parce que c’est en effet anéantir Dieu que de supposer qu’il fait les contradictories. Non seulement un dieu dans un pain, mais un dieu à la place du pain; cent mille miettes de pain devenues en un instant autant de dieux, cette foule innombrable de dieux ne faisant qu’un seul dieu; de la blancheur sans un corps blanc; de la rondeur sans un corps rond; du vin changé en sang, et qui a le goût du vin; du pain qui est changé en chair et en fibres, et qui a le goût du pain: tout cela inspire tant d’horreur et de mépris aux ennemis de la religion catholique, apostolique et romaine, que cet excès d’horreur et de mépris s’est quelquefois changé en fureur."
    2-"Protestants, and above all, philosophical Protestants, regard transubstantiation as the most signal proof of extreme impudence in monks, and of imbecility in laymen. They hold no terms with this belief, which they call monstrous, and assert that it is impossible for a man of good sense ever to have believed in it. It is, say they, so absurd, so contrary to every physical law, and so contradictory, it would be a sort of annihilation of God, to suppose Him capable of such inconsistency. Not only a god in a wafer, but a god in the place of a wafer; a thousand crumbs of bread become in an instant so many gods, which an innumerable crowd of gods make only one god. Whiteness without a white substance; roundness without rotundity of body; wine changed into blood, retaining the taste of wine; bread changed into flesh and into fibres, still preserving the taste of bread—all this inspires such a degree of horror and contempt in the enemies of the Catholic, apostolic, and Roman religion, that it sometimes insensibly verges into rage ."
    وفى مقال بنفس العنوان فى "Wikinfo" يقرر الكاتب أن:
    " La transsubstantiation est, littéralement, la transformation d'une substance en une autre. Le terme désigne, pour les chrétiens catholiques, la transformation du pain et du vin en chair et sang du Christ lors de l'Eucharistie.
    Sur le plan religieux, les chrétiens catholiques latins, arméniens et maronites emploient le terme de « transsubstantiation » pour expliquer que, dans l'Eucharistie, le pain et le vin, par la consécration de la messe, sont « réellement » transformés ou convertis en corps et sang du Christ, tout en conservant leurs caractéristiques physiques ou espèces (texture, goût, odeur : les apparences) initiales."
    ومما جاء فى هذا المقال قول كاتبه إن الكنائس الأرثوذكسية تشارك فى هذا الاعتقاد، وإن كانت لا تمضى بعيدا فى التعقيدات الفلسفية. أما البروتستانت فيرون فيه مجرد رمز، إلا أن بعضهم لا يقف عند هذا الحد، بل يعدّه ذا طابع وثنى، وهو ما أكده كاتب نفس المقال باللغة الإنجليزية فى الموسوعة ذاتها الذى لم يكتف بالقول بأن بعض البروتستانت يَسِمون ذلك الاعتقاد بالوثنية، بل يضيف إليه قولهم إنه تجديف أيضا.
    وبالمناسبة كذلك فإن الــ"Consubstantiation"، كما ورد فى مادة بهذا الاسم بــ"الويكيبيديا: Wikipaedia"، هو:
    "A theological doctrine that, like the competing theory of transubstantiation, attempts to describe the nature of the Christian in Eucharist concrete metaphysical terms. It holds that during the sacrament the fundamental "substance" of the body and blood of Christare present alongside the substance of the bread and wine, which remain present. Transubstantiation differs from consubstantiation in that it postulates that through consecration, according to some, that one set of substances (bread and wine) is exchanged for another (the Body and Blood of Christ) or, according to others, that the reality of the bread and wine become the reality of the body and blood of Christ. The substance of the bread and wine do not remain, but their accidents (superficial properties like appearance and taste) remain".
    ومن هذا وحده يتبين لنا مدى التدليس الذى يلجأ له لويس عوض، أما إذا أضفنا إلى ذلك ما فضحناه به آنفا وما سنفضحه به نائفا فإن المسألة تكون قد تحولت من فضيحة إلى كارثة كبرى! ومن هذا الوادى أيضا قوله إن "الله" هو الكلمة، و"الآب" هو الروح القدس (ص 106)، عازيا ذلك إلى القاضى عبد الجبار المعتزلى، وهو تدليس لا يليق، فعبد الجبار لا يمكن أن يقول ذلك متدهديا إلى الهاوية التى كثيرا ما يقع فيها لويس عوض بحذلقته وغروره ولا مبالاته تصورا منه أنه قد حاز العلم كله فى رأسه، وأن كل ما عليه متى ما أراد أن يكتب فى موضوع ما هو أن يمد يده إلى برميل العلم الذى فى ذلك الرأس ليغترف ما يريد دون أن يكلف نفسه مراجعة أى شىء أو التوقف إزاءه قليلا كى يتبين له مدى ما فيه من صواب أو خطإ، فضلا عن أنه حين يكتب فى موضوع كالذى نحن بصدده الآن لا يبغى بلوغ الحقيقة، بل تكون فى ذهنه أفكار معينة يعمل بكل قواه على نشرها ومحاولة إيهام القراء بصحتها دون أن يطرف له جفن. المهم أن الله لا يمكن أن يكون هو الكلمة عندهم ولا عندنا، بل هو سبحانه الذى يقول الكلمة كما لا يغيب عن أى إنسان عنده مُسْكة من عقل. كما أن الروح القدس لا يمكن أن يكون هو الآب عندهم بأى معنى من المعانى، أما عندنا فلا آب ولا هباب، بل عندنا: الله رب كل شىء، ثم تأتى بعد ذلك مخلوقاته، ومنها البشر. ومن هؤلاء البشر الأنبياء والمرسلون، وعيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله ونبى من أنبيائه أوحى الله له الإنجيل فحرفه بعض أتباعه وكتبوه بأيديهم ثم قالوا: "هذا من عند الله" ليشتروا به ثمنا قليلا. ومع ذلك فإننى لا أتدخل فى ضمير الدكتور لويس، بل كل ما أبغيه هو تصحيح سقطاته المدوية حتى فما يخص دينه. وقانا الله شرور الفضائح!
    وجريا على إشاعة الاضطراب فى عقائد المسلمين يربط جنابه بين أسماء "السلام" و"حليم" (وهذان، كما نعرف، اسمان من أسماء الله الحسنى) و"حليمة" (التى يسميها بــ"المرضعة الأسطورة"، وهى طبعا حليمة السعدية رضى الله عنها، التى أرضعت النبى محمدا فى طفولته الأولى، وهل هناك غيرها؟ لكن "أستاذنا الدكتور الروزا ميستيكى" يزعم، بخفة يد وصنعة لطافة مع قليل من سَوْق البله على الشيطنة، أنها أسطورة)! نعم يربط أستاذنا الدكتور بين هذا كله وبين البقرة حتحور، التى يقول عنها إنها هى نفسها حليمة المرضع الأسطورة (ص 546). وإذا كنت شاطرا أيها القارئ الكريم فحاول أن تفهم شيئا من فوضى هذا الغثاء. أرأيتم كيف يتعمد تدويخ القارئ حتى يستسلم له، لمعرفته أنْ ليس كل القراء مستعدين لإزعاج أمخاخهم بالتثبت من كل ما يقرؤونه؟ لكن على أية حال لا يمكننا أن نغفل عن الربط فى حد ذاته بين الله وحليمة والبقرة حتحور، وعن الزعم بأن حليمة هى مجرد أسطورة، أو قل: إنها هى نفسها تلك البقرة. ترى أيمكن أن يكون كل هذا قد صدر من الرجل عفو الخاطر، فضلا عن أن يقال إنه جاء نتيجة بحث علمى؟ الواقع أن هذه أول مرة أسمع أن هناك بقرة مرضعة اسمها حليمة! والله ما بقرة ولا ثور ولا حمار ولا حلّوف إلا من يريد الإساءة إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وإلى محمد سيد الأنبياء والمرسلين والأولين والآخرين، وإن رغمت أنوفٌ نجسةٌ منتنةٌ فى الرَّغام والطين بل فى الخراء، مهما تظاهر أى مسيلمة دجال برداء العلم وزَعَم المبخّراتية من حوله أنه عبقرى كبير! نعم، قد يكون عبقريا كبيرا، ولكن فى الزيف والأَوَنْطة وجمود الوجه وبرودة الأعصاب والبجاسة شأن كل بكّاش نصّاب! وبالمناسبة فحتحور، حسبما تتبّعنا، مرة تكون بقرة، ومرة تتشكل فى صورة لبؤة، ومرة ينصّبونها حارسة للنساء، ومرة يجعلونها أُمًّا للفرعون، ومرة يعتقدونها أُمًّا لحورس الرضيع أو زوجة له بوصفه "الملك الحى"، ومرة تتبوأ مكانة المعبود الرئيسى لإقليم القوصية فى الصعيد، ومرة تقابلنا بوصفها "سيدة الفيروز" (أى إلهة سيناء)، ومرة نراها بين آلهة الموتى، ومرة يقولون إنها إلهة الحب والجمال عند الفراعنة، ومرة نسمع أنها ربة الأمومة والموسيقى والبهجة، ومرة نطالع أنها الأم الأولى للآلهة بوصفها البقرة السماوية التى أنجبتهم وأرضعتهم جميعا. أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بتلك الأبقار وأولاد الأبقار من آلهة! لكنى لم أسمع أنها تسمى: "حليمة"، اللهم إلا إذا كان هذا ما يقوله بعض من لا يدينون بدين الرسول الكريم تشفيًا وحقدًا ومحاولةً للتلويث، وهيهات، فإن من يفعل ذلك لا يلوثنّ إلا نفسه هو وصنفه ابتداءً وأصلاً. ومع هذا فقد ترك لويس عوض كل ما قلناه فى "حتحور" وأمسك بـشىء واحد هو أنها "البقرة" المرضعة، وفوق ذلك سماها: "حليمة"!
    والمهم فى كل هذا أن الرجل لم يقدم هنا ما اعتاد تقديمه من النصب والقول بأن هذه الكلمة أو تلك مأخوذة من اللغة الفلانية بالطريقة العلانية. لكن سوف نعطى القارئ مثالا على ذلك البكش من كلامه السابق على هذا مباشرة، وهو كلامه عن مصدر كلمة "سماء"، فاستعد أيها القارئ، وكان الله فى عونك على قراءة ذلك الغثاء بل الفساء! يقول عبقرينا الذى لم تلد مثله أم فى تاريخ البشرية: "وهناك ألفاظ عديدة فى القاموس الدينى العربى يمكن أن نشتبه فى أن لها صلة بجذر "كوو- كون- كابل- كوبل- جو" بمعنى "سماء". والأرجح أن "سماء" أصلا كانت "سئام" من "سئال" من "كيل:" من "كؤو: Kυω". فانظر الآن أيها القارئ إلى هذا البكش الذى يمارسه الرجل بكل جرأة، وكأنه فلاحٌ بارِشٌ فى الجرن يلعب السِّيجة ببعض الحصا ينقلها بين عدة مربعات صغيرة! أقصد أنه قد فرش أمامه خريطة عالمية تحوى كل لغات الأرض على مدى التاريخ من "طقطق لسلام عليكم"، وما عليه إلا أن ينقل حصاة من هذه العين إلى تلك! انظر إليه أيها القارئ كيف يتخيل أن "سماء" لم تكن فى البداية "سماء" بل "سئام". طيب، ولماذا لم تكن "مساء" أو "أسام" أو "مآس" أو "سائم" أو "مائس" أو"آمس" أو "آسم" أو "ماسئ" أو "سامئ" مثلا؟ وهذا إن قبلنا أصلا حكاية الانقلاب هذه التى يقررها عبقرينا الفذ بجمود وجه وعدم شعور بالحياء العلمى، وكأن الله أشهده خلق السماوات والأرض فى الأزل الأول واتخذه له عضدا، فهو قد أحاط بكل شىء علما! ولكن لم كل هذا؟ لكى يلوى عنق الكلمة التى صاحبها سيادته عبر انتقالاتها المتتابعة على مدى العصور والأحقاب من لغة إلى أخرى فلم تغب عن عينه لحظة، حتى أتمت فى النهاية مشوارها التاريخى وهى تلهث وتكاد أن تطلع روحها من طول الرحلة، لتصبح "سئال" فتقترب، فيما يتوهم، من الكلمة اليونانية "كيل" التى لا يعرف حضرته عنها شيئا أكثر مما يعرف أىّ أُمِّىّ لا يفرق بين الألف وكوز الذرة، والتى يرجح جنابه أنها مأخوذة من كلمة "كيل" بمعنى "جَوّ"، وكلها فركة كعب ما بين "الجَوّ" و"السماء"! ولا تدقق أيها القارئ ولا تكن حنبليا، فما بين الجيّدين حساب! وكل عُدّته فى هذا البكش العلمى هو أنه "يشتبه" مرة، و"يرجّح" أخرى. ولله يا زمرى إذا كان هذا هو سبيل العلم! والله إن كلام المصاطب الفلاحىّ لأهون مليون مرة من هذا، فعلى الأقل إن له لنكهة فلكلورية وخفة ظل لم يكتبها "فاطر السماوات والأرض" للويس عوض. وهو أمر طبيعى، إذ هو سبحانه وتعالى إله عادل، لذلك لم يشأ أن يَهَب "أستاذنا الدكتور لويس" العبقرية وخفة الظل معا، بل قيل: كفاية عليه العبقرية! (بعيدٌ عنا وعن السامعين)، أما خفة الظل فلها ناسها!
    وكما استطاعت عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" أن تجعل من الفسيخ شربات وتحوّل "كو" عَبْر "كيل" إلى "سماء" فكذلك تستطيع عبقريته أيضا أن تحول نفس كلمة "كو"، ولكنْ هذه المرة عَبْر تكرارها مرتين، إلى "كوكو"، التى يقول إنها أساس كلمة "كوكب"، ولكن بعد تمريرها بعدة مراحل خمنها بطريقته المعهودة، ألا وهى طريقة الشم على ظهر الكف. و"الكواكب السبع" عنده هى "السماوات السبع" (ص 446). ألا يذكرك هذا ببياع إبر البوابير فى الأوتوبيسات: "كده توليع! كده تسليك!"، فالكلمة الواحدة على يديه تتحول مرة إلى "سماء" إذا قلبناها على أحد وجهيها (وهذا هو التوليع!)، ومرة إلى "كوكب" إذا قلبناها على الوجه الآخر (وهذا هو "التسليك"! وهو، بحمد الله، رجل سالك ومسلّكاتى لا تقف فى طريقه عقبة). لو أنه قال إن كلمة "كوكو" أساس كلمة "شكوكو" لسلمنا له على العين وعلى الرأس دون أن نفتح فمنا بكلمة، فالمسافة بين الفنان الظريف الخفيف الظل محمود شكوكو وشغل الحواة هذا لا تُذْكَر، بل تكاد أن تكون معدومة، أو هى معدومة فعلا، فقد اشتغل الرجل رحمه الله بأدوار الحواة فى تمثيلياته وأفلامه ومونولوجاته، ونحن الآن مع الدكتور لويس فى صميم شغل الحواة. أليس الحاوى قادرا على أن يخرج لك من قبعته ما تريد حتى لو طلبت منه لبن العصفور؟ فهكذا الدكتور لويس يقدر على أن يولّد لك كل ما تريد من كلمات، من أى كلمات تريد توليدها منها. والقبعة، والحمد لله، جاهزة، فما المشكلة إذن؟ فاطمئن ولا تقلق، قأنت مع الدكتور لويس فى أيد أمينة. أقصد: فى أيد خفيفة خفة يد الحواة!
    لكنك يا سيادة الدكتور تتكلم عن السماوات السبع، وهذه لم يكن لها ذكر قبل القرآن. فأنت إذن تقصد القرآن الكريم، فهل فى القرآن أن السماوات السبع هى الكواكب السبع يا مفترى؟ لن أدخل معك فى جدال نظرى، فما أنا بالمطيق حوارًا من هذا النوع مع حاوٍ! بل سأورد لك هذا النص من القرآن المجيد، نعم القرآن المجيد الذى كان يسبب لك التواء فى المصارين ونغلا فى القلب. يقول مولاك سبحانه وتعالى: "إنا زيَّنّا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكبِ* وحِفْظًا من كل شيطانٍ مارد" (الصافّات/ 6- 7). وواضح يا دكتور لويس (يا من نصَّبك بعضهم "أستاذا" له، ولنا أيضا دون أن يسألنا رأينا فى هذه التنصيبة المصيبة) أن الكواكب شىء يختلف عن السماء اختلافا كليا. ولا تقل لى: "كيف؟" كيلا أغضب منك لأنى أعرف حق المعرفة أن الموضوع هذه المرة ليس فوق مستوى عقلك. ألم يقل المولى جل جلاله إنه قد زيّن السماء الدنيا بالكواكب؟ أليس معنى ذلك أن الكواكب (الكواكب كلها بإطلاقٍ، لا سبعة منها فقط) ليست هى السماء الدنيا، بل مجرد زينة لها؟ فما بالك بمن يقول إن "الكواكب السبع" (السبع وحدها يا مفترى، وليست الكواكب كلها!) هى السماوات السبع (السماوات السبع كلها يا مفترى، وليست السماء الدنيا وحدها!)؟ أترك الجواب للقراء!
    ثم نمضى فنجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" يقرر أن كلمة "جاه" (بمعنى "سلطان" كما يقول) مأخوذة من "وجا: Waja" فى المصرية القديمة، ومنها "وجيه" التى يؤكد أنها لا تعنى "الوسيم" أو "حَسَن الهندام" (وكأن هناك من العلماء لا من أمثاله من يقول إنها تعنى هذا أو ذاك)! ثم يستمر فى هلاوسه زاعما أن القرآن، حين يصف المسيح بقوله: "وجيها فى النيا والآخرة" فالأرجح أن المقصود كونه "صاحب سلطان أو قوة" لا أنه كان وسيما (وكأن أحدا من العلماء لا من أمثاله قد قال ذلك حتى يسارع هو فينفيه!). ثم يدعو القارئ إلى مقارنة ذلك بقوله تعالى عن موسى (وإن لم يقل هو إن الكلام عن موسى): "فبرّأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها" (ص 272).
    ترى بأى وجه يقرر سيادته بهذه البساطة المضحكة أن كلمة "جاه" العربية مأخوذة من "Waja" المصرية القديمة؟ أنزل عليه وحى بذلك؟ فلْيُرِناه إن كان من الصادقين! أم فى يده برهان على هذا الذى يزعم؟ فليطلعنا عليه وله منا الشكر وعرفان الجميل! ثم لماذا يا ترى لا يكون العكس هو الصحيح ما دامت المسألة بهذه السهولة؟ كذلك أىّ سلطان سوف يكون للمسيح عليه السلام فى الآخرة؟ أمّا أنه كان "وجيها فى الدنيا والآخرة" فهذا نسلم به ولا نجحده، ويكفى أنه كان نبيا رسولا وأن الله حماه من أذى اليهود ومكرهم ومؤامراتهم، وإلا لقتلوه شر قتلة! هذا كله مفهوم، أما أنه كان صاحب سلطان وقوة فها هى ذى الأناجيل الأربعة كلها بين أيدينا، وليس فيها البتة أنه كان صاحب قوة وسلطان فى الدنيا بالمعنى الذى نفهمه من القوة والسلطان، بل الذى فيها هو التأكيد بأن مملكته ليست من هذا العالم الدنيوى. لكنها (وآه من "لكنها" هذه!) تقول على لسانه عليه السلام (افتراء وكذبا حسب عقيدتنا) إنه سوف يجلس على يمين أبيه فى ملكوت السماوات ويحاسب الناس على ما قدمت أيديهم، بصفته (طبعا) إلها أو ابنا للإله. وأعتقد أن هذا هو السلطان والقوة اللذان يقصدهما الدكتور لويس ويريد من قرائه أن يتابعوه على تفسيره هذا الحلمنتيشى لهما متناسيا أن الإسلام قد وضع عيسى عليه السلام فى الموضع الذى لا ينبغى أن يَعْدُوَه إنسان رغم نبوته ورسالته.
    وخير شاهد نسوقه فى هذا الصدد هو قوله سبحانه فى سورة "المائدة" يصف ما سيدور يوم القيامة من حوار بين الله سبحانه وتعالى وبين عبده السيد المسيح عليه السلام: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)".
    فهل من يوجه الله إليه السؤال بهذه الصيغة وبهذه القوة، ومن يجيب ربَّه سبحانه بهذه الخشية وهذا الإجلال، يمكن أن يقال إن القرآن قد وصفه بأنه صاحب سلطان وقوة فى الدنيا والآخرة؟ ثم هل من يتحدث عنه المولى الجبار بمثل العبارات التالية فى نفس السورة يمكن أن يقال إن القرآن قد وصفه بأنه صاحب سلطان وقوة فى الدنيا والآخرة؟ فلنسمع إذن: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)"، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)".
    إن القرآن، على النقيض مما يهرف به لويس عوض، يقرر فى وضوح لا تشوبه أدنى شائبة من لبس أو غموض أن المسيح لا يملك لا لنفسه ولا لأحد آخر نفعا ولا ضرا. فأين السلطان والقوة المدّعاة إذن؟ ومادام الشىء بالشىء يذكر فالمواقع النصرانية التى تشتم نبينا عليه السلام وتقارن بينه وبين المسيح الإله (فى زعمهم) لصالح الأخير بطبيعة الحال تتبنى مثل هذا الكلام الذى يردده لويس عوض فى عجلة ولهوجة كأنه لا يبحث فى العلم بل يسلق بيضا، وهذا يبين لنا سوء نية الرجل وأنه ذو َكيْد وشَرّ!
    ومن ملاعيبه المفقوسة أيضا محاولته البائخة لجعل لفظ "فاطر" (فى "فاطر السماوات والأرض"، وهو الله سبحانه) مأخوذة من "فا" المأخوذة بدورها من "پا"، أساس كلمة "أب" كما يقول. وعلى ذلك فتسميته عز وجل فى لغة العرب بــ"فاطر السماوات والأرض" لا تعنى فالق السماوات والأرض" كما يُظَنّ عادةً" (وهذه عبارته)، بل تعنى "أبا السماوات والأرض" بمعنى "خالقهما". كما أن "عيد الفطر" (الذى يتصادف مروره اليوم من عام 1427هـ وأنا أرد على كلامه هذا الغث) لا علاقة له بالإفطار بعد الصيام، بل معناه "عيد الخلق". لكن أى خلق؟ "خلق العالم فى بعض المعتقدات الدينية أو خلق القرآن أو تنزيله على أقل تقدير فى كل تفسير معتمد" (ص 318). يا داهية سوداء! أرأيتم، أيها القراء، التخبيص الذى على أصوله؟ ما كل هذا الهجس؟ ما كل هذا الهلس؟ ما كل هذا الخرف؟ وإلام يقصد ذلك الرجل بكل تلك الهلاوس؟ إنه يقصد الترويج لحكاية الله الآب فى النصرانية، ولكن على طريقة الخطوة خطوة، فإن لم ينجح فعلى أقل تقدير يُشِيع الاضطراب فى اللغة والقرآن ويترك القارئ، فيما يأمل، حيران فى مكانه لا يريم ولا يستطيع ذهابًا أو إيابًا! إنه يبدأ كلامه بقوله: "يبدو" أن العربية عرفت صيغة "فا" التى تعنى "الأب" كما عرفت صيغة "پا". أى أن الأمر غير يقينى، وكل ما هنالك أنه "يبدو" كذلك! لكن من أين له أنه يبدو كذلك؟ من وحى الشياطين طبعا! لكننا بعد قليل نفاجأ بأنه "يغلّب" أن يكون معنى قوله عز شأنه: "فاطر السماوات والأرض" هو "أبو السماوات والأرض"!
