الكُرّار هم أصحابُ القرار
بموازين القسط والعدل قامت السموات والأرض ، فما يحيد عنها بعد ذلك إلا كلّ فتانٍ ذي ضلالة أو خوّان ذي غرض ، أو امرؤ ذو هوى استحكم في قلبه مرض ، فليس يعبأ بعد ذلك إن هو تاجر بعذابات الشعوب المستضعفة لقاء أرَبٍ رخيص وعَرض…
من هنا : فهؤلاء الذين صنعوا من دمائهم قناديل لأمتهم تنور لها المسالك ، وتهديها سبلها إذا ما اكتنفتها الظلمات الحوالك ، وتربأ بها أن تنزلق في مساخط توردها موارد المهالك، هؤلاء ينبغي أن تُقتفى آثارُهم، وتُتبعَ خطواتهم ، ويُسمعَ صدىً لصيحاتهم …
أليس من سلَّ سيفه يروم السّمُو ، لا يبغي الفساد في الأرض ولا العُـلُو ، إنما هدفوا نحورهم للعدو ، نصرة لمبادئ امتثلوها ، وحقوقاً مسلوبة همّوا أن ينتزعوها ، وأرضاً مغصوبة عزموا على أن يحرروها ، ومقدسات مدنسة تقاسموا أن يطهروها ، من رجس أشرار ، وبراثن فجار ، سطوا عليها على حين غفلة من أهلها فاغتصبوها ودنسوها … أليسوا حقيقين بأن يكونوا أهل حل وعقد؟ وجديرين بأن يكونوا أهل تقييم ونقد ؟ لا سيما إذا ما حمي الوطيس وجدّ الجدّ ، بالتالي فكل ما من شأنه أن يقدّم بين أيديهم ، أو من دائرة صنع القرار يستثنيهم فهو ردّ .
فأيّما جماعة مجاهدة هذا ديدنها ، وهذه مقاصدها ، وتلكم وجهتها ، كافأها العزيز الغفار بأن أسند إليها القرار ، بعد أن حباها بملكات ، وحفها بنفحات ، وخصّها بفتوحات ، تمكنها من حل المعضلات ، والخروج بمواقف نيرات ، في خضم الفتن والأزمات ، حيث قال جل شأنه ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وٍإن الله لمع المحسنين)[ سورة العنكبوت69 ] قال ابن زيد – رحمه الله تعالى -: قوله (جاهدوا فينا): أي قاتلوا فينا )[ تفسير الطبري 21/15 ].
لذا قال سفيان بن عيينة – رحمه الله تعالى - : ( إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور ، فإنّ الله تعالى يقول (لنهدينهم سُبلنا) [ تفسير القرطبي 13/242 ] .
فالمجاهدون وأهل الثغور هم المهديّون ، فإذا ما اختلفت الآراء وافترقت السبل، فالهداية في ترسم خطاهم ، واقتفاء آثارهم ، والنزول عند رأيهم ، ذلك أنّ لأهل الجهاد من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة ، ممّن هم في جهاد الهوى والشيطان ، لأنه لا يوفق في جهاد العدو الظاهر إلا من هو لعدوه الباطن قاهر ، من هنا يكون المولى عز وجل ( قد علّق الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا ، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل منه ) [ ابن القيم – الفوائد 59 ] .
وقد فطن السلف الصالح – رضوان الله عليهم – لهذه الأمور ، فها هم جهابذة علمائهم يحيلون على أهل الثغور ، ما أشكل عليهم من مسائل ونزل بساحتهم من معضلات الأمور ، وحسبك في هذا قول ابن المبارك والأوزاعي – رحمهما الله تعالى - : ( إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر – يعني أهل الجهاد – فان الله تعالى يقول ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا ) [ ابن القيم – مدارج السالكين 1/510 ] .
قال السعدي – رحمه الله تعالى - : ( هذا كله يدلّ على أنّ أولى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد ) [ تفسير السعدي 636].
فإذا كان ذلك كذلك توجب المسير إليهم ، للوقوف على وجهات نظرهم ، لنتلقفها منهم ، فيكون عليها التجمع والتلاق ، إذا ما عجّت الساحة بالجدل والشقاق، وخيمت على الأمة بوادر انشقاق .. أما أصحاب الهوى وأهل الأهواء فلا انجراف وراء آرائهم ولا انسياق ، إذ لا يعقل أن يُستمع الى الفُرّار ، في حين يصيب الآذانَ وقرٌ إذا ما تكلم الكُرّار ! إنّ من يصوغون بدمائهم القرار ، وهم مرابطون على خطوط النار ، يحرسون شرف الدار ، ينشدون بذا مرضاة الواحد القهار ، لهم آمن على مصالح الأمة ، وأقدر على محو الثلمة ، وأصدق في كشف الغمة ممّن زجّوا أنفسهم في دهاليز سياسيّة عقيمة ، أو أولئك الذين جرّوا أوطانهم إلى أتون فتن داخلية دامية مظلمة مدلهمّة ، إستنزفوا فيها مقوّمات الأمّة ، وأشغلوها بنفسها عن عدوّها المتربّص بها ، فخسروا وخسروا جميعا !
وبعد : فإذا كانت المواقف البهية ثمرةً ناجمة عن دماء زكية يجود بها بررة ، فأي عدالة تسوّغ أن يهيمن على القرار الخوالف عن النفير ، أو أن يتكلم في شأن العامة رويبضات نائمو الضمير ، في حين يُجرّد منه مَنْ مهروا دماءهم لعز أمتهم ، وباعوا لله أنفسهم، لتحرير أولى قبلتهم ومسرى نبيهم – صلى الله عليه وسلم -؟! فإن لم يكن بذل النفس مخوّلا لتبوّئ مقعد اتخاذ القرار والإدلاء بالرأي ، وحجة دامغة تلجم من يريد أن يستأثر به من أهل الزيغ والغي والبغي .. فبأي حديث بعده يؤمنون؟وبأي حجّة بعدها يحاجّون؟!