من جذور الإرهاب في التاريخ (!!)

كتب الراهب "هيبا المصري" في مذكراته، كما جاء في رواية "عزازيل" للروائي والباحث والمؤرخ "يوسف زيدان"، والتي هي عبارة عن ترجمة احترافية عالية المستوى للرقوق "السريانية" التي وجدت في "أنطاكية"، ساردة السيرة الذاتية للراهب "هيبا" خلال رحلته الباسلة من "نجع حمادي" إلى "الإسكندرية" فـ "أورشليم" فـ "حلب"، فـ "إنطاكية".. إلخ، بخط يده:

"بعد أن قام رهبان وقساوسة الإسكندرية بقتل "هيباتيا" أستاذة الزمان وفيلسوفته ومحاضرة الرياضيات في المدينة، وحرق جثتها وقتل "أوكتافيا" التي حاولت الدفاع عنها، لمجرد أن "هيباتيا" كانت وثتية ولم تكن مسيحية، "أفقت من ذهولي على حيرتي في مقصدي: هل أعود للكنيسة المرقصيَّة التي كانت موئلي وملاذي في الأعوام الثلاثة السابقة، فأشارك الإخوة هناك احتفالََهم بنشوة الظفر والانتصار على آخر رموز الوثنية الغابرة، وأعلن معهم الابتهاج باستعلاء الديانة واستيلائها التام على مدينة الإسكندرية (؟!) أم ألقي بنفسي على الجمر الباقي حول جسد "هيباتيا" فأحتضنه، علَّني أدرك بقية من النار التي احترقت بها، فأموت معها متطهرا من خنوعي الثاني (؟!)

يوم قُتِلَ أبي خنعت، لأنني كنت صغيرا ولا حيلة لي، فلماذا خنعت عن إغاثة "هيباتيا" وقد مدَّت ذراعها نحوي (؟!) أوكتافيا حاولت حمايتها واستجلبت عون إله الإسكندرية المدعو "سيرابيس"، فصارت جثة ملقاة على جانب الطريق مُكفنة بدمائها الطاهرة. أبي لم يستغث بي، لكن هيباتيا فعلت (!) المرأة الخاطئة لم تستغث بالمسيح يسوع، لكنه أغاثها من راجميها قساة القلوب (!) وأنا لم أغث شقيقة يسوع من أيدي إخوتي في الديانة (!) لكنهم ليسوا إخوتي، أنا لست منهم وأنا لستُ مني (!)

شعرت بقلبي يسيل كماءٍ بين ضلوعي ثم يصير هواءً. دارت برأسي السماء والبحر والبيوت والجمرات الباقية بمدخل المعبد المحترق، فسقطت مغشيا عليَّ. ولما أفقت من إغماءتي ساعة الغروب كان حولي ثلاثة: "صبي يافع"، و"امرأة سوداء في أواسط العمر"، و"راهب متقدم في السن" (!) قمت مترنحا، فصدعت رأسي حين وقفت أصداء صرخات "هيباتيا" التي كانت لم تزل تملأ سمائي وتختلط بأمواج البحر القريب. البحر الذي اعتقدت يوما أن الحياة ابتدأت منه، ثم عرفت أنه منتهى الأشياء كلها. وسوف يأتي زمان يغطي فيه البحر المِلْحيُّ العالم كله، فيموت اللون الأخضر وتختفي الحياة (!)

اجتهدت حتى وقفت منتصبا، بيدي اليسري أمسكت الصليب المعلق فوق صدري وانتزعته، فانقطع الخيط الذي كان يلفه حول عنقي. ارتاع الراهب والصبي وأجهشت المرأة. أحسست براحة مفاجئة حين انتزعت الصليب من عنقي وتركته يسقط على الأرض وسط ذهول الثلاثة. الراهب انحنى فالتقطه، والصبي تراجع خطوتين، والمرأة انتحبت. ومضيت مبتعدا عنهم فارا منهم ومن كلِّ شيء (!!)

لم ألتفت لشيء في طريقي حتى خرجت من بوابة الشمس ساعة المغيب. فور خروجي من البوابة شققت رداء الرهبان عن صدري فتهدل على جانبي. لم أجد أحدا في طريقي، فكأن الكون قد خلا تماما من الحسيس، من الإنس والجن والملائكة والشياطين. وكان الرب غائبا عني أو كان يستريح من خلق جديد صنعه في ستة أيام أخرى. كنت وحدي أجوس الطين والرمال وأطراف البحر والبحيرات والأرض السبخة، مبتعدا عن الإسكندرية (!!)

كان صدى الآيات الأولى من "سفر حبقوق" يتردد في باطني: "إلى متى يا رب أستغيث بك؟ إلى متى أصرخ إليك من الجور فلا تخلِّص (؟!) لماذا تريني الإثم وكيف تطيق النظر إلى البؤس (؟!) الاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني والخصام والنزاع يسودان كل مكان (؟!)

لماذا كان خروجي من الإسكندرية عبر بوابتها الشرقية (؟!) ألم تكن البوابة الغربية أقرب (؟!) حين لا أجد اليوم إحابة على تساؤلاتي، لا أجد بُدا من القول إنها كانت مشيئة الرب. الرب المحتجب خلف سرادق حكمته الخفية، أو خلف عجزنا الدائم عن فهم أحوالنا وذواتنا (؟!)

وصلت إلى منطقة رحبة بأعلى دلتا النيل، وقلن لنفسي بصوت مسموع باللغة القبطية: "هنا تمتزج الأرض والماء بالسماء، ومن هنا سأبدأ من جديد" (؟!)

اتجهت ناحية الشمال فاستقبلت الريح بصدري العاري وفتحت ذراعيَّ بطولهما ورحت أتلو صلاةً لم أكن قد قرأتها من قبل في كتاب ولا سمعهتا في قداس:

باسمك أيها المتعالي عن الاسم،
المتقدس عن الرسم والقيد والوسم،
أخلي ذاتي لذاتك كي يشرق بهاؤك الأزلي على مرآتك،
وتتجلى بكل نورك وسناك ورونقك،
باسمك أخلي ذاتي لذاتك، لأولَد ثانية من رحم قدرتك،
مؤيدا برحمتك،

وعندما توسطت الشمس كبد السماء ولم يعد ظلي يمتد على أيِّ جانب، انحنيت، فغرفت بكفيَّ من الماء الطاهر، ووقفت فألقيته فوق رأسي، ليغسلني من كل الذي كان (!!)

لحظتها عمَّدت نفسي بنفسي، وأعطيت لنفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه اسما جديدا، هو الاسم الذي أُعْرَفُ به الآن "هيبا"، وما هو إلا النصف الأول من اسمها (!!)

التقطت بعد العماد ملابسي، وشعرت حين ارتديتها بأنني صرت الإنسان الآخر الذي كان كامنا فيَّ (!!)

أنا الآن الراهب "هيبا" (!!)

ولست ذاك الصبي الذي وشت أمه بأبيه فقتلوه أمام ناظريه (!!)

لست اليافع الذي رباه عمه في "نجع حمادي" (!!)

ولا الشاب الذي كان يوما يدرس في "إخميم" (!!)

أنا الآخر المؤيَّد بالملكون الخفي، وأنا المولود مرتين (!!)

(من لم يقرأ رواية عزازيل فليحرص على قراءتها، وإلا فإن الكثير الكثير من الحقيقة التاريخية سيفوته) (!!)