    عجايب يا دكتور لويس! لقد بدأت بــ"يبدو أن"، ثم فى قفزة بهلوانية واحدة قلبتها إلى "فالأغلب أن"، وجعلت تفسير "فاطر" بــ"فالق" تفسيرا ظنيا، أو بعبارتك: "كما يُظَنّ عادة". ثم رجعت إلى "يبدو أن" فى ادعائك الجاهل أن "عيد الفطر" لا علاقة بانتهاء الصيام، بل بخلق العالم فى بعض المعتقدات الدينية! لكن هل هناك دليل، أى دليل، على هذا الذى تهرف به وتخرف؟ إن العلماء كلهم تقريبا يفسرون "فاطر السماوات والأرض" بما معناه أنه مبدع السماوات والأرض على غير مثال سابق، اللهم إلا من يقول إنه "شاقُّهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض" كما جاء فى تفسير الرازى للآية الأولى من سورة "فاطر" فى رأىٍ من الآراء، وهو تفسير ضعيف غير مقنع كما هو ظاهر. ثم أية معتقدات دينية تقول إنه سبحانه وتعالى خلق العالم فى عيد الفطر؟ اذكرها يا مداور! إنك طبعا تقصد الإسلام لأنه هو الدين الوحيد الذى يوجد فيه شىء اسمه "عيد الفطر"! أم تراك ستحاور وتناور كشأنك فى كل ما سخّمته فى هذا الكتاب؟ أيا ما يكن الأمر فهل كان هناك عيد فطر قبل خلق العالم حتى يخلق الله العالم فيه؟ فكيف إذن تترك السبيل الواضحة المستقيمة إلى هذه الدخانيق الملتوية التى لا يسلكها سوى المريبين؟ ويعود المداور قائلا إن الذى تم خلقه فى عيد الفطر هو القرآن؟ فهل قال القرآن ذلك أو قاله الرسول أو قاله أحد من المسلمين أو حتى من غير المسلمين؟ ثم تعود فتقول إنه يمكن أن يكون المقصود بذلك تنزيل القرآن. لكن من قال لك إن تنزيل القرآن يعنى خلقه؟ ستقول: "المعتزلة"، ولك الحق فى أن تأخذ جانبهم، فهذا رأيك لا نشاحنك عليه. لكنك هنا إنما تتناول القرآن بالتفسير وتهدم كل شىء وتقلب كل شىء رأسا على عقب! فحناينك على العلم ومنهج العلم والمنطق والعقل، ودعك من الخرف والتخريف، فما كان التخريف يوما بموصِّلٍ صاحبه إلى شىء! ذلك أن تنزيل القرآن لم يقع فى عيد الفطر، ولا قال به المعتزلة ولا الملتزمة، بل هو من بُنَيّات شطحاتك الشيطانية!
    وعلى أية حال فالقرآن الكريم قد نزل فى ليلة القدر التى لم يحددها الله ولا حددها الرسول، بل أقصى ما يمكن أن يقال هو أنه صلى الله عليه وسلم نصح المسلمين أن يلتمسوها فى العشر الأواخر من رمضان. أى أنها فى رمضان وليست فى عيد الفطر يا...يا ماذا؟ والله إنى لحيران! فكيف بالله يحق للجاهلين أن ينتفشوا ويفتروا على المفسرين المساكين قائلين إن كتب التفسير المعتمدة (ولاأدرى: معتمدة ممن؟ إلا أن يكون أصحابها قد حصلوا لها على شهادة اثنين من الموظفين ممن لا يقل مرتبهم عن ثلاثين جنيها فى الشهر مختومة بخاتم النسر!) هى التى قالت بذلك. ففى أى تفسير يا ترى نجد هذا؟ ثم لماذا كل هذا الالتواء فى التفسير والتحريف؟ يا أخى، إن المسلمين يصومون رمضان، وهذا هو الصيام. ويفطرون فى أول شوال، وهذا هو الفطر. واليوم الذى يبدأ فيه ذلك الفطر (كهذا اليوم المفترج الذى نحن فيه الآن) يسمى عند المسلمين بــ"عيد الفطر". فما وجه الصعوبة فى هذا؟ أهى حِسْبَة برما؟ أم هى قضية الشرق الأوسط؟ أم أننا بإزاء صنع قنبلة نووية؟ هل من المعقول أن تكون هناك قلوب قد طُمِس عليها كل هذا الطمس؟ لكن نعود فنقول: نعم إن ثمة قلوبا خلقها الله ووضع عليها أقفالا، وآذانا خلقها الله وجعل فيها وَقْرًا، فأصحابها لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون، فمَثَلهم هم ومن يناديهم كمَثَل الذى يَنْعِق بما لا يَسْمَع إلا دعاءً ونداءً كما قال القرآن الكريم. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ، فهم لا يفقهون ولا يعلمون ولا يكسبون!
    وهو فى نهاية هذا الخبص واللبص يقرر بكل عبقرية أن "الإفطار" بمعنى "إنهاء الصيام" هو "الهومونيم الذى استغرق المعنى الأصلى" (ص 318). وهذا جهل آخر أشنع وأفظع، لأن الهومونيم (homonym) هو الجناس، أى وجود كلمتين متطابقتين (أو على الأقل: متشابهتين) لفظا مختلفتين معنى. وهذا يقتضى أن تكون عندنا هنا كلمتان كل منهما تُنْطَق: "إفطار"، وفى نفس الوقت يكون معنى إحداهما مختلفا عن معنى الأخرى: الأولى بمعنى إنهاء الصيام، والأخرى مشتقة من الأبوة. فأين نحن من هذا؟ الذى نعرفه هو أن عندنا كلمة واحدة تعنى "إنهاء الصيام"، فليدلنا الدكتور لويس على الثانية. أقصى مايستطيع زعمَه مَيْنًا وافتراءً أنه: كان يا ما كان، كان هناك أيام الشاطر حسن وأمنا الغولة مثل تلك الكلمة. متى؟ منذ دهور ودهور! هذا كل ما يمكنه أن يقوله، أما أن تكون تلك الكلمة موجودة فعلا وتشكّل مع الأولى جناسا، فعلى جثتى! ذلك أن الجناس لا يكون بالشُّكُك، بل بالناجز الحاضر بين أيدينا. أما ما سوى ذلك فـ"كان زمان وجَبَر" أيها العبقرى! كما أن الجناس ليس فيه كلمة أصلية وأخرى فرعية، بل كل كلمة فيه مستقلة بذاتها، وما يهرف به لويس عوض هو الجهل المبين بعينه وأذنه وأنفه وفمه، وذقنه أيضا فوق البيعة!
    ومن هلفطاته التى يبغى من ورائها إشاعة الاضطراب فى عقيدة المسلمين ونظرتهم إلى رموزهم قوله إن كلمة "Amen" (وأصلها، كما يزعم، اسم الإله "آمون") هى أساس أسماء الأعلام العربية: "أمين" و"أمينة" و"آمنة"، وعلى رأسها "الأمين"، اسم من أسماء النبى الحسنى على حد هلوساته (ص 255- 256). ترى هل هناك ما يعرف فى الإسلام بــ"أسماء النبى الحسنى"؟ طبعا لا وألف لا. فهذه واحدة، وهى تدل على جهل شنيع أو استبلاه أشنع ممن يتخيل أنه مستطيع إيهامنا بقدرته على بحث أمر اللغات البشرية كلها حاضرها وماضيها الذى يقاس بالقرون بل بالدهور! صحيح أن النبى محمدا عليه الصلاة والسلام اشتهر بين قومه بـــ"الأمين" نظرا لصدقه وإخلاصه واستقامة ضميره وخلقه، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له "أسماء حسنى"، فهذه لله وحده سبحانه وتعالى. ونحن المسلمين، رغم إجلالنا إياه صلى الله عليه وسلم وحبنا الشديد له، لا نعدو به قدره بوصفه عبدا نبيا لا أكثر ولا أقل، ولسنا كمن يؤلهون أنبياءهم ثم يعودون فيأكلون لحومهم ويشربون دماءهم. كما أننا لسنا كالمصريين القدماء ممن كانوا يعبدون الشمس ويدعونها: "آمون"، التى يقول الشاطر حسن، ربنا يحرسه من العين، إنها هى أساس "آمين" المعروفة فى أدعيتنا بمعنى "يا رب، استجب"، ويعربها النحاة: "اسم فعل أمر".
    فلم إذن تلك المحاولة الآثمة لربط الرسول بهذه الوثنيات المصرية القديمة التى خلصنا الله وطهرنا منها تطهيرا والتى أخرجْناها من الباب وكسرنا وراءها ألف قلة قديمة، ومعها ألف برطوشة لا تقل عنها قِدَمًا، فإذا بالمحروس يريد أن يعيدها لنا من الشباك؟ الأمر وما فيه بكل بساطة ودون هلفطات سمجة هو أن "الأمين" مشتق من "الأمن" أو "الأمانة" أو من كليهما، فما المشكلة فى ذلك؟ وما الداعى لأن يذهب الإنسان وراء الخيالات والهلوسات والأوهام الوثنية إذا كان التفسير المنطقى الصحيح تحت أيدينا؟ أهى فراغة عين وتطلع إلى الأساطير والشِّرْكيّات، والسلام؟ ثم أين الدليل على أن "آمين" وبقية أفراد أسرتها مأخوذة من "آمون"؟ هل لديك دليل؟ فأبرزه إذن وأرحنا، ودعك من هذه البهلوانيات التى لا تؤكّل عيشا فى دنيا البحث والعلم.
    ومن العجيب الغريب بل من المضحك فى زمنٍ عَزّ فيه الضحك وأصبح يُشْتَرَى بشىءٍ وشويّات أن يقول أحد الدراويش تعليقا على هذا السخف إنه "من اللافت للنظر أن "القاموس المحيط" و"لسان العرب" ذكرا أن "الأمان" (على وزن "رمان") هو "الزراع"، فهل هذا من ذكريات آمون رب المصريين، والمصريون زراع؟... كذلك ذكر "القاموس المحيط" أن "آمين" و"أمين" بالمد والقصر اسم من أسماء الله. وهذه مسألة فى غاية الأهمية والخطورة حيث يوحى قول "القاموس المحيط" باستعارة اللغة العربية أحد أسماء الله من المصرية القديمة. وهذا أمر أشبه بالحق لعراقة المصريين فيما يتصل بالإلهيات" (انظر مقال على الألفى: "لويس عوض وداعا: قراءة فى مقدمة فى فقه اللغة العربية" بمجلة "أدب ونقد"/ عدد أكتوبر 1990م). وخاطّ هذ الكلمات يتهم الفيروزابادى العالم المسلم الجليل بالإلماح إلى أن أحد الأسماء الحسنى، وهو اسم "الأمين"، مأخوذ من اسم الإله الوثنى المصرى القديم: "آمون"، وهو الإله الشمس. أى أن الإسلام الذى كان حملة شعواء على الوثنية والوثنيين وعلى عبادة الشمس والقمر قد ضرب بحملته هذه عُرْض الحائط أمام سحر عيون "آمون" الإله الشمس (جريا على مذهب فضيلة الشيخة صباح البيروتية التى تصدح بصوتها الآسر المغناج: "من سحر عيونك ياه! من رمش جفونك ياه!")! وحجته أنه هو وابن منظور قد ذكرا ضمن معانى "الأُمّان": "الزُّرّاع". وبما أن المصريين زراع، وبما أنهم كانوا يعبدون آمون، فلا بد أن يكون المسلمون قد أخذوا اسم الإله "آمون" وسَمَّوْا به اللهَ سبحانه وتعالى. وكأن كلمة "أمين" لم تكن موجودة قبل ذلك بدهور ودهور فى لغة العرب، وكأن المسلمين لم يشرحوا معنى هذه التسمية الإلهية وأنها من "الأمن". فانظر إلى العلم اللدنى والحجج التى لا يخر منها الماء! أية خفة تلك التى تُتَناوَل بها أخطر القضايا الفكرية والعقيدية؟ فعلاً يا أخى، لقد كنا عن أن المصريين قوم زارعون من الغافلين حتى أتانا اليقين من مقالات المؤبنين لعبقرى العبقريين! وكأنه لم يكن هناك زارعون إلا المصريين! وهذا هو العلم الذى يراد لنا اكتسابه فى آخر الزمان، فى بلاد الأمن والأمان!
    طيب، وفى "لسان العرب" أيضا تقابلنا "ناقةٌ أمُون"، وهو نفس الوصف الذى استخدمه طرفة بن العبد لناقته فى معلقته، فهل نقول نحن بدورنا إن طرفة وابن منظور يريان أن البقرة هى أصل الإله آمون، ما دام العلم قد هان وهانت مناهجه إلى هذا الحد، وبخاصة أن "أمون" أقرب جدا من "أمين" إلى "آمون" وأحرى أن تكون هى صورتها العربية إذا ما كان العرب لسبب أو لآخر قد تجنبوا استعمال "آمون" ذاتها؟ لكننا نربأ بأنفسنا أن نستخدم تلك الطريقة المضحكة فى التفكير والاستنتاج؟ وإذا كان اسم الله: "أمين" مأخوذا من اسم الإله الوثنى: "آمون"، فما الذى جعل العرب يحرفون هذا إلى "أمين"؟ هل صيغة "آمون" غريبة على لغتهم؟ أبدا، فمَثََلُها مَثَلُ "طاووس" و"باسوس" و"ناووس" و"ناموس" و"قاموس" و"قابوس" و"قادوس" و"فانوس" و"جاموس" و"عاموس" و"راعوث" و"جالوص" و"باغوص" و"جارود" و"داوود" و"بارود" و"طاروت" و"طالوت" و"جالوت" و"حانوت" و"لاهوت" و"ناسوت" و"باهور" و"سابور" و"باسور" و"ساجور" و"ساطور" و"خابور" و"فاثور" و"هامور" و"باجور" و"عاشور" و"حاسوب" و"كاتوب" و"عاكوب" و"بانوب" و"دانوب" و"ناسوخ" و"يافوخ" و"صاروخ" و"باروخ" و"هارون" و"خاتون" و"ماعون" و"طاعون" و"طابون" و"صابون" و"صالون" و"جالون" و"بارون" و"ماسون" و"كانون" و"قالون" و"حانون" و"جابون" و"شارون" و"فاروق" و"قاووق" و"طابوق" و"راووق" و"خازوق" و"داعوق" و"هالوك" و"داموك" و"ثالوث" و"ثامون" و"تاسوع" و"شاقول" و"عاقول" و"حامول" و"جاروف" و"شادوف" و"شاكوش" و"هاموش" و"فاشوش" و"صاروج" مما هو عربى أصيل أو معرَّب أو علم أعجمى. وكما عرف اللسان العربى هذه الكلمات، لقد كان المنطقى أن يحافظ على صيغة "آمون" كما هى دون تبديل لا داعى له، ولو إلى جانب الصورة المحوَّرة كما يحدث فى كثير من الأحيان مع أسماء الأعلام الأعجمية مثلما هو الحال فى "جبرائيل/ جبرئيل/ جبريل/ جبرين" و"إسماعيل/ إسماعين" و"ميكائيل/ ميكال/ ميشيل/ ميخائيل" و"سَيْناء/ سِيناء/ سِينا/ سِينِين"... وهكذا. ولو كان العرب قد أخذوا فعلا اسم "الأمين" من اسم الإله "آمون" فلماذا لم يجعلوه هو الاسم الأساسى للألوهية بدلا من "الله"، الذى لم يكن له وجود آنذاك حسب ما يقضى به منطق المتحذلقين الجاهلين؟ أليس هذا ما يقوله العقل؟ ثم ماذا عن أسماء الله الحسنى؟ أولها صلة بمولانا "آمون" هى أيضا؟
    كذلك فقول الفيروزابادى وابن منظور إن "أُمّان" معناها "الزُّرّاع" لا علاقة له بــ"الأمين"، إذ "الأُمّان" هو جمعٌ مفرده "آمِن" لا "أمين" كما يوحى كلام صاحب السطور، مثل "قارئ/ قُرّاء" و"حاجّ/ حُجّاج" و"ناسخ/ نُسّاخ" و"شاذّ/ شُذّاذ" و"حافِظ/ حُفّاظ" و"سارق/ سُرّاق" و"مالِك/ مُلاّك" و"هالِك/ هُلاّك" و"ساكن/ سُكّان" و"كاهن/ كُهّان" و"زارِع/ زُرّاع" و"صانِع/ صُنّاع" و"زائر/ زُوّار" و"ناظر/ نُظّار" و"سامر/ سُمّار" و"عامر/ عُمّار" و"فاجر/ فُجّار" و"تاجر/ تُجّار" و"عامِل/ عُمّال" و"جاهل/ جُهّال" و"عاذل/ عُذّال" و"قائم/ قُوّام" و"صائم/ صُوّام" و"نائم/ نُوّام" و"لائم/ لُوّام" و"خادم/ خُدّام" و"طالِب/ طُلاّب" و"كاتِب/ كُتّاب" و"نائب/ نُوّاب" و"راكب/ رُكّاب" و"شائب/ شُيّاب" و"حاجب/ حُجّاب" و"جالِس/ جُلاّس" و"حارس/ حُرّاس" و"حارث/ حُرّاث" و"زاهد/ زُهّاد" و"عابد/ عُبّاد" و"عائد/ عُوّاد" و"وارد/ وُرّاد" و"رائد/ رُوّاد". وبالمثل نقرأ فى "لسان العرب" العبارة التالية: "وفي الحديث: "الزَّرعُ أَمانةٌ والتاجِرُ فاجرٌ"، جعل الزرع أَمانَةً لسلامتِه من الآفات التي تقع في التِّجارة من التَّزَيُّدِ في القول والحَلِف وغير ذلك". ومعنى ذلك أن استخدام كلمة "الأمانة" فى الحديث هو استخدام مجازى، وإلا فهل معنى "تاجر" هو "الشخص الفاجر" كما جاء أيضا فى الحديث نفسه؟ وعلى هذا ينبغى أن نفهم وصف الزارع بأنه "آمِن"، ولا علاقة لهذا بــ"آمون" ولا يحزنون! ولا داعى لأن نقف مع التلميذ أطول من هذا، فهو درويش أخذته الجلالة فليس عليه من حرج. كما أن مرادى من التعريج عليه هو إطلاع القراء على طبيعة تلاميذ مفكرنا الجهبذ وعبقريتهم التى تشبه عبقرية زعيمهم ليس إلا. وقد تم المراد، والحمد لله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه! ومن شابه أستاذه فما ظلم!
    ثم إن المصريين لم يكونوا وحدهم الزُّرّاع بين الأمم حتى ينصرف الذهن ضربة لازب إليهم فى هذا السياق رغم تهافت الحجة أصلاً وفصلاً حسبما وضّحْتُ وشَرَحْتُ. كذلك إذا كانت "أمين" هى تعريب "آمون" الإله (على رغم ما قلناه من أنها لا يمكن عقلاً ولا منطقًا أن تكون كذلك) فلماذا سُمِّىَ بها النبى محمد عليه السلام، وهو ليس إلها؟ بل لماذا سُمِّىَ بها الناس العاديون ذكرانا وإناثا فقيل: "أمين، وأمينة" و"أَمُّونَة" أيضا فوق البيعة، وسميت بها البلاد فقيل عن مكة: "البلد الأمين"؟ وهل تؤنَّث أصلا أسماء الآلهة كما هو الحال فى "أمينة" و"أمّونة"؟ ثم لماذا لم نسمع فى الجاهلية بــ"عبد الأمين" كما سمعنا بــ"عبد الله" و"عبد اللات" و"عبد ودّ" و"عبد العُزَّى" و"عبد يَغُوث" و"تيم اللات" و"وهب اللات" مثلا، وكما سمعنا عند اليهود بـ"إشرئيل" و"إيليئيل" و"أوئيل" و"أوريئيل" و"بتوئيل" و"بصلئيل" و"جاوئيل" و"جديل" وجملئيل" وحزيئيل" و"حموئيل" و"حنمئيل" و"حنّيئيل" و"حينئيل" و"دعوئيل" و"رعوئيل" و"رفائيل" و"زبديئيل" و"شألتيئيل" و"صموئيل" و"عبديئيل" و"عثينئيل" و"عدريئيل" و"عديئيل" و"عُزّيئيل" و"عسائيل" و"عمانوئيل" و"غمالائيل" و"فلطيئيل" و"فوطيئيل" و"فنوئيل" و"فنيئيل" و"قموئيل" و"متوشائيل" ومشيزيئيل" و"مهيطيئيل" و"ميشائيل" و"نثنائيل" و"نعيئيل" و"نموئيل" و"ياحلئيل" و"يحصئيل" و"يحزئيل" ويحزقيئيل" و"يحيئيل" و"يدعيئيل" و"يرحمئيل" و"يزرعيل" و"يزوئيل" و"يسميئيل" و"يعسيئيل" و"يعيئيل" و"يقوثيئيل" و"يموئيل" و"يهللئيل" و"يوئيل" بإلحاق اسم "إيل" الدال على "الإله" عند اليهود بآخر أسماء الأعلام، وكذلك بالأسماء المبتدئة بــ"ياهو" (أى "الرب")، مثل "يهوآحاز" و"يهوآش" و"يهوحانان" و"يهوخل" و"يهورام" و"يهوشافاط" و"يهوشوع" و"يهوصاداق" و"يهوعدة" و"يهوناثان" و"يهوناداب" و"يهوهياداع" و"يهوياريب" و"يهوياقيم" و"يهوياكين"؟ ولنفترض جدلا أن المسلمين أو العرب عموما، لسبب أو لآخر لا نفهمه، قد حوّروا اسم "آمون" وجعلوه "أمين" و"آمين"، فلِمَ يا ترى نطقت الأمم الأخرى كلمة "آمين" كما ينطقها العرب (هكذا: "Amen") ولم يقولوا عند تأمينهم على ما يسمعونه من دعاءٍ: "آمون" بصورتها الصحيحة؟ وأخيرا وليس آخرا لماذا ترك صاحب السطور كل المعانى الأخرى لكلمة "آمِن" ("آمِن" وليس "أمين" كما بينتُ قبل قليل) وشَبَطَ فى "الزارع" التى يظن خطأً أنها لا تنطبق إلا على المصريين؟ لا لا، لا يمكن أن يكون العلم بهذه الطريقة الهازلة المضحكة، وإلا فعلى العلم العفاء!
    ومن "آمين" إلى "أوزيريس" إله تعشير الأبقار والجواميس وضرب العشرات (أى الاستمناء) كما يصوره لنا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" يا قلبى لا تحزن! فسعادته يدّعى أنها هى أيضا جذر كلمة "الإسراء" (254)! فانظر إلام يرمى الرجل! وكيف لم يجد لكلمة "الإسراء" المرتبطة ارتباطا لا ينفك أبد الدهر برحلة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، تلك الرحلة الإعجازية التى وصل فيها صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فى عُلْيَا السماوات وصلى أثناءها بجميع الرسل الكرام إمامًا بوصفه زعيمهم وأكبرهم وصاحب الدين العالمى بينهم، فلم يجد لها لويس عوض أصولا ولا جذورا إلا فى الوثنيات وضرب العشرات! وهى الموضوعات التى لا يفلح بعض العباقرة إلا فى الكلام عنها وعن أمثالها؟ أإلى هذا الحد يا لويس يقتلك ذكر النبى ومعجزاته من قرآن وإسراء فلا تجد إلا هذا الأسلوب العيالى فى محاولة الإساءة إليه؟ والله لو اجتمع كل الكافرين بالرسول الكريم وصنعوا كل ما يخطر وما لا يخطر على بالهم النجس ما نالوا منه منالا. هل تستطيع الكلاب النابحات أن تطول القمر، فضلا عن أن تضره؟ صدق من قال: لايعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل! ولكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟
    كذلك يضيف فى هذه الفقرة عبقرينا الهمام الذى عبقريته تمام التمام ("تمام التمام" بالتوتولوجى! خذ بالك!) أن أوزيريس هو أيضا جذر "عزرائيل"، مع أنه قال إنه إله الخصب والبعث، فما الذى جمع الشامى على المغربى؟ أليس عزرائيل هو ملك الموت؟ ترى كيف يكون ذلك؟ أبَعْثِىٌّ ومَوْتِىٌّ؟ على أن المسرحية لما تتم فصولا، إذ قالت ضاربة الودع اللويسعوضية إن أوزوريس وراء اسم "عنترة العبسى" أيضا! كيف؟ أقول لك: أليس "أوزير" هو المقابل للإله "أندرا" بن "أبسو" الهندى؟ إذن فعنترة العبسى هو عند عمنا الدكتور: "أندرا الأبسو"! وهو ما يعنى بالبلدى أن قبيلة "عبس" التى كان ينتمى إليها عنترة كانت تعرف أنها من نسل ذلك الإله، فكانت تنتظر منذ آلاف السنين (بلاش "آلاف" هذه المرة لأن لويس عوض لا يرجع بالعرب إلى كل هذا الزمن الطويل. خلها "ألفًا" واحدا، ففيها البركة والكفاية)، نقول: كانت تنتظر أن تسنح لها فرصة كى يكون عندها نسخة أخرى من "أندرا بن أبسو". ولم لا؟ أهى تقلّ عن الهنود عبدة الأبقار؟ فليكن لها إذن "عنترا بن عبسو"، وقد كان. وهذا ما أغضب الهنود فظلوا يتحينون الفرص كى يكون عندهم "أندرا بن أبسو" آخر حتى لا يساويهم العرب، إلى أن حملت واحدة من نسائهم بعد نحو ألفٍ ونصف ألفٍ آخر من السنوات فتوقعوا أن يكون الجنين ذكرا، إلا أنه كمصادفات الأفلام المصرية اللعينة جاء أنثى، فاضطروا أن يسموها: "أنديرا غاندى" (لاحظ الياء التى زادوها للتأنيث. ولاحظ كذلك "الميتاطيز" (بالطاء حتى تناسب ما نحن فيه) الذى حول "أبسو" إلى "أندو" فــ"غاندو" فــ"غاندى"! أىّ كلام والسلام!)، ومعناها: إلهة ضرب العشرات (وطبعا هى لم تكن تضرب العشرات، بل كانت تنضرب بها لأنها امرأة وليست رجلا، وكله فى عالم الوثنية هردميسه يا ام عيسى)! وأتحداك أنت وهو أن تثبتا خطأ أى شىء مما أقول! ولكن ما العلاقة بين "أنترة الأبسى" و"أندرا بن أبسو"؟ أكان هو أيضا يضرب عشرات؟ خيب الله كل عُتُلٍّ زَنِيم!
    إن المسألة كلها إنما تتعلق بالأرقام لا بالجذر الذى يزعم سيادته أنه مصدر كل هذا القرف. ومما يدل على ذلك أن "الاستمناء" لا يؤدى إلى تعشير (أىْ تحبيل) لأنه ماء مراق فى الهواء بلا أية فائدة، فلا علاقة له من ثم بالتعشير الذى يجعل كاتبُنا العبقرىُّ الجذرَ الذى نحن بصدده هو الأصل فيه وفى عبارة "يضرب عشرة"... إلخ. والدليل على ذلك أيضا أن هناك رقما آخر يُسْتَخْدَم للتعبير عن عملية "الاستمناء"، ألا وهو الرقم: "31"، ولا علاقة به بالعُشْر ولا بالتعشير. وهناك كلمة كنت أسمع الشبان الجرءاء يصفون بها ذلك، إذ يقولون إن فلانا "يسَرْتِن"، وكنت أفهم معناها رغم جهلى بأصلها وفصلها، إلى أن أخبرنى أحد المترجمين المعروفين أنها اشتقاق تعريبى لفعلٍ من ذلك الرقم الإنجليزى مع تحويل حرف "الثاء" فى "ثرتى وان: thirty one" إلى "سين" على عادة المصريين فى عدم إخراجهم ألسنتهم فى حروف "الثاء" و"الذال" و"الظاء" لأنهم مؤدبون ولا تخرج منهم العيبة. ومثلها أيضا فى الأرقام كلمة "يخمّس" التى كانت متداولة بين الطلبة الفقراء المدخنين، وأخبرنى بعضهم أنها فعل مشتق من الرقم "خمسة" حيث يجتمع خمسة أو نحو ذلك من هذا النوع من الطلاب على سيجارة واحدة حصلوا عليها بشِقّ الأَنْفُس ويظلون يتداولونها بينهم إلى أن يأتوا على آخر نَفَسٍ فيها.
