أن يذهب الجندي إلى الجبهة ويقاتل، ينتصر أو يستشهد، فهذه مسألة تخضع للاحتمالات، أمّا أن يذهب وهو يعلم أنه سيغدو شهيداً، فهو الخالد في ضمير الوطن.
قد تبدو مفارقة، لكنها حقيقة عندما نقول إن أول مسمار دقّ في نعش الاستعمار الفرنسي، كان في 24 تمّوز 1920 وهو اليوم الذي دخلت فيه جيوش فرنسا الجرارة إلى دمشق.


وهذه الحقيقة كرّسها وأصّلها وزير الحربية السورية آنذاك يوسف العظمة عندما أطلق في لحظة استشهاده المقدّسة جذوة النضال، ورفع رايةً على روابي ميسلون بقيت خفّاقة على مسيرة ربع قرن، تشحذ همم الرجال، وتخلق الرجالات العظماء «سلطان الأطرش، أحمد مريود، الشيخ صالح العلي، إبراهيم هنانو، محمد الأشمر، حسن الخرّاط.. وغيرهم»، واصلوا رحلة الشهادة، واستطاعوا في يوم 17 نيسان 1946 قطف النصر المؤزّر.
ساعات عصيبة عاشها يوسف العظمة ورهطه الأبطال، وحتى لحظة اتخاذهم قرار الصمود والمواجهة، ذلك القرار الذي عجزت أدمغة المتحضّرين عن إيجاد تفسير له.
يقول أحد المستشرقين في تحليله ليوم ميسلون:
(لم أجد رغم الجهد الذي بذلته أيّ تفسير لخروج يوسف العظمة إلى ميسلون لقتال جيش فرنسا الجرار، ولا أستطيع أن أسمّي ذلك الخروج إلا أنه عملية انتحار جماعية.!)
هذا المستشرق، لم يدرك «لأنه فاقد علم الأسباب» أهم الدوافع النبيلة التي دفعت يوسف العظمة ورفاقه للخروج إلى ذلك النزال المستحيل، فقد وجّه الجنرال «غورو» إنذاره الشهير، يتضمّن شروطاً إملائية مهينة واجبة التنفيذ، كما أنه حدّد فترة زمنية قصيرة للتنفيذ، ما يفسّر بأن قرار الدولة الفرنسية باجتياح دمشق واحتلالها أمر واقع بكل الأحوال.
إمّا أن توافق الحكومة العربية الفتيّة في سورية على شروط «غورو» التعجيزية والمذلّة، وإمّا أن تفتح أبواب الوطن على مصارعها أمام القوات الغازية لتدخل دون مقاومة.
حلاّن أحلاهما شديد المرارة.!
هذان الحلاّن بمرارتهما ومهانتهما تَمثّلا أمام وزير الحربية السورية يوسف العظمة في تلك الساعات المصيرية الحاسمة، وكان لا بد من خيار ثالث لا يقبل التريث أو التأجيل.
المواجهة ومهما كانت التضحيات.!
أبلغ قراره إلى ساطع الحصري، وتوجّه إلى القصر الملكي وطلب مقابلة الملك فيصل، قال له:
ـ هل يأذن لي صاحب الجلالة أن أموت.؟
أطرق الملك لا يملك جواباً، فتابع الوزير مشدّداً ومؤكّداً:
ـ ابنتي الوحيدة ليلى أمانة لدى جلالتكم.!
خرج يوسف العظمة مع المئات من المتطوّعين المجاهدين إلى الجبهة التي اختارها يوسف العظمة مكاناً للموقعة.. «ميسلون».
استشهد يوسف العظمة، والمئات من رفاقه في ميسلون يوم السبت 24 تمّوز 1920، مسطّراً بذلك سفر ملحمة فريدة ومحيّرة، طاوياً صفحة لا بد منها بدأت باحتلال الوطن بمعركة غير متكافئة، لكنّها معركة ملحمية كتبت رسالة واضحة للأجيال القادمة بأن الاحتلال جاء غصباً وعبر قتال ومعركة رفعت فوق ذرى ميسلون رسالة تقول: إن حرية الأوطان تستأهل كل التضحيات، رسالة خلقت رعيلاً من الشرفاء المناضلين حملوا الرسالة وأوصلوها خفّاقة لنقطف ثمارها في 17 نيسان 1946.
أولئك الرجال حفروا بدمائهم على جدران الزمن قصص بطولة وفداء عجزت عقول المتحضّرين عن فهمها، وتفسيرها، وهؤلاء الرجال هم الذين أنجبوا الرجال الذين حققوا الاستقلال، وهم الذين ما زالوا يتناسلون وينجبون مع كل إشراقة صباح رجالاً قادرين مؤمنين، أبطالاً على جباههم شارات النصر معمّدة بروح الشهادة، في قلوبهم إيمان خالد بقدسية الحياة.