    وعالم الأرقام عالم عجيب كما نعرف، ومنه فى التعابير العامية: "فلانة بترقص على واحدة ونص"، "واحد ونص وتلات اربع"، "واحد اتنين تلاتة اربعة، آلو ألوه" (عند تجريب مكبر الصوت فى الأفراح والمآتم)، "واحد شايل دقنه، التانى زعلان ليه؟"، "واحد ما فيش غيره"، "الأولة آه، والتانية آه، والتالتة آه"، "القُفّة اللى لها ودنين يشيلوها اتنين"، "التالتة تابتة"، "تلاتة أيمان بالله العظيم"، "علىّ الطلاق بالتلاتة"، "تالِت ومتَلِّت"، "يشيلوك مرابعة يا بعيد"، "جاك كُبّة مربَّعة"، "سلام مربَّع للجدعان"، "خمسة وخميسة"، "مبروك عليك سبع بركات"، "سبع سواقى بتِنْعِى"، "راح سبعة اسبانى" (ذهب هباءً)، "العَشَرة الأوائل"، "عَشَرة على عَشَرة"، "يلعب عشرة كوتشينة" (التى لا علاقة لها بذلك الجذر المقرف ولا بضرب العشرات على الإطلاق إلا إذا لطس الهواء دماغ أحدهم وزعم بشأنها المزاعم على طريقة الدكتور لويس عوض!)، ولعبة "عِدّ العشرة الشايبين" التى كنا نرى مَنْ حولنا يلعبونها ونحن صغار، وقول المصرى حين يضع يده فى يد محدثه كى يقسم له أن ما يخبره به هو الصدق بعينه: "وحياة العشرة دُول" (أى "وحياة أصابع يدينا العشرة المتشابكة")، "العشرة الطيبة"، "حطيت صوابعى العشرة منك فى الشق" (وهو ما طوّرتُه فى خطاب لى كتبته لأستاذى الدكتور شوقى ضيف وأنا فى السنة الثالثة بالكلية عام 1968- 1969م، إذ قلت له، أقصده هو وبقية الأساتذة: "إذا كنتم قد وضعتم أصابعكم العشرة منا فى الشق فقد وضعنا نحن فى الشق أصابعنا العشرين منكم: أصابع يدينا وأصابع قدمينا معا"، فجاء فى اليوم التالى وكنت أجلس فى الصف الأول من قاعة المحاضرة متحفزا وأخبرنى أنه قرأ رسالتى وأنه سيهدينى كتابا. وقد كان، إذ تكرَّم علىّ بعدها بقليل بكتابه: "العصر العباسى الثانى"، الذى كان حديث عهد بالصدور آنذاك فى طبعة جديدة. فكانت لفتة كريمة ونبيلة منه، رحمه الله وأسكنه بحبوحة الجنة)،"قمر اربعتاشر" (للفتاة الجميلة الصبيحة الوجه)، و"ابن ستين فى سبعين"، و"ابن ستة وستين كلب فى بعض"...إلخ!
    وننتقل إلى كلمة " صحراء" حيث نجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" (المتخصص فى مبحث ضرب العشرات، والتسعات والثمانيات والسبعات والستات والبنات فوق البيعة) يزعم أن "اسم "دوشيرت: Doshert Doshret," بمعنى "صحراء" هو فى تقديرى (تقديره هو، أبو تقدير) صيغة من "اسم "سقارة" المصرية، و"سَقَر" أو "صَقَر" العربية، بمعنى "جهنم" أو "مملكة الموتى". وبهذا المعنى يمكن تفسير تردد كلمة "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة". فالجذر إذن هو "قر" أو "كر" أو "خر" أو "حر" أو "جر" أو "شر" (بالميتاتيز: "روك")، وقد دخلت عليها "س" أو "ص" أو "ح" الابتدائية: إما لأنها صُوَرٌ من "dh-d"، وإما لأنها أداة السببية (ترى هل فهمتَ من هذا الكلام شيئا أيها القارئ؟ وهل عند أحد من الوقت أو القدرة أصلا ما يراجع به تلك الكتب، إن كان ثمة كتب بهذا الشكل، ليكشف هذا الهراء؟ إنه كلام وطحينة على حد قول المصريين! إن الرجل يزعم لنا أنه قد أحصى نجوم السماء فوجدها مليون تريليون نجم، وعلى المكذّب أن يعدها بنفسه ويرينا شطارته!). وهكذا خرجت من "قر": "سقر" و"سقارة" و"صحراء" و"صخر" و"حجر"...إلخ. و"طوكر" فى العامية المصرية هى صيغة من "صقر" و"سقر" و"سقارة"، وبهذا المعنى يكون اصطلاح "يرسل إلى طوكر" معناها غالبا: "يرسل إلى الجحيم" أصلا، وليس النفى إلى طوكر فى السودان كما يظن عادة، لأن النفى إلى السودان كان عادة فى "فازوغلى" فى السودان وليس إلى "طوكر". ولأن "سقر" و"سقارة" و"قر" و"قرارة" كانت من أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم بمثل ما تنصرف إلى معنى "الصحراء" ظهرت فى العربية عبارات مثل "سكرات الموت" دون أن يكون لها علاقة واضحة بفعل "سَكِر يَسْكَر"، أى "ثَمِل يَثْمَل". والكلمتان المتطابقتان من مجرد الهومونيمات التى تدعو إلى المجاز فى الاستعمال البلاغى: "وجاءت سَكْرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد" (ق/ 19)، "وترى الناس سُكارَى، وما هم بسُكَارى، ولكن عذاب الله شديد" (الحج/ 2). ومن جذر "كر" أيضا الألفاظ المتعلقة بمملكة الموت مثل اسم الملكين: "ناكر" و"نكير" ومادة "نشر- نشور"، وهى من "ناكر: نا+ شر"، وكذلك مادة "حشر" ومادة "الآخرة". واسم "قرارة= مملكة الموتى" بجوار "شارونة" فى المنيا. قارن "Acheren" (ص 543- 544).
    منه لله لويس عوض، فقد أصابنى بصداع رهيب من جراء هذه الثرثرة السخيفة الفارغة! ولا أدرى، بعد شارونة، لماذا لم يذكر اسمه فى هذه الهيصة والزمبليطة قائلا إن "لويس" مأخوذ من "إبليس" كبير قاطنى جهنم، أو من "هاديس" ملك جهنم مستقرّ إبليس، وبئس المصير! ذلك أن شارونة هى بلد الدكتور لويس، ولهذا أستغرب أنه لم تأخذه الجلالة فى غمرة الإسهال اللفظى الذى برع فيه أيما براعة حتى أصبح اسمه عنوانا مسجلا فى الشهر العقارى على ذلك، فلم يذكر اسمه فى هذا السياق!
    والآن نبدأ فى مناقشة هذا الكلام المصاطبى، وليكن آخر شىء قاله هو أول شىء نتناوله، وهو "قرارة"، التى يزعم كما يحلو له دون رقيب أو حسيب أنها مملكة الموتى، والتى قال فيها قبل ذلك إنها (كما هو الحال فى "سقر" و"سقارة" و"قر") كانت منذ أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم، وإنه "بهذا المعنى يمكن تفسير السبب فى تكرر "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة"...". فهل صحيح ما قاله عن تكرر كلمة "المستقر" و"المقر" فى القرآن الكريم؟ كعادتى سوف أترك النصوص تتكلم حتى لا أتحول إلى مفتى مصاطب كبعض الناس الذين لا تحس، رغم ما حصلوا عليه من شهادات دكتورية من الجامعات الأجنبية (أو "الأدنبية" بلغة المصاطب)، أنهم يمتازون عن أهل المصاطب فى شىء. وأهل المصاطب هم الريفيون السذج كما عهدتهم فى قريتى فى خمسينات القرن الماضى وستيناته الذين يظن الواحد منهم أنه أهل لتناول أى موضوع مع أنه لا يفهم الألف من كوز الذرة، فتراه يتحدث عن إسرائيل على أنه رجل ويسميه: "إسرائين ابن الكلب"، ويتمنى أن يلقاه يوما حتى يخنقه ويريح الناس من شره، أو تسمعه يقول عن "الميكروكروم": "المَكْرَفون" وعن "الكبريت": "الكَسْفَرِيت" وعن "كيس الشاى": "كَسْكَرِة (أى تذكرة) الشاى" وعن "الراديو": "الرَّضْوُنْ" و"التلفزيون": "الفِلْفِزْيُون"، ويدّعى أن محمود سليمان السفاح الذى شغل مصر فى أول الستينات من القرن الماضى، وحوّل نجيب محفوظ حكايته إلى رواية سياسية فلسفية بعنوان "اللص والكلاب"، قد عرض على جمال عبد الناصر أن يأتيه برئيس وزراء إسرائيل فى غَلَق (لاحظ: "فى غَلَقٍ صغير" لا فى "قُفَّةٍ كبيرة") ويسلمه له ويريحه منه ومن شرّه، لكن عبد الناصر (منه لله! ألا يقول أعداؤه عنه إنه كان أمريكى الهوى رغم كراهيته الظاهرية لـ"إسرائين ابن الكلب"؟) رفض هذا العرض السخىّ مفوِّتًا على مصر بهذا التصرف الأخرق فرصة التخلص من عدوها الألدّ إلى الأبد! فهذا هو كلام المصاطب كما كنت أسمعه فى قريتى وأنا طفل صغير!
    فماذا تقول النصوص القرآنية يا ترى؟ أوّلاً ليس فى القرآن المجيد (الذى يمثل القَذَى والأذى لعيون بعض الناس والسم الهارئ لبطونهم) كلمة "مقرّ" البتة، اللهم إلا إذا كان الكاتب يقصد "مقر الاتحاد الاشتراكى" المغدور مثلا مما لا صلة بينه وبين القرآن. وهذه أول بركة من بركات المصاطب، إذ واضح أن الكاتب قد جلس متسلطنا منجعصا كما كان أحلاس المصاطب فى القرية يفعلون أثناء طفولتى قبل أن يهدمها المجلس المحلى ليوسع الشوارع والحوارى ويقضى (منه لله هو أيضا!) على هذا الملمح الطريف من ملامح الفلكلور، وأخذ يهذى بكلام ما أنزل الله به من سلطان ويرصّ جملا وعبارات لا وجود لها خارج مخه! فهذه واحدة، أما الثانية فقد وردت كلمة "مستقر" فى كتاب الله العظيم 10 مرات: منها ستٌّ للدنيا (أكرر: للدنيا، وليس لعالم الموتى يا مفتئت!)، ومرتان للجنة ("للجنة"، لاحظ!)، ومرة واحدة (واحدة فقط يا خلق هوه!) لجهنم الحمراء التى ستُشْوَى فيها جلود بعض الناس المُفْتَرِيَة على الله الكذب. كذلك لا توجد فى كتاب الله كلمة اسمها"قرارة"، ومع ذلك فسوف نستعيض عنها بكلمة "قرار"، التى تكررت فى القرآن 9 مرات: سبعٌ منها فى أمور الدنيا، ومرةٌ للآخرة بوجه عام، ومرةٌ واحدةٌ (واحدة فقط يا عالم!) لجهنم الحمراء التى ستُشْوَى فيها... إلخ. هذه هى الحقيقة الساطعة التى تخزق عين كل مكابر جهول، ومن يقل بغير ذلك فهو مصطبىٌّ من بتوع "إسرائين ابن الكلب" و"المَكْرَفون" و"الفِلْفِزْيُون"، وإن قال عنه بعض الناس: "أستاذنا الدكتور فلان"! نعم مصطبىٌّ يريد أن يربط الناسُ فى أذهانهم بين الإسلام ووثنيات اليونان القدماء التى تتحدث عن مملكة الموتى تحت الأرض وما إلى ذلك، حتى لا يكون أحد أحسن من أحد وحتى يكون الإسلام الموحد النقى تمام النقاء مشوبا معيبا فلا يشمخ بأنفه على غيره من الديانات التى حُرِّفَتْ وزُيِّفَتْ وتحولت من أديان توحيدية إلى أديان وثنية تُعَدِّد الآلهة وتُؤَنْسِنهم وتأكل لحومهم وتشرب دماءهم كمتوحشى الزمن القديم!
    والآن نذهب إلى "سَكَرات الموت"، التى يزعم "أستاذنا الدكتور لويس عوض على سن ورمح" أنها لا علاقة لها بالسُّكْر، بل بسَقَر. طيب، فماذا نقول فى كلام النبى وهو فى أيامه الأخيرة يعانى من آلام مرضه الذى انتهى به إلى الوفاة، وذلك حين قال: "إن للموت لسَكَرات"؟ أوكان صلى الله عليه وسلم يقصد أنه يعانى من عذاب "سَقَر"؟ أستغفر الله العظيم! وعندما يقول القرآن الكريم عن الكافر فى نزعه الأخير: "وجاءت سَكْرَة الموت بالحقّ. ذلك ما كنتَ منه تَحِيد"، أكان يقصد أن هناك جهنّمًا فى الدنيا قبل جهنّم الآخرة؟ ترى ما وجه الصعوبة فى أن يكون للموت "سكرات"، بمعنى أنه قد يُغْشَى على الميّت كما يُغْشَى على السكران، أو يصيبه ما يصيبه من ذهول، أو يفقد السيطرة على نفسه مثله؟ إن للسُّكْر فى كلام العرب استعمالات متعددة لا صلة بينها وبين الخمر بمعناها الحرفى، استعمالات مجازية للتعبير عن تأثير نظرات عين الحبيبة وحديثها، والشعور بالسعادة أو الغم حسب حالة كل منا، وعن تسلط الآثام على نفوس البشر، وعن الغفلة عن الحقائق المرة التى تنتظر الإنسان فى منعطف الطريق... إلخ، و"سكرة الموت" أحد تلك الاستعمالات. وقد استعمل القرآن إلى جانب "سكرات الموت" تعبيرات أخرى تؤدى ذات المعنى تقريبا، كقوله عَزّ مِنْ قائل: "ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت..." (الأنعام/ 93)، وقوله يصف رعب المنافقين من القتال: "فإذا جاء الخوفُ رأيتَهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يُغْشَى عليه من الموت" (الأحزاب/ 19). كذلك فللسُّكْر مكان متميز فى دنيا المتصوفة وأشعارهم يعبرون به عن مشاعر الوجد والانتشاء بما يقولون إنه الاقتراب الحميم من الله، ولا أزيد. ونَفْسَ الشىء قُلْ فى أشعار الغزل والحب فى الأدب العربى. والعامة تقول: "راحت السَّكْرة، وجاءت الفكرة"، وهذا عكس ما يقول لويس عوض تماما، إذ الفكرة هنا تشير إلى المعاناة والندم والألم، أما السكرة فترمز إلى الفرح التام وعدم المبالاة. وكانت هناك قريبة لنا تقول ضاحكة كلما ألح الأطفال عندها على طلب السُّكّر: "جاك (أى "جاءتك"، بمعنى "أصابتك") سَكْرة يَنِّى!" (تدعو عليهم بالذهول والحيرة والدوخة، مداعبةً طبعًا ليس إلا)، ومن المؤكد أن يَنِّى ليس خازنا من خَزَنة سقر، بل هو خمارٌ إجريجىّ كما يدلّ اسمه. أم إن لـ"أستاذنا الدكتور" رأيا آخر؟ كذلك لو كانت "السَّكْرة" مأخوذة من "سَقَر" كما يزعم لويس عوض لقالوا (بالفصحى): "سَقَرات الموت" (لا "سكرات الموت")، و(بالعامية): "سَأَرات أو سَجَرات الموت" على عادة المتحدثين بالعامية من قلب القاف همزةً أو جيمًا قاهريةً حسب نطق البلد الذى ينتمى إليه المتحدث. أليس كذلك؟
    أما أنا فلا أصدق للحظة واحدة أن الدكتور لويس عوض يجهل شيئا من هذا، وإلا كانت كارثة، وإن كان جاهلا فى أشياء أخرى كثيرة جهلا فاحشا مخزيا كما لاحظنا، لكنه فى كلا الحالين يعمل على إشاعة الاضطراب فى كل شىء، وما عبارة "الفوضى الخلاقة" التى قالتها الآنسة كوندى بالمنفصلة عما كان لويس عوض يرمى إليه، إذ هم كلهم ينزعون عن قوس واحدة، ويصوبونها نحو ذات الهدف! وما دفاعه وحده من بين الكتاب المصريين عن مجلة "حوار" فى الستينات حين انكشف المستور وعرف القاصى والدانى أنها تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتعمل على تنفيذ غايات الولايات المتحدة الأمريكية فى بلاد العرب والمسلمين ببعيد! وما انتهازه كل فرصة لتحريض الدولة على الإسلام والتعبير عن الضيق به بالذى يمكن أن يغيب عن الأذهان!
    ومن ذلك أنه فى ورقة قرأها فى مؤتمر اتحاد الخريجين الأمريكيين العرب فى 31 أكتوبر 1971م فى بوسطن سخر سخرية شديدة كلها غيظ وكراهية نارية حقود من وعاظ القرى المتخلفين المنتمين إلى العصور الوسطى على حد تعبيره، وكذلك المنابر التى أتاحتها لهم الدولة لكى يتغلغلوا بها إلى عقول الملايين (يقصد المساجد بطبيعة الحال)، حتى إنه عند نداء "الله أكبر" تحسب أن القاهرة غارقة فى حلم من التقوى الشاملة منذ عهد الخلفاء الراشدين. كما عرّج فى ذات الورقة على القومية العربية فتهكم بها وأبدى غيظه من اتساعها لتشمل كل شىء بدءا من العنصرية السافرة إلى الجامعة الإسلامية طبقا لمراعمه الكاذبة المدلسة. وبالمثل هبش فى كل من يقول إن هناك اشتراكية عربية تنبع من آيات القرآن، كما زعم كذبا ومينا أن هذا فكر ثيوقراطى، مع أن الثيوقراطية هى حكم رجال الدين، وهو ما لم يحدث فى بلاد الإسلام، بل مارسته الكنيسة فى العصور الوسطى المظلمة عندهم، المنيرة عندنا، ويريد بعض كبارهم الآن أن يعيدوا تلك الأيام السود، بل أعادوا بعض جوانبها فعلا (انظر لويس عوض/ رحلة الشرق والغرب/ سلسلة "اقرأ"/ يونيه 1972م/ العدد 354/ 111- 112، 117). وتنظر فى الكتاب لعلك أن تجد شيئا مناظرا لهذا فى السخرية من الكنيسة أو التحذير من جهل قساوستها وتخلف عقول وعاظها ومرتاديها والشعور بالانزعاج من ضجة نواقيسها والانتقاد الحاد لثيوقراطيتها فلا تسمع إلا صمتا إن كان الصمت يُسْمَع! إذن فليس هناك تخلف إلا فى المساجد وعند المسلمين، أما الأقباط فهم مثال التقدم والتحضر، وأما كنائسهم فهى جنة الله على الأرض وقمة التقدم والتنوير!
    وعودةً إلى موضوعنا نشير إلى أن فى اللغة الفرنسية مثلا التعبير التالى: "ivre d'orgueil: سكرانُ من الكِبْر"، وهو ما نقول عنه فى لغتنا: "منتفخٌ كبرا وغرورا"، و"ivress de joie: سكرة البهجة"، أو "نشوة السعادة" مثلما نقول نحن، إذ النشوة هى السَّكْرة كما هو واضح، ولا علاقة للأمر بسَقَر من قريب أو بعيد. وفى الإنجليزية أيضا: "intoxicated by success: أسكره النجاح" و"intoxicated with joy: نشوان من الفرحة". وفى الكتاب المقدس: "أُسْكِر سهامي بدمٍ، ويأكل سيفي لحما: بدم القتلى والسبايا، ومن رؤوس قواد العدو" (تثنية/ 32/ 42)، "ليُرْوِك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها أسْكَرُ دائما" (أمثال/ 5/ 19)، "بابل كأس ذهبٍ بيد الرب تسكر كل الأرض" (إرميا/ 17/ 5)، "فدُسْتُ شعوبا بغضبي، وأسكرتُهم بغيظي، وأجريتُ على الأرض عصيرهم" (إشعياء/ 6/ 63)، "وأُطْعِم ظالميك لحم أنفسهم، ويسكرون بدمهم كما من سُلاَف، فيعلم كل بشر أني أنا الرب مخلّصك وفاديك " (إشعياء/ 26/ 49)، "قد سَكِروا، وليس من الخمر. ترنحوا، وليس من المُسْكِر" (إشعياء/ 29/ 9)، "وتشربون الدم إلى السُّكْر من ذبيحتى التى ذبحتُها لكم" (حزقيال/ 39/ 17)، "ورأيت المرأة سكرى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع" (رؤيا يوحنا/ 6/ 17)، "وسَكِر سُكّان الأرض من خمر زِنَاها" (رؤيا يوحنا/ 17/ 3).
    كذلك يترجم المستشرق ورتبات صاحب "Arabic-English Dictionary" على سبيل المثال "سكرة الموت" بـ"agony or confusion of mind caused by the approach of death"، كما يترجم "سَكْرة الهمّ" (وهى قريبة من "سَكْرة الموت" إلى حد بعيد) بــ"oppressive sensation arising from anxiety" قولا واحدا دون مماحكات أو تنطعات فاضية! ومثله المستشرق هانز فير صاحب المعجم العربى- الإنجليزى: "A Dictionary of Modern Written Arabic"، الذى ترجمها بــ"agony of death"، وكذلك إلياس أنطون إلياس صاحب القاموس العصرى العربى- الإنجليزى، الذى ترجمها بــ"death pang, agony". بل إن فى كلتا اللغتين تعبيرا يربط بين السُّكْر والموت، وهو "ivre mort"، "dead drunk"، أى "سكران لدرجة الموت"، أو كما نقول بالعامية: "سكران طينة"، ولا علاقة لهذا التعبير بــ"سَقَر" على الإطلاق كما لا يحتاج الأمر إلى شرح. وقد ترجم عدد من أشهر مترجمى القرآن إلى الفرنسية، وهم إدوار مونتيه وريجى بلاشير ود. ماسون ومحمد حميد الله وچان- لوى ميشون، قوله تعالى: "سكرة الموت" بــ"l'ivresse de la mort"، وواضح أنهم قد ترجموا العبارة كما هى بما يدل على أن الفرنسية تعرف مثل هذا التعبير حرفيا أو على الأقل: تتسع له ولا تجد فيه أدنى غرابة، وأنه ليس من "سَقَر" فى قليل أو كثير.
    أما طوكر (التى تتبع ولاية البحر الأحمر فى السودان ويبلغ تعداد سكانها الآن حوالى 22700 نسمة، وكانت مسرحا لمعارك طاحنة بين عثمان دقنة الثائر السودانى المسلم وعتاولة الجيش البريطانى فى أواخر القرن التاسع عشر أوقع بهم البطل العربى المسلم خلالها عدة هزائم ساحقة دفعت رديارد كبلنج الشاعر البريطانى المتعصب إلى الإشادة القوية به وبجنوده فى قصيدةٍ جِدِّ مشهورة، ونجا ونستون تشرشل، الذى كان مراسلا صحفيا آنذاك، من الموت فى إحداها بأعجوبة) فليس لى من تعليق على كلام المصاطب الذى قاله بشأنها "أستاذنا الدكتور لويس عوض" إلا أن التعبير المرتبط بها لم يكن له وجود، بل إن اسمها نفسه لم يكن يدور على ألسنة المصريين، قبل انتشار عقوبة النفى إليها من قِبَل السلطات المصرية التى كانت تبسط سلطانها آنذاك على السودان ومصر معا (وكان رفاعة رافع الطهطاوى ممن وُقِّعَتْ عليهم تلك العقوبة فى عهد عباس الأول)، وإلا فليدلنا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على عكس ما نقول. وليس من المعقول أن يزعم زاعم أن المصريين كانوا لا يزالون بعد كل تلك الدهور المتطاولة يحتفظون بمعاجم اللغات القديمة التى ماتت وانجحمت كى يفتحوها ويبحثوا عن الكلمة التى تدل على العالم السفلى، عالم الأموات وجهنم الحمراء، ليُدْخِلوها فى كلامهم كى تدل على مدينة اسمها "طوكر" فى السودان، وتسوقهم المصادفة المحضة إلى كلمةٍ شبيهةٍ بــ"طوكر" هذه من دون كل الكلمات الأخرى التى تعد بعشرات الألوف! اسم النبى حارسك وصائنك يا دكتور لويس! عجيب أمر كل تلك المصادفات التى تتفوق على مصادفات الأفلام المصرية القديمة! وكل هذا من أجل إغراقنا فى وثنيات الإغريق وما أشبه! فلْيُسَوِّق "أستاذنا الدكتور بتاع روزا مستيكا" وثنيات الإغريق فى مكان آخر غير بلاد المسلمين، وإلا أحضرت له البُعْبُع المرعب محمود شاكر!
    وأما "ناكر ونكير" فقد بحثتُ فى موقع آل البيت الأردنى (Al Tafsir.com - Tafseer Holy Quran from all Tafseer Schools, Quran Translations, Quran Recitations, Quran Interpretation (Tafseer), Quran Sciences, and Love In Quran) الذى يضم عشرات التفاسير من مختلف الاتجاهات والمذاهب والعصور فلم أجد فى كلام المفسرين إلا هذا النص اليتيم فى كتاب "مجمع البيان في تفسير القران" للطَّبَرْسِىّ الشيعى الاثنى عشرى: "روى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (ع) قال: سورة المُلْك هي المانعة تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة: "سورة المـُلْك". ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يُكْتَب من الغافلين. وإني لأركع بها بعد العشاء الآخرة وأنا جالس. وإن الذي كان يقرأها في حياته في يومه وليلته إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قِبَل رجليه قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. قد كان هذا العبد يقوم عليَّ فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة. فإذا أتياه من قِبَل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. كان هذا العبد وقد وعى سورة الملك. وإذا أتياه من قِبَل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. قد كان هذا العبد يقرأ في كل يوم وليلة سورة الملك". وهذا، كما ترى، كلام لا رأس له ولا ذنب، وهو كلام عامى من أوله إلى آخره حسبما هو واضح، وفوق ذلك فليس فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة شىء أىّ شىء عن ناكر ونكير هذين!
    والآن لابأس أن نعرّج فى طريقنا على ما قاله فى ص 257 بشأن الأصل الخاص بلفظ "حماطة"، الذى يقول إنه مأخوذ، فيما يبدو، من الاسم: "أبتا: Ab-ta"، وهو أحد أسماء الثعابين المتعددة التى يصارعها الميت فى الدار الآخرة، فى الأساطير بطبيعة الحال. لكن أنَّى له بأن "الحماطة" تعنى "الثعبان"؟ الجواب، كما يدَّعى، هو أن المعرى قال هذا فى "رسالة الغفران". فهل هذا صحيح؟ لقد سبق أن أتى لويس عوض بالمعجز الباهر فى الجهل والغشم والتغشمر والهجوم على العلم هجوم الثيران ذات الحوافر الغبية على محالّ الخزف والبلور التى تبيع التحف الرقيقة وتتعامل مع الناس الأنيقة، وذلك عندما طلع علينا فى ستينات القرن الماضى بنظرية متهافتة عن تأثر أبى العلاء براهب اللاذقية، وقرأ بعبقريته الفريدة كلمة "الصِّلِّيان"، وهو نبات ترعاه الإبل فى الصحراء، على أنه "الصُّلْبان" ليقرر من وراء ذلك شيئا فى صالح دينه وصليبه بإيهام القراء المساكين أن حلب صارت تغصّ أيام أبى العلاء بالصُّلْبان مما يكشف عن أعماقه الحقيقية، وهو الرجل المشتهر بالعلمانية. وكان من ثماره المرة ذلك الدرس الذى حاول أن يعلمه إياه محمود شاكر لعله أن يتعلم كيف يبحث ويكتب ويؤلف، وكانت فضيحته على الملإ فضيحة لم تحدث من قبل، فضيحة بجلاجل مما يسمونه: "جُرْسَة"، ورغم ذلك لم يتعلم شيئا رغم تأكيده فى مقدمة كتابه: "على هامش الغفران" أنه قد استفاد من الأستاذ شاكر رحمه الله، فعاد اليوم يكرر ذات الجهل وذات الغشم وذات التغشمر وذات الهجوم الثيرانى الأظلافى. ولكن لا ينبغى أن نستبق الأحداث، وتعالَوْا أولا نقرأ ما كتبه المعرى فى رسالته. والحمد لله أنه لن يكون علينا أن نذهب بعيدا فى البحث عن هذه الكلمة، إذ هى موجودة فى أول فقرة من الكتاب، وهذا نص ما كتبه شاعر المعرة وفيلسوفها:
    "قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل، وهو إلى كلّ الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة ما كانت قطّ أفانية، ولا الناكزة بها غانية، تثمر من مودّة مولاي الشيخ الجليل، كبت الله عدوّه، وأدام رواحه إلى الفضل وغدّوه، ما لو حملته العالية من الشجر، لدنت إلى الأرض غصونها، وأذيل من تلك الثمرة مصونها. والحماطة ضرب من الشجر، يقال لها إذا كانت رطبة: أفانية، فإذا يبست فهي حماطة. قال الشاعر:
    إذا أمّ الوُلَيِّد لم تطـعـنـي حَنَوْتُ لها يدي بعصا حماطِ
    وقلت لها: عليك بني أقيش* فإنّك غير معجبة الشَّطاط
    وتوصف الحماطة بإلف الحيّات لها، قال الشاعر:
    أتيح لها، وكان أخا عـيال، شجاعٌ في الحماطة مستكنُّ
    وإن الحماطة التي في مقرّي لتجد من الشوق حماطة، ليست بالمصادفة إماطة. والحماطة حرقة القلب. قال الشاعر: وهَمٍّ تملأ الأحشاء منه. فأما الحماطة المبدوء بها فهي حبة القلب. قال الشاعر:
    رمـت حـمـاطة قـلـب غـير مـنـصــرفٍ عنهـا، بـأسـهـم لـحـظ لـم تـكـن غـربـًا"
    فهل فى كلام المعرى ما يدل على أن "الحماطة" التى يتفلسف عبقرينا ويضرب بشأنها الودع ليتتبع تاريخها الضارب فى أغوار الدهور هى الثعبان؟ إنها هى حبة القلب مرة، وحرقته مرة أخرى، وشجرة كشجرة التين مرة ثالثة. وهذه الشجرة قد يستكن فيها الثعبان، ولكن ذلك لا يجعلها هى نفسها ثعبانا، وإلا صار الشق هو أيضا ثعبانا، وصار الماء كذلك ثعبانا، وصارت الكتب ثعابين، وصارت المخالى والأسفاط ثعابين، إذ الثعابين قد تسكن الشقوق، وقد تسبح فى المياه، وقد تختبئ بين الكتب، وقد توضع فى المخالى والأسفاط، ولكن الجاهلين لا يفقهون.
    وعلى أية حال هذه هى معانى "الحماطة" حسبما قال ابن منظور، ابن منظور اليابانى الأصلى لا ابن منظور التجارى المضروب المغشوش الذى لا يصلح إلا للرمى به فى الزبالة، وهذه المعانى لا تخرج عما قرأناه فى "رسالة الغفران". يقول ابن منظور: "الحَماطةُ: حُرْقةٌ وخُشونةٌ يجدُها الرجل في حَلْقِه. وحَماطةُ القلب: سَوادُه. وأَنشد ثعلب:
    ليتَ الغُرابَ رَمى حَماطَةَ قَلْبِه عَمْروٌ بأسْهُمِه التي لم تُلْغَـبِ
    وقولهم: أَصَبْتُ حَماطةَ قلبِه، أَي حَبَّةَ قَلبِه. الأَزهري: يقال: إذا ضَرَبْتَ فأَوْجِع، ولا تُحَمِّطْ، فإِن التَّحْميطَ ليس بشيء. يقول: بالِغْ. والتحْمِيطُ: أَن يُضْرَبَ الرجلُ فيقولَ: ما أَوْجَعني ضرْبُه، أَي لم يُبالِغْ. الأَزهري: الحَماطُ: من ثَمَر اليمن معروف عندهم يُؤكل. قال: وهو يشبه التِّين. قال: وقيل إِنه مثل فِرْسِكِ الخَوْخِ. ابن سيده: الحَماطُ: شجر التين الجبليّ. قال أَبو حنيفة: أَخبرني بعض الأَعراب أَنه في مثل نبات التين غير أَنه أَصغر ورقًا، وله تين كثير صغار من كل لون: أَسود وأَملح وأَصفر، وهو شديد الحلاوة يُحْرِقُ الفم إذا كان رطبًا ويَعْقِرُه، فإِذا جَفَّ ذهب ذلك عنه. وهو يُدَّخَر، وله إذا جَفَّ مَتانةٌ وعُلوكة، والإِبل والغنم ترعاه وتأْكل نَبْتَه. وقال مرّة: الحَماط: التين الجبليّ. والحَماطُ: شجر من نبات جبال السَّراةِ، وقيل: هو الأَفانَى إذا يَبِسَ. قال أَبو حنيفة: هو مثل الصِّلِّيانِ، إِلا أَنه خَشِنُ المَسِّ. الواحدة منها حَماطةٌ. أَبو عمرو: إذا يبس الأَفانَى فهو الحَمَاط. قال الأَزهري: الحَمَاطةُ عند العرب هي الحَلَمةُ وهي من الجَنْبةِ، وأَما الأَفانَى فهو من العُشْب الذي يَتناثَر. الجوهري: الحَماطُ يَبِيسُ الأَفانَى، تأْلفه الحيات. يقال: شيطانُ حَمَاطٍ، كما يقال: ذئبُ غَضًا، وتَيْسُ حُلَّبٍ. قال الراجز، وقد شبه المرأَة بحَيَّةٍ له عُرْف:
    عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِـفُ، كمِثْل شَيْطانِ الحَماطِ أَعْرَفُ
    الواحدة حَماطة. الأَزهري: العرب تقول لجِنْسٍ من الحيّاتِ: شيطانُ الحَماط، وقيل: الحماطة (بلغة هذيل): شجر عِظامٌ تنبت في بلادهم تأْلفها الحيات. وأَنشد بعضهم: " كأَمْثالِ العِصِيِّ من الحَماطِ". والحَماطُ: تبن الذُّرة خاصّة؛ عن أَبي حنيفة".
    وبعد، فقد خطر لى أن أعود إلى كتاب لويس عوض: "على هامش الغفران" لأرى ما لعله يكون قد قاله فى "حماطة" التى وردت فى كتاب المعرى موضوع "الهامش"، فوجدته قد فهمها على وجهها الصحيح، فتأكد لدىّ أنه قد فعلها هنا عن عمد ما دام قد فهمها الفهم السليم قبل ذلك بعشرين عاما، وإن كان كديدنه الخبيث قد حاول رغم ذلك هناك أن يثلِّث عقيدة المعرى بخلع معانى الخطيئة الأولى والسقوط وصكوك الغفران على ما كتبه الشاعر المسلم رحمه الله، ولا رحم من أراد صبغ فكره بالصبغة النصرانية!
    ومن التفسيرات القرآنية لسيدنا الشيخ لويس عوض تفسيره لــ"العين الحَمِئَة" فى قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)" بأنها "عين شمس" أو "هليوبوليس" أو "مدينة الشمس"، فهى "عين هليوس" أو "عين حورس" أو "عين حميم" أو "عين شمس"، وإلا كان صعبًا علينا، كما يقول، أن نتصور غروب الشمس فى بئر من نار يقيم عندها الناس (ص 573). ولكن من قال إن العين بئر، وإنها بئر من نار، وإن الشمس غربت فيها فعلا؟ إن العين قد تكون بئرا، وقد تكون بحيرة مثلا. كما أن "حمئة" لا تعنى أنها مملوءة نارا بالضرورة، بل قد تعنى أن ماءها حار، وطينها أسود كما يقول المفسرون. أما إن أصر على أنها مملوءة نارا فمن الممكن أن تكون فى موضعٍ مشبَّعٍ بالنفط تشتعل فيه النار على الدوام أو لفترات طويلة. ويبقى غروبها فى تلك العين. وبطبيعة الحال فإن الشمس لا تغرب فى العيون، ولا فى غير العيون، والقرآن واضح تمام الوضوح فى النص على أنها فى السماء وأنها مستمرة فى الجريان فى موضعها هذا إلى أجلها المقدور.
    وعلى هذا فالقول بأنها تغرب فى الموضع المعروف قرب القاهرة والمسمى: "عين شمس" لن يحل المشكلة، إذ الشمس لا تغرب لا فى عينٍ حمئةٍ ولا فى عين شمس، بل هى لا تغرب فى أى مكان على الإطلاق بالمعنى الحرفى، لسبب بسيط هو أنها لا تصعد من الأرض ولا تهبط فيها، بل الأرض هى التى تتحرك حولها مع دورانها فى ذات الوقت حول نفسها على محور مائل كما هو معروف، فينشأ عن ذلك ابتعاد المواضع التى فوق الأرض عن الشمس تدريجا ثم العودة إلى مواجهتها لها بنفس الطريقة على التوالى، وهو ما نسميه: "غروبا" و"شروقا" على سبيل الظاهر لا أكثر ولا أقل. والقرآن قد جرى على تلك الطريقة لأنه نزل بلغة العرب، ولغة العرب ومعها كل لغات العالم تقول ذلك فى مثل تلك الظروف.
    وهذه طائفة من الشواهد النثرية والشعرية فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية يتحدث فيها أصحابها لا على أن الشمس تشرق وتغرب فحسب، بل عن سقوطها أو غوصها أو غروبها فى البحر أو فى السهل أو ما إلى هذا: "Alone stood I atop a little hill, And beheld the light-blue sea lying still, And saw the sun go down into the sea" )من قصيدة بعنوان "AN EPISTLE" لـ (Numaldasan،"The sun sinks down into the sea" (من رواية"The Water-Babies" لــ(Charles Kingsley، "The Sun came up upon the left, out of the sea came he! And he shone bright, and on the right Went down into the sea" (من قصيدة"The Rime of the Ancient Mariner" لكوليردج)، "The red sun going down into the sea at Scheveningen" (من"Letter from Theo van Gogh to Vincent Gogh van Auvers-sur-Oise, 30 June 1890")، "The sun sank slowly into the sea" (من مقال"The Light Of The Setting Sun" لـRocky)، "Just then the sun plunged into the sea it popped out from behind the gray cloud screen that had obscured the fiery disk" (من مقال بعنوان "Taps for three war buddies" فى موقع ("sun-herald.com"،"le soleil descendre dans l'ocean…" (من"L'Ile des Pinguins" لأناتول فرانس)، "Le soleil, disparu dans la mer, avait laissé le ciel tout rouge, et cette lueur saignait aussi sur les grandes pierres, nos voisines" (من " En Bretagne" لجى دى موباسان)، "Spectacle saisissant, que le soleil couchant dans ces dunes impressionnantes" (من مقال"Raid en Libye " لـRoger Vacheresse)، "On comprend aussi que la blessure de Réginald a quelque chose du Soleil plongeant dans la mer" (من"Les Chants de Maldoror". لــle comte de Lautréamont)
    بقى أن نقول إنه لو كان القرآن قد أراد منطقة عين شمس كما زعم سيدنا الشيخ لويس بن عوض المصرى مولدًا، الكمبريدجىّ دكتوريّةً، البكاش علمًا لما نكَّرها قائلا إنها مجرد "عينٍ حمئةٍ" من عيونٍ حمئةٍ كثيرة، بل لقال: "وجدها تغرب فى عين شمس" أو "فى مكان يقال له: عين شمس": هكذا باستخدام اسم العَلَم كما هو دون ترجمته لأن أسماء الأعلام لا تترجم. ثم إنه لا يقال إن المصريين كانوا بالنسبة لذى القرنين "قوما": هكذا بالتنكير والتجهيل، بل كانوا شعبا ذا حضارة ومدنية وله دولة مستقرة مشهورة فى العالمين تحدث عنها القرآن فى عدة مواضع منه. لكل هذا لا أملك إلا أن أقهقه مما اجترحت يد لويس عوض من تفسيرٍ حلمنتيشىّ فى سياق لا يحتمل التفسيرات الحلمنتيشية!
    وهناك وجه آخر فى تفسير الآية الكريمة رأيت ابن حزم فى كتابه العبقرى العظيم: "الفِصَل فى الملل والنِّحَل يقول به ويرفض كل ما سواه، وهو أن الذى كان فى "عينٍ حمئةٍ" ليس هو الشمس، بل ذو القرنين نفسه. والمعنى حينئذ هو أن الرجل قد أدركه المغرب (أو أدرك هو المغرب) وهو فى العين الحمئة. وتركيب الجملة يسمح بهذا بشىء غير قليل من الوجاهة، وإن لم يكن هو المعنى الذى يتبادر للذهن للوهلة الأولى. وشِبْه جملة "فى عين حمئة" فى هذه الحالة سيكون ظرفًا متعلقًا بفاعل "وجدها" وليس بالمفعول، أى أنه يصور حال ذى القرنين لا الشمس، وإن كان من المفسرين من يرفض هذا التوجيه كأبى حيان فى "البحر المحيط"، إذ يرى فيه لونا من التعسف. وسأضرب لهذا التركيب مثلا أَبْسَط يوضح ما أقول، فمثلا لو قلنا: "ضرب سعيدٌ رشادًا واقفا" لجاز أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، وسعيد واقف، أو أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، ورشاد واقف. والسياق هو الذى يوضح ما يراد.
    *****
    ولأن صاحب الكتاب لا يعتمد على علم ولا يريد بلوغ الحقيقة بل يكتب ما يعنّ له لغاية فى نفس يعقوب نراه يتناقض بقول شىء فى أمر ما فى موضع من المواضع، وقول شىء غيره فى الأمر ذاته فى موضع آخر. ذلك أن كل ما يكتبه فى هذا الكتاب إنما هو خطرات من وساوسه لا علم فيها ولا منطق ولا عقل. مثال ذلك أنه فى ص 172- 173 يقول إن كلمة "طور: tur" فى العبرية معناها سور من الحجر يحيط بمكان ما، وإن كلمة "طيارة: tyara" فى السريانية تعنى "حظيرة البهائم". ولذلك يطلب من القارئ أن يقارن بها كلمة "طوالة" المصرية بلغة الفلاحين، بمعنى "حظيرة بهائم". ثم يقفز إلى القول بأن جذر كلمة "سور" هو نفسه، فيما يبدو، جذر "طور" العبرية أو "طيارا" السريانية، وربما أيضا لا أدرى ماذا من اللغات الأخرى. لكنه فى ص 267- 268 يقول إن "كلمة "أطت: at.t" أو "طت: t.t" فى المصرية القديمة تعنى "خوان، مائدة (ما+ ئدت)". وجذر كلمة "منضدة (من+ ضدت)" هو غالبا جذر كلمة "تابوت" عن طريق "طاؤات: tau.t"، بل هو غالبا جذر "تابولا: tabula" الهندية الأوربية بمعنى "مائدة" (قارن "طاولة" و"طبلية"). وصيغة "طاولة" الشامية بمعنى "مائدة" تدل على أن "تابولا" الهندية الأوربية هى أصلا "طاؤلا". ومن هذا يُفْهَم أن كلمة "طوالة" المألوفة فى الريف المصرى بمعنى "مخول" أو "مائدة طعام البهائم" داخل الحظيرة من نفس الجذر".
    إنه رجل سالك، وسككه كلها مسالك! لكنها للأسف لا تؤدى إلا إلى المآزق والمهالك! فى النص الأول نرى كلمة "طوالة" تعنى: "حظيرة البهائم"، أما فى النص الثانى فأصبحت تعنى: "مائدة طعام البهائم داخل الحظيرة". هيه؟ ما رأيكم فى هذه الخنفشاريات اللويسعوضية؟ ثم هل هناك يا ترى مائدة طعام للبهائم؟ لم يبق إلا أن يقول جنابه الأعز الأكرم إن هناك خَدَمًا وحَشَمًا يقومون على خدمة البهائم ويقفون "زنهار" حول المائدة، وقد وضع بعضهم طراطيرهم البيضاء على رؤوسهم، وتمنطق بعضهم الآخر بالشالات الحريرية، وأخذوا ينحنون لحصان باشا وحمارة هانم وكبش بك وربة الصون والعفاف مدموازيل بقرة، ويعرضون خدماتهم منتظرين إشارة منهم كى يهرول بعضهم إلى المطبخ، ويفتح فريق آخر منهم الثلاجات ليحضروا ما لذ وطاب من الكفتة والكباب، وعصائر التفاح والعنّاب! الواقع أن "الطوالة" هى بكل بساطة "مِذْوَد البهائم"، أى أنه لا زريبة ولا مائدة ولا دياولو! الله يخرب بيت شيطانك يا دكتور لويس!
    وعلى كل حال فأين الثرثرة الفارغة التى طوف بنا معها بين لغات العالم المختلفة وهو يضرب الودع وينادى "أبيّن زين أبيّن" كما كانت تفعل هدى سلطان (بلدياتى من قرية أبو جندى التى تبعد عن قريتنا 4 كيلومترات بمحافظة الغربية) فى أغنيتها المشهورة التى كنت أنسجم كلما سمعتها وأنا ولد صغير؟ وما حكاية "الطيارة" هذه التى فلق بها دماغنا قبلا والتى قال إنها "الطُّوَالة"؟ إنه كلام الليل المدهون بزبدة والذى يطلع عليه النهار فيسيح! ولو أخذنا ندقق مع "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فسوف نتعبه ونتعب أنفسنا دون داع لأنه لا يسمع الكلام، ولا يريد العَلاَم، بل هو صاحب هدف محدد يريد بلوغه والسلام! وبدلا من ذلك سأُسِرّ لك أيها القارئ الآن بسر هامّ، ألا وهو أننى أستفدت من تلك الفقرة للويس عوض، لكن دون أن يكون له أدنى فضل فى هذه الاستفادة. كيف؟ لقد كان لنا جيران فى القرية لهم زريبة مَوَاشٍ فى الغيط قريبا من البلد كانوا يربطون فيها البهائم طوال النهار، فإذا حل المغرب حَلُّوها ورجعوا بها إلى زريبة البيت مرة أخرى. وكنت أسمعهم يطلقون عليها: "طيارة"، ولم أك أفهم معناها ولا السبب الذى حدا بهم إلى تسميتها هكذا بدلا من "زريبة". والآن، والآن فقط، أحسب أننى وقعت على السر، وهو أنها كلمة سريانية بمعنى "الزريبة" أيضا، إذا صح ما يقوله لويس عوض طبعا. لكن يبقى السؤال قائما: لماذا يفرق الفلاح المصرى بين زريبة البيت وزريبة الغيط؟ "تلك هى المسألة" كما يقول الشيخ زبير، الذى يسمونه تحريفا بالإنجليزية: شكسبير! خلاصة القول إن الدكتور لويس عوض رجل جاهز ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء، مما يذكرنى بباعة اللبان الذكر فى الأوتوبيسات أيام زمان، أيام الجنيه الجِبْس والكُفْتَة التى كانت تباع بالمتر (يا لها من أيام!)، إذ كانوا أول ما ينط الواحد منهم فى الأوتوبيس ينطلق فى موال طويل عريض عن مزايا اللبان الذكر: فهو يحمّر الخدود، ويبرم الكعوب، ويَجْلِى الصدور، ويطرد البلغم، وينقّى الفم... إلى آخر ما لا أدريه أيضا من مزايا ذلك اللبان العجيب. فكذلك الدكتور لويس عوض الجاهز لإرجاع أية كلمة إلى أصلها، أيا كان العصر الذى تنتمى إليه أو اللغة التى نفضت الذين خلّفوها، فهو قد أحاط بكل شىء علما، وسبحان المعطى، إن لم أقل: سبحانه هو، أستغفر الله!
    مثال آخر: فهو فى ص 179 يردّ كلمة "إلْيَة" إلى المادة التى خرجت منها فى المصرية القديمة كلمتا "hbs: فخذ، زند" و":hpd إلية/ إليتان"، وهى المادة التى يقول إنها أساس كلمة "فخذ" بالميتاتيز (لعنة الله على الميتاتيز والذين أشاروا به، فهو منذ أن سمع به وهو كالهبلة التى أمسكت بطبلة، وهات يا رَقْع فى الدماغ!). لكنّ هذا قِيلَ بليْل، ونحن نعرف (وبخاصة مع كاتب عبقرى كلويس عوض لا يحترم عقلا ولا منطقا ولا منهجا علميا، بل يكفيه أن ينساق وراء خطرات وساوسه، فإذا بها هى العلم كل العلم، والمنهج كل المنهج، والمنطق كل المنطق! ذلك أن العباقرة لا يخضعون لقاعدة، بل لنزوات شياطينهم ليس إلا)، نحن نعرف أن كلام الليل عند لويس عوض يمحوه النهار، ولا دائم إلا وجه الله! ففى ص 196، أى بعد سبع عشرة صفحة لا غير، نسى هذا الميتاتيزى ما قاله وقال كلاما آخر، وكأننا عيال صغار ليست لنا كلمة! ذلك أنه، بعد عدة تنطيطات وحركات ميتاتيزية وتوتولوجية قرعاء من التى لا تساوى بصلة، أصدر جنابه فرمانا ساميا بأن كلمة "إلْيَة" (التى أدعو الله أن يَنْشَكّ فيها حتى يريحنا من خوتة الدماغ الكذابة هذه) مأخوذة من الجذر (ولاحظوا التوافق الذى يعجب القمص المنكوح ذا الدبر المقروح فى هذا السياق بين الإلية والجذر) اليونانى: ":γλουtεs جيلوت" الذى انقلب إلى ":ylout يلوت". وطبعا المسافة بسيطة بين "يلوت" هذه و"الإلية"! فما قولكم دام فضلكم فى هذا العلم الخارج من...؟ من أين؟ أترك لكم الإجابة! وبالمناسبة أرجو ألا تسألونى كيف كتبتُ هذه الكلمة اليونانية وأمثالها هنا وأنا لا أعرف من تلك اللغة أبيض ولا أسود! وإلا فالجواب حاضر، وهو أن الذى أقدر لويس عوض على أن يكتبها وهو لا يفقه منها شيئا قد أقدرنى على ذلك، ولا أحد أحسن من أحد. ثم إن الله كريم مع عباده، ولا يرضيه أن يُبَيِّتَنى مكسور الخاطر أمام الدكتور لويس. ولا تنسوا أننى أيضا من آل عوض، أى أنها وراثة فى الأسرة! ومع ذلك فأنا، وأعوذ بالله من قولة: "أنا"، لا أحب البكش ولا البكاشين!
    مثال ثالث: أنه فى ص 191 يُرْجِع كلمات "صوّر" و"قوّر" و"صاغ" العربية إلى جذر افتراضى، أى ليس له وجود، لكنه يخمنه ويخترعه، وطبعا هو يفعل هذا بعد آلاف السنين. ولم لا؟ ألم يوكّله الله سبحانه وتعالى فى التصرف فى شؤون اللغات؟ ما علينا، فالجذر الافتراضى المخترع هو "جهورما: Ghworma"، الذى يقول إنه مركب من "جهوير+ ما"، وصيغته الافتراضية النوستراتية هى "كور/ قور: Kawar"، أى أن المسألة كلها "من ساسها لراسها" اختراع فى اختراع وتدجيل فى تدجيل. ومع هذا فإنه فى ص 216- 217 يرجع بكلمات "كرة" و"أكرة" و"كورة" (وكلها مشتقة من "كور" كما نعرف جميعا) إلى الجذر: "كلو" الذى لا أدرى إلى أية لغة ينتمى لأن سيادته نسى أن ينظر فى البنّورة المسحورة فيخبرنا بأصله وفصله!
    مثال رابع: هو ما هرف به فى ص 194- 195، إذ يقول إن كلمة "شَعْر" مأخوذة من الأصل اللاتينى: "كابيلوس: Capillus" أو "بيلوس: pillus"، الذى أصبح بعد عدة تنطيطات وحركات نصف كم عبر القرون واللغات المختلفة التى أحاط بها الوكيل الكونى لشؤون اللغات واللهجات، وإشارات الصم والبكم أيضا بالمرّة، على شويّة ميتاتيزات من التى هى، على حبة آهات، على ليلى يا عينى، على يا لالَلِّى، أعود فأقول إن هذا اللفظ اللاتنيى أصبح فى النهاية كلمة "شَعْر" فى العربية، ولا عزاء "للصُّلْع" بعد كل هذه الحركات "القرعاء". المهم هذا ما هرف به فى الصفحة المذكورة، لنفاجأ به فى ص 348- 349 يجعل كلمة "شَعْر" العربية هى الجذر الأساسى للكلمات التى تناظرها فى ما لا أدرى عدده من اللغات الأوربية وغير الأوربية، وذلك فى طوفان من الثرثرة المملة وغير العلمية عبر اللغات واللهجات والتاريخ الطويل. أما كلمة "Capillus" فلم تؤخذ منها هذه المرة إلا كلمة "Cheveux" الفرنسية!
    مثال خامس: نقابله فى ص 232، إذ يرجع الكلمات التى تعنى "صدر" أو "ثدى" فى اللغات الأوربية إلى كلمة "بِزّ" التى يقول إنها عامية مصرية. لكنه يعود فى ص 364 ليقول إن كلمة "بِزّ" (التى لا يزال يصرّ على أنها عامية والتى سنرى بعد قليل أنها عربية فصيحة) قد تكون صيغة مدغمة من جذر كلمة "Breast" الإنجليزية، ليعود مرة أخرى فى ص 412 فيقول إن كلمة "بِزّ" (التى ما زال على موقفه فيها من أنها عامية مصرية) مأخوذة من الجذر: "بييس" الذى لم يذكر إِلاَمَ ينتمى من اللغات. أفرأيت، أيها القارئ، مدى التطجين اللويسعوضى؟ لن أتكلم أنا، بل سأترك الأمر لك لتحكم فيه بنفسك! على أن ها هنا كلمة أحب أن أضيفها فى هذا السياق، وهى أن لفظة "بُِزّ" (بكسر الزاى أو ضمها) عربية فصيحة، إذ نقرأ مثلا فى "لسان العرب" لابن منظور الحقيقى (لا ابن منظور المزيف) ما يلى: "والبُِزُّ (بضم الباء وكسرها) للحيوان كالثدي للإنسان. ولعلَّهُ مأخوذٌ من الإِبزاء، وهو الإرضاع. ج: بِزَاز وأَبزاز"، وإن كان "المعجم الوسيط" قد أرجعها إلى أصل فارسى، وهو ما ينقض أيضا (حتى لو صحت فارسيتها) دعوى لويس عوض فى أنها عامية مصرية، إذ هى على أى الحالين موجودة فى العربية منذ القديم، وهذا ما يهمنا هنا. وأحب أيضا أن أشكر الدكتور لويس، الذى دفعنى بسخافاته وثرثراته المملة المتنفجة غير العلمية إلى مراجعة المعاجم العربية القديمة فى هذه الكلمة ليتبين لى أن الجمع الذى يستخدمه العامة لهذه الكلمة، وهو "بِزَاز"، جمع فصيح صحيح، وكنت أظنه تحريفا لصيغة "أفعال: أبزاز" الصحيحة الفصيحة أيضا كما رأينا عند ابن منظور.
    مثال سادس: فى ص 233 نرى الدكتور لويس يرجع كلمة "ثريا"، وكذلك كلمة "درّة"، إلى الجذر السنسكريتى لكمة "ترح: Tarah" وجمعها "تارا: Tara"، أما فى ص 547 فالأمر مختلف، وهذا شىء طبيعى، وإلا أفتريد من لويس عوض أن يتذكر ما قاله قبل أكثر من مائتى صفحة؟ إنك إذن لظالم ليس لديك رحمة ولا شفقة بالرجل ولا مراعاة لمشاغله العظام التى تليق بأمثاله من أنصاف الآلهة ممن يشتركون فى تدبير أمور الكون كله ولا يقتصر مجال عملهم على أبحاث اللغة العربية. وماذا تكون اللغة العربية بإزاء الكون أجمع بسمائه وأرضه ونجومه وكواكبه ومجراته وشهوده وغيبه؟ فلا تكونوا إذن من الظالمين ولا تأخذوه بهذا التدقيق الذى لا يصلح لبلاد العرب، فمن المعروف أنه كله عند العرب صابون. ولويس عوض، وإن كره العرب، هو واحد منهم رغم أنه نصف إله، إلا أنه نصف إله عربى، نعم عربى ولو بالجوار لا بالشعور الحى المخالط للحم والدم، ففيه ما فى العرب من إهمال ونسيان ولامبالاة واستبلاه فى هذه الآونة البائسة التاعسة من تاريخهم الذى كان يوما مجيدا ثم جارت عليهم الأيام، ولحقهم العار والشنار، وجار عليهم لويس فيمن جار، هو والقمّص الحمار، ذو الدبر الهرّار! فماذا قال أستاذنا الدكتور فى الصفحة المذكورة؟ قال إن "كلمة "ثريا" فى العربية تعنى "كوكبة من النجوم"، ولكن جذرها هو جذر "ستيلا: Stella" و"ستيرولا: Sterula" اللاتينية، و"ستار: Star" الإنجليزية، و"إيتوال: étoile" الفرنسية، و"إستير: aστηρ" اليونانية (قارن اسم "إستير: Esther"، وربما "عشتار: Ashtar" و"عشتروت: Ashtaroth"و"أستارتى: Astarte" فى الأساطير)، وكلها بمعنى "نجم" و"نجمة". وهى فى السنسكريتية "ستاراس: Staras"، وفى الألمانية "شتيرن: Stern"، وفى اليونانية "صيغة ستورنومى: στoρεvυµι". وجذر "ستار" و"ستيل" بمعنى "نجم" واحد فى هذه اللغات. أما كوكبة النجوم التى تسمى: "ثريا" فى العربية فهى فى اللاتينية "سيدوس: Sidus"، وجمها "سيديرا: Sidera"، وهى عادة تستعمل فى الجمع، أى "سيديرا". وهى فى العربية "سدرة" كما فى اصطلاح "سدرة المنتهى" التى تسمى فى اللاتينية: "أولتيماسيديرا: Ultima Sidera" حرفيا بمعنى "الثريا الأخيرة"... وفى تقديرى أن "Sidera" هى مجرد صيغة من "Stella وAster (Star)"، وأن جذرها جميعا واحد، وهو نفس جذر "ثريا"...".
    مثال سابع: فى ص 277 ينفى عالمنا العلامة، وحبرنا الفهامة (ربنا يستر علينا ويكتب لنا منه السلامة!) أن يكون فى كلمة "غنّاجة" أى معنى من معانى الدلال أو أصوات المرأة فى الفراش، وهذا نص ما قال: ""كلمة "عنج (بالجيم المعطشة): 'nd" المصرية القديمة بمعنى "عاز" أو"افتقر" أو"احتاج" أو"نقص" أو"قَلَّ" أو "قليل" فيها عناصر "غنج" التى نعرفها فى المثل المصرى: "المحتاجة غناجة"، وهو فيما يبدو تعبير توتولوجى تتكرر فيها كلمة "الحاجَة" باللغتين لتعليم اللغة الجديدة العربية بتجاور المترادفين، مع اللعب على اللفظ. ومعنى هذا أن "غناجة" ليست من الغنج الذى يعنى فى العربية والشامية الحديثة "دلال" المرأة، ويعنى فى المصرية الحديثة الأصوات الانفعالية التى تصدرها المرأة وقت الجماع، وإنما هى بالمجاز". خلاص؟ والآن ننتقل إلى ص 438 حيث يقول جلالته كلاما آخر غير ذلك، بل عكسه، إذ رجع إلى ما كان قد نفاه فأخذ به لاحسًا سخافاته السابقة التى أخذ يتحنجل بها ويتنطط أمامنا كأنه طفل رذيل ليس عنده ما يشغله كى نستريح قليلا من وجع الدماغ الذى يسببه لنا. أجل، فقد قال إن "من المعانى البائدة فى الإنجليزية لكلمة "ناج: Nag" معنى "شرموطة"، وهذا يوحى على الأقل بأن فعل "غنج" على الأقل فى العامية المصرية معناها الأصلى "صهل" كالفرس، وهو بإيجاز ما تفعله المرأة وقت النكاح. والمعنى محفوظ فى العبارة المصرية: "المحتاجة غناجة". وقد اتخذت مادة "غنج" فى اللهجة الشامية معنى أكثر تهذيبا، فهو يقتصر على "دلال المرأة"، ولكن المعنى المصرى واضح لا لبس فيه، وهو "أصوات المرأة وقت النكاح"...". وبعيدا عن الركاكة الأسلوبية التى تليق بــ"أستاذنا الدكتور لويس عوض"، لكنها لا تليق بكاتب درجة ثالثة ولا حتى بكاتب "دوبية"، نتساءل: منذ متى تصهل النساء فى السرير حين الجماع؟ أيكون بعض الناس عندهم شذوذ فهم يجامعون الأفراس التى تصهل عندما تصل شهوتها إلى الذروة فيظنون أنها نساء تغنج؟ بل إنى لا أستبعد أن تكون شريكة فراشهم "أَتَانًا" (أو بالمصرى الفصيح: "حمارة") ما داموا لا يميزون بين "حا" و"شِى" ويظنون الكلمتين كلتيهما لزَجْر الحمير! لا أظن أن هناك تفسيرا أكثر وجاهة من هذا! خيبة الله على كل همباكٍ هنكار، لا يفرق بين الغنج والصهيل ولا بين الحصان والحمار!
    مثال ثامن: فى ص 353 نراه يربط بين كلمة "زور" التى يصفها بأنها مصرية (أى لا توجد فى العربية) وبين كلمات "Throat" (الإنجليزية) و"Gorge" (الفرنسية) و"Thorax" (اللاتينية) وغيرها من الكلمات الأوربية الأخرى التى تعنى ذات المعنى. ثم نجده رغم ذلك يقول فى ص 421 إنها فى الغالب مأخوذة من الجذر اللاتينى: "Gula" المأخوذ بدوره من الجذر: "Gar" (بمعنى "يبتلع")، الذى نتجت عنه عدة كلمات فى اللغات الأوربية المختلفة بمعنى "خيشوم"! واعجبا! ورغم هذا فإنى أود ألا أترك هذه الفقرة دون أن أسجل خطأ الدكتور لويس الفاحش المضحك فى الزعم بأن لفظ "زور" عامية مصرية (يقصد أنها ليس لها وجود فى الفصحى)، إذ جاء فى "القاموس المحيط" أن "الزَّوْر" هو "وسَطُ الصَّدْرِ أو ما ارْتَفَعَ منه الى الكَتِفَينِ أو مُلْتَقَى أطْرافِ عِظامِ الصَّدْرِ حيثُ اجْتَمَعَت"... إلى جانب معان أخرى. وفى معجم "المحيط" نجد أن من بين معانيه "ملتقى أطراف عظام الصدر حيث اجتمعت، (و) ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى أنه "الصَّدْرُ، وقيل: وسط الصدر، وقيل: أَعلى الصدر، وقيل : مُلْتَقَى أَطراف عظام الصدر حيث اجتمعت"... إلى آخر ما ذكره من معان. إذن فاللفظ عربى فصيح، أما وجوده فى هذه العامية أو تلك فطبيعى جدا لأن اللهجات العامية لأية لغة ليست شيئا مستوردا من الخارج، بل هى نفس الألفاظ الفصيحة فى العادة: إما كما هى، وإما بتحوير بسيط فى النطق أو فى المعنى. وتزيد العاميات العربية على ذلك بوجه عام أنها تُسْقِط الإعراب من حُسْبانها.
    مثال تاسع: فهو فى ص 368 يتكلم عن أصل كلمة "طيز"، التى يقول إنها من ذات جذر "Thigh" الإنجليزية، وكذلك "Theh"، "Dkje"، "Dioh"، "Thjo"... إلخ فى اللغة الأنجلوسكسونية والهولندية والجرمانية العالية القديمة والنوردية القديمة على الترتيب، بمعنى "الفخذ" أو "العجز" أو "الإلية" أو "الطيز"، ألا وهو جذر "تخ:Tech, Tekh "، الذى يعنى حرفيًّا السمنة أو الثخانة. لكنه فى ص 388، أى بعد عشرين صفحة لا غير، نزل عليه وحى آخر من شياطين الثرثرة والهلاوس اللفظية يقول إن "طيز" يمكن أن تكون مأخوذة من "Teej" عن طريق "Teji" عن طريق "Terj" عن طريق "Terg" عن طريق "Terga" اللاتينية بمعنى "عجز". وهذا كله لا وجود له فى أى مصدر خارجى، إنما هو تخيلات وتنطعات فارغة يخمنها هو عبر التاريخ الطويل الذى من الواضح أنه فرشه أمامه وقعد يقلب فيه كما تفعل ضاربات الرمل وقارئات البخت حتى يصل إلى مشتهاه بأسلوب الحواة الذى شرحناه سابقا، وهو أسلوب وضع العين على نتيجة معينة سلفا، ثم لىّ كل شىء بعد ذلك من أجل الوصول إلى تلك النتيجة بأى ثمن. وهو ما يذكّرنى بالمثل العامى: "يا تحلبى يا اكْسَرْ قرنك" الذى يردده الفلاحون! لكننا هنا لا نتعامل مع الأبقار والجواميس والضروع والألبان، بل مع العلم ومنهجه!
    وليلاحظ القارئ غير مأمور أننى اختصرت له هذا السخف اختصارا ولم آته بكل ما كتب العبقرى الأوحد، عبقرى الغبرة. والبركة طبعا فى الجرمانية العالية والفريزية والنوردية القديمة والسنسكريتية والخيبة القوية التى يمطرنا بأسمائها "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، الذى يعرف تماما أنه لن يحاسبه أحد على هذا الذى يقول، إذ مَنْ ذلك المخبول الذى سيضيع وقته فى تعلم هذه اللغات أولا، ثم مراجعة كل كلمة خطتها يراعة عبقرينا ثانيا، ومواجهته باكتشاف البكش الذى يمارسه علينا ثالثا، ثم تحذير القراء منه رابعا... إلخ؟ إنه لو حدث المستحيل وتعلم أحدهم مثلا (أقول: مثلا!) كل تلك اللغات وتحقق أن الرجل يُهَمْبِك علينا ويستغفلنا، فلن يكون ذلك بمفيده شيئا، لأن عبقرينا سيكون قد مات وشيع موتا منذ أجيال! والحق أنه لو شاء أى أحد أن يسوّد الصفحات بمثل هذا الكلام الذى يشبه تعاويذ الأحجبة وتمتمات السحرة ما كلفه شيئا سوى أن يكون جامد الوجه لا يبالى، ثم إن الباقى سهل جدا، واسألوا الدكتور العبقرى وحوارييه!
    مثال عاشر: إذ قال فى ص 159 إن الصرف العربى يبحث فى اشتقاق مواد الكلمات وانتقالها من حالة الفعل إلى الاسم، أو من حالة الاسم إلى الفعل، مستشهدا بالفعل: "كتب" الذى اشتُقَّ منه الاسم: "كتاب"، وكذلك اسم "أسد" الذى يقول هو بعظمة لسانه إن الفعل: "استأسد" مشتق منه، وهو ما كرره ص 490 حين قرر بالنص أنه "ليس هناك ما يمنع أن يكون الفعل مشتقا من الاسم أو العكس": هكذا بإطلاق دون أن يقيد ما قاله بأى قيد كان. لكننا نراه فى ص 489 يقول كلاما مناقضا لهذا الكلام، إذ ادعى أن "الأسماء الأصلية فى كل الأفعال صماء وليست مشتقة من الأفعال". وعبثا تحاول أن تعرف ما تلك الأسماء الأصلية، وما الذى يميزها عن الأسماء الفرعية، ولماذا استثناها الدكتور لويس من قاعدته العامة التى أكدها من قبل. أما تفسيرى أنا فهو أن ما قاله هنا ليس إلا خطرات من وساوسه لا أقل ولا أكثر، ولا علاقة له بالعلم ولا بالمنهج العلمى. وكان قد قال فى ص 304 إن كلمة "الصَّمَد" لا اشتقاق لها فى العربية، وذلك لكى يعبث بمعناها حسبما يوسوس له خاطره الإبليسى، مع أن ذلك اللفظ مشتق من الفعل: "صَمَدَ"، الذى يعنى: "قصد، وثبت واستمرّ"، علاوة على ما اشتق منه من لفظ "الصَّمْد"، وهو المكان المرتفع، إذ "الصَّمَد" هو الرفيع الدرجات المقصود فى الحوائج والدائم الذى لا يزول. ومَنْ غير الله يصدق عليه هذا الوصف؟ وهذه عبارة عبقرينا: "ويلاحظ أن كلمة "صمد" فى العربية، وهو من الأسماء الحسنى، كلمة محيرة لأنها مادة جامدة لم تُشْتَقّ من فعل ولم يشتق منها فعل، ولا صلة لها بالهومونيم: "صمد يصمد". وهى مورفولوجيًّا ثابتة: الاسم فيها هو الصفة، والصفة هى الاسم".
    أى أن "أستاذنا الدكتور لويس عوض" من الذين يُحِلّونه عاما، ويحرّمونه عاما. أو بالتعبير البلدى: من بتوع "كده توليع! كده تسليك!" لأن المبدأ عنده جاهز للتطويع فى أى اتجاه، فهو إنسان يَفُوت فى الحديد! ومن العبث محاولتك أن تعرف على أى أساس قال إن كلمة "الصمد" كلمة جامدة، وإنها ثابتة لأنها اسم وصفة، ومن ثم فلا أصل لها فى العربية. كل ما نعرفه أنه قال ذلك لكى يتخذها توطئة للقول بأن "الصمد" معناه "الثلاثة"، وهو مما شرَحناه وشرّحناه وسحقناه وذَرَوْناه وسفّهناه وتفّهناه من قبل! إنك تتعامل هنا مع عبقرى يُوحَى إليه، ومن كان الوحى يتنزل عليه فليس لك الحق فى أن تقول له: "بِمْ" حتى لو كان الوحى المتنزِّل عليه هو وحى إبليس الخِنّيس، كما هو الحال فى أمر الدكتور لويس!
    لكن فليكن رأيه فى نفسه ما يكون، فلن يعفينا هذا من مناقشته وتبيين جهله وغشمه العلمى للقراء حتى يلمسوا بأنفسهم صحة ما نقوله فيه، إذ لسنا ممن يطلبون من الناس أن يخرّوا على أذقانهم سُجَّدًا لما نقول، بل نشفع دائما كلامنا بالدليل والشاهد. وهذا الذى يقوله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" هو الهلس بعينه، إذ من قال إن الألفاظ الأصول فى العربية جامدة بالضرورة؟ ومن قال إن الألفاظ الجامدة لا يُشْتَقّ منها غيرها كما زعم فى "صمد"؟ إن علماء العربية مختلفون ما بين المصدر والفعل: أيهما الأصل؟ وأيهما الفرع؟ وأيا ما يكن الأمر فلا شك أن هناك مصادر وأفعالا مشتقة من ألفاظ أخرى كما فى لفظة "شمس"، التى اشتُقّ منها الفعل: "تَشَمَّسَ" والمصدر: "تشمُّس"، وكلفظة "ناقة"، التى اشتُقَّ منها "اسْتَنْوَقَ (البعيرُ، أى أصبح كالناقة)"، والمصدر: "استنواق"، وكلفظة "حَجَر"، التى اشتُقَّ منها الأفعال: "حَجَرَ" و"حجَّر" و"تحجَّر"، و"استحجر" و"احتجر"، والمصادر: "حَجْر" و"تحجير" و"تحجُّر" و"استحجار" و"احتجار"، إلى جانب الأسماء التالية: "حُجْرة" و"حَجْر" و"حَجْرة" و"حاجِر" و"حِجَار" و"حاجور" و"حجّار" و"مَحْجِر" و"مَحْجَر" و"مِحْجَر" و"حُجُر"، وكذلك الصفة: "حَجِر". فالربط إذن بين الأصلية والجمود لا معنى له. كذلك من قال إن الجامد لا يُشْتَقّ منه غيره؟ إنهم يقولون مثلا إن لفظة "شمس" لفظة جامدة لأنها لم تُشْتَقّ من غيرها، لكنها مع ذلك قد اشتُقَّ منها "شَمَسَ شِمَاسا" و"تشمَّس تشمُّسًا" و"شمَّس تشميسا" و"شامَسَ مشامسة" و"تشامَسَا تشامُسًا" و"شَمَسَ وأشمس (اليوم)، فهو شامس ومُشْمِس"، وكذلك لفظة "حِمّص"، التى اشتُقّ منها "حَمَصَ وانحمص (الورمُ، أى انفشّ)" و"حمَّصَ تحميصًا" و"تحمَّصَ تحمُّصًا" و"مِحْمَصَة"... إلخ.
    بل إن من الحروف ذاتها ما يُشْتَقّ منها ألفاظ أخرى، مثل الحرف" عن"، الذى اشتقوا منه "عَنْعَنَ يُعَنْعِنُ عَنْعَنَةً"، وهو ما كان فى مؤخرة عقلى حين كنت، أول عهدى بلندن فى أواسط السبعينات من القرن المنصرم، أقول ضاحكا لمن يكثر أمامى من تكرار لفظة "but": "لا تُبَطْبِطْ"، أى لا تكثر من قول "but"! ذلك أن الجامد هو ما لا يُشْتَقّ من غيره، لكن من الممكن جدا أن يُشْتَقّ منه غيره. ليس ذلك فقط، فقد قال لويس عوض إن لفظة "صمد" هى اسم وصفة معا، ومعروف أن الصفات مشتقة، ومع هذا فقد اتخذ عبقرينا الهمام العلام من قوله بأن تلك اللفظة اسم وصفة معا دليلا على أنها جامدة. وبناء على ما قلناه يستطيع القارئ أن يلمس بنفسه مدى جهل الرجل بأَوّليّات اللغة التى يطنطن بأنه قد فتح فيها بكتابه هذا التافه فتحًا لم يسبق لسواه أن فتحه!
    المثال الحادى عشر: ومن تناقضاته العجيبة فى هذا المضمار أيضا قوله (ص 177) إن كلمة "خط" العربية مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة: "ht" بمعنى "مخاضة/ معبر"، إلا أنه يعود فى ص 289 فيرجعها إلى الجذر المصرى القديم: "ss"، الذى يشير إلى "الرسم". وفى هذا برهان على أن الدكتور لويس يكتب ما يخطر له دون تمحيص ودون أن تكون هناك قاعدة تحكم هذا الذى يكتبه. المهم تحبير الصفحات وتحيير الأذهان وترك كل شىء فوضى لا نظام له والتشكيك فى كل شىء بحيث لا يبقى لدى القارئ العربى المسلم، وهو المقصود بكل هذا الهراء، أى ثقة فى أى شىء مما كان يؤمن به قبلا، وهو ما يسهّل ويسرّع هزيمته وتحطيمه بعد أن تم تحطيم كل يقين لديه! سترك اللهم وحمايتك!
    المثال الثانى عشر: فقد سبق أن رأيناه فى ص 546 يقول إن البقرة حتحور فى الأساطير المصرية الوثنية القديمة هى نفسها حليمة المرضع الأسطورة، لكننا فى ص 415 نسمعه يقول شيئا مختلفا، إذ أرجع كلمة "حليم" و"حليمة" إلى لفظ "Selnum: سلنوم" الذى يفترضه عظمته افتراضا بوصفه جذرا لكلمة "Sein" الفرنسية بمعنى "صدر"، مناقضا بذلك أهل اللغة الفرنسية الذين يقولون إنه "Sinum". ثم أضاف قائلا إن المقابل لــ"Selnum" فى مجموعة لغوية حاميّة (؟) هو "Helnum"، وإنه بهذا تكون "حلمة" و"حب" و"حليب" من نفس الجذر، وأصلهما غالبا هو "حلم" أو "حليم"، وإن العامية المصرية قد حفظت فى لاوعيها "حليم" الأصلية حين أطلقت اسم "حليمة" على المرضع بالذات. سمك، لبن، تمر هندى! هل فهمت أو استطعت أن تتصور شيئا؟ لا لا ، ليس من يصنع هذا بشرا، هذا إله يعلم دبّة النملة فى أى مكان فى الكون! بل ماذا يكون خفاء دبّة النملة بالنسبة لحركات الكلمات من صيغة إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى، ومن أمة إلى أمة أخرى، ومن معنى إلى آخر، ومن عصر إلى عصر آخر، وهى حركات ذهنية لا صوت لها يمكن أن تحس به الأذن؟ آمنت بالله ربًّا، وكفرت بالسخف الذى يأتى بهذه الطريقة من عند لويس عوض عِلْمًا! وهناك أمثلة أخرى أُعَدِّى عنها، وإلا فلن ننتهى من هذا الموال! وسبحان الكبير المتعال!
    *****
    والآن إلى ما هرف به "أستاذنا الدكتور لويس عوض عن أصل العرب القوقازى وما إلى ذلك، وهو ما نطرح بشأنه الأسئلة التالية: أليس غريبا أنه لا العرب ولا القوقازيون يعترفون بشىء من هذا الذى يقوله لويس عوض أو يذكرونه؟ ولقد فتح العرب بلاد القوقاز ودخل أهلها الإسلام، ولو كان هناك نسب مشترك لكانت فرصة لاستعادة الروابط القديمة. لكننا ننظر فلا نجد شيئا من ذلك البتة. بل أين فى تاريخ بلاد القوقاز ما يدل على أن هجرات قوقازية قد انطلقت فى ذلك التاريخ ووصلت لجزيرة العرب؟ (ص 126 مثلا). صحيح: لماذا لم يحتفظ القوقازيون بذكريات الأجداد الذين هاجروا إلى بلاد العرب؟ وأين فى تراث العرب ما يدل على أصلهم القوقازى سواء فى الروايات التاريخية أو الأساطير أو الدين أو الجغرافيا أو العادات والتقاليد أو حتى الأسماء: أسماء الأشخاص أو أسماء المواضع؟ ولماذا أخفى العرب أصلهم القوقازى ولم يفتخروا به كما تفعل الأمم؟ ثم أين ذهب سكان جزيرة العرب الذين حل محلهم القوقازيون إذا كانوا قد أزاحوهم وأجلوهم عن ديارهم؟ أو لماذا سكتوا إذا كانوا لم يجلوهم بل شاركوهم تلك البلاد؟ هل يمكن أن يكونوا قد تقبلوهم برحابة صدر وأريحية وكرم نفس فلم تثر بين القادمين وأصحاب البلاد الأصلاء أية منازعات أو خلافات؟ لكن هل هذا مما يقع فى حياة البشر؟
    كذلك أين ملامح العرب من ملامح القوقازيين؟ أين فى الملامح العربية العيون الضيقة المسحوبة والبشرة الصفراء والشعر الناعم الغزير الفاحم والوجود الناتئة العظام التى تشبه المجانّ المطرَّقة، وبخاصة أن العرب فى جزيرتهم كانوا شبه منعزلين عن الدنيا بحيث لا يختلطون بأحد إلا لماما وبحيث كان كل منهم يعرف نسبه إلى أبعد جد، أو على الأقل: يحرص على ذلك، بما يدل على أنهم كانوا من أنقى شعوب الأرض دما وبما كان جديرا أن يجعلهم يحتفظون بملامحهم القوقازية لو كانوا فعلا قوقازيين كما يزعم لويس عوض؟ لقد وصف كاتب مادة "Arabs" فى "Encyclopaedia of the Orient" ملامح وجوه العرب قائلا إنهم فى الغالب ذوو شعر داكن وعينين بنيتين وبشرة لا فاتحة ولا غامقة بل بين بين، وإن لم يمنع هذا أن يكون من بينهم من له شعر أسود أو أشقر نظرا لما حدث من اختلاط بغيرهم من الشعوب: "Ethnically, Arabs are mostly dark haired with brown eyes, and medium light skin. But there are Arabs that are black, and Arabs that are quite blond. These differences are regional, and a result of the process described above."، فأين هذه الملامح من ملامح أهل القوقاز؟
    ثم لماذا سكت الشعوبيون، وبالذات الفرس الذين مرت عبر بلادهم الحشود القوقازية إلى بلاد العرب، وهم الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة مما يمكن أن يعيبوهم به إلا ولوّحوا بها فى وجوههم وشهروا بهم بسببها فى العالمين؟ ومن أين أتاهم اسم العرب؟ ولقد تكلم العهد القديم عن العرب منذ وقت طويل قبل التاريخ الذى حدده لويس عوض، وإن كان سماهم: "الإسماعيليين" بما يدل على أن العرب ينتمون فعلا إلى إسماعيل وإبراهيم، على الأقل فى قسم كبير منهم؟ ومن هنا فالرد على قول لويس عوض بأن العرب لم يُعْرَفوا فى التاريخ باسم العرب إلا قبل الميلاد بألف عام تقريبا (ص 45) ليس معناه أنهم لم يكونوا موجودين قبل هذا، بل قد يكون معناه، إن صح كلامه، أنهم كانوا يُسَمَّوْن شيئا آخر قبل ذلك. وهو نفسه قد قال إن الهجرات إما أن تذوب فى سكان البلاد الأصليين أو تزيحهم وتحل محلهم (ص 300)، فأين هذا أو ذاك فى حالة العرب والجزيرة العربية؟ لقد كانت مصر مثلا تُعْرَف قديما بــ"خيمى"، ثم بعد ذلك بـــ"إيجبتوس"، ثم عُرِفَتْ فى تاريخها الإسلامى بــ"مصر"، ثم عرفت على عهد عبد الناصر بالإقليم الجنوبى من الجمهورية العربية المتحدة، لكن الجميع يتكلمون عنها الآن على أساس أنها كانت طوال تاريخها "مصر" منذ أن كانت حتى وقتنا هذا. وبالمثل كان هناك الشام، ثم أصبحت هناك سوريا والأردن وفلسطين بدلا منه. كما اختفت أسماء النبط والكنعانيين والأشوريين والكلدانيين والفينيقيين، وظهر بدلا من ذلك الأردنيون والسوريون واللبنانيون والعراقيون. ومثلهم فى هذا السبئيون والمعينيون والقتبانيون، الذين ظهر بدلا من أسمائهم القديمة أسماء العمانيين والحضرميين واليمنيين. وكذلك هناك الآن أسماء الإماراتيين والقطريين والبحرينيين والكويتيين، ولم تكن موجودة من قبل، ولم يقل أحد إنه قد جدت على تلك المناطق شعوب أخرى وبادت الشعوب السابقة. وهذا كله لو كان كلام الدكتور لويس عوض صحيحا.
    ثم إن كلامه عن العماليق معناه أن الجزيرة كان يسكنها ناس قبل القوقازيين وأن هؤلاء هم العرب أو أصل العرب. وفى الأحاديث النبوية إشارات متعددة إلى أن أبا العرب إبراهيم، وفى القرآن إشارة إلى ذلك فى سورة "الحج". وكان العرب يؤمنون بأن أباهم إبراهيم، فلماذا يتنكرون لأصلهم الحقيقى القوقازى وينتسبون إلى جد اليهود ذاك، وهم لم يكونوا يحترمون اليهود ولا يرضَوْن أخلاقهم؟ ولماذا وافقهم اليهود على ذلك وجعلوهم أبناء إسماعيل وسمَّوْهم الإسماعيليين وسجلوا كل هذا فى كتابهم المقدس؟ هل نكذّب هذا كله؟
    ثم أين فى تراث البلاد التى مر بها القوقازيون حتى استقروا فى جزيرة العرب ما يدل على أن الألوف المؤلفة قد مرت ببلادهم عابرة إلى الجزيرة؟ وكيف ترك أصحابُ تلك البلاد القوقازيين يعبرون بلادهم بهذه البساطة وكأنها باب بلا بواب؟ إن هذا لا يحدث إلا إذا كان العابرون من القوة بحيث يكون لهم جيش ودولة. وفى هذه الحالة فإنهم لا يخترقون بلدا مجاورا أو قريبا منهم كى يتركوه إلى بلد آخر، بل ليحتلوه ويستولوا على خيراته أو على الأقل يشاركون فيها، ثم قد ينطلقون ليضموا مزيدا من الأرض لسلطانهم. لكننا ننظر فى كلام لويس عوض فإذا به سخيف يدابر العقل والمنطق وقوانين التاريخ. وحتى لو لم يكن القوقازيون أهل قوة وجيوش وفتك، فكيف يا ترى لم تجذبهم تلك البلاد الخصبة المجاورة لبلادهم فيحطوا رحالهم فيها بدلا من أن يواصلوا الرحلة إلى المجهول ثم يستقروا فى نهاية المطاف فى الصحارى القاحلة المهلكة؟ ثم ما الذى كان فى دماغهم حين قاموا بتلك الرحلة المزعومة، وهم لم يكونوا بطبيعة الحال يعرفون شيئا عن بلاد العرب؟ أكانوا يتبعون مبدأ "بختك يا بو بخيت" ويتركون أنفسهم للظروف تسيرهم كما تصنع الرياح بريشة من الريش؟ والله إن هذا أمر قد بلغ الغاية فى السخف والتفاهة؟ وما الذى حببهم فى بلاد العرب وأبقاهم فيها بعد أن أخذوا خازوقا كبيرا حين لم يجدوا فيها ما يبحث عنه أمثالهم ممن يتركون بلادهم بحثا عن بلاد أرغد وأوسع رزقا؟
    و المؤلف نفسه (ص 126) يعدد أسباب الهجرات البشرية فلا ينطبق كلامه على هذه الحالة. ذلك أن القوقازيين كانوا يعيشون فى منطقة رعوية كما يقول (ص 126)، فكيف تركوها وانتقلوا إلى البادية القليلة الخضرة والأعشاب؟ وكيف مروا بكل تلك البلاد التى تفصلهم عن الجزيرة؟ أكانوا جيوشا اخترقت تلك البلاد؟ فأين ذلك فى كتابات مؤرخى تلك الدول؟ أم كانت مجرد هجرات صغيرة متتابعة؟ فلم اختارت الجزيرة بالذات دون بقية تلك البلاد؟ يقول إنهم آثروا حياة البداوة على حياة الاستقرار لأنهم آتون من مناطق رعوية (ص 52، وانظر أيضا ص 126). لكنه يقولها تخمينا ويعترف بأنه من الناحية التاريخية لا يوجد ما يكشف سر هذه الهجرة المفترضة. كذلك كيف عبرت كل تلك الدول دون أن توقفها سلطات تلك الدول؟ ولماذا بعد أن رأت جفاف الجزيرة لم تفكر فى تركها والعدول عنها إلى بلاد أخرى خضراء؟ إننا لا نعرف أنه كانت هناك هجرات كبيرة ومنظمة للجزيرة العربية، إذ إن ظروف المناخ والأوضاع الاقتصادية هناك من العوامل الطاردة لا الجاذبة، ولم تتغير الحال إلا بعد اكتشاف البترول فى العصر الحديث فكثرت الهجرة إلى دول الخليج لرفع مستوى المعيشة، وهو ما لم يحدث من قبل. وعلى كل حال فالهجرات إنما تتم من المناطق الفقيرة إلى المناطق الميسورة لا العكس، اللهم إلا إذا كان هناك سبب قهرى يخص مجموعة صغيرة وجدت نفسها فى مأزق يستلزم أن تغادر ديارها تجنبا لمصيبة أكبر.
    وعلى كل حال فإننا نراه يقول بعد كل هذا إنه ليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الهجرات القوقازية إلى الهلال الخصيب قد استمرت فى طريقها إلى جزيرة العرب (ص 55). أى أن المسألة مجرد احتمال. لكن هل من المعقول أن يترك هؤلاء الخصوبة فى بلاد الرافدين ويُؤْثِروا عليها جفاف الجزيرة وبداوة العيش وخشونته فيها؟ ومع هذا كله يعود (ص60) فيقول جازما إن العرب قد هاجروا من القوقاز إلى جزيرة العرب، ناسيا أنه كان يجعل الهجرة مجرد احتمال كما رأينا قبل قليل! ثم ما السبب فى أن بلاد العرب لم تحمل اسم أى بلد أو مكان قوقازى كما هو المتوقع والمتبع فى هذه الحالة؟ ومع أنه يقول (ص 61) إن سكان شبه الجزيرة هم خليط من السكان الأصليين والقوقازيين الوافدين فإنه يأبى إلا أن يجعلهم قوقازا أنقياء. ومن هذا كله نلمس بأيدينا لمسا تهافت نظريته المسروقة من العلماء الأوربيين وسخف منطقه وتفاهة تفكيره ورداءة كيده!
    والمفهوم أن كل مكان على وجه الأرض كان ولا يزال مسكونا من قِبَل شعبٍ ما، ومنه الجزيرة العربية. ومعنى هذا أن العرب كانوا هناك دائما، إلا إذا ثبت أن الشعب الذى كان هناك قبل القوقازيين (بفرض صحة تلك النظرية المتهافتة تماما) قد أُبِيد أو أُجْبِر على ترك البلاد وحلوا هم محله كما هو الحال مثلا مع الهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين، وكذلك مع الفلسطينيين إلى حد ما، فهل هناك دليل على هذا أو ذاك؟ وعلى أية حال فمن المعروف، كما سبق القول، أن الشعب يمكن أن يكون موجودا على الدوام، لكن بأسماء مختلفة كما هو الأمر فى أسماء بعض الدول الأوربية فى العصر الحديث حيث تغيرت التسميات مثلا بالنسبة لروسيا والاتحاد السوفييتى، وبروسيا وألمانيا، ويوغوسلافيا والبحر الأسود والبوسنة والهرسك وصربيا... إلخ. والعجيب الغريب أنه يحدد تاريخ الهجرات القوقازية منذ 20000 سنة (ص 128)، فلماذا يتأخر بظهور العرب إذن دون سائر نتاج الهجرات القوقازية؟ وهو نفسه يقول إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغيرت لغته (ص 158)، ونحن نقول بدورنا إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغير اسمه أو خالطته بعض الدماء الأجنبية. أى أن العرب كانوا هناك فى شبه الجزيرة منذ قديم الزمان. وإذا كان قد توافد عليهم ناس من خارجها، وهو قليل، فذلك لا يغير من الأمر شيئا.
    وهناك كاتب يهودى يحاول، على طريقة لويس عوض، أن ينكر قِدَم العرب فى التاريخ فيقول إن اسم "بلاد العرب" لا يرجع إلى أبعد من ألف سنة قبل الميلاد، بيد أنه سرعان ما يخونه لسانه فيضيف أنه إذا كنا لا نستطيع الحديث عن العرب فى العصور القديمة، فمن الممكن مع ذلك الحديثُ عن أسلافهم. وهذا ما نقصده بالضبط، إذ ليس المعوَّل على التسميات، بل على حقائق الأشياء، أما الأسماء فمعروف أنها تتغير من وقت إلى آخر. وقد ورد هذا الكلام فى مقال بعنوان: "Origin and Identity of the Arabs" يستطيع القارئ أن يجده فى موقع "www.imninalu.net". وهذا نص ما قاله الكاتب: "It seems that the name "Arabia" was applied to the whole peninsula only around the first century b.c.e., as defined by Diodorus of Sicily in his "Bibliotheca Historica" and by Strabo in his "Geography", yet it is rather a geographic definition, not closely related with the actual ethnicity of the inhabitants, whom they declare to be of several kinds and call them by their own tribal names. Arabs are the most recent of all Semitic peoples according to their appearance in history. In fact, it is not possible to speak about Arabs in ancient times, but only about their ancestors".
    وعلى كل حال فالنظرية القوقازية الخاصة بأصل العرب مأخوذة من عالم أوربى هو آرثر كيت (ص 128، وانظر ص 156 أيضا)، وليست من بُنَيّات عقل لويس عوض كما يزعم. كما أن قوله (ص 48) إن أبحاثه دلته على أن اللغات البشرية ترجع فى الأصل إلى 3 لغات فقط هو كلام مأخوذ من العلماء الأوربيين جاهزا (ص 118) دون أن يكون له فضل فيه. وبالمناسبة فكل كلام أولئك العلماء هو مجرد تخمينات ينقض بعضها بعضا كما فى الفصل الثالث من الكتاب بدءا من ص 116، وكما نرى بالتفصيل فى الفصل السادس من المجلد الأول من كتاب الدكتور جواد على: "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، وعنوانه: "صلات العرب بالساميين" حيث لم يترك العلماء أى احتمال فى المكان الذى خرج منه الساميون وانتشروا فى منطقة الشرق الأوسط إلا وذكروه: كالجزيرة العربية نفسها، والحبشة، والصومال، والهند، وأوربا، وآسيا الصغرى، وبلاد الأفغان، وأرمينيا، والقوقاز، وبابل، ومنطقة جبال الأطلس فى شمال شرق إفريقيا. وهو ما يدل على ان الأمر كله ليس أكثر من تخمينات، إذ ما من نظرية من هذه النظريات إلا وتجد من يرد عليها ويفنّدها ولا يترك فيها شيئا قائما على قدم وساق، ومنها النظرية القوقازية. والدكتور لويس نفسه يقول إن بنفنيست (Benveniste) لا يربط بين اللغة والجنس، فبرغم سيادة اللغة القوقازية فى مناطق خارج القوقاز فإن الشعوب التى سادتها تلك اللغة كانت مختلفة الجنس عن القوقازيين (ص 130). وأخيرا نراه (ص 162) يقول إن عمله هو تحويل ما خمنه العلماء من قبل على أنه احتمال إلى نظرية مبنية على أسس متينة. وهذا كله خبص ولبص لا طعم له وليس ثمة أساس ينهض عليه، بل هو عبث يلبس لبوس العلم، لكنه ليس من العلم فى قليل أو كثير.
    ثم أين اللغة القوقازية من لسان يعرب وقحطان؟ هل هناك وجوه شبه قوية تسوّغ ولو بعض التسويغ هذه النظرية المتهالكة التى لا أدرى كيف طقَّت أو شعشعت فى رأس الدكتور لويس؟ هل درس المفردات والاشتقاقات ونظم التركيب والصور فوجد أنها متقاربة بين اللغتين؟ إن كل ما قاله بعبقريته التى لم يُرْزَقها بشر من قبل، ولا أظن بشرا من بعد يمكن أن يُرْزَقها، هو أنه لا يُوجَد منها فى العربية الحالية إلا الحاء فى مثل قولنا: "حايعمل، حايضرب"، وهى الحاء التى يقول إنها بديل من السين على اعتبار أن الحاء حامية، والسين سامية (ص 133)، فتأمل تلك العبقرية! مع أن الحاء هنا إنما هى فى الواقع اختصار لــ"(رايــ)ـح يعمل، (رايــ)ــح يضرب"، فضلا عن أنه لم يستطع أن يدلنا على أى مثال آخر غير هذا المثال الذى لا علاقة به بالقوقازية ولا القوقازيين! ومعروف أن حرف السين أحد حروف الألفباء العربية، كما أن الألفاظ التى يوجد فيها حرف السين فى لغة الضاد ألفاظ كثيرة جدا "بالويبة" كما نقول فى مصر، ولم نسمع أَن نطق هذا الحرف قد شكّل يوما أية صعوبة بالنسبة لجهاز النطق العربى! ثم أين الدليل على أن قلب السين فى هذا التركيب هو ثمرة التأثر بلغة القوقازيين؟ وهذا لو صدقنا أصلا ما يقوله عن انقلاب السين هنا حاء، وهو ما فنّدناه وسخّفناه وتفّهناه آنفا! وهذا الاختصار يشبه قولنا: "أَيْوَهْ"، بدلا من "أىْ والله"، و"لِسَّه"، أى "للساعة (الحالية)"، و"عَبْعَال"، بدلا من "عبد العال"، و"صَالْخِير" اختصارا لــ"مساء الخير"، و"يالَهْ" اختصارا لــ"يا ولد"، وقول القطريين: "مُبْ طيّب" عوضا عن "ما هو بطيب"... وهكذا.
    أما قوله هنا إن كلمة "راح" فى قولنا: "راح يشرب، راح يأكل" تفيد الماضى لا المستقبل، وإن المقصود هو أنه شرب وأكل فى الماضى وانتهى الأمر، فكلام لا يصح. ذلك أن قولنا: "راح يأكل" يعنى أنه راح فعلا، لكن لا يعنى أنه أكل، فالماضى إنما يتعلق بالرواح لا بالأكل. ولقد قلت إن أصل الكلام هو "رايح يلعب/ رايح يشرب" (كقول سكينة الخنّاقة السكندرية المشهورة أخت رَيّا عند إعدامها فى ديسمبر 1921م: "هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي؟" كما ورد فى تحقيق جريدة "الأهرام" فى اليوم التالى)، حيث يُسْتَخْدَم اسم الفاعل لا الفعل الماضى الذى يتخذه لويس عوض دون أى حقٍّ تكأة للمداورة والمحاورة. كما أن اللغة لا تؤخذ بهذه النظرة الساذجة التى تبرهن على أن صاحبها ما زال خامًا غُفْلاً لم يُصْقَل بعد، وربما لن يصقل بعد أيضا، وإلا فهل يعنى قولنا: "أودّ لو قام فلان" أننى كنت أتمنى أن يكون قد قام فى الماضى، أو قولنا: "إن استذكر نجح" أنه لم يستذكر، ومن ثم لم ينجح؟ إن المعنى فى الجملتين على التوالى هو أننى أود أن يقوم الآن، وأنه حين يستذكر فسوف ينجح. وبالمثل يستعمل الإنجليز الزمن الماضى فى بعض التراكيب للدلالة على الاستقبال كما هو معروف. ومعنى ذلك أن اعتراض لويس عوض هو اعتراض يبعث على القهقهة!
    والغريب الشاذ أنه فى الوقت الذى يدعى أن أصل العرب يرجع إلى القوقاز وأن لغتهم فى الأصل كانت القوقازية نراه يقول، بما لا يتلاءم مع هذا الزعم، بأن كثيرا جدا جدا من كلمات اللغة العربية مأخوذ من جذور مصرية قديمة (180 وما قبلها وما بعدها)، وإن كان قد حَنَّ عليها فذكر أنها أعارت المصرية القديمة ألفا ومائتين من الكلمات (ص 59). يا سلام على الإحصاءات التى لا تصلح إلا لبَلّها وشرب مائها على الريق! ترى كيف يمكن حساب مثل هذه الاستعارات بالضبط على هذا النحو؟ أوكان فى يده ساعة كرونومتر تَصْفِر كلما تم أخذٌ أو عطاءٌ بين اللغتين وتسجل ذلك فى ذاكرتها الألكترونية؟ ألا إن هذا لأمر مضحك حقا! وأيا ما يكن الأمر فعجيب أن يقول بقوقازية أصل العرب ثم يرجع كثير جدا جدا من ألفاظ لغة العرب إلى المصرية القديمة حتى فى أمور إنسانية عامة لا تختص بقوم دون قوم مثل "خبر" و"طيب" لا فى اختراعات أو حيوانات معينة مثلا لا توجد إلا فى بيئات معينة، وليس لها أسماء خارجها. ثم لماذا ينبغى أن تكون العربية هى المستعيرة لا المعيرة؟ وعلى سبيل المثال نسمعه يقول إن كلمة "خن" المصرية القديمة هى أساس كلمة "حرن" العامية (ص 180)، مع أن كلمة "حرن" فصيحة قديمة جدا فى العربية. ومثلها ظنه الجاهل أن كلمة "عيّل" عامية تحولت فيها العين عن الخاء فى "خِى" من المصرية القديمة (ص 184)، مع أن الكلمة عربية فصيحة من الفعل: "عال يعول".
    وبمناسبة زعمه تحول السين "حاءً" فى العامية المصرية ينبغى أن نسوق هنا زعمه الآخر عن صعوبة نطق الأوربيين لهذا الصوت، إذ يقول إن عجز الأوربى عن نطق الحاء دليل على أن تركيب جهازه الصوتى مختلف عن تركيب نظيره عند العربى (انظر كلامه فى هذه القضية بوجه عام بدءا ص 137 فصاعدا). وهو، كما ترى، كلام غير مقنع، فالعبرة بالتربية والممارسة المبكرة فى حياة الشخص. والدليل على هذا أن أولادنا حين يتربَّوْن فى وسط أوربى ولا يتعلمون فى صغرهم العربية فإنهم يشبون عاجزين عن نطق الحاء والعين والغين مثلا، كما أن الأوربى لو تربى فى وسط عربى منذ ولادته لنطق هذه الأصوات بسهولة. أما كلامه عن عجز الإسبان أو بعضهم عن نطق الفاء مثلا فيُرَدّ عليه بأن الإسبان كلهم تقريبا كانوا ينطقون العربية بما فيها الفاء وغيرها من الأصوات التى لا يستطيعون الآن نطقها، ولا أظن جهازهم الصوتى قد تغير تشريحيا بعد ذلك. وقد أراد الدكتور لويس فى هذا الصدد الاتكاء على كلام أحد علماء اللغة الغربيين، متجاهلا أن ذلك العالم لم يزد على أن يقول: "ويبدو" دون أن يؤكد ما يقول، فضلا عن أن يقطع به (ص 136). فكلمة "يبدو"، كما هو معروف، لا تفيد قطعا ولا علما، ولا تزيد عن أن تكون مجرد تخمين.
    ويرتبط بهذا ما قاله (ص 135) من أن الشين صوت مركب من السين والهاء إذا نُطِقا دفعة واحدة. وهو كلام يبعث على القهقهة، إذ كيف بالله يمكن أن ننطق بالصوتين معا؟ أم تراه يقصد أن شخصا ينطق بالسين، وشخصا آخر ينطق فى ذات الوقت بالهاء فينتج عن ذلك صوت "الشين" ثم نقوم بمونتاج للجمع بينهما؟ ألا يوافقنى القارئ العزيز على أن هذا هو ما يسمونه: "كلام وطحينة"؟ إن الدكتور لويس يخلط بين الكتابة والنطق، وما دام الإملاء الإنجليزى إذا أراد أن يكتب ما يدل على صوت "الشين" (الذى لا وجود له فى الأبجدية الإنجليزية كما هو معروف) كتب حرفى الــ"s" والــ"h" متتابعين بنفس هذا الترتيب فإن الدكتور لويس يظن أن ذلك نفسه هو ما يحدث فى النطق خالطا بذلك بين الرمز الكتابى والنطق الفعلى. وهذا أمر لا يمكن تصوره إلا إذا تجرد الإنسان من عقله. ثم لقد فاته أن حرف "الإتش" ليس "هاء"، وإنْ نطقه الإنجليز وحده "هاء"، وهو ما لا يُعَدّ دليلا، وإلا فإنهم كثيرا ما يتجاهلون نطقه كأنه لا وجود له. أما أن الفرنسية تضع مكان الــ"s" حرف الــ"c"، فينبغى ألا ننسى أن "السِّى" هذه إنما تنطق "كافا" فى العادة لا "سينا" كما يحاول أن يوهمنا عبثا. وقس على ذلك كلامه أيضا عن تكوين كل من صوت الثاء وصوت الذال عند الإنجليز من اجتماع حَرْفَىِ الــ"t" والــ"h" بهذا الترتيب (ص 230).
    والآن نعود لما كنا فيه فنقول: ترى كيف، حين فتح المسلمون بلاد القوقازيين، لم يحدث أن أثار أحد الطرفين الأصل المشترك القديم؟ ألم تكن هذه فرصة لاستعادة الذكريات كما هو الحال فى تذكر قسم كبير من العرب أن أباهم هو إبراهيم وأن أمهم هى هاجر؟ بل إن الشعوبيين واليهود والنصارى يعيّرون العرب بأن أمهم هاجر أَمَةٌ على عكس أمهم هم سارة الحُرّة. فكيف يعيرونهم بذلك، بل كيف يقبل العرب هذا التعيير رغم أنهم لا علاقة لهم بهاجر بناءً على فتوى لويس عوض؟ كيف لم ينهض منهم أحد يستعيد ماضيهم القوقازى قائلا: لا علاقة لنا بهاجر الأَمَة، بل نحن أحرارٌ أولادُ حُرّاتٍ؟
    وقد ذكر جواد على فى "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" أن اسم العرب قد ورد فى الكتابات الأكادية قبل الميلاد بأكثر من ألفين من السنين، مؤكدا أنه على الرغم من صعوبة التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وحكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التاريخية المعروفة التي وقف العلماء على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار لما بيننا وبينها من حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب، فإن ثمة خبرا عن نرام - سين (Naram-sin) الملك الأكادي 2270-2223 قبل الميلاد، الذى استولى على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب (Aribu, Arabu). وهذا الخبر، كما يقول، أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق، وهو خبر ينبئ بأن العرب المعاصرين لنرام- سن كانوا في تلك المناطق قبل أيامه بالطبع، وهي مناطق كوّنوا فيها "مشيخات" و "إمارات" مثل إمارة الحيرة الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد.
    كذلك ورد اسم العرب أيضا فيما بعد فى الكتابات الآشورية، ومنها نص يرجع إلى نحو ألف عام قبل الميلاد في كتابات الملك شلمنصر الثالث ملك آشور، الذى سجل نصرا حربيا أحرزه في السنة السادسة من حكمه على حلف ألّفه ضده ملك دمشق وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي اسمه جندب، وكان ذلك سنة 853 أو 854 قبل الميلاد. وقد قصد شلمنصر بلفظ "عرب": الأعراب، أي البدو حسبما جاء عند الدكتور جواد على. وإذا كان العالم العراقى فى الفصل الخامس من كتابه، وعنوانه: "طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها" قد علق على هذا النص قائلا: "وليست لدينا مع الأسف نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت انه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تاريخه إلى سنة 854 ق. م. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الأشورية"، فلا ينبغى أن ننسى ما نقلناه عنه قبل قليل من أن هناك نصا أكاديا سابقا على ذلك بأكثر من ألفى سنة جاء فيه ذكر العرب، كما لا ينبغى أيضا أن يفوتنا قوله إنه "لما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية سكنها ملك فلا يعقل أن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى أن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. ولهذا كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت ننتقل في هذه البادية الواسعة لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحلّ الذي يلائم طبعها"، وهو ما كرره فى الفصل الثالث عشر من ذات الكتاب، وعنوانه "تاريخ الجزيرة القديم"، حيث قال: "ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل، فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب، وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير، في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام".
    هذا عن العرب البادين، أما الحَضَر منهم فقد كانوا يُدْعَوْن، كما قال، بأسماء الأماكن التى يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها، وذلك لأن لفظ "العرب" لم يكن قد صار علما على ذلك الجنس المكون من البدو ومن الحَضَر بالمعنى الذى نعرفه الآن. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصرا على الآشوريين، بل كان ذلك عاما حتى بين العرب أنفسهم. وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويّات شعوبٍ ذُكِرَتْ في النصوص الآشورية وغيرها، وكذلك فى العهد القديم دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور. وبالمناسبة فهذا النص الآشورى هو النص الذى أشار إليه الدكتور لويس عوض وأهمل ما سبقه فى الكتابات الأكادية قبل ذلك بأكثر من ألف عام طبقًا لما ذكره الدكتور جواد على حسبما أشرنا آنفا.
    وفى مادة "Arabs" فى موسوعة "LoveToKnow1911"، وهى تطوير وتحديث لطبعة"الموسوعة البريطانية" لعام 1911م، التى تعد فى نظر المعنيين بهذه الموسوعة أفضل طبعاتها)، نقرأ ما يلى:
    "The origin of the Arab race can only be a matter of conjecture. From the remotest historic times it has been divided into two branches, which from their geographical position it is simplest to call the North Arabians and the South Arabians. Arabic and Jewish tradition trace the descent of the latter from Joktan (Arabic Kahtan) son of Heber, of the former from Ishmael. The South Arabians- the older branch- were settled in the south-western part of the peninsula centuries before the uprise of the Ishmaelites. These latter include not only Ishmael's direct descendants through the twelve princes (Gen. xxv. 16), but the Edomites, Moabites, Ammonites , Midianites and other tribes. This ancient and undoubted division of the Arab race- roughly represented to-day by the universally adopted classification into Arabs proper and Bedouin Arabs (see Bedouins) - has caused much dispute among ethnologists. All authorities agree in declaring the race to be Semitic in the broadest ethnological signification of that term, but some thought they saw in this division of the race an indication of a dual origin. They asserted that the purer branch of the Arab family was represented by the sedentary Arabs who were of Hamitic (Biblical Cushite), i.e. African ancestry, and that the nomad Arabs were Arabs only by adoption, and were nearer akin to the true Semite as sons of Ishmael. Many arguments were adduced in support of this theory. (I) The unquestioned division in remote historic times of the Arab race, and the immemorial hostility between the two branches. (2) The concurrence of pre-Islamitic literature and records in representing the first settlement of the "pure" Arab as made in the extreme south-western part of the peninsula, near Aden. (3) The use of Himyar, "dusky" or "red" (suggesting African affinities), as the name sometimes for the ruling class, sometimes for the entire people. (4) The African affinities of the Himyaritic language. (5) The resemblance of the grammar of the Arabic now spoken by the "pure" Arabs, where it differs from that of the North, to the Abyssinian grammar. (6) The marked resemblance of the pre-Islamitic institutions of Yemen and its allied provinces - its monarchies, courts, armies and serfs - to the historical Africo-Egyptian type and even to modern Abyssinia. (7) The physique of the "pure" Arab, the shape and size of the head, the slenderness of the lower limbs, all suggesting an African rather than an Asiatic origin. (8) The habits of the people, viz. their sedentary rather than nomad occupations, their fondness for village life, for dancing, music and society, their cultivation of the soil, having more in common with African life than with that of the western Asiatic continent. (9) The extreme facility of marriage which exists in all classes of the southern Arabs with the African races, the fecundity of such unions and the slightness or even total absence of any caste feeling between the dusky "pure" Arab and the still darker African, pointing to a community of origin. And further arguments were found in the characteristics of the Bedouins, their pastoral and nomad tendencies; the peculiarities of their idiom allied to the Hebrew; their strong clan feeling, their continued resistance to anything like regal power or centralized organization. Such, briefly, were the more important arguments; but latterly ethnologists are inclined to agree that there is little really to be said for the African ancestry theory and that the Arab race had its beginning in the deserts of south Arabia, that in short the true Arabs are aborigines."
    وهو ما يدل على أن الأمر ليس بالبساطة التى يتوهمها، أو بالحرى: يريد أن يوهمناها الدكتور لويس، إذ هأنتذا أيها القارئ الكريم ترى بنفسك كيف أن النظريات الخاصة بنشأة الأمة العربية عند العلماء الغربيين متعددة، وليس هناك كلام حاسم لديهم فى ذلك الموضوع، وأن ما يقولونه اليوم ينقضونه غدا، وإن كان هذا غير مقصور على أصل العرب، بل هو عام يشمل كل الأمم القديمة تقريبا، وأن أسخف ما قيل فى هذا الصدد هو النظرية التافهة التى تبناها لويس عوض ولطشها من أولئك العلماء ثم راح ينتفش وهو يعرضها علينا كأنه ابن بَجْدَتها دون أى شعور بالخجل من هذا التنفج الكاذب!
    وأخطر من ذلك كله أنه لا توجد عند الرجل قاعدة ثابتة تحكم تحول النطق من صوت إلى صوت آخر: فالتاء تتحول إلى ثاء وإلى دال وإلى ذال وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء وإلى ظاء، والخاء تتحول إلى جيم قاهرية وإلى جيم معطشة وإلى حاء وإلى دال وإلى شين وإلى تشين وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء، وكل من الكاف والقاف والخاء والجيم بنوعيها يمكن أن تتحول إلى تاء وإلى دال وإلى ضاد وإلى ذال وإلى زاى وإلى سين، والسين تتحول إلى حاء وإلى صاد وإلى زين، والجيم إلى حاء وإلى غين وإلى كاف وإلى قاف... وهكذا مع كل الحروف، والعكس فى كل ذلك صحيح (انظر الفصول الخاصة بتبادل الأصوات بدءا من الفصل الخامس ص 165)، وذلك فضلا عن "الميتاتيز"، وهو ما يسمى فى الصرف العربى: "القلب المكانى"، أى التقديم والتأخير فى حروف اللفظ كــ"جَبَذَ" فى "جَذَبَ" مثلا.
    ومعنى ذلك أن كل كلمة يمكن أن تصبح أية كلمة، والبهلوانية جاهزة لتمرير الجمل من سم الخياط وصَرّ الفيل فى المنديل وتعبئة الشمس فى زجاجات ودهن الهواء دوكو باللون الذى يحب كل إنسان. وفوق هذا فإن الصلة بين كثير من اللغات التى يقول لويس عوض بالاتصال بينها معدومة، والكلام فيها أشبه بالكلام فى الغيبيات التى يتشدقون بالهجوم عليها فى موضعها، على حين يلجأون إليها فى غير موضعها. والحق أن لويس عوض، فى ألاعيبه التى يمارسها فى هذا الكتاب، لا يفترق عن أى فلاح منجعص فوق مصطبة من مصاطب القرية وفى يده جريدة قد أمسكها بالمقلوب فظن أن الموتوسيكل الذى يركبه صاحبه قد انقلب به وأصبح الرجل تحت، والموتوسيكل فوقه، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة من سياسة واقتصاد ومسائل زراعية ومشاكل اجتماعية وحروب وكرة قدم وقرآن وحديث وفقه وزواج وطلاق وقُعُور مجالس وصفقات مواشٍ وبيع محاصيل وقياس أراضٍ ووصفات شعبية للربو والدودة المعوية وفيروس سى والإيدز الذى حير البرية وجاء بداغ الأطباء كلهم بربطة المعلم الأرض دون جدوى... باختصار: بتاع كلّه!
    وهل بمستطاع أى إنسان كائنا من كان أن يسد حنك مثل ذلك المفتى المنجعص، وبخاصة إذا كان عبقريا عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" حسب قول بعضهم؟ إن الرجل قد بسط أمامه خريطة اللغات الإنسانية كلها على مدار التاريخ كله تقريبا وشرع فى تتبع مسار كل كلمة من لغة إلى أخرى إلى ثالثة إلى رابعة... وعرف ما حدث لها على وجه الدقة واليقين قبل أن يحط بها أخيرا فوق مَدْرَج اللغة العربية بمطار الدراسات اللغوية بسلامة الله، ويصفق له الركاب على عادة المصريين كلما نزلت بهم الطائرة سالمة فى القاهرة، يفعل كل هذا وكأنه يعلق على مباراة فى كرة القدم تقع تحت بصره فى التو واللحظة، وليس على أمور تمت قبل الأحقاب المتطاولة، وكان مسرح وقوعها الكرة الأرضية جمعاء، واشتركت فى توجيهها عوامل تجلّ عن الحصر من سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وبيولوجية، غير السهو والكسل والخطإ والالتباس... إلى آخر ما يعتور الألفاظ فى رحلتها الطويلة منذ أن توجد إلى أن تفنى، أو على أقل تقدير: إلى أن تتوارى ولو مؤقتا فى بطون المعاجم!
    ثم إنه هو نفسه وبعظمة لسانه، إن كان للألسن عظام، قد قال إن البحث فى مثل هذه القضايا يحتاج إلى الاستعانة بعدة علوم هى علم اللغة، وهذا قد رأينا مستواه المخزى فيه، ثم علم الأنثروبوليوجيا الطبيعية (علم الأجناس)، ثم الأنثروبولوجيا الاجتماعية المقارنة، ثم ألأثنولوجيا المقارنة، ثم الفونوطيقا المقارنة، ثم الأديان المقارنة، ثم الأساطير المقارنة، ثم الآثار بفروعها المختلفة، ثم تاريخ الفنون والآداب، ثم هو بعد ذلك كله يبرز مدى الصعوبة التى تكتنف هذه الدراسة من كل الجوانب (ص 131- 132)، ورغم ذلك كله نراه لا يبالى بعشر معشار ما قاله، فهو ينجعص كما قلت على مصطبة الفكر وهات يا فتاوى فى مسير ومصير اللغات المختلفة وكأنه ساحر من سحرة القرون الخوالى ينظر فى البلورة المسحورة ويرى من خلالها وفيها كل شىء، وقد جهل كل شىء وكل علم مما صدَّع أدمغتنا به حتى علم التمرهندى والعرقسوس!
    إن عبقرينا يتعامل مع هذه القضية كأنها لا تحتاج إلى أكثر من فرقعة بإصبع من أصابعه، فإذا كل شىء على ما يرام، وإذا كل شىء كما يقول. وهو، كما ترى، غرور ما بعده غرور، وبخاصة إذا علمتَ أنه لم يكن يعرف من كل تلك اللغات التى لا حصر لها إلا الإنجليزية والفرنسية، وكذلك إذا علمت أنه فى كلامه السخيف ذاك إنما كان ينقل فى معظم الأحيان عن بعض العلماء الغربيين الذين أحضر كتبهم ووضعها أمامه وأخذ يفتى بسرعة الصاروخ. ولم لا؟ أليس هو أبو سريع اللميع؟ أليس هو أبو زيد السالك الذى سكته كلها مسالك؟ وهل سمعتم أن أبو سريع اللميع قد خَفِىَ عليه شىء أو استعصى على قدرته شىء؟ خَسِئَ من يقول: نعم! على أن هذا لم يكن يملأ عين أبو سريع اللميع، بل رأسه وألف برطوشة قديمة أن يصدع رؤوسنا بكم مصطلح أوربى لزوم إبهار الدراويش الجاهزين للوقوع فى دباديب أية كلمة أو فكرة تافهة ينطق بها، وكأنه كاهن بين قوم وثنيين، فهم ينظرون إلى كل ما يتلفظ به وكأنه وحى لا يخرّ منه الماء! ولهذا فهو يكثر من "الميتاتيز، والهومونيم، والأوتوموبيا، والتوتولوجى، والمورفولوجى، والإيتمولوجى، والفونوطيقا، والجرمانية العالية، والإنجلوسكسونية... إلخ"، وكله كلام فى الهجايص كما رأينا وتحققنا بأنفسنا!
    ومن الوسائل التى يلجأ إليها لويس عوض أيضا لإرباك عقل القارئ كثرة التفصيلات وتتابعها (دون مراجع فى العادة) كى يصاب القارئ بالرعب والدوار فيتصور أنه أمام عالمٍ نحريرٍ ولا يجرؤ من ثم أن يطالب الكاتب بالدليل. إنه لا يقدم فى العادة مراجع ولا مصادر بل يكثر من الـ"ربمات" والــ"قد يكونات" والــ"ليس ما يمنعات" ثم يسهّينا فيحول الافتراضات التعسفية غير المدعومة بدليل أو منطق أومنهج إلى حقائق يبنى عليها نتائج فى منتهى الخطورة. ذلك أنه لا يقيم أيا من أفكاره على أسس منهجية، إذ إن الافتراضات العلمية إنما تكون حيث تتطلبها كثير من الوقائع مما يجعل الفرضية تفرض نفسها فرضا لا لمجرد أنها طقَّت فى مخّ الباحث دون مؤشرات. ثم إنه عادةً ما يقطع بالنتائج رغم أنه لا يقدم دليلا على صحة ما يقول، أو على الأقل: على معقوليته. كما أنه ينتقى ما يظن أنه موصّله إلى ما يريد تقريره من نتائج، مع إهمال ما يرى أنه لا يوصله إلى غايته. فعلى سبيل المثال نراه فى باب الأعداد يحاول أن يقنعنا بأن " رقم اثنين" عندنا هى "تُو" و"دُو" و"تِسْفَاىْ"... الإنجليزية والفرنسية والألمانية على التوالى عن طريق كلمات "صِنْو وسَواء وسِيّان وسوا"، مع أن "الصنو" هو "الشبيه"، و"السواء" هو "المتماثل"، و"سوا" (بالعامية المصرية) تعنى: "معا"، ولا علاقة لشىء من هذا بالأرقام. ولنلاحظ أنه لم يقل: "الزوج" ولا "المكرر" ولا "الـمُعَاد" ولا "الشبيه" ولا "المطابق" ولا "الموازى" ولا "الـمُنَاظِر" وما أشبه، بل اختار ما يظن أنه ينفعه فى ترويج بهلوانيته.
    وإلى القارئ مثالين على ما نقول مما خطه الدكتور لويس فى كتابه: فأما المثال الأول فهو ما كتبه عن كلمة "بنان" (ص 417- 418)، التى يظن بعبقريته الفذة أن معناها "إصبع" ضربة لازب، مع أنها تعنى "الإصبع" أو "طرف الإصبع". قال: "فى الإنجليزية والإنجليزية الوسيطة والأنجلوسكسونية كلمة "فنجر: Finger" تعنى "أصبع"، وهى فى السكسونية وفى الجرمانية العالية القديمة "فنجار: Fingar"، وفى النوردية القديمة "فنجر: Fingr"، وهى فى الهولندية "فنجر: Vingr"، وفى الدنماركية والسويدية والألمانية "فنجر: Finger"، وفى القوطية "فيجرس: Figgrs" (من "فنجرس: Fingrs"). وفى "سكيت" أن أصلها التيوتونى الافتراضى هو "فنجروز: Fingroz"، ونموذجها الهندى الأوربى "بنكروس: Penkros"، (تعليق من إبراهيم عوض: الكلام إلى هنا معقول، فاللغات الأوربية متقاربة تقاربا كبيرا فى كثير من الحالات لاستمدادها من نفس المصدر أو لاستعارة بعضها من بعض. ولكن هذا الكلام المعقول ليس للويس عوض، بل نقله نقلا من بعض الباحثين الأوربيين. ولكن انظر كلامه هو من هنا إلى آخر النص، ولسوف تجد البكش كله على أصوله! يقولنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي وهذه يمكن أن تؤدى فونطيقيا إلى "بنسروز: Pensros" التى تصلح أساسا لكلمة "بنصر". وفى "وبستر" اشتباه بأن "Fingr" قد تكون لها علاقة بكلمة "Five" بمعنى "خمسة" باعتبار أن أصابع اليد خمسة. فإذا كان هذا صحيحا عدنا إلى جذر "بنديس: Pend-is" اليونانى بمعنى "خمسة" (قارن "فونف: Fünf" الألمانية) وإلى جذر "كوينكوى: Quinque" اللاتينية بمعنى "خمسة" (فونطيقيا: p = f، وf= q). وهذا يفسر ظهور "بنصر" من "Penzer" افتراضية، و"خنصر" من "Quenzer" (أصلا "بنجر" و"كنجر" بقيمة "ج: dj" وسطى). وبهذا تكون "بنصر" هى "خنصر"، ومعناها إما ببساطة "أصبع" (=Fingr) أو "أحد" الخمسة أو "الخامس" بمعنى "الأصبع" الخامس. ومع ذلك فالخامس فى العربية هو "الخنصر"، أما "البنصر" فهو الرابع، فالتوزيع غير مفهوم. وحتى لو افترضنا أن "خنخ" خنصر (أصلا "ك") جاءت من "Quatrus" بمعنى "أربعة" فى اللاتينية ("تترا" باليونانية) لما طابق هذا الواقع لأن "الخنصر" هو الخامس لا الرابع، وكان ينبغى أن توجد صيغة "تِنْصَر" أو "تِتْصَر" لتدل على الأصبع الرابع. و"بنان" يحتمل أن تكون من نفس جذر "Fingr" (Pendroz>)، ولأنه ليس لها جمع فهى لا تدل على "أصبع" بالمعنى العام، وإنما تدل على أحد الأصابع، وهو السبابة. ومن "بنان" نعرف أن صيغة "بنجن:Pengen " وجدت قبل "Fingr"، ولسقوط "g" خرجت "Penen" بالمد لتحل محل الصوت الساقط. ومع ذلك فيحسن البحث عن جذر آخر أو هومونيم آخر لأن "أنامل" بمعنى "أصابع" (دائما فى حالة الجمع، ونادرا ما نراه مفردا، أى "أنملة") تتواتر سواكنها الأساسية مع كلمة "بنان". ونخرج من هذا المأزق بأن نفترض أن "خنصر" و"بنصر" تعنى باختصار "أحد الخمسة" وأن توزيعها تم بناء على اعتبارات تحتاج إلى مزيد من البحث. ويبدو أن "أصبع" و"سبابة" من جذر واحد. يوحى بذلك كلمة "صباع"، وهى فونطيقيا قريبة من "سبابة"، ولكنى لم أهتد إلى جذر هذه المادة من مجموعة أتيمولوجية أخرى".
    أما المثال الثانى فلن يكون طويلا على هذا النحو، بل سأقلل النقل تقليلا. قال فى الكلام عن أصل اشتقاق كلمتى "نمر" و"نمس": "أما "نمر" و"نمس" فوحدة جذورهما واضحة، وهو جذر "مينك: Mink" الإنجليزية ("Mynk" فى الإنجليزية الوسيطة). والجذر الافتراضى فى تقديرى هو "مينس: Myns ,Mins" ("نمس" بالميتاتيز)، ويمكن أن نخرج منها "منر: Minr" و"Mynr" ("نمر" بالميتاتيز)، وكذلك حيوان "الليمور"، وهو نوع من "النمس"، و"ليمور" صورة من "نمر". أما "تيجر" فجذرها فى تقديرى هو غالبا جذر "ضرغام" و"ضيغم". أى أن جذرها هو "تيرج- طيرج- ديرج- ضيرج" (ص 450). أرأيت أيها القارئ عبقرية متعبقرة كهذ العبقرية؟ الرجل يجلس إلى مكتبه ويبدأ الفشر فيتناول خط سير كلمات كل هذا العدد الكبير من اللغات على مدار الدهور المتطاولة، وينتهى من ذلك فى لحظات. ونحن بهذ الطريقة يمكننا أن نقول إن كلمات "ليمون" و"أَمّور" و"نور" و"تنّور" و"تنّورة" و"بندورة" و"بيرون" مأخوذة كلها من نفس الجذر، إذ كانت تطلق فى مبتدإ الحال على بعض الحيوانات الوحشية، ثم تطورت دلالتها وأضحت تعنى ما تعنيه اليوم. ستقول لى: كيف؟ ومتى؟ وأين الدليل؟ أقول لك: ولماذا لا تسأل عبقرينا هذه الأسئلة ذاتها؟ إن استطاع أن يجيب فتعال وأنا أجيبك ساعتها، وإلا فاقبل كلامى، وهو ما لا أنصحك به لأنى أعترف وأقرّ أمامك بأنه كله كلام فارغ اخترعته عفو اللحظة، أو فانبذ هذا السخف اللويسعوضى، وهو ما أنصحك به أشد النصح حتى لا تضيع فى أبو نكلة! والسلام عليكم ورحمة الله.














  2. #2
    عزيزى القارئ: الدراسة التى تقرؤها الآن منشورة فى مواقع متعددة على المشباك منذ أعوام. واليوم فقط تبين لى أن ما قالته عن أصل كلمة "عشماوى" (منفذ حكم الإعدام فى السجون المصرية) صحيح 100% بحمد الله وأن ما قاله لويس عوض فى هذا الصدد هو تطجين فى تطجين. ذلك أن جريدة "المصريون" نشرت اليوم تقريرا عن عشماوى الحالى فى مصر، وفيه أن أول منفذ للإعدام فى مصر كان اسمه أحمد العشماوى وأن هذا هو السبب فى إطلاق هذه التسمية على الشناقين الرسميين، وهو ما كنت خمنته فى الدراسة التى بين يديك قبل أعوام. وهذا هو تقرير جريدة "المصريون":-

    تعرّف على "عشماوي" الذي أعدم 1070 مصريا.. وأسرار نومه 4 سنوات متواصلة ليستيقظ على جثث الإسلاميين

    أحكامه لم تنفذ من 2011 وريّا وسكينة من بين ضحاياه


    منذ 8 دقيقة عدد القراءات: 126

    تعرّف على "عشماوي" الذي أعدم 1070 مصريا.. وأسرار نومه 4 سنوات متواصلة ليستيقظ على جثث الإسلاميين

    عشماوي


    سلطت صحيفة تليجراف البريطانية أمس الأحد الضوء على واقعتي تنفيذ حكم الإعدام شنقا بحق ستة من المحكوم عليهم فى القضية المعروفة إعلاميا بـ"خلية عرب شركس"، وقرار محكمة جنايات القاهرة إحالة أوراق الرئيس الأسبق مع 105 آخرين إلى المفتي في القضية المعروفة إعلاميا بـ"اقتحام السجون".

    وأشارت الصحيفة حسب مصر العربية إلى أن تنفيذ الإعدامات، الذي تم فجر اليوم، جاء غداة الحكم على مرسي، مشيرة إلى أن هذه الإعدامات الجماعية لا تعد الأولى من نوعها، حيث سبق وتم الحكم على المئات من أنصار مرسي بالإعدام بشكل جماعي، وذلك منذ الإطاحة بالرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين في "انقلاب عسكري" قبل ما يقرب من عامين (على حد وصف الصحيفة).

    وتعقيبا على أحكام الإعدام تلك، لفتت تليجراف أن نسبة كبيرة من هذه الإعدامات لن تنفذ، عازية ذلك إلى ما وصفته بالطريقة المعقدة التي يؤكد من خلالها القضاء المصري عقوبات الإعدام.

    لكنها أشارت إلى أنه بالرغم من ذلك، فإن هذه الأحكام من شأنها إعادة رجال تنفيذ أحكام الإعدام (وهي الوظيفة التي يعرف صاحبها بـ"عشماوي") إلى العمل من جديد، وذلك بعد نحو أربع سنوات من التوقف عن العمل، حيث إن أنشطة الإعدام متوقفة منذ عام 2011.

    وكانت محكمة عسكرية قد أدانت الستة الذين أعدموا في قضية "خلية عرب شركس" في وقت سابق بشن هجمات لحساب تنظيم أنصار بيت المقدس الذي أعلن مؤخرا مبايعته لزعيم تنظيم الدولة الاسلامية وأطلق على نفسه اسم "ولاية سيناء".

    ويعد هذا الإعدام الأول الذي ينفذ بعد استنفاذ درجات التقاضي من المحكمة العسكرية.

    وكانت المحكمة العسكرية قد قضت فى شهر أغسطس الماضي بإحالة أوراق ستة أشخاص للمفتى بعد أن حكمت بالإعدام عليهم بتهمة استهداف حافلة جنود بمنطقة الأميرية وكمين مسطرد شرق القاهرة، وقتل ضابطين بالهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة بمنطقة عرب شركس في محافظة القليوبية شمال مصر أثناء مداهمة تلك المنازل ومداهمة البؤرة التي تتبع لجماعة أنصار بيت المقدس الإرهابية.

    واستنفذ المتهمون درجات التقاضي بعد رفض المحكمة العسكرية العليا وقف تنفيذ الحكم وإعادة المحاكمة، وتأكيدها للحكم.

    وقد جاء ذلك بعد يوم واحد من قرار محكمة جنايات مصرية بإحالة أوراق 105 متهمين من بينهم محمد مرسي، ومرشد جماعة الإخوان محمد بديع، ونائبيه محمود عزت وخيرت الشاطر، والداعية الاسلامي يوسف القرضاوي، وعدد من الفلسطينيين واللبنانيين من أعضاء حركة حماس وحزب الله، إلى مفتي البلاد، وهو الإجراء المتبع قبل إصدار الحكم بالاعدام.


    من هو عشماوي؟

    عشماوى الذى كتب اسمه على باب شقته بحى الزاوية الحمراء الشعبى والذى يتعدى من العمر 67 سنة، يقول إن نسبه يعود لأول شخص عمل بمهنة الاعدام" أحمد العشماوي" وذلك بداية من أول قرار إعدام ينفذ على رية وسكينة.

    وأضاف عشماوى لليوم السابع أنه عاش طفولة مليئة بالحزن والحرمان، الأمر الذى دفعه للدخول فى تلك المهنة بقلب ميت لا يخشى شيء حتى ولو كان القتل، وذلك بسبب ظروف العائلية التى مر بها وهو طفل.

    ويواصل عشماوى حديثه قائلا" أنا مولود سنة 47 فى سمنود بالغربية، بلد مصطفى باشا النحاس، ودخلت «الكتّاب»، وحفظت أجزاء من القرآن، والظروف كانت صعبة ومادخلتش مدارس، ودخلت الجيش وخرجت سنة 70، وقدمت كـ«مساعد شرطة» فى طنطا وقبلونى ونقلونى القاهرة بعد 3 سنين فى مصلحة السجون، وأنا كان صوتى تخين وكنت مهتم بـ«شنبى».

    واستطرد "سنة 80 خدونى مساعد الجلاد اللى هو "عشماوى" وكنت باشيل «عدة الشغل»، المكونة من" حبل كتان، وحديدة، وطاقية سودة، وبتابع وعينى فى وسط راسى، وآجى أتكلم ساعة تنفيذ الحكم ألاقى «عشماوى» يقول لى: «اسكت انت. ما تتكلمش انت عارف حاجة؟!، واشتغلت 18 سنة مساعد عشماوى، "مع عمنا صلاح سلطان، وبعده جمال عبد السميع «برضه عشماوى»

    ويحكى عشماوى قصة بداية أول تنفيذ اعدام نفذه قائلا "سنة 99 كنا فى سجن بنها لتنفيذ حكم إعدام، وفى الليلة دى جمال تعب وجاله نزيف شديد، وكان باقى على الإعدام كام ساعة، والمأمور قال لى: «ماينفعش نأجل إنت اللى هتشتغل، وكنت منتظر "الفرصة "دى منذ فترة كبيرة وقلت لنفسى أخيراً جات لك يا حسين، وأفتكر إنى أعدمت سيدتين منهم واحدة كانت متجوزة فلاح فى المنوفية على علاقة خاصة بينها وبين أخو جوزها وقتلوه ورموه فى النيل ودى كانت أول مرة أعدم فيها حد".

    وتابع عشماوى قائلا "أنا عاشق لتلك الوظيفة فهى فتحت خير عليا عندما أخبرونى بأنى أترقيت و" أصبحت "عشماوى " زوجتى شربت الشارع كله شربات و كسكسى، وكانت حاجه كبيرة بعد أن كنت مساعد جلاد"، معلقاً "أول مرة كنت خايف وباترعش، وبالليل ماعرفتش انام، لكن اتعودت".

    وأضاف حسين" أنا والحمد لله فى رصيدى 1070 واحد وواحدة اتعدموا على إيدى، وأكثر ما كان يفرحنى هو عندما ياتى فى اليوم 10 رؤس كان يوم فرح ليا هاخد على كل راس مبلغ وقدره " مشيرا إلى أن أول رأس قام باعدامها حصل على فى مقابلها 20 جنيهاً ثمنا لتنفيذ حكم الإعدام ووصلت إلى 100 جنيه فى آخر «رأس» أنهى حياة صاحبه.

  3. #3
    حسبنا الله ونعم الوكيل....هل هو فعلا لجهنم دوغري؟
    مااقبحها من مهنة...
    واصطادوا لها من هو اهل لها للاسف...
    حياة على جثة اموات..
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-01-2014, 02:47 PM
  2. أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين - أحمد مختار
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-23-2014, 05:24 PM
  3. أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين - أحمد مختار عمر
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-20-2013, 08:02 AM
  4. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-08-2013, 06:57 AM
  5. من مقدمة التفسير "من تفصيل الكتاب وبيان القرآن " 1
    بواسطة الحسن محمد ماديك في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-28-2012, 07:29 